ظاهرة الوحي بين عالم المادة وعالم الغيب

1443-09-01

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

لدينا في هذه الليالي الكريمة مجموعة محاضرات حول حقيقة الوحي ومنشأ الوحي وحقيقة القصص القرآنية التي تعرض لها الكتاب الكريم، ونقد ما أُثير من إشكالات حول مضامين القرآن الكريم من الناحية العلمية أو التاريخية، فالمحاضرة الأولى حول حقيقة الوحي وهنا محاور ثلاثة:

  • بيان معنى الوحي في القرآن الكريم.
  • إمكان الوحي.
  • في تفسير الوحي.
 المحور الأول: بيان معنى الوحي في القرآن الكريم.

الوحي بحسب الوضع اللغوي هو عبارة عن الإلقاء الخفي؛ بمعنى أن الإنسان إذا ألقى إلى إنسان آخر معلومة بطريقة خفية لا يفهمها إلا الملقى إليه فيعد هذا الإلقاء وحياً، أوحى إليه بمعنى أنه أوصل إليه معلومة لا يفهمها إلا هو بنحو خفي غير واضح، كما ذكره ابن فارس في كتابه[1] : نلاحظ أن القرآن الكريم استخدم كلمة الوحي في عدة مضامين كلها تلتقي بهذا المعنى العام ألا وهو الإلقاء الخفي، وهذا ما أشار إليه السيد الطباطبائي أيضاً في تفسير الميزان[1] ، وقد استُعمل الوحي في عدة معاني في القرآن الكريم:

  • المعنى الأول: النظام الكوني، مثلاً قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت: 12] أوحى في كل سماء أمرها أي وضع في كل سماء النظام الذي يديرها بشكل خفي لا يعرفه إلا الله والراسخون في العلم، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 12]
     
  • المعنى الثاني: استخدم الوحي في نداء الغريزة أو صوت الغريزة الذي لا يسمعه إلا صاحب الغريزة نفسه، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل: 68] فهذا طبع كامن في غريزة النحل لا يفهمه إلا هذا الجنس المسمى بالنحل.
     
  • المعنى الثالث: الإشارات الشيطانية من الشياطين لبعضهم البعض، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] هذه المعاني التي يتناقلها الشياطين هي معانٍ لا يعرفها إلا هم لذلك عبَّر عنها في القرآن الكريم بالوحي.
     
  • المعنى الرابع: الرمز أو الشفرة، مثلا في الآية التي تتحدث عن زكريا : ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا «10» فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا «11» [مريم: 10 - 11]
     
  • المعنى الخامس: الإلهام، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] أوحينا إليها بمعنى خلقنا وصنعنا إلهاماً في قلبها يرشدها إلى أن تقوم بهذا العمل.
     
  • المعنى السادس: الأمر إلى الملائكة، ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12].
     
  • المعنى السابع: الوحي إلى النبي ، قال تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] هنا اتحد الوحي مع الموحى، أوحينا إليك روحاً أي أرسلنا إليك روحاً، فالوحي هنا الإرسال، والموحى هو الروح، فأوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.

فإذا تتبعنا إطلاقات القرآن الكريم لكلمة الروح نجد أن الروح ليس هو جبرئيل، إنما الروح هو وجود ملكوتي يلبسه جبرئيل ويلبسه الإنسان، ويلبسه أي مخلوق يكون مؤهلاً لحمل هذا الوجود الملكوتي، نلاحظ مثلاً قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] الروح وجود ملكوتي ينتسب إلى عالم الأمر وهذا الوجود الملكوتي لو حصل عليه الإنسان لكان هذا الإنسان في مقام الأنبياء.

مثلاً قوله تعالى في حق عيسى بن مريم عندما يتحدث عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171]، ويقول القرآن الكريم في حق جبرئيل: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] جبرئيل في حد ذاته ليس هو الروح ولكنه حمل الروح إلى النبي فلُقب بالروح الأمين، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]

ويقول القرآن الكريم أيضاً: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4] ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل: 2]

أوحينا إليك روحاً من أمرنا أي أوحينا إليك شيئاً وذلك الشيء الذي هو الوحي هو وجود ملكوتي أفيض على روحك وقلبك فأصبحت من الأنبياء والمرسلين ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]

إذن الوحي في القرآن الكريم وجود ملكوتي يفاض على نفس النبي، أي نبي من الأنبياء عندما يفاض على نفسه الوجود الملكوتي يقال أنه أوحي إليه، فهو نبي موحى إليه ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف: 110]

المحور الثاني: إمكان الوحي.

الوحي عبارة عن اتصال البشر بالله، عبارة عن اتصال المحدود باللامحدود، عبارة عن اتصال المادي بالمجرد، فهل يمكن أن يحصل اتصال بالمحدود واللامحدود؟ بين المادي والمجرد؟ بين ما يخضع لقواسر مادية وبين ما هو متحرر من هذه القواسر المادية؟

هذه مسألة مثارة في الفلسفة والكتب العقلية فالبعض يراه غير ممكن، ويُذكر هنا وجهان في كلمات المنكرين:

الوجه الأول:

اتصال المحدود باللامحدود غير ممكن لأنه يعني أن اللامحدود تحول إلى محدود، إذا كان لا محدود واتصل بمحدود فاتصاله بالمحدود جعل له حداً، هو لا محدود ولكن عندما اتصل بالمحدود صار المحدود حداً له، وهذا يعني انقلاب اللامحدود للمحدود وهذا خلف، اتصال اللامحدود بالمحدود يعني حداً لللامحدود، أي أنه من جميع الجهات لا محدود إلا من هذه الجهة صار له حداً وهذا خلف كونه لا محدود.

أو نأتي مثلاً إلى اتصال المادي بالمجرد، هو مجرد أي لا مادي، فإذا اتصل بالمادي صار المادي محيطاً به فانقلب من كونه مجرداً إلى كونه مادياً وهذا خلف، ولذلك نرى هذا الإنكار ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 24]، ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم: 10]

الوجه الثاني:

حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، إذا نوح إنسان والإنسان يموت إذن نوح يموت، وبناءً على هذه القاعدة إذن لو كان النبي يوحى إليه لأوحي إلى بقية أبناء الإنسان، لأن حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد، فما دام النبي إنساناً وأمكن الوحي إليه وهو إنسان إذن أمكن الوحي بالنسبة إلى سائر أبناء البشر لتساويهم في نوع الإنسانية، والتساوي في نوع الإنسانية يعني التساوي في الآثار والأحكام فلماذا يخص بعض البشر بالنبوة والوحي دون بقية أبناء البشر!

وهذا ما ذكرته الآيات القرآنية: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس: 15]

وهنا عدة مقدمات لدفع هذين الدليلين:

المقدمة الأولى:

هل يمكن أن يتصل عالم المادة بعالم ما وراء المادة؟ أن يتصل وجود من عالم المادة بوجود من عالم وراء المادة هل هذا أمر في حد ذاته ممكن أم لا؟

يقول الفلاسفة أن ذلك ممكن، والدليل على ذلك باعتبار أن الإنسان ليس وجوداً مادياً فقط بل وجود مادي وروحي، أي أن الإنسان يمتلك عنصرين عنصراً مادياً، وعنصراً روحياً وهو النفس، ومن خلال وجوده المادي لا يستطيع أن يتصل بعالم ما وراء المادة، ولكن من خلال وجوده الروحي ممكن أن يتصل بعالم ما وراء المادة، والشاهد على إمكان الاتصال هو الرؤى الصادقة.

يقول ابن سينا في التنبيه والإشارات: أن المادي يتصل بعالم وراء المادة والدليل على ذلك هو الرؤى الصادقة، وهو أمر متكرر لدى كثير من الناس يرون رؤى ثم تتحقق، وهي رؤى ليست موجودة في عالم المادة بعد، أي بعد لم توجد وليس لها أسباب مادية وليس لها ظروف مادية ومع ذلك تتحقق بعد عهد قريب أو بعيد، وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد، فالبشرية مجمعة على وجود رؤى صادقة، ومعنى الرؤى الصادقة هو أن يحصل للإنسان صور في منامه تتحقق فيما بعد مع أن أسبابها المادية لم تحصل بعد، وهذا دليل عن أن هذه الصور ليست من عالم المادة لأن أسبابها المادية لم تنعد ولم تتحقق بعد، إذن هذا دليل على أن الصور مفاضة من عالم آخر، عالم ما وراء المادة أفيضت على عالم المادة.

إذن الرؤى الصادقة في حقيقتها هي اتصال بين هذا المادي وما وراء المادة، وتلقيه صوراً من ذلك العالم أعطته نبأ بحدوث قضايا معينة ثم تحققت على أرض الواقع بعد ذلك، ونفس هذه الرؤى الصادقة هي دليل على إمكان اتصال الإنسان من خلال روحه بعالم آخر وهو عالم ما وراء المادة. [3] 

المقدمة الثانية:

هنا موضع الدقة، الله سبحانه خلق هذا الكون المادي، فهل انتهت علقة الله بعالم المادة بعد خلقه أو بقيت؟ فإذا قيل لا صلة له بعالم المادة فهذا هدم لقانون العلية، حيث لا يعقل انفكاك المعلول عن العلة، المعلول والعلة متعاصران زمناً متفاوتان رتبة، الطاقة الكهربائية علة الضوء معلول، ومستحيل انفكاك الضوء عن الطاقة الكهربائية، لا يمكن أن يبقى الضوء مع انتهاء الطاقة الكهربائية وانفصالها، يستحيل ذلك، المعلول والعلة متعاصران زمناً متفاوتان رتبة باعتبار أن العلة مفيض والمعلول مفاض وإلا لا يتصور انفكاكهما أبداً، كذلك نسبة الوجود اللامحدود للوجود المحدود هو نسبة العلة للمعلول، يستحيل انفصالهما ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]

إذن إذا كان لا يمكن انفكاك المعلول عن العلة إذن صلة اللامحدود بالمحدود أمر ضروري وليس فقط ممكن بل ضروري، ولا يمكن أن ينفك المحدود عن اللامحدود ما دام المحدود معلولاً للامحدود، فنفس النسبة بين الله تبارك وتعالى وبين عالم الوجود هي نفس النسبة بين الروح والجسد، الجسد مجرد آلة لا أكثر، جسدنا بما فيه من أحاسيس وقوى وبما فيه من جميع الفعاليات هو مجرد آلة وأداة، والروح هي التي تبث في هذا الجسد الحركة والنشاط، الروح من عالم وهو عالم الأمر، والبدن من عالم وهو عالم الخلق، وبينهما صلة كما يعبر الفلاسفة عن ذلك يقولون علقة التدبير والتصرف تدبر هذا البدن، علقة الوجود اللامحدود وهو وجود الخالق تبارك وتعالى بهذا العالم المحدود كعلقة الروح بالبدن، علقة التدبير والإدارة والتصرف، إذن لا يمكن فصل المحدود عن اللامحدود، فإذا كان عالم اللامحدود متصلاً بعالم المحدود لصلة الله بمخلوقاته فكيف يقال بأن الوحي غير ممكن لأن الوحي اتصال بين المحدود واللامحدود! والمحدود لابد أن يتصل باللامحدود فغايته أن الوحي مصداق من مصاديق اتصال اللامحدود بالمحدود لا أكثر من ذلك.

المقدمة الثالثة:

الاتصال إحاطة لا تحديد، تأتي مثلاً إلى حبيبات الرمل وتلقي عليها الماء، فاتصال الماء بهذه الحبيبات إما هو اتصال تحديد أو إحاطة؛ أي أن الماء أحاط بالحبيبات وسيطر عليها ونفد إلى جميع أجزائها وذراتها أم أن الماء صار محدوداً بها  وهذا مثال حسي  نقول اتصال الماء بالحبيات هو اتصال إحاطة وليس اتصال تحديد، وأما إذا ألقيت ماء على حبيبات فهذا اتصال إحاطة وليس اتصال تحديد، ضوء الشمس انتشر على نصف من الكرة الأرضية، اتصال الضوء بصف الكرة الأرضية هو اتصال إحاطة لا أنه تحدد بها، وهكذا اتصال المجرد بالمادي، وهكذا اتصال اللامحدود بالمحدود، اتصاله به تعني إحاطته به ووقوعه تحت سيطرته وقبضته، فليس هذا الاتصال تحديد كي يقال إذن أصبح اللامحدود محدود، إنما يصبح اللامحدود محدود لو كان الاتصال اتصال تحديد، أما إذا كان الاتصال عبارة عن إحاطة وهيمنة إحاطة المجرد بالمادي وهيمنته عليه، إحاطة اللامحدود بالمحدود وهيمنته عليه ونفوذه فيه، هذا الاتصال لا يعني انقلاب اللامحدود إلى المحدود أو المجرد إلى المادي، إذن اتضح من ذلك أنه هذا الدليل الأول الذي أقيم على إثبات امتناع الوحي غير تام.

وفي الدليل الثاني وهو حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد إذا كان قد أوحي إلى الأنبياء فإذن غيرهم من البشر يوحى إليهم، نقول لا إشكال أن البشر يختلفون في مواهبهم وقدراتهم وطاقاتهم النفسية والعقلية والبدنية، فبعض البشر يصل إلى مقامات لا يصل إليها البشر الآخر لوجود طاقة لديه لا يملكها غيره، تفاوت البشر في طاقاتهم وقدراتهم العقلية والنفسية والبدنية يفرض حتماً في أن يختلفوا في مقاماتهم، فيصل هذا إلى ما لم يصل إليه ذاك، ما دام المتنبي شاعر فكل البشر لابد أن يكونوا شعراء لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد! فاختلاف البشر في طاقاتهم يعني اختلاف البشر في مقاماتهم فينال البعض مقاماً عقلياً لا يناله الآخر، وينال البعض مقاماً روحياً لا يناله الآخر، وينال البعض مقاماً بدنياً لا يناله الآخر... وهكذا، فهناك صفوة من البشر تأهلت للاصطفاء والوحي دون بقية البشر لذلك قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ «33» ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «34» [آل عمران: 33 - 34].

المحور الثالث: في تفسير الوحي.

حقيقة الوحي قد تدخل فيه بحوث في علم النفس، وقد تدخل فيه بحوث في علم الكلام، نتعرض لبعض هذه التفاسير في هذه المحاضرة، وهناك عدة تفاسير لحقيقة الوحي:

التفسير الأول: التفسير النفسي.

أن الوحي هو عبارة عن طاقة نفسية عند الإنسان، لا اتصال ولا شي من الله أبداً، بل طاقة نفسية يمتلكها بعض البشر، وهذه الطاقة تجعله يتحدث بأحاديث عظيمة في مضامينها، محكمة في مداليلها، ويطرح تصورات عن عوالم متعددة وكل ذلك عبارة عن تجلي من تجليات النفس وليس هناك اتصالاً ولا وحياً ولا حديثاً بين الله وبين هذا المخلوق.

الاستدلال: بعض العلماء في حقل العلوم الاجتماعية وعلم النفس ذهبوا إلى أن الوحي ليس كما يصوغه المتدينون من كونه اتصالاً خاصاً بين الله وبين الأنبياء، وإنما هو متمحور في العقل الباطن اللاواعي، ففي مرحلة الباطن العقل اللاواعي يتمركز الوحي؛ بمعنى أن لدى البشر طاقة كامنة في العقل الباطن اللاواعي وتظهر هذه الطاقة عليهم بعد عمر معين وبعد طقوس معينة كما صنع النبي عندما تعبد في غار حراء فظهرت تلك الطاقة الكامنة في منطقة العقل اللاواعي وأصبحت هذه الطاقة آيات ومضامين وحكم وقوانين إلى آخر ما صدر عن النبي .

إن هؤلاء الأنبياء كانوا يتمتعون بأرواح شفافة وهمة عالية، جعلت منهم أن يختاروا العزلة والتفكير في سبيل إنقاذ الناس ونتيجة النزعة التأملية وصلوا إلى ما وصلوا إليه فيتصورون ما يعتلج في ضمائرهم من الإلهامات يتصورونه وحياً، وكانوا يتصورون أحياناً أنهم يرون مَلَكاً أو يستمعون هاتفاً غيبياً يناجيهم دون أن يكون هناك ملك أو هاتف في حقيقة الأمر.

يقول إدوارد مونت[4] : إن محمد كان سليم الفطرة، كامل العقل صادقاً فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنه من رؤية ملك الوحي وإنبائه لهداية قومه.

والدليل على هذا الاستدلال قالوا أن الدليل على ذلك وجهان:

1» الوجه الأول: إن الله منزه عن أن يشغل حيزاً مكانياً وعليه لا يمكن للمادي المفتقر إلى المكان أن يتمكن من التواصل مع الذات المنزهة عن المكان.

2» الوجه الثاني: إن روح الإنسان وعاء للمعارف عن طرق ثلاثة: العقل، الحس، الوجدان، فإما أن يأخذ معارفه عن طريق العقل مثل المعلومات الرياضية، وإما أن يأخذ معلوماته عن طريق الحس كأن يقوم بتجربة حسية يكتشف من خلالها المرض أو الوباء، أو عن طريق الوجدان كالشعور بالفرح أو الحزن أو الحب أو البغض كلها معلومات وجدانية، إذن الطرق للمعلومات ثلاثة إما عقل أو حس أو وجدان فمن أين أتى الوحي؟!

لا يوجد طريق رابع حتى يقع به التواصل بين النبي وبين الله تبارك تعالى ويعبر عن ذلك بالوحي، فهو إما هو عقلي فالوحي معلومات عقلية، أو حسي فيكون الوحي معلومات حسية، أو وجداني فالوحي معلومات وجدانية.

فمن خلال هذين الوجهين ذهبوا إلى أن الوحي طاقة متمركزة في العقل اللاواعي ظهرت على هذا الإنسان نتيجة قيامه بطقوس معينة كما صنع النبي .

ولمناقشة هذا التفسير لدينا عدة مناقشات:

  • المناقشة الأولى: ليس الوحي اتصالاً مادياً كي يقال كيف يتصل من يفتقر إلى المكان بمن هو منزه عن المكان، الوحي اتصال روحي ملكوتي وليس اتصالاً مادياً كي يخضع للمعايير والمقاييس المادية.
     
  • المناقشة الثانية: من أين حصرتم روافد المعرفة بهذه الطرق الثلاثة عقل، حس، وجدان؟

    ذكر صدر المتألهين الشيرازي ملا صدره في كتابه[5]  قال: الإنسان مثلث له تعقل وتخيل وحس، أي لديه قوى متعقلة ولديه قوى متخيلة وعنده قوى حسية، وبهذه القوى الثلاث يصل إلى ثلاثة عوالم، فبالتعقل يحصل على كمال المعقولات وبالتخيل يمكن أن يشاهد الملك كجبرئيل وغيره، وبالحس يمكن أن يتجسد أمامه المَلَك بصورة حسية فيراه.

    ولكن الكلام ليس بهذه السهولة، فالوحي لا يمر عبر أداوت إطلاقاً، الوحي اتصال مباشر بين نفس النبي وبارئه تبارك وتعالى، لا يوجد واسطة ولا أداة في البين، نعم القرآن الكريم قسم الوحي قال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] إما أن يكون وحياً مباشراً أو من وراء حجاب أم يرسل رسول، ولكن لا دليل عقلاً على حصول المعارف بهذه الطرق الثلاث وهي إما عقل أو وجدان أو حس، الوحي عبارة عن اتصال مباشر بين النفس النبوية وبارئها تبارك وتعالى يفيض على هذه النفس النبوية النور ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [الشورى: 52] تماماً كما نقول: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور: 35] يفيض عليه الهداية بصورة مباشرة، إذن ما يدعيه المتدينون هو أن الوحي إفاضة مباشرة واتصال مباشر.
     
  • المناقشة الثالثة: دليل حساب الاحتمالات، وهذه المناقشة ذكرها السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه «المرسل، الرسول، الرسالة» ذكر هناك هذا الاستدلال أن دليل حساب الاحتمالات يفضي إلى الإيمان بالوحي، ومعنى تطبيق دليل حساب الاحتمالات على هذه المسألة أن النتيجة أكبر من المقدمات، فالمقدمات ثلاثة: النبي لم يتعلم، ولم يحضر عند أحد من علماء الكتاب سواء من اليهود أو النصارى كي يقتبس منهم ويتعلم، وأن النبي لم يشارك في أي موسم أدبي أو شعري حتى يكتسب بلاغة وبيان،

والنتيجة بعد هذه المقدمات كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتاب جمع مختلف المعارف والفنون في التاريخ والعلوم الكونية وفي مجال تزكية النفس، وفي مجال التشريع والقانون، وفي مجال القيم الأخلاقية، أتى بكتاب لا ينسجم مع تلك المقدمات، فالنتيجة أكبر من المقدمات، وبما أن النتيجة أكبر من المقدمات فقد كشفت عقلاً عن أن هذه النتيجة لم تخرج من هذا الإنسان الذي يمتلك هذه المقدمات وإنما هناك يد أخرى هي التي صاغت هذا القرآن الكريم ونزلت به على النبي ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] فلو كنت معروف بين الناس أنك تكتب وتقرأ وتستنسخ لارتابوا فيك وقالوا هذا من عند من استنسخت من عندهم.

  • المناقشة الرابعة: أي إنسان يتفاوت بتفاوت عمره وخبرته، الإنسان كلما تقدم به العمر تفاوت مستواه الثقافي والعقلي، فما يصدر من الإنسان من نتاج يتفاوت، طبيعة البشر يتفاوت إنتاجهم بتفاوت خبراتهم والسنين التي يقضونها في تحصيل هذه الخبرات، والنبي ثلاثة وعشرين سنة يزخ معلومات ذات مستوى واحد وما تحدث به في أول البعثة هو بنفس المستوى من المضمون والوقع كما تحدث به آخر البعثة، ولذلك قال ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] فلو كان من عند غير الله لرأوا فيه تفاوتاً ولكن عندما يخبرون القرآن بعقولهم يجدون القرآن بمستوى واحد لمدة ثلاثة وعشرين سنة، مما يكشف أن المصدر واحد لهذا القرآن الكريم وليس عبارة عن طاقة تجلت من العقل اللاواعي إلى العقل الواعي.
     
  • المناقشة الخامسة: أن الرسالة التي أتى بها رسالة متعددة الأبعاد، احتوت هذه الرسالة على أبعاد مسيرة الإنسان وركزت على المحاور المفصلية في حياة الإنسان وهي الأبعاد الأربعة: تزكية النفس، تقوية الروابط الاجتماعية، تأكيد لغة القانون، الحث على بناء الحضارة.

    وهذه الأبعاد الأربعة التي هي مفاصل أساسية في مسيرة أي إنسان وأي مجتمع ركزت عليها الرسالة المحمدية بإشباع مما يعني أن هذا المستوى من المضامين الذي جاء بها النبي مما لا ينسجم مع مجرد طاقة روحية، فإذا كان الوحي مجرد انبلاج طاقة روحية كانت موجودة عنده وظهرت فما علاقة هذه الطاقة الروحية بأن يتحدث عن قصة الإنسان من آدم إلى عيسى ابن مريم وبالتفاصيل!

    إذا قارنت القرآن بكتب العهدين التوراة والإنجيل وترى فيهما قصص آدم ونوح وإبراهيم كلها قصص مبتورة وبها ثغرات كثيرة وتلاحظ نفس القصص بالقرآن وتجد القرآن يجيب عن تلك الثغرات ويسد تلك الفجوات ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] فما علاقة الطاقة الروحية بالحديث عن قصة الإنسانية من يوم آدم إلى يوم عيسى! ما هو الربط بين الطاقة البشرية وبين الإخبار بالمغيبات! وما هو الربط بين الطاقة الروحية وبين الحديث عن الكون! وما علاقة الطاقة الروحية بالحديث عن معلومات فيزيائية ومعلومات كونية وغيبية وتاريخية!

إذن بالنتيجة إذا لاحظ الإنسان مستوى الرسالة بأبعادها المتنوعة أدرك من خلال دليل حساب الاحتمالات أن هذا النتاج لا يصدر إلا عن طريق الوحي.

[1]  معجم مقاييس اللغة/ الجزء السادس/ ص93.
[2]  الجزء الثاني عشر/ ص293.
[3]  ذكره ابن سينا في الإشارات والتنبيهات / الجزء الثالث/ ص399، من حيث الإمكان هو شي ممكن.
[4]  في مقدمة لترجمة القرآن الكريم باللغة الفرنسية المطبوعة عام 1929 ذكر هذا التفسير لحقيقة الوحي.
[5]  كتاب الأسفار/ الجزء الثاني/ ص 71