مؤسسة الأسرة والشخصية الناجحة

الليلة السابعة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]

صدق الله العلي العظيم

في حديثنا حول مؤسسة الأسرة نتناول ثلاثة محاور:

  • في حقيقة الأسرة بالمنظور الاجتماعي.
  • الدور الإيجابي للأسرة.
  • مقومات الشخصية الناجحة.
المحور الأول: حقيقة الأسرة بالمنظور الاجتماعي.

الأسرة بحسب تعريف علم الاجتماع هي مجموعة تربطها علاقة زواج أو علاقة رحم كالإخوة والأخوات، أو علاقة تبني كما إذا كان الولد ولداً بالتبني، لينتجوا ثقافة مشتركة تحت إطار واحد، وفي الأسرة بحوث ثلاثة:

البحث الأول: هل أن الأسرة مؤسسة طبيعية أم مؤسسة تاريخية؟

النظرية الإسلامية أن الأسرة مؤسسة طبيعية؛ بمعنى أن طبيعة الجنسين الذكر والأنثى تقودهما إلى تشكيل الأسرة، وتشكيل أدوار الأسرة، فهي مؤسسة منطلقها منطلق طبيعي، وذلك لأحد وجهين ودليلين:

الوجه الأول: أن الزوجية التي هي مفردة تكوينية كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] والزوجية من أمثلتها الزوجية الأسرية، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [النبأ: 8]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل: 72]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم: 21]، إذن الزوجية الإنسانية هي مصداق من مصاديق الزوجية الكونية الطبيعية، وبما أن الذكر والأنثى يعيشان الزوجية التكوينية لذلك هذه الزوجية التكوينية تقودهما إلى مؤسسة الأسرة؛ لأن في مؤسسة الأسرة إشباعاً للميول الطبيعية من كل طرف نحو الآخر، وإشباعاً للحاجات الجسدية من كل طرف نحو الآخر من طريق آمن ومضمون كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21].

الوجه الثاني: عندما تقرأ التاريخ ترى أن المؤسسة الوحيدة التي ضمنت تكاثر وتوالد النسل البشري لكن بطريقة آمنة لا على نحو الالتقاط ولا على نحو أبناء الملاجئ أو أبناء الأماكن الأخرى، فالمؤسسة الوحيدة التي ضمنت توالد النسل البشري بطريقة آمنة ومضمونة هي مؤسسة الأسرة؛ لأجل ذلك هذا شاهد على أن للأسرة قيمة إنسانية قبل عمر التاريخ، ومنذ بداية التاريخ، وليست مؤسسة تاريخية.

في المقابل توجد نظرية أخرى وهي أن الأسرة مؤسسة تاريخية؛ أي أن الإنسان في بعض الحقب التاريخية عاش ظروفاً قاسية ألجأته إلى تشكيل الأسرة ومشى عليها إلى يومنا هذا، وإلا فهو بطبعه لا يحتاج ولا ينقاد إلى تأسيس الأسرة، إنما ثقافة تاريخية اعتادت عليها المجتمعات أن الإنسان ينشئ أسرة بين الذكر والأنثى، وإلا طبيعة الإنسان لا تفرض عليه أن يؤسس أو يشكل مؤسسة الأسرة.

طبعاً هذه النظرية الثانية مقابل النظرية الدينية عليها ملاحظة، والملاحظة: نحن عندما نقول أن الأسرة مؤسسة طبيعية فهل نعني مثل مجتمع النحل حيث أن مجتمع النحل كل دور فرضته الطبيعية؛ يعني الذكر من النحل له دور تفرضه طبيعته، والأنثى من النحل لها دور تفرضه طبيعتها، فتوزيع الأدوار في مجتمع النحلة توزيع طبيعي قهري، فهل المجتمع الإنساني كذلك؟ لا ليس كذلك، فقد يولد الإنسان ولا يكون زوج ولا زوجة، وقد يعيش ولا يكون أخ ولا أخت، الطبيعة لم تفرض على الإنسان مؤسسة الزوجية أو مؤسسة الأسرة كما فرضتها على مجتمع النحل، وإنما عندما نقول الأسرة مؤسسة طبيعية نقصد أن توزيع الأدوار عند اجتماع الذكر والأنثى في مؤسسة الأسرة تأخذ الأنثى الأمومة ويأخذ الرجل دور الأبوة، وهذا التوزيع جاء من الطبع، بطبع الطرفين تنقاد المرأة لدور الأمومة وينقاد الرجل لدور الأبوة، وتوزيع الأدوار بينهما إذا اجتمعا واتفقا على تأسيس الأسرة سيكون أمراً منسجماً مع طبيعتهما لا أنه أمر فرضته الثقافة التاريخية، بل هو أمر ينسجم مع طبعهما.

ولذلك علم الاجتماع مع أنه علم نقدي راديكالي إلا أنه لم ينقد الأسرة التقليدية إلى يومنا هذا؛ أي ما يزال علم الاجتماع ينظر إلى الأسرة التقليدية المكونة من زوج وزوجة وأولاد على أنها مؤسسة آمنة ومضمومة تنتج قوى صالحة بلا إشكال ولا تردد، مما يعني أن القيمة الإنسانية للأسرة ضاربة في عمر التاريخ وليست ناشئة عن ثقافة تاريخية.

المحور الثاني: الدور الإيجابي للأسرة.

هنا عدة إيجابيات وفعاليات إذا ركزنا عليها استنتجنا الدور الإيجابي الذي تنهض به الأسرة عند تشكيلها بالشكل الطبيعي:

الفعالية الأولى: أن الأسرة منشأ الهوية، فكل إنسان يحتاج حاجة أساسية للانتماء وأن يكون له انتساب لشيء ما، إدغار مورن كتب كتاب «الهوية الإنسانية» يقول فيه: الأسرة هي المركز النفسي الأول والمأوى الأساسي الذي يغذي الإنسان بحاجته إلى الانتماء، ولذلك تتشكل هوية الإنسان بانتمائه إلى أسرة وارتباطه بها.

الفعالية الثانية: أن الأسرة بها تشكيل شخصية الإنسان، وعلم الاجتماع يرى أن الناقل الأول للعلوم وللقيم والعادات والتقاليد هو الأسرة؛ لأنه هو الذي يربي الأجيال على المعلومات والقيم والعادات والتقاليد، وبعبارة أخرى سلامة المجتمع بسلامة الأسرة، لأن الأسرة هي التي تنتج القوى العاملة في المجتمع، فإذا كانت القوى التي تنتجها الأسرة قوى سليمة عقلياً وفكرياً، انعكس ذلك على سلامة المجتمع بأسره.

الفعالية الثالثة: أن في الأسرة ومن خلالها يحصل تعزيز التعاون، ويكون ذلك إذا اشترك جماعة تحت سقف الأسرة إخوة وأخوات وأب وأم، يضطر كل واحد أن يعيش الصبر والمداراة وتحمل الطرف الآخر، فتكون الأسرة منشأ لتعزيز التعاون بين أفرادها، وتكون الأسرة منشأ لتداول المعلومات وتلاقح التجارب والخبرات بين أطرافها، وكل ذلك من آثار هذه المؤسسة الطبيعية التي نسميها بالأسرة.

الفعالية الرابعة: أن الأسرة منشأ لتغذية حاجة الإنسان إلى الاطمئنان، العصر الحديث الآن هو عصر القلق، القلق من الأمراض، القلق من الرزق، القلق من الحياة، القلق من المستقبل، فيحتاج الإنسان إلى طاقات روحية وشحنات روحية تدفع عنه روح القلق وروح الفزع، ويحصل على الاطمئنان من خلال جو الأسرة، فالأسرة إذا كان بينها الحب والوئام والتقارب فهي تغذي حاجة الإنسان إلى الاطمئنان والسكينة؛ لأنه يبرز حبه ومشاعره في جو آمن ومطمئن ومضمون، لذلك تخرج شخصية مطمئنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً «28» [الفجر: 27 - 28].

المحور الثالث: مقومات الشخصية الناجحة.

بول توج كتب كتاب «كيف ينجح الأطفال» يقول فيه: أن أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا سيليج مان، هو وزميل له عالم النفس بيتر سون اجتمعا وألفا كتاب عن الأمراض النفسية «الدليل الإحصائي والتشخيصي للأمراض النفسية» وذكروا في هذا الكتاب أربعة وعشرين سمة لسمات شخصية الإنسان، بعضها يرجع للجهة الفاعلية في الإنسان، كون الإنسان شجاع، حكيم، ونزيه، وبعضها ترجع للانفعال الإيجابي كون الإنسان محباً، مبادراً، ومقدراً للجهود، وبعضها يرجع للتفاعل الاجتماعي كون الإنسان يمتلك ذكاء اجتماعي؛ ويقصد به القدرة على التعرف على الآخرين والتكيف والارتباط بهم وعدم الانعزال، فهذه كلها سمات للشخصية، فكيف تشكل هذه السمات شخصية ناجحة ناشئة ومستندة إلى الأسرة؟ نذكر عدة مقومات للشخصية الناجحة:

المقوم الأول: استقرار الجو الأسري.

استقرار الجو الأسري المقوم الأول للشخصية الناجحة، وذلك ما ذكره فيليبا بيري في كتابه «الكتاب الذي تتمنى لو قرأه أبواك» قال: ليس المهم أن الإنسان يبني عائلة، وليس المهم بناء وتشكيل أسرة بل المهم نوع العلاقة المتبادلة بين أفراد الأسرة هل هي علاقة هادئة أم علاقة متشنجة، هل هي علاقة ثابتة أم علاقة متوترة، هذا هو المهم سواء كان الزوجان متصلين أو منفصلين، فإذا كان الزوجان متصلين فلابد أن تكون العلاقة الحاكمة بينهما علاقة احترام؛ لأن هذا يعزز شعور الطفل بالأمان، وإذا كانا منفصلين فلابد أن يثني كل منهما على الآخر أمام الطفل؛ لأن الطفل يشعر بالانتماء لكليهما فإذا تحدث أحدهما عن الآخر بسوء أو بنقص، يشعر الطفل بالنقص، وشعوره بالنقص قد يقوده إلى شخصية انعزالية أو شخصية عدوانية، لذلك لابد من استقرار الجو الأسري،

فكيف يدير الزوج والزوجة حالة الاختلاف؛ لأن الاختلاف لابد أن يقع بشكل طبيعي بين الزوج والزوجة؟ هناك أسس لمعاجلة الاختلاف:

الأساس الأول: عدم إهمال الاختلاف، ولا يجوز تجاهل الاختلاف لأن تجاهله يؤدي إلى ازدياد الفجوة بين الطرفين، ويطفئ شعلة المحبة والمودة بينهما، بل لابد أن يتصدى كلاهما لمعالجة الاختلاف ولو بعد حين؛ أي بعد هدوء النفوس والقلوب.

الأساس الثاني: أن يكون الهدف معالجة الاختلاف وليس الهدف هو الفوز وكسب الربح وتسجيل نقاط على الطرف الآخر، وإثبات أنه هو الصحيح دون الآخر، فهذا لا يؤدي إلى حل الخلاف، بل إن معالجة الاختلاف بالتفاهم وليس معالجة الاختلاف بأن أسجل نقاط تخطئة على الطرف الآخر وهو يبادلني نفس الدور.

الأساس الثالث: تفهم مشاعر الطرف الآخر، ولذلك يوصي علماء النفس أن لا تقول «أنت» بل قل «أنا»، لأن «أنت» عبارة لذع ونقد، فاستخدم كلمة «أنا» أنا لست مرتاحاً للعمل الذي صنعته، أنا لست منسجماً مع الطريقة التي تقوم بها، عبر عن نفسك ولا تعبر عن غيرك فإن في ذلك تفهم لمشاعر الطرف الآخر.

الأساس الرابع: تعزيز المودة بين الطرفين، المودة بين الزوجين ليست ثابتة دائماً بل تحتاج إلى تعزيز، المودة حتى تبقى وتقوى تحتاج إلى أساليب تعزيز بين الطرفين حتى تبقى المودة متوهجة ومتوقدة بين الطرفين، أسس غوتمان مختبر في واشنطن اسماه مختبر الحب؛ وفيه كيف تمارس أساليباً تجعل المودة متوهجة بين الطرفين ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] من خلال الاستجابة للتواصل مع الطرف الآخر، ومن أساليب تعزيز المودة بين الطرفين عدم تسجيل العيوب على الطرف الآخر بل يكون أسلوبك أسلوب ذكر المزايا والمدح والثناء على الخطوات الإيجابية التي يقوم بها الطرف الآخر، وأيضا من أساليب تعزيز المودة احترام رأي الآخر.

إذن هناك أساليب لتعزيز المودة بين الطرفين وإلا يبقى الجو جواً مشحوناً ومتوتراً يؤدي إلى انهيار الأسرة انهياراً عاطفياً، ولا يوجد نص يحكي وئام الأسرة وترابطها أجمل من النص بين علي وفاطمة «عليهما السلام»، الإمام أمير المؤمنين وفاطمة في لحظاتها الأخيرة تقول: ”يا ابن العم هل عهدتني خاطئة أو كاذبة، أو خالفتك منذ عاشرتك؟ قال: هيهات حاشى لله أنت أبر وأتقى من أن أوبخك“.

والإمام علي عندما يتحدث عن السيدة الزهراء : ”والله ما أغضبتها قط ولا أكرهتها على أمر قط حتى قبضها الله إليه، ولا خالفت لي أمراً قط، وكنت إذا نظرت إلى وجهها تنكشف عني الهموم والأحزان“

هذه علقة المودة وعلقة الارتباط العاطفي بين الطرفين جعلت من الإمام علي هكذا يقول: إذا نظرت إلى وجهها تنكشف عني الهموم والأحزان.

المقوم الثاني: التفاؤل.

الإنسان المتفائل يتميز عن الإنسان المتشائم، التفاؤل مهارة يكتسبها الإنسان، كما أن الاكتئاب ليس مرضاً مزمناً وإنما هو حالة عابرة تنتج عن التشاؤم، والتشاؤم أثره السلبي أن الإنسان يفسر الأحداث بتفسير دائم وشخصي، مثلاً إذا فشل في الامتحان يقول أنا إنسان غبي، ولا يقول لم أذاكر بشكل جيد؛ أي يتجه إلى التفسير السلبي طويل المدى ولا يتجه إلى التفسير الإيجابي قصير المدى، ومن يفشل في عمل أو وظيفة يقول أنا إنسان تعيس، لا يقول لعلي قصرت أو لعلي لم أدرس الأمور دراسة جيدة فلأعد صفحاتي مرة أخرى، دائماً يركز على التفسير السلبي الطويل المدى، وهذه هي علامة التشاؤم، ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”تفاءلوا بالخير تجدوه“، ولما أوقع صلح الحديبية أقبل سهيل بن عمر فبمجر أن رآه الرسول قال: ”سَهُلَ أمركم فقد جاءكم سهيل“. التفاؤل مطلوب من الإنسان لكن لا بحد الإفراط طبعاً، فقد ورد عن الإمام علي : ”العاقل يعتمد على عمله، والجاهل يعتمد على أمله“، لا يكون التفاؤل بحد الإفراط وإنما التفاؤل الممزوج بالعمل والإنجاز.

المقوم الثالث: التحكم في الذات.

أي قوة الإرادة، كيف يكون الإنسان رجلاً حقيقياً؟ هل بحسبه أم بجسده أم بشكله أم بعلمه؟ الرجولة الحقيقية بقوة الإرادة، كلما كان الإنسان أقوى إرادة كان أكبر مظهراً للبطولة.

ليس  من  يطوي  طريقاً بطلاً
فاتقِ الله فتقوى الله ما جاورت
  إنما   من   يتقي  الله  iiالبطل
قلب     امرئ    إلا    iiوصل

التقوى منوطة بقوة الإرادة، أن يمتلك الإنسان قوة الإرادة، فكيف تربي طفلك على قوة الإرادة وعلى أن يكون متحكماً في ذاته وقوي الإرادة؟

ورد عن الرسول : ”أن لا يرهقه ولا يخرق به“. أي تعامل مع طفلك بالتوازن، لا تجعله متكل عليك دائماً بل أعطه بعض الأعمال التي يعتمد فيها على نفسه من دون أن تكون أعمال مضنية، وأن لا يرهقه؛ أي لا يكلفه بأعمال تؤدي به إلى المشقة بحيث ينفر منك، ولا يخرق به؛ أي لا يذمه على أي عمل يعمله ولا يحاول تسجيل العيوب والأخطاء عليه بل أن يكون دائماً بأسلوب التشجيع والترغيب له؛ لأن هذا الطريق هو الذي يقوي إرادته والاعتماد على نفسه.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”الأناة والحلم توأمان ينتجهما علو الهمة“، إذا كان الإنسان عالي الهمة ويمتلك طموح فهو لديه أناة وتروي في الأمور، والإنسان الذي لديه طموح فلديه حلم في التعامل مع الآخرين.

إذن بالنتيجة التحكم في الذات وقوة الإرادة مقوم من مقومات الشخصية الناجحة.

المقوم الرابع: التحفيز.

 كثير من الناس مثلاً لديه سمنة ويريد إنقاص وزنه لكنه لا يستطيع لأنه لا يمتلك المحفز للعمل، ويحتاج إلى محفز، أو إنسان مداوم على التدخين، فما هو السبب وراء ذلك؟ نحن عندما نريد أن نعلم أطفالنا على المبادرة والمثابرة، نريد أطفالنا أن يبادروا للصلاة بأنفسهم ويثابرون عليها، ونريد من أطفالهم أن يبادروا إلى الحضور للمجالس الحسينية ويثابرون عليها، نريد من أطفالنا أن يبادروا إلى مذاكرة دروسهم ويثابرون عليها، فالإنسان لا يمكن أن يصل إلى المبادة والمثابرة إلا بالتحفيز.

فالمحفز هو الذي يضمن المبادرة والمثابرة، والمحفز بأن تشرح لطفلك دائماً الأهداف حتى يصبح إنساناً عقلانياً، تقول له صلِ وتبين له أهداف الصلاة، أحضر المأتم وبين له أهداف ذلك، ذاكر دروسك وبين له أهداف ذلك، بيان الأهداف ووضع المرغبات وتعطيه جوائز ومحفزات، لأن التحفيز يكفل أن يكون الطفل متقوم بهذين العنصرين عنصر المبادرة وعنصر المثابرة على أي قيمة وأي نشاط وأي عمل مفيد لشخصيته، لذلك ورد عن الرسول محمد أنه نظر إلى إعرابي يصلي فأعجب الرسول بدعائه، فأجازه الرسول   أي وهبه جائزة  ثم قال: أنت من بني من؟ قال: من بني عامر ابن صعصعة. قال: أتدري لما أجزتك؟ قال: للرحم. قال: إن للرحم حقاً ولكني أجزتك لحسن دعائك لربك.

إذن وجود المحفز والمرغب للإنسان يدفعه على النشاط والمبادرة والمثابرة، الإمام الحسن الزكي كان طفلاً وكان يخرج إلى المسجد ويستمع الوحي، ثم يأتي ويقرأ الوحي على أمه الزهراء وكانت تحفزه يومياً بمحفز على استماع الوحي وحفظه وقراءته، وفي يوم من الأيام وقف خلف الباب وكان الإمام علي يسمعه، قالت: يا بني اقرأ الوحي كما كنت تقرأ. قال: أماه كلَّ لساني وقلَّ بياني، لعل سيداً يرعاني، فعرف الإمام علي ما يقصد وضمه إلى صدره وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

المقوم الخامس: يقظة الضمير.

هناك علم في علم النفس الاجتماعي اسمه علم الشخصية، وهناك عدة سمات للشخصية: العصابية، الانبساطية، القبول، الانفتاح، ويقظة الضمير.

يقظة الضمير سمة من السمات التي تدرس بها الشخصية؛ وتعني الإحساس بالمسؤولية، فإذا الإنسان أمتلك الإحساس بالمسؤولية أصبح إنساناً منظماً في حياته، وإذا أمتلك الإنسان الإحساس بالمسؤولية صار متفوقاً في دراسته، وإذا أمتلك الإحساس بالمسؤولية حافظ على واجباته وصحته، وإذا أمتلك الإحساس بالمسؤولية صار مؤهلاً لتشكيل أسرة ناجحة، لذلك تركز الروايات على تربية الإحساس بالمسؤولية، وقد ورد عن الإمام الكاظم : ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم“، كل يوم يربي نفسه على يقظة الضمير، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ «1» وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «2» [القيامة: 1 - 2] النفس اللوامة هي الضمير اليقظ، ويقول: ”ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فإن عمل حسنة استزاد الله منها، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها“، كما ورد عن الرسول : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، والقرآن الكريم أيضاً يركز على محاسبة النفس: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]، ولذلك يذكر بعض أصحاب الإمام علي حينما يتحدث عن الإمام علي : ”كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلى، ويقلب كفيه على ما مضى“.

إذن لابد من تربية الطفل على أن يشعر بالمسؤولية ويكون ذلك بأن تجعله هو من يرتب فراشه وينظف غرفته، ويعد طعامه ويساهم في عمل من أعمال المنزل، لأن هذا يغذيه ويربيه على الاعتماد على النفس وعلى الإحساس بالمسؤولية، وأن لا يعيش روح الاتكالية على أبويه فيخرج إنساناً اتكالي غير مثمر.

المقوم السادس: البعد عن الترف.

سوني لوثر أستاذة في جامعة كولومبيا أقامت دراسة على الأطفال الأثرياء وأطفال ذوي الدخل المحدود، واكتشفت أن نسبة الاكتئاب عند أطفال الأثرياء أكثر من نسبة الاكتئاب عند أطفال ذوي الدخل المحدود؛ لأن أطفال الأسر الثرية عادة يعيشون روح الاتكالية بسبب توفر الحماية الكاملة لهم من جميع الجهات فلا يشعرون بنقص ولا يشعرون بحرمان، لذلك متى ما أصابتهم أزمة سواء في دراستهم أو علاقاتهم الاجتماعية أو في وظيفتهم، حالاً يصابون بالاكتئاب لأنه لم يتعودوا على النقص، وقد يقودهم ذلك إلى الإدمان، بينما أطفال ذوي الدخل المحدود يعلمهم آبائهم على أن يقوموا بأعمال شاقة، فيعتادون على الاعتماد على النفس، تعلمهم أسرهم على الحرمان والنقص في بعض الأمور فيعتاد على أن يعوض النقص بنفسه من دون الاتكال على غيره، لذلك البعد عن الترف مقوم أصيل من مقومات الشخصية الناجحة.

يقول الإمام الباقر : رأى أبي  أي الإمام زين العابدين  ولداً يتكئ على أبيه إذا مشى فما كلمه أبي مقتاً له حتى مات ”وورد في الرواية الشريفة:“ لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما ورحم الله والدين حملا ولدهما على برهما ".

المقوم السابع: التعلق بالجمال.

هناك جمال مادي كجمال الصورة، جمال الربيع، وجمال الشمس، وهناك الجمال المعنوي وهو جمال القيم، جمال الفضائل، جمال الصدق، جمال الأمانة، وجمال الوفاء بالعهد، الجمال المعنوي لا مقياس له، وقد ذكرنا في الليلة السابقة عندما تحدثنا عن الكرامات والمقامات الغيبية لأهل البيت وقلنا أن بعض العقول لا تقبلها لأنها دائماً تركز على المقاييس المادية، كل ما لم يخضع لمقياس مادي فلا يمكن تصديقه، بينما هناك الكثير من الأمور لا يمكن إخضاعها للمقاييس المادية منها الجمال، فالجمال لا تستطيع أن تقيسه بمقياس مادي، مثلاً عندما تنظر إلى لوحة جميلة بالمقاييس المادية تقيس كم نسبة الأصباغ، وكم طول اللوحة، وكم عرضها وماذا تعني اللوحة وعن ماذا تعبر، أما لو أردت أن تقرأ جمال اللوحة فلا يمكن إخضاعه للمقاييس المادية، لأنه ليس كل شيء يخضع للمقاييس المادية، جمال الصدق وجمال الأمانة، جمال الوفاء بالعهد، جمال التواضع، وجمال المثل، فالجمال المعنوي لا يخضع للمقاييس المادية لذلك لابد من تربية الطفل على التعلق بالجمال المعنوي وجمال القيم والأخلاق ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].

علم طفلك على جمال الصلاة، الصلاة علاقة جميلة إذا اعتاد الطفل عليها فهي منبع للهدوء ومنبع للاستقرار، الطفل يتعرض في المستقبل إلى أزمات وأعاصير فيحتاج إلى منبع للهدوء والسكينة يعتمد ويتكئ عليه، ومنبع السكينة والهدوء هو الصلاة، كما ورد في الرواية الشريفة: ”فإن الصلاة قربان كل تقي“. ولذلك الإمام أمير المؤمنين علي يفتخر بأنه أَلِف الصلاة وهو طفل: ”وصليت الصلاة وكنت طفلاً صغيراً ما بلغت أوان حلمي، وأوجب لي ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خم، فويل ثم ويل ثم ويل لمن يرد القيامة وهو خصمي“.

العلاقة بالصلاة منذ الصغر تعطي شخصية عند الكبر، علم طفلك على العلاقة بالصلاة، ورد عن الإمام الصادق : ”إنا لنعلم صبياننا وهم أبناء خمس فعلموهم أبناء سبع، فبادروا أبناءكم بالصلاة“، الصلاة جمال لا يدركه إلا من يتعلمه ويتذوقه.

لذلك عندما نقرأ عن أسرة علي وفاطمة هذه الأسرة التي أنتجت القيم وأنتجت المثل والفضائل تجد صفتين في هذه الأسرة توفرت لم تتوفر في أي أسرة أخرى من أسر التاريخ:

السمة الأولى: الشهادة، أي باحث الآن حتى لو كان باحثاً غير مسلم يقرأ التاريخ، يستغرب لماذا هذه الأسرة ماتت كلها شهداء من أب وأم وأولاد، فهذه سمة متميزة توحي بشيء وأن وراء ذلك شيئاً.

السمة الثانية: رفض الظلم، كل هذه الأسرة بنيت على مبدأ وعلى درب وخط ألا وهو مبدأ رفض الظلم، قام عليه كيان هذه الأسرة بجميع أفرادها وبجميع أعمدتها، لذلك بقيت هذه الأسرة مصدراً للإشعاع في هذا الطريق، طريق النضال ورفض الظلم.