الزهراء (ع) المثل الأعلى للشخصية المعطاء

الليلة التاسعة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14]

صدق الله العلي العظيم

في حديثنا حول الأمومة نتناول محاور ثلاثة:

  • المحور الأول: تعريف الأمومة.
  • المحور الثاني: اهتمام السماء بموقع الأمومة.
  • المحور الثالث: معالم الأمومة المعطاء في شخصية السيدة الزهراء .
المحور الأول: تعريف الأمومة.

ما هو تعريف الأمومة في اللغة وفي الاصطلاح وفي القرآن الكريم، وهل أن الأمومة ضرورة إنسانية أم لا، وما هو أثر الأمومة على الطفل وعلى الأم؟

الأمومة في اللغة مأخوذة من الأصل؛ فيقال أم الشيء يعني أصله، والقرآن الكريم يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] والقرآن يشتمل على نوعين من الآيات، آيات تعتبر هي أصل الكتاب؛ أي قواعد كلية، وآيات تتحدث عن التفاصيل متفرعة على الآيات التي تتحدث عن القواعد الكلية، ولذلك القرآن الكريم يقول ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].

وفي علم الاجتماع الأمومة هي رابطة بين شخصين بحيث يكون أحدهما أصلاً والثاني فرعاً، ولذلك القرآن يشير إلى هذا المعنى عندما يقول: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2]، فالأم هي التي بينك وبينها رابطة تكوينية، والرابطة التكوينية غالباً تكون بالولادة وأحيانا قد تكون البويضة؛ أي أن بويضة الأم يستأجر لها رحم آخر فتلده امرأة أخرى، لكن صاحبة البويضة هي الأم الأصلية ذات الارتباط التكويني، والقرآن أشار إلى الصورة الغالبة للارتباط التكويني وهي الأم الوالدة، ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2].

والأمومة في المنظور القرآني تتمثل بحسب منظور القرآن في صفتين: الألم، وتبادل الاطمئنان.

الصفة الأولى: عندما يتحدث القرآن عن الأمومة يتحدث على الألم والمشقة ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان: 14]؛ أي في حالة ضعف، ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف: 15]؛ والكُره هي شدة المشقة، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف: 15].

الصفة الثانية: فالقرآن يذكر صفة الاستقرار والاطمئنان في قوله ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ [القصص: 13] فصار الطفل مطمئناً والأم أيضا تعيش القرار والاطمئنان.

هل الأمومة ضرورة إنسانية أم منصب اجتماعي يمكن تغييره وتبديله بأنماط أخرى؟

ذهبت بعض الحركات النسوية إلى أن الأمومة منصب يقبل التغيير والتبديل، قالت الفيلسوفة سيمون دي بيفور في كتابها «الجنس الآخر» أن قداسة دور الأمومة قداسة مفتعلة، ودور الأمومة ليس دوراً مقدس، بل أن الأمومة سبب لمعاناة المرأة من المشاكل النفسية والاجتماعية.

وأما الحركة النسوية الراديكالية فوقفت موقف المعارض لدور الأمومة ولموقع الأمومة، وقالت أن الأمومة هي وسيلة استغلها الرجل لقمع المرأة وحصرها في المنزل، فالحل أن تفارق المرأة دور الأمومة وتتخلص من قيود الإنجاب وبراثن الحمل، فلذلك حدثت في الغرب كارثة أن كثير من الفتيات عزفن عن دور الأمومة، وأقلعن عن دور الأمومة للتخلص من هذه القيود.

بحسب الولايات المتحدة في عام 2007 انخفض معدل الإنجاب إلى 2%، وأما في أزمنة الفيروس نزل إلى 4%، إذن أصبحت الرغبة في دور الأمومة تقل نتيجة هذه الإشاعات والأفكار التي زرعتها بعض تيارات الحركة النسوية، ومن هنا فكر الغرب في الحل، فوضعوا عدة حلول:

الحل الأول:

أن حكومات الرفاهية في العقود السابقة اخترعوا حواضن الأطفال ورياض الأطفال كتعويض عن دور الأمومة، فالطفل من سني الرضاع يدخل في الحاضنة ويعيش في الروضة، ويلتقي مع أهله ساعات معينة، وأغلب وقته هو في الحواضن ورياض الأطفال، فاكتشفوا بعد ذلك أن الطفل يفقد الثقة في نفسه ويفقد الارتباط بأهله، لأن الأسرة لم تعد مكاناً لتعليم الأخلاق وتعليم القيم، وتفهيم الحياة، باعتبار أن دور الحضانة ورياض الأطفال لم تقم مقام الأم الطبيعية في هذا الدور، ألا وهو دور الأمومة.

الحل الثاني:

سمي بأجر الأمومة، اعتبروا الأمومة مهنة ممكن أن تقابل بالأجر، فاسْتُقدمت المربيات والمعلمات ليأخذن أجراً على دور الأمومة، ثم اكتشفوا أيضاً أن هذا الحل فاشل وأثبت عجزه؛ لأن الأم الطبيعية هي التي تصبر على آلام الطفل وتقلبات مزاجه بحب وحنان، وأن الأم المستأجرة فإنها لا تحمل مثل هذه الروح، ولا تحمل مثل هذا النفس، ولذلك يفقد الطفل الشعور بالأمان عندما لا يكون في ظلال الأم الطبيعية.

الحل الثالث:

أن الأب الطبيعي هو الذي يربي الطفل وهو من يقوم بدور الحضانة، بينما الأب وخصوصا في فترة الرضاع الأولى لا يمتلك خاصية الأنثى حتى يباشر دور الأمومة في حالة الإرضاع، إذن هذا الحل فاشل أيضاً.

لذلك أصدرت الأمم المتحدة قراراً بأن الطفل هو ملك للمستقبل، وأفضل استثمار اقتصادي واجتماعي هو الاستثمار في مجال تربية الأطفال، وبدأ الترويج لمثل هذا المشروع ولكن بعض رواد الحركة النسوية أنفسهن عارضوا كل هذه المشاريع، فمثلاً عندما نأتي إلى وليستون كرافت فقد قالت: بالعكس الأم في العصر الحديث حيث تقدمت معلوماتها وتنورت معارفها، وأصبحت مثقفة، فقد أصبحت أقدر على دور الأمومة الطبيعية من الأم في الأجيال السابقة، وأيدت مكانة الأم الطبيعية.

أيضا كارول جيليغان ذكرت أن العلاقة على نوعين: علاقة متزنة وعلاقة غير متزنة، والعلاقة المتزنة هي العلاقة التي تكون بين شخصين في عرض وند واحد، مثل أخ وأخيه، أخت وأختها، والعلاقة الغير المتوازنة وهي علاقة العطاء والأخذ، أحد الطرفين يعطي والطرف الآخر يأخذ، مثل علاقة الطالب بأستاذه، علاقة المريض بالطبيب، وعلاقة الموظف بالمدير، وأفضل العلاقات الغير متوازنة تأثيراً وعطاء وعمقاً علاقة الأم بولدها، فهي تعطي وتعطي وتعطي ليلاً ونهاراً في سبيل تنمية ولدها وتربيته إلى أن يصل إلى مرحلة النضج.

إذن حتى بعض رواد الحركة النسوية عارضوا مثل هذه البدائل وذهبوا إلى أن المعيار في شخصية الطفل وأمانه هو دور الأمومة الطبيعي، لذلك نقول أن الأمومة ضرورة إنسانية وليست منصباً يقبل التغيير والتبديل، فالأمومة الطبيعية تحمل عناصر مهمة وضرورية وهي:

العنصر الفسيولوجي:

هناك تغيرات كيميائية في جميع الثدييات وليس خصوص الإنسان، تحصل للأنثى تغييرات كيميائية حالة الحمل وحالة الولادة وحالة الإرضاع ومداراة الطفل، ومنها الإنسان أيضاً، حيث أن هرمون الاستروجين يغذي الأم بحالة الأمومة الفائقة في فترة الولادة وما بعد الولادة، وهناك هرمون البرولاكتين ويسمى بهرمون المحبة، وهذا الهرمون ينشط عند الأم في فترة الإرضاع لأنه يغذيها بروح التضحية في سبيل رعاية الطفل، وفي سبيل العناية به.

العنصر السيكولوجي:

الأم الطبيعية هي الأقدر على قراءة المشاعر الداخلية من خلال قسمات وجه الطفل، فمن خلال قسمات وجه الطفل تقرأ مشاعره وتطلع على مخبوء نفسه، فتعرف أنه حزين أو غير حزين، قلق أو مستقر، متألم أو مستقر، فهي الأقدر على قراءة مشاعر الطفل من أي إنسان آخر ولذلك هي الأفضل في مراقبة سلامة الطفل ومعرفة أوضاعه.

العنصر الاجتماعي:

قورن بين أطفال رياض الأطفال وبين أطفال الأمومة الطبيعية فكل الدراسة تؤكد أن الأطفال الذين يخضعون لأمومة طبيعية يكونون أكثر سلامة من الناحية النفسية والجسدية من الأطفال الذين يكونون في أحضان الحواضن أو رياض الأطفال، فتلاحظ أن الطفل عندما يسمع دقات قلب أمه وهو رضيع في حضنها يشعر بالهدوء والطمأنينة وتعزيز الثقة بالنفس، بل أن لبن الأم الطبيعي كما أكدت الدراسات بأنه أوفق ببناء النسيج الدماغي من اللبن الصناعي، وقد ورد عن الإمام علي : ”ما رضع الصبي من لبن أعظم بركة عليه من لبن أمه“.

فالتربية رحلة للطفل ورحلة للأم، تبدأ من الحمل إلى نهاية الإرضاع، وكما أن الطفل يستفيد من الأم، فالأم أيضا تستفيد من التربية، فكلاهما يستفيد من رحلة التربية، الأم تكتسب عدة آثار من رحلة التربية، آثار إيجابية على شخصيتها ومن هذه الآثار:

الأثر الأول: الأثر النفسي، فالأم تكتسب من التربية طاقة الصبر وقوة الإرادة؛ لأنها تواكب الطفل في مختلف مراحلة وآلامه ومعاناته، وهذا يغذيها بقوة الصبر وقوة الإرادة.

الأثر الثاني: الأثر الاجتماعي، لا يوجد عائلة ليس بها مشاكل واختلافات، ودائماً محور المشاكل هي الأم، والمأمن هي الأم، فلذلك الأم تكتسب هي أيضاً خبرة، فتكتسب من الأمومة صفة المرونة والرفق، وهذه تفيدها في التعامل مع زوجها وأبنائها ومع صديقاتها والناس والآخرين.

الأثر الثالث: الأثر القيمي؛ أي أن الأم تضطر شاءت أم أبت وبحب وحنان أن تكتسب صفة العفو والتغاضي عن الأخطاء، يخطئ في حقها أبناؤها، يخطئ في حقها عقبها ومع ذلك تقابلهم بالعفو، وبالغض عن الإساءة وهذه صفة تكتسبها الأم وتجعل منها شخصية قيمية.

الأثر الرابع: الأثر الإداري، فالأم كما ذكرنا هي محور الأسرة، فهي تكتسب من الأسرة القدرة الإدارية على حل المشاكل ومتابعتها والتوفيق بين أبنائها وبناتها.

إذن الأمومة ذات أثر إيجابي على الطفل وذات أثر إيجابي على الأم، فهناك آثار إيجابية على الطرفين، ومن هنا نؤكد خلافاً لبعض الحركات النسوية أن الأمومة ضرورة إنسانية لابديل لها وليست منصباً اجتماعيا يقبل التغيير والتبديل والتعويض.

المحور الثاني: اهتمام السماء بموقع الأمومة.

لماذا السماء تهتم بموقع الأمومة؟ ولماذا السماء تؤكد على بر الوالدين وخصوصاً بر الأم ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان: 14]، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف: 15]، ولماذا تركز النصوص على بر الوالدين وبر الأم كما جاء في الحديث أن رجلاً جاء إلى الرسول محمد وقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك. وقال: إن الجنة تحت أقدام الأمهات. وقال: إن كنت في نافلة فدعاك أبوك فلا تقطعها وإن دعتك أمك فاقطعها. فهذا المقدار من الاهتمام لموقع الأم من حيث البر والوصايا الدينية، فما هو سر اهتمام السماء بموقع الأمومة؟

عندما نراجع كتاب «المخ الكامل» للدكتور دانيال سيجل نجده في هذا الكتاب يذكر ويقول: كل الآباء يعيشون قلقاً، قلق على مستقبل أولادهم الوظيفي، وقلق على مستقبلهم الصحي، وقلق على مستقبلهم المعيشي، فكل الآباء والأمهات يعيشون القلق، وإزالة القلق ليست بالتربية المثالية، إذن ما هو المطلوب؟ يقول صاحب هذا الكتاب: أن المطلوب في التربية هو أن تركز على أمرين فقط، متى ما ركزت على هذين الأمرين أحرزت تربية وافية وكافية:

الركيزة الأولى: الأسرة الناجحة، وهي التي تعيش ثلاث صفات:

الصفة الأولى: الحضور، فالأسرة التي دائما تجلس مع بعضها في الأفراح والأتراح، على الإفطار والغداء والعشاء، فنفس هذا الحضور يعطي استقراراً لأجواء الأسرة، وليس كل منهم مشغول بأمره وفي نفسه، الأسرة التي تعيش الحضور عند المائدة في الأفراح والأتراح يعطيها الحضور عنصراً من الاستقرار والطمأنينة.

الصفة الثانية: المشاركة، كل يشارك الآخر ويعينه من أبنائها.

الصفة الثالثة: التعاطف، عطف كل من الإخوة على أخيه ومن الأخوات على بعضهن، فعنصر التعاطف يجعل الأسرة أسرة مستقرة ناجحة.

الركيزة الثانية: ركيزة الوجود.

أي أن تكون حاضر، فكيف تكون أب ولكنك غائب، إما أن تكون في العمل، وإذا رجعت فأنت مشغول هنا وهناك، فلابد في التربية الصحيحة من عنصر الحضور، ومعنى الحضور هو الحضور الجسدي والحضور الوجداني، أن يكون الأم والأب حاضرين جسداً ووجداناً، يستمعان للطفل ويتفاهمان معه، يقرآن مشاعره ويجيبان على أسئلته ويواكبان مسيرته، فعنصر الوجود بمعنى الحضور الجسدي والوجداني هو الركيزة المهمة.

بماذا تتمثل وما هو أثرها الإيجابي؟

تتمثل بالارتباط الآمن، بحسب اصطلاح صاحب كتاب «الارتباط الآمن» ارتباط الطفل بمعلمته لا يلزم أن يكون هناك ارتباط آمن، وارتباط الطفل بالخادمة في المنزل ليس بالضرورة أن يكون ارتباطاً آمناً، والارتباط الآمن المضمون هو ارتباط الطفل بأمه وأبيه، لأن هذا الارتباط يوفر ثلاث وظائف:

الوظيفة الأولى: الشعور بالحماية، محمي جسداً ومادة وخلقاً وتربية، شعور الطفل بالحماية يعزز عنده رضاه عن نفسه وثقته بذاته.

الوظيفة الثانية: الشعور بالتفهم، الأب والأم يفهمون الطفل أكثر من غيرهم، يفهمون ويقرأون مشاعره، ويجيبون عن أسئلته، وهذا شيء يهمله كثير من الآباء والأمهات، فعدم إجابة الطفل على أسئلته ستجعله يكتسب المعلومة من مصدر آخر، فأجبه عندما يسأل، وأجبه جواباً واضحاً وواقعياً، لا جواب به لف ودوران، فإجابة أسئلته جزء من الشعور بالتفهم.

الوظيفة الثالثة: الشعور بالتهدئة، فالطفل يمر بحالات توتر من مرض، أو من ألم، من صداقة متعثرة، من علاقة بمعلمه أو صديقه، فإذن الذي يخرجه من حالة التوتر ويسعفه للشعور بالتهدئة أمه وأبوه.

أما الأثر إذا حصل فعلاً ارتباط آمن بين الولد وأمه، وبين الولد وأبيه هو أن يمتلك الطفل عقلاً إيجابياً، والعقل الإيجابي له سمات:

السمة الأولى: تقدير الذات، القرآن عندما يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] لديك نعم فتحدث عنها؛ لأن الحديث عن النعم التي حباك الله إياها يعزز فيك الشعور بالرضا، والتقدير للذات ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

السمة الثانية: تنظيم الانفعالات، فالطفل المتوتر يعيش مع الناس متوتر، لكن الطفل الذي يعيش ارتباط آمن تنتظم انفعالاته، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].

السمة الثالثة: التفوق الدراسي، فالطفل لا يتفوق دراسياً إلا إذا كان يعيش ارتباطاً آمناً مع أبويه.

السمة الرابعة: القدرة على التكيف الاجتماعي، والقدرة على اكتساب الأصدقاء وحسن التعامل معهم؛ لأنه اكتسب ذلك من أسرته.

السمة الخامسة: أن الطفل تصبح لديه سمات قيادية؛ لأن الأسرة علمته على أن يثق بنفسه ويعتمد على ذاته فيكتسب سمة قياديه من خلال أسرته، والقرآن يمدح هؤلاء الذين لهم سمة قيادية، وهم أشخاص لديهم استقرار واطمئنان ووثوق بأنفسهم ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72].

المحور الثالث: معالم الأمومة المعطاء في شخصية السيدة الزهراء .

قدوة كل أم هي فاطمة، ومصدر العطاء للأمومة المثلى هي فاطمة «صلوات الله عليها»، فاطمة الزهراء ارتكزت على عدة ركائز في مجال التربية:

الركيزة الأولى: الاستقرار العاطفي.

انحدرت الزهراء من أسرة مستقرة عاطفياً، أبوها يحب أمها، وأمها مخلصة لأبيها، وهذا ما تحدث الرسول عنه عندما قالت له بعض زوجاته، فقد كان الرسول بعد وفاة خديجة بسنين دائماً يتصدق عن خديجة، ويهدي الشاة لصديقاتها، ويذكر خديجة قائماً وقاعداً، فقالت له بعض زوجاته: ما تذكر في عجوز حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها، قال: ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وآوتني حين طردني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته غيرها، أي شاء الله أن يكون نسلي وسلالتي من هذا الرحم الطاهر، رحم خديجة بنت خويلد.

فالزهراء انحدرت من هذه الأسرة المستقرة عاطفياً أباً وأماً، وانعكس هذا الأثر على أبنائها، فأغدقت عاطفتها وحنانها على أبنائها، فكانت ترقص ولدها الحسن وتقول: أشبه أباك يا حسن، وأخلع عن الحق الرسن، وكانت ترقص ولدها الحسين وتقول: بأبي شبه أبي، ليس شبيهاً بعلي، باعتبار أن الحسنين حملا السمات الجمالية والشكلية للرسول ، وكانت دائما تناديهما: يا ثمرة فؤادي ويا قرة عيني، فإغداق المحبة هو امتداد لذلك النشأ العاطفي الذي ورثته الزهراء من أسرتها المحمدية.

الركيزة الثانية: التجسيد العملي.

عندما تقرأ التاريخ تجد أن نصائح الزهراء قليلة؛ لأنها كانت تركز على لغة العمل لا لغة الكلام، كانت تتعامل مع أبنائها عملاً وفعلاً، تجسد لهم القيم فيقتدون بها، كانت تبرز التربية بشكل عملي لا بشكل قولي، ولذلك يقول الإمام الحسن الزكي: ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلى محرابها لا تنفتل من صلاتها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، فأقول لها: أماه فاطمة لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن الجار ثم الدار.

الركيزة الثالثة: ركيزة القيم.

لا تحتاج أن تعرض على الطفل خارطة طويلة من الأوامر والنواهي، المهم أن تربيه على القيم الأساسية، والمهم أن تربيه على القيم الأصيلة، فالزهراء كانت ترى أن القيمة هي معيار الشخصية الكاملة، فكانت تركز على القيم لا على التفاصيل.

الركيزة الرابعة: القيم الفطرية.

أن الزهراء كانت تركز على القيم الفطرية، فهناك قيم مكتسبة وقيم فطرية، والقيم المكتسبة هي القيم التي يكتسبها الإنسان من الثقافة الاجتماعية، بمجرد أن يختلط بالأصدقاء ويدخل المدرسة سوف يكتسب القيم الاجتماعية الأخرى، لكن هناك قيم فطرية أولية لابد أن يكتسبها من الأسرة، ولذلك ركزت الزهراء على القيم الفطرية في مقابل القيم المكتسبة، والقيم الفطرية هي:

القيمة الأولى: قيمة الارتباط بالله وهي أعظم قيمة، فالطفل لابد أن يتعلم الصلاة، وأن يتعلم الدعاء، وأن يتعلم أن ملجأه ومغاثه ومأمنه هو الله عزوجل، ولابد أن يتعلم روح الارتباط بالله منذ صغره من خلال أمه، لأنها أول معلم، وقد ركزت الزهراء على هذا الجانب، ففي ليالي القدر عندما كان الحسنين وزينب أطفال صغار  زينب كان عمرها 3 سنوات والحسين عمر خمس سنوات والحسن ست سنوات عندما توفيت أمهم الزهراء  إذا جاءت ليالي القدر الثلاث تأمر الزهراء أطفالها بالنوم نهاراً كي يستيقظوا للعبادة ليلاً وهم أطفال، تعطيهم قليلاً من الطعام؛ حتى لا تصيبهم تخمة تمنعهم من العبادة ومزاولة العبادة والصلاة، تربيهم على روح الارتباط بالله تبارك وتعالى.

سلمان الفارسي كما روى عنه ابن طاووس في مهج الدعوات قال: تعلمت من فاطمة كلمات تعلمتها من أبيها رسول الله وقالت لي: إن سرك يا سلمان أن لا تصاب بأذى الحمى ما دمت حياً فواظب عليها صباحاً ومساءً، وهو دعاء مشهور يواظب عليه علمائنا ومراجعنا ويعتبرون هذا الدعاء حرزاً من الأحراز يقي من الأوبئة والمشاكل وهو دعاء النور:

بِسْمِ اللهِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورِ النُّورِ، بِسْمِ اللهِ نُورٌ عَلى نُور، بِسْمِ اللهِ الَّذي هُوَ مُدَبِّرُ الاْمُورِ، بِسْمِ اللهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنْ النُّورِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ النُّورَ مِنَ النُّورِ، وَاَنْزَلَ النُّورَ عَلى الطُّورِ، فِي كِتاب مَسْطُور، رِقٍّ مَنْشُور، بِقَدَر مَقْدُور، عَلى نَبِيٍّ مَحْبُور، الْحَمْدُ للهِ الَّذي هُوَ بِالْعِزِّ مَذْكُورٌ، وَبِالْفَخْرِ مَشْهُورٌ، وَعَلَى السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ مَشْكُورٌ، وَصَلَىّ اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ الطّاهِرينَ.

هي النورُ من نورٍ، وبالنورِ زُوِّجَتْ
فنورُ  عليٍّ  قد  غشى  نورَ iiفاطمٍ
  تبارك   ربٌّ   فيهما   جَمَع  الخَيرا
فأولَدَها    نجماً..   وأعقَبَها   بَدرا

القيمة الثانية: فهم الحياة فهماً موضوعياً، كانت الزهراء تعلم أبناءها على أن الحياة ليست جمعاً للأموال ولا طلباً للثروة ولا لهفاً وراء الجاه ولا سعياً وراء الألقاب، فالحياة أن تكون طريقاً لخدمة سبيل الله، ولتكن حياتك طريقاً للآخرة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77] لذلك لما دخل عليها رسول الله ، وهي تطحن الرحى والطفل في حضنها تربته وهي تسبح، كانت تجمع بين أمور ثلاثة: عمل وحضانة للطفل وارتباط بالله تبارك وتعالى، فلما نظر إليها ابتسم وقال: بنيه، تعجلت مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: أبه يا رسول الله الحمد لله على نعمائه وله الشكر على آلائه.

القيمة الثالثة: العطاء المجاني، الزهراء علمت أبناءها على العطاء المجاني بلا مقابل ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا «5» عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا «6» يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9» [الإنسان: 5 - 9] ثلاثة أيام لم يذوقوا الطعام وكانوا على الماء يرتعشون كالفراخ كلما قدموا أقراصهم جاء من يطلبها، مسكين ويتيم وأسير، وباتوا جياعاً بتلك الحالة المرة، ولكن هذه الحالة جعلتهم عمالقة في مقام العطاء والإحسان والبذل، دون رعاية لأمور مادية أخرى ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9»، وجاء لها الإمام علي بسوارين حصل عليهما من الغنائم فلم تلبس السوارين بل أعطتهما لولدها الحسن وقالت له: اذهب بهما إلى أبي رسول الله، وقل له بعهما وتصدق بثمنهما على فقراء المسلمين. فهي تعلم ابنها على الصدقة والعطاء والبذل بلا مقابل.

القيمة الرابعة: الأدب، الإمام علي يقول لابنه الحسن «عليهما السلام»: ”إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، كلما ألقي فيها شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك وينشغل لبك“، كان علي وفاطمة يذوبان تأديباً للحسن والحسين ويربونهما على الأدب العالي، كان الحسن يدخل المسجد وهو طفل فيعامله المسلمون معاملة الرجل لعلو أدبه وسمو نفسه، وكان يستمع الوحي من رسول الله ، ويرجع البيت ويفرغه على أمه فاطمة الزهراء.

القيمة الخامسة: وهي القيمة التي ركزت فاطمة عليها بالنسبة إلى أولادها: الانتصار للعدالة والفضيلة، الانتصار للحق، ربت أبناءها على حب الشهادة وحب مقارعة الظلم والطغيان، حب التضحية في سبيل القيم والمبادئ، لذلك كل أبنائها ساروا على هذا الطريق، طريق التضحية ومواجهة الظلم، وطريق مواجهة الطغيان، وتلاحظ أن الأئمة يهتمون بتاريخ أهل البيت ، لما ورد عن الإمام الصادق : يقول علموا أبناءكم من علمنا  فضائلهم، مناقبهم عطائهم، تحليل حياتهم  ما ينتفعون به، حتى لا تسبقكم المرجئة.

ومن هنا ورد عن الإمام زين العابدين علي : علموا أولادكم شعر أبي طالب فإنه على فطرة دين الله. يتميز شعر أبو طالب بأنه من وحي الفطرة عندما يقول في شعره:

ودعوتني   وعلم   أنك  iiناصحي
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
ولقد   علمت   بأن  دين  محمد

 
ولقد   صدقت   وكنت  ثم  أميناً
وأبشر   بذاك  وقر  منك  iiعيوناً
من   خير   أديان   البرية  iiديناً

وقف أبو طالب إلى جانب رسول الله وفداه بنفسه، ووفر له البيئة الآمنة، وقد تجلى أبو طالب في يوم كربلاء، فكل المقتولين من بني هاشم هم من ذرية أبي طالب، وأبناء علي، وأبناء جعفر، وأبناء عقيل، وقد محيت ذرية أبي طالب في يوم كربلاء، فكما وقف أبو طالب رضي الله عنه مؤمن قريش مدافعاً بيده ولسانه وقدراته عن رسول الله، وقف أبناء أبي طالب يوم كربلاء دفاعاً عن ابن بنت رسول، فأخذوا نفس النسق:

أبا  حسنٍ  إن  الذينَ  نماهمُ iiسجودٌ
على   وجه  الصعيد  كأنما  iiأُصيبوا
ولكن     مقبلينَ    دماؤهم    تسيل

 
أبو   طالبٍ   بالطفِّ   ثأرٌ   iiلطالبِ
لها في محاني الطف بعض المحارب
على     الأقدامِ     دون    iiالعراقبِ

أبناء أبي طالب فداء لأبناء رسول الله، فكيف إذا كان هو مجمعاً لعلي ولرسول الله، وكيف إذا كان هذا الشهيد مظهراً لرسول الله وشبيهاً برسول الله كعلي بن الحسين الأكبر.