العِبَادَةُ فِي الرُؤْيَةِ العَلَوِيَّةِ العُرفَانِيَّة

ذكرى شهادة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2]

صدق الله العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

  • حقيقة الوجود.
  • حقيقة العبادة.
  • عبادة أمير المؤمنين علي .
المحور الأول: حقيقة الوجود.

قسَّم الفلاسفة الوجود إلى ثلاثة أقسام: وجود نفسي، وجود غيري، ووجود رابط.

الوجود النفسي هو الوجود القائم بنفسه كوجود الجسم، وجود قائم بنفسه لا يحتاج إلى محل يطرأ عليه بينما عندما نأتي إلى القيام والقعود والصلاة، فإن القعود صفة للجسم، والقيام صفة للجسد، الصلاة صفة للبدن، إذن القيام والقعود ليسا وجوداً قائماً بنفسه كوجود الجسم، وإنما هو وجود قائم بغيره، ولذلك يُعبر عنه بالوجود الغيري.

وهناك وجود أضعف من هذين الوجودين ألا وهو الوجود الرابط كوجود الخيال، الخيال الذي يتصوره الإنسان في ذهنه نوع من الوجود لكن هذا الوجود ليس وجوداً في نفسه، وليس وجوداً يعرض على غيره، عروض الصفة على الموصوف إنما هو صورة باهتة، إنما هو عين الفقر، عين النقص، عين الربط، الخيال مجرد انعكاس لأجسام وأشياء ترتسم في ذهن الإنسان، لأجل ذلك الخيال هو نقص وفقر وحاجة، ولذلك يسمى بالوجود الرابط، من هنا جاء السؤال: ما هي نسبة وجود الإنسان إلى وجود الله تبارك وتعالى؟

واختلفت المدرستان المدرسة الفلسفية والمدرسة العرفانية في تحديد نسبة وجود الإنسان إلى وجود الله تبارك وتعالى، المدرسة الفلسفية قالت: كلا الوجودين هو وجود نفسي، وجود الله وجود قائم بنفسه ولكنه وجود لا يشوبه عدم ولا يشوبه نقص وحد، هو واجب الوجود من جميع الجهات، بينما وجود الإنسان وإن كان وجوداً في نفسه، والإنسان وجود يتحرك على الأرض إلا أنه وجود مشوب بالنقص والحد، مشوب بالإمكان الذي يحيطه من جميع الجهات، علمه ناقص، قدرته ناقصة، إرادته ناقصة، فهو وإن كان وجوداً نفسياً إلا أنه وجود ناقص.

المدرسة العرفانية تقول: وجود الإنسان ليس بشيء، فوجود الإنسان كوجود الخيال، هو عين الربط، عين النقص، عين الحاجة، ليس موجوداً في نفسه، وإنما هو ذرة لونية هي عين الفقر والحاجة، الإنسان بالنسبة إلى الله هكذا، هو عين الفقر والربط والحاجة لله تبارك وتعالى، ويستشهدون على ذلك بقوله عزوجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] أنتم فقر ونقص وحاجة وتدلي وليس شيئاً آخر.

لاحظوا أن وجود الإنسان هو وجود فيه تزاوج بين الموت والحياة، بين اللذة والألم، يقول القرآن الكريم: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «2» [الملك: 1 - 2] خلق الموت والحياة أي خلق تزاوج بينهما وتقارن، فلا حياة إلا وفيها موت ولا موت إلا وفيه حياة، الإنسان نفسه وهو في الحياة في كل آن تموت منه مئات الخلايا وتحيا فيه مئات الخلايا، هو في كل لحظة بين موت وحياة.

الإنسان دائماً في لذة وألم، لا يمكن أن يحصل على لذة صافية بدون ألم، الإنسان عندما يجمع ثروة يظن أنه في لذة وهو ليس كذلك، هذا الإنسان الثري المفعم بثروته يعيش ألماً أعظم من ألم الفقير، يعيش ألم الخوف والقلق على زوال ثروته وعلى ضياعها من بين يديه، وعلى هدر أتعابه وجهوده، ففي كل لذة يعيشها الإنسان يعيش معها درجة من الألم.

إذن الوجود الذي هو موت وحياة وهو لذة وألم ليس وجوداً نفسياً إنما هو عين الفقر، عين النقص، عين الحاجة المرتبطة بالله تبارك وتعالى، ومن أجل ذلك هذه هي حقيقة وجود الإنسان، فالذي يتناسب مع وجود الإنسان هو العبادة، العبادة هي مظهر للضعف والنقص والحاجة، والإنسان عندما يقوم بالعبادة فهو يظهر حجمه الواقعي، يظهر نقصه، أما الذي يتعامى ويستكبر عن العبادة يحاول أن يغطي نقصه وفقره بألوان من الزيف، بألقاب مضخمة، يحاول أن يبرز نفسه بأنه شيء وهو ليس بشيء لذلك يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]

المحور الثاني: حقيقة العبادة.

الإنسان في حاجة ذاتية للعبادة لأنه يعيش نقصاً وفقراً ويعيش موتاً وحاجة لذلك يحتاج إلى تعبير ينسجم مع حجمه وشخصيته وواقعه وذلك التعبير هو العبادة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2]

الخشوف والخضوع يعبر عن حجمك الواقعي، وحجم النقص والقلق والحاجة للمدد الإلهي؛ لأن العبادة استمطار للمدد واستنطاق للعطاء، لأن العبادة رجاء، لذلك العبادة تعتمد على ركنين: الرجاء والخوف.

ورد عن الرسول محمد : ”لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يحذر مما يخاف ويعمل لما يرجو“.

ويقول القرآن الكريم: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] العبادة قائمة على جناحي الخوف والرجاء لأجل ذلك العبادة هي فعلاً مظهر الضعف الذاتي للإنسان، الإنسان في كل لحظة تمر عليه يخاف من شيء ويأمل في شيء آخر، فإذا عاش العبادة بجناحي الخوف والرجاء عبر عن واقعه وحجمه وعبر عن موقعه الوجودي وهو أنه عين النقص والحاجة، عين الرجاء والخوف، عين المشاعر المتذبذبة والمتأرجحة بين الرجاء والخوف.

عندما نريد أن نتحدث بعمق عن الرجاء والخوف، فالرجاء يستند إلى ركن، والخوف يستند إلى ركن، عندما نأتي إلى الرجاء فإن ركنه المحبة، لا يمكن أن يحصل رجاء بدون دافع وحب وراء ذلك الرجاء، والمحبة لها أنواع ولها أقسام، الحب النفعي، الحب المجرد، الحب الإلهي.

1» الحب النفعي: أن تحب إنساناً فقط لأنه يخدمك لا لشيء آخر، يقول القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14] لأن الشهوات تخدمهم وتشبع غرائزهم.

2» الحب المجرد: أحب الإنسان الآخر لأنه قطعة من الجمال وإن كان لا يخدمني، أحب الإنسان الآخر لأنه قطعة من الكمال والخلق العالي وإن كان لا يخدمني، أحب الإنسان الآخر لأنه مظهر للقيم الإنسانية النبيلة، هنا عابس بن شبيب عندما يقول: «حب الحسين أجنني» لأن الحسين قطعة من الكمال والجمال والجلال الإلهيين، وهذا مظهر للحب المجرد.

3» الحب الإلهي: أن تحب الله، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] المؤمنون هم الذين يحبون الله، لا حباً نفعياً ولا حباً مجرداً بل حباً من نوع خاص نسميه بالحب الإلهي.

الحب الإلهي على درجات:

الدرجة الأولى: درجة التجلي، أن يتجلى الله في قلبي ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف: 143] عندما يتجلى الله في قلبك تبدأ أول درجة من درجات حب الله، وتعرف أن الله تجلى في قلبك من خلال حبك للعبادة، إذا رأيت نفسك مقبلة على النافلة وعلى قراءة القرآن وعلى استماع الدعاء، وتشعر بلذة في قراءة القرآن وتشعر بطعم جميل في الدعاء وتشعر بحلاوة وأنس من خلال النافلة فقد حصلت على أول درجة من درجات حب الله ألا وهي درجة التجلي.

الإمام زين العابدين يعبر عن هذه الدرجة عندما يقول: ”أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أحباءك حتى ذاقوا حلاوة مآنستك“ يشعرون بأن الصلاة والدعاء والنافلة أنس مع الحبيب الذي تجلى في قلوبهم وزرع النور في قلوبهم، هذه الدرجة وهي درجة التجلي هي التي يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] يشعر بنور وحب في قلبه بأن الله شرح صدره للإسلام ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]

وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ «2» [الشرح: 1 - 2]

الدرجة الثانية: درجة الاستغراق في الله، أن يعظم الإنسان ويرقى الإنسان من درجة التجلي إلى درجة الاستغراق في الله تبارك وتعالى.

الدرجة الثالثة: درجة الفناء، أن لا يرى إلا الله ولا يسمع إلا ذكر الله، ولا يفكر إلا في الله، شغله الله في كل شيء، ملأ الله قلبه وعقله ومشاعره وأحاسيسه وسلوكه، فلا يفكر إلا في الله، هذه الدرجة من الفناء في الله هي التي يعبر عنها الإمام أمير المؤمنين عندما يقول: ”ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“. هؤلاء شغلهم ذكر الله عن كل شيء فلا يفكرون إلا في الله، ومن وصل إلى هذه الدرجة وهم الأولياء ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] وصلوا إلى أعلى درجات العبادة وهي درجة الحب الإلهي لله على نحو الفناء التام ”ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك“.

جناح الخوف أيضاً له درجات:

الدرجة الأولى: الخوف من المقام، الإنسان يقول أنا لا أخاف الله فالله رحيم غفور فهو يقول تبارك وتعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156] إنما أخاف مقامه كما في الآية المباركة: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى «40» فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى «41» [النازعات: 40 - 41] خوف المقام عندما يشعر الإنسان بانبساط مقام الله تبارك وتعالى وبانبساط قدرة الله على كل شيء، مقام الله هو مقام القيمومة، مقام الله هو مقام الألوهية، عندما يعلم الإنسان ويشعر بمقام القيمومة لله تبارك وتعالى يحصل له الذل، ويحصل له الخضوع والإنابة، هذا هو الخوف من المقام.

الدرجة الثانية: الخوف من الآخرة، نلاحظ القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ «45» إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «46» وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ «47» [ص: 45 - 47] ذكرى الدار أي ذكرى الآخرة، دائماً يعيشون الآخرة، هم يعيشون الخوف من المصير القادم الذي يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 24] ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18] الإمام زين العابدين عندما يتذكر صور الآخرة يقول: ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، ومالي لا أبكي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني“.

الخوف من الآخرة مدعاة للخشوع والخضوع والبكاء على النفس وعلى شريطها الأسود الملوث بالمعاصي والذنوب.

الدرجة الثالثة: الخوف من النفس، أن الإنسان عندما يخاف من نفسه، ويقول أنا على خير لكن أخاف أن تسول لي نفسي يوماً شراً أو معصية ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف: 53]

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا «9» وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «10» [الشمس: 7 - 10]

فمن عاش جناحي الخوف والرجاء عاش العبادة الحقيقية لله تبارك وتعالى.

المحور الثالث: عبادة أمير المؤمنين علي .

من مثَّل الوجود الذي هو عين الفقر والحاجة لله هو أمير المؤمنين علي ، من مثَّل العبادة بدرجة الفناء لله هو أمير المؤمنين علي ، ومن مثَّل الخوف من مقام الله عزوجل هو أمير المؤمنين علي ، نقرأ صفحات مشرفة من عبادة أمير المؤمنين علي ، كان أمير المؤمنين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ثمان ساعات من اليوم تشغله الصلاة وتشغله النافلة لا يفكر إلا في ذكر الله، وكان يُرغم جسده على تحمل ألم العبادة، يقول زين العابدين علي لولده الإمام الباقر: بني ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين، فيناوله إياها فيبكي زين العابدين وهو سيد الساجدين ويقول: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين.

عبادة لا ترقى لها عبادة، أمير المؤمنين كان يقف بين الصفوف في يوم صفين ويوم الجمل والسهام تترا على جسده فلا يشعر بألم السهام ولا وخزها لأنه مشغول بلقاء الحبيب، الحب يعمي عن كل شيء ويشغل عن كل شيء لأنه مشغول بمناجاة محبوبه، لذلك لا يشعر بألم السهام ووخزها وكان يقف والحرب قائمة ويصلي فيقال يا أبا الحسن أهذا وقت صلاة؟ قال: وعلى ما نقاتلهم، إنما نقاتلهم لأجل الصلاة. نحن لا نضحي بالهدف من أجل الوسيلة أبداً، نحن نؤكد أن هدفنا من قتالهم هو دعوتهم للصلاة واستشعارهم معاني الصلاة ومضامينها، إنما نقاتلهم لأجل الصلاة.

أمير المؤمنين علي كما يصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية ويقول: ولقد رأيته ليلة في محرابه قابضاً على شيبته يتململ تململ السليم ويقلب كفيه ويقول: إليك يا دنيا غري غيري فقد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي بعدها، إلي تشوفتِ أم إلي تطلعتِ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

هذا ما كان يقوله أبو الحسن صلوات الله وسلامه عليه وهو يمثل قمة الخوف من مقام الله، وقمة الرجاء لرحمة الله تبارك وتعالى، عليٌ جمع في عبادته العطاء نحو السماء، والعطاء نحو الأرض، علي في صلاته يتصدق ويجمع بين عبادتين عبادة الصلاة وعبادة الصدقة في آن واحد ولحظة واحدة حتى مجده القرآن الكريم وقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة: 55] علي بدأ حياته ببيت العبادة بالكعبة المشرفة وختم حياته في محراب العبادة، سقط صريعاً والصلاة بين شفتيه وهو يقول: فزت ورب الكعبة.

وفي يوم العشرين من شهر رمضان ما ترك الصلاة إنما صار يصلي من جلوس من ضعف بدنه وشدة آلامه وجرحه ولأنه يحب الصلاة إلى آخر لحظات حياته كان يقول لأولاده: الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم.