العقل والوحي توأم البناء

1443-09-05

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]

صدق الله العلي العظيم

البحث في هذه الليلة في الأدلة التي أقيمت لإنكار الحاجة إلى وجود أنبياء ورسالات، وأن العالم بدون أنبياء يمكن أن يعتمد على نفسه في بناء حضارته، ونتعرض إلى ستة أدلة في هذا المجال مع مناقشتها:

الدليل الأول:

ما ذكره البراهمة المنكرين لوجود الأنبياء وبيانه أن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالف العقول، فإن كان ما يأتي به الرسول أو النبي موافقاً للعقول فلا حاجة إلى بيانه؛ حيث يمكن الاستغناء عنه بنتاج العقول، وإن كان ما يأتي به النبي مخالفاً لما يقتضيه العقل البشري فلا قيمة له لمخالفته للعقل، بل لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع مع مخالفته للعقول البشرية.

الجواب عن هذا الاستدلال: 

هنا وجهان للجواب:

الوجه الأول: هناك حاجة لنظام يتكفّل حسم الحقيقة، وبيانها في أربعة موارد:

  1. المورد الأول: الصراع بين النفس والعقل في شخصية الإنسان، وهذا ما يتعرض له الإنسان في أغلب الأيام؛ وهو الصراع بين مشتهيات ومقتضيات النفس وبين الحقائق التي يذعن بها العقل، فيحتاج الإنسان في هذا الصراع إلى نظام يوفر له عناصر الاستقامة والثبات بحيث يستطيع من خلال التزود بهذه العناصر أن ينتصر بعقله على نفسه، وأن يثبُتَ على طريق الهدى.
     
  2. المورد الثاني: التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية، حتى لو انتصر الإنسان على نفسه، ومشى على هدى عقله فإن هناك مصالح ترتبط بشخصيته وبوجوده وحياته، وهناك مصالح عامة يقوم عليها بناء المجتمع وحضارته، فإذا حصل التزاحم والتصادم بين المصلحة الفردية وبين المصلحة الاجتماعية وكلاهما مما يفرضه العقل لا إن إحداهما تعود لمقتضيات النفس، فكما أن العقل يقتضي وجود مصالح عامة للمجتمع بأسره فإن العقل أيضاً يرى من ضرورات الحياة توفير المصالح الفردية للإنسان، كأن يصل الإنسان مثلاً إلى مستوى أعلى في العلم والمعرفة والمهن وفي مجال التقنيات وغيرها، فإذا حصل التصادم بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية فهناك حاجة ماسة لنظام يضع أسساً لفك التزاحم والتصادم بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية.
     
  3. المورد الثالث: بناء حضارة تكنولوجية إنسانية، اليوم وما يشهده العصر الحديث هو بناء حضارة تكنولوجية، حضارة خيمت وسيطرت على الفضاء وفتحت للإنسان آفاق التكنولوجيا بأوسع أبوابها ولكن هذه الحضارة فقدت أسس الأخوة الإنسانية، وما يحتاجه المجتمع البشري هو حضارة تكنولوجية إنسانية؛ أي قائمة على أسس الرحمة الإنسانية، قائمة على أساس الأخوة الإنسانية حتى يمكن توثيق العلاقات والروابط أبناء المجتمع الإنساني ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، إذن نحتاج إلى نظام يستطيع أن يوجد هذا الربط بين حضارة تعتمد تفجير طاقات الإنسان العلمية، وتعتمد أسساً أخوية إنسانية تربط بين أبناء المجتمع البشري.
     
  4. المورد الرابع: التوفيق بين الخط القصير والخط الطويل، فالإنسان سيعيش خطاً قصيراً لا محالة ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20] وهناك خط طويل ينتظر الإنسان وهو جزء من مسيرته وحياته وجزء من كينونته، والخط الطويل أكثر ارتباطاً والتصاقاً بروح الإنسان من الخط القصير، من هنا احتيج إلى نظام يجعل الخط القصير ممهداً للخط الطويل، ويجعل المسير مسيرة تكاملية.

لأجل ذلك وجود نظام يجمع الموارد الأربعة من جهة يوفق في الصراع بين النفس والعقل، ومن جهة يوفق بين المصالح الفردية والاجتماعية، ومن جهة يوفق بين حاجة الإنسان التكنولوجية وحاجته للأخوة الإنسانية، ومن جهة رابعة يوفق بين الخط القصير والخط الطويل، لا يمكن للإنسان إذا اعتمد على العقل وحده أن يصل إلى نظام يتكفل حسم الحقيقة في الموارد الأربعة، والجهات الأربع، لأجل ذلك هناك حاجة ماسة لوجود النبوات والرسالات، لا وجه لأن يقول البراهمة أن الوحي إما أن يأتي بما يوافق العقول أو ما يخالف العقول، إن جاء الوحي بما يوافق العقول فلا حاجة له، وإن جاء الوحي بما يخالف العقول فلا يمكن تطبيقه، بل هناك أمر ثالث وهو أن يأتي الوحي بما يعجز عنه العقل وهو إيجاد نظام يتكفل حسم الحقيقة في الموارد الأربعة التي تعرضنا لذكرها ولذلك ورد في الأحاديث الشريفة ”إن دين الله لا يُصاب بالعقول“، إذن لا يمكن للعقل وحده أن يصل للنظام الذي يحسم الحقيقة في الموارد الأربعة كما ذكرنا.

الوجه الثاني:

لنفترض أن العقل البشري يمتلك من النضج والكفاءة أن يصل إلى نظام يحسم الحقيقة في الموارد الأربعة، ولكن العقل البشري يحتاج إلى داعم، يحتاج العقل البشري إلى رافد وإلى ما يرسخه ويدعمه في وصوله إلى الحقيقة، من هنا جاءت الحاجة إلى الوحي كداعم لموقف العقل ومنطق العقل، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”كمن عقل أسير تحت هوى أمير“ النفس هي الأمير والعقل صغير أمام النفس، ولذلك ورد عن الإمام علي : ”وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى“ العقل أسير أمام النفس، والنفس هي الأمير، أو كما يعبر علماء العرفان أن الإنسان يعيش بين عنصر ناري وعنصر نوري، كل إنسان يمتلك عنصر ناري وعنصر نوري، العنصر النوري وهو الذي ذكره القرآن الكريم ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8] العنصر النوري هو نور هدى العقل، والعنصر الناري الذي يعبّر عنه القرآن الكريم ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]

فالإنسان يعيش دائما حالة الصراع المرير بين العنصر النوري والعنصر العقلي فيحتاج إلى قوله تعالى ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور: 35] ترسيخ العنصر النوري في مجال الصراع يحتاج إلى دعم الوحي ومساندة الوحي، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ويثيروا دفائن العقول“.

الدليل الثاني:

الرجوع إلى الفطرة الأصلية، كل إنسان له فطرة، يقول القرآن: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] فلماذا لا يترك الإنسان وما تمليه فطرته السليمة فإن هذه الفطرة السليمة ستهديه لو رجع إليها إلى مسار نقي نظيف لا يحتاج معه إلى وحي او رسالات، والقرآن قد أقر بأن الفطرة السليمة تهدي الإنسان يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا «9» وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «10» [الشمس: 7 - 10] إذن فليُتْرك الإنسان كما تمليه فطرته السليمة، سيعثر أناس وسيصيب أناس، سينجح أناس ويرسب أناس وهذا أمر طبيعي، فالآن حتى مع وجود الأنبياء والرسل أناس نجحوا وأناس رسبوا، فليُترك الإنسان كما تمليه فطرته.

الجواب عن هذا الاستدلال: 

هنا جوابان:

الجواب الأول:

إن تاريخ الإنسانية منذ يوم آدم إلى يومنا هذا مع اشتمال هذا التاريخ على رسل وأنبياء وأولياء ومصلحين ما خلا زمان منهم، ومع أن التاريخ مشحون بدعوات الأنبياء وحركات المصلحين مع ذلك لم تنقطع الجريمة ولم ينقطع مسار الاعتداء، ولم يقف الإنسان أمام شهواته ونزعاته، بل أغلب بني آدم يجرون وراء نزعاتهم وشهواتهم وأكثرهم فاسقون ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] مع هذا التاريخ المشحون بالنبوات أكثر الناس يجرون وراء شهواتهم فكيف لو خلا التاريخ من المصلحين والأنبياء والرسل! لتحول الإنسان إلى غابة وحوش، إذا كان التاريخ المشحون بهذه الديانات والرسل والدعوات والحركات الإصلاحية وهو يعج بالجرائم الخلقية والإنسانية فكيف لو خلا من ذلك! وهذا كله دليل على أنه لا يكفي الرجوع إلى الفطرة وأن مجرد الرجوع إلى الفطرة ليس كافياً في صيانة الإنسان وحماية المجتمع.

الجواب الثاني:

إن القيم الأخلاقية وإن كانت كامنة في نفس الإنسان بالفطرة كما ذكر القرآن الكريم ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] ولكن إعطاؤها الحيوية يحتاج إلى الوحي، تحول هذه الفطرة إلى نداء، تحول هذه الفطرة إلى وجود ملكوتي يهب الإنسان قيماً وخلقاً وسمواً في النفس، هذا يحتاج إلى وحي السماء، لا يكفي بقاء الإنسان على فطرته، مبادئ السماء تشكل دافعاً حرارياً نحو القيم الأخلاقية، الغرب يعيش أيضاً تسامحاً وتعاوناً وإنسانية ولكن ما هي الدوافع؟ المسألة لا ترتبط بالسلوك وإنما بالدوافع التي وراء السلوك، تطهير الدوافع هو الضمان لاستمرار السلوك الخير.

إذا رجعنا إلى الدوافع نرى أن الدوافع نحو القيم الأخلاقية إحدى دافعين: الدافع الأول هو المصلحة الشخصية، قد يهب الإنسان كل ثروته ولكن يهبها انطلاقاً من الأنا وحفاظاً على عنوان الأنا، دافع أناني مصلحي، والدافع الآخر هو التسامح والرأفة، وهذا الدافع كما يقول علماء النفس دافع غير مضمون الاستمرار، بمجرد أن يتعرض لصدمات قاسية ويقابله المجتمع بقسوة أو ردِّ فعل لتسامحه يتحول إلى إحدى شخصيتين إما أن يتحول إلى شخصية انطوائية وينعزل عن المجتمع أو يتحول إلى شخصية إجرامية ناقمة؛ أي أن دافع التسامح ليس دافعاً مضمون الاستمرار ولا مضمون البقاء، من هنا جاءت الحاجة إلى الوحي، الحاجة إلى الوحي لإطلاق دافع جديد غير دافع المصلحة وغير دافع التسامح الإنساني، الوحي يعطي للأخلاق حيوية لأنه يولد دافعاً جديداً ألا وهو دافع التكامل بالله تبارك وتعالى ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9]

نحن نتكامل بالله، أهون ما نزل به أنه بعين الله ولأجل ذلك لن يصاب بانطواء أو نقمة إذا قابله المجتمع برد فعل عنيف أو مواجهة قاسية أو لعدم تقدير لأتعابه وجهوده، إذن الدين أو الوحي توجد حاجة ماسة إليه من أجل إعطاء دوافع حرارية نحو القيم الأخلاقية لا تعطيها المقالات الأخرى أو المدارس الأخرى وإنما يعطيها الدين ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]

الدليل الثالث:

ما هو المبرر لتجميد العقل أمام تعليمات بشر؟ هل من المعقول أن يجمد المجتمع البشري قدراته العقلية وطاقاته الفلسفية من أجل تعليمات ووصايا صدرت من بشر يعيشوا بينهم؟

إن من المستقبح في نظر العقل إتباع من يدعي النبوة مع أنه إنسان مثلنا من ناحية الإمكانات والطاقات والمؤهلات ولا يمتازوا على البشرية لا في الصورة ولا في النفس ولا في العقل، بل قد يكون أقل طاقة عقلية من غيره فلماذا ينقاد المجتمع البشري إلى إنسان ويجمدون عقولهم احتراماً للقوانين والتكاليف الصادرة من هذا الإنسان! ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] هو إنساناً مثلنا ما هي ميزته علينا! وما هو المبرر لتجميد عقولنا أمام تعاليمه ووصاياه!

الجواب عن هذا الاستدلال: 

الجواب بوجهين:

الوجه الأول: إن المجتمع البشري وإن كان متساويين في الإنسانية ولكنهم بكل تأكيد يختلفون في طاقاتهم وقدراتهم العقلية والنفسية، هناك من هو ذكي وأذكى ونابغة وعبقري تتفاوت درجات الذكاء، وهناك من هو قليل الصبر، وهناك من هو شديد الصبر، وهناك من هو غضوب، وهناك من هو حليم، وهناك من هو شهوي، تختلف البشر بلا إشكال في طاقاتهم العقلية والنفسية ويتفاوتون في الاستعدادات، ولأجل ذلك قالت الآية المباركة: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32] إذن اختلاف البشر في الطاقات هذا مما لا كلام فيه ولأجل ذلك هناك بشر مؤهل لأن يكون نبي، وهناك بشر ليس مؤهل لأن يكون نبياً، هناك طاقة عقلية ونفسية مؤهلة للاتصال بالله وهناك طاقة عقلية أو نفسية غير مؤهلة لذلك، فدعوى كيف نجمد عقولنا أمام إنسان، إنما نجمد عقولنا التي تقصر عن الطاقة التي يمتلكها هذا الإنسان في سبيل تحصيل ما وصل إليه بطاقته العقلية والنفسية.

ما الداعي لتخصيص بعض البشر بمقام النبوة والرسالة؟ لماذا لا يتساوى الكل في هذا المجال؟ 

الجواب عن ذلك: 

  • أولاً: البشر إما متساوون في الطاقة العقلية والنفسية أو متفاوتون، فإن كانوا متساوين في الطاقة العقلية والنفسية استغنى بعضهم عن بعض، ومقتضى استغناء بعضهم عن بعض موت المجتمع، إذ لا يمكن أن يقوم المجتمع إلا بحاجة البعض للآخر، فلو لا اختلاف البشر في طاقاتهم لما تأسس مجتمع بشري، إذن لو كان البشر متساوين في الطاقات والقدرات لمات وانعدم ولما استطاع البشر أن يؤسسوا حضارة.

    وإما أن يكونوا متفاوتون في القدرات وهذا اعتراض ضمني بالحاجة إلى مجموعة تحمل نور النبوة، لأنه بمجرد أن نقول أن البشر متفاوتون اعترفنا ضمناً أن هناك طاقات مؤهلة للنبوة دون البعض الآخر، ومتى ما سلمنا أن المجتمع البشري متفاوت في طاقاته فقد اعترفنا أن المجتمع البشري لا يمكن أن يكون كله حاملاً لنور الوحي وتلقي الوحي، إذن هناك صفوات مختارة ومنتجبة هي التي تحمل هذه الطاقة ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ «33» ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «34» [آل عمران: 33 - 34].
     
  • ثانيًا: جرت السيرة العقلائية على الرجوع إلى أهل الاختصاص، في الطب يرجعون إلى المختص في الطب، في الهندسة بأنواعها يرجعون إلى المختص، في عالم الفلك وفي عالم الفيزياء يرجعون إلى المختص، لأنه لا يمكن أن يكونوا جميعاً أصحاب اختصاص في كل المجالات والحقول، فجرت السيرة العقلائية على الرجوع إلى المختص في كل اختصاص، الدين أيضاً اختصاص لأن الدين هو عبارة عن لائحة معرفية تشريعية تعالج أبعاد ثلاثة في شخصية الإنسان:
  1. البعد الأول: البعد العقلي الميتافيزيقي، وهو يختلف عن البعد العقلي الدنيوي، فالإنسان بعقله الدنيوي يستطيع أن يفهم الدنيا ولكن ليس لعقله قدرة على الوصول إلى البعد الميتافيزيقي في حياته، من أين جئت؟ وإلى أين سأمضي بعد الموت؟ وما هو الرابطة الخفية بين هذه العالمين التي أنا أسير عليها من حيث لا أشعر؟ لا يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] لن ننتبه إلى هذه الرابطة إلا حين لحظة الموت، وأن هناك كانت رابطة تسير بنا بقوة وبسرعة حتى أوصلتنا إلى هذا المنتهى وهذا المرفأ الأخير، إذن هذا البعد الميتافيزيقي.

    ما هو الهدف من إلقائي في هذا العالم ومن وجودي في هذا العالم لمدة قصيرة حتى أنتقل إلى العالم الآخر؟ ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] فهذا البعد الميتافيزيقي هو عبارة عن أسئلة أربعة تلح على ذهن كل إنسان، ويحتاج الإنسان إلى نظام معرفي يجيب عن هذه الأسئلة الأربعة.
     
  2. البعد الثاني: البعد الروحي، نحتاج إلى نظام تربوي يكون متكفلاً بتزكية النفس ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164]، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]
     
  3. البعد الثالث: البعد الاجتماعي، يحتاج المجتمع إلى قيادة عادلة ليقوم الناس بالقسط.

إذن النظام الذي يتكفل إشباع الأبعاد الثلاثة: البعد الميتافيزيقي والبعد الروحي والبعد الاجتماعي هو اختصاص، ولمعرفة ذلك النظام الذي يتكفل توفير هذه الأبعاد الثلاثة والذي هو اختصاص، وكما نرجع إلى الطب في أهله وفي الهندسة إلى أهلها نرجع في هذا الاختصاص إلى أهله وهم الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء، فهذا اختصاص جرت السيرة العقلائية على الرجوع فيه إلى أهله فلا يمكن دعوى عدم الحاجة إلى الأنبياء.

الدليل الرابع:

إن وصول الإنسان إلى كماله الروحي بحركته الاختيارية هو الضمان في استقرار الكمال، أيُّ إنسان يصل إلى الكمال بالقسر لا يعد هذا كمالاً، الكمال أن تصل إليه بالاختيار، أن تصل إليه بطاقتك التدريجية الاختيارية، ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصبح متخلق بالأخلاق الفاضلة إلا بطاقته الاختيارية التدريجية، ولا يمكن أن يصبح الإنسان من أهل العبادة والتهجد إلا بطاقته التدريجية الاختيارية.. وهكذا، الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله إلا بحركته الاختيارية وهو الضمان في استقرار الكمال، ما تصل إليه بتعب يبقى، وما تصل إليه بلا تعب يزول ويتبخر، فالضمان إلى استقرار الكمال أن تصل إليه عبر جهد وتعب وعناء اختياري.

كما يحتاج الإنسان إلى حركة تدريجية اختيارية من أجل الوصول إلى كماله الروحي بل حتى كماله المادي كذلك مقتضى الحكمة الإلهية أن يصل الإنسان إلى التكامل القانوني عبر إنجازاته العقلية في كل جيل بمستوى حاجاته وتطلعاته، من قانون حمورابي إلى قانون الفراعنة إلى قانون الروم إلى القانون الفرنسي إلى القانون المصري... إلخ، نحن نرى البشر تتطور في علم القانون لماذا لم يُترك المجتمع البشري يعتمد على إنجازاته العقلية للوصول إلى التكامل القانوني كما تُرك الإنسان ليعتمد على طاقاته للوصول إلى كماله سواء كان كمال روحي أو كمال مادي؟ كذلك لِمَ لَمْ يعطى المجتمع البشري الفرصة لأن يعتمد على إنجازاته العقلية ليصل إلى التكامل القانون فيبدع في كل زمان قانوناً ينسجم مع حاجات زمانه! هناك قوانين تنسجم مع مجتمع موسى، وتنسجم مع مجتمع عيسى، وتنسجم مع مجتمع النبي محمد ، والآن نحتاج إلى قوانين تنسجم مع مجتمعاتنا.

إذن قد يقول القائل مقتضى حكمة الله تبارك وتعالى أن يعطى المجتمع البشري الفرصة لأن يعتمد على نفسه وإنجازاته العقلية للوصول إلى التكامل القانوني كما أعطى الإنسان الفرصة في أن يعتمد على حركته الاختيارية التدريجية للوصول إلى كماله الروحي والمادي من دون حاجة إلى إنزال قانون جاهز لا نقص فيه عبر الأنبياء والرسل، والمجتمع البشري يخوض هذه المرحلة عبر إنجازاته وطاقاته وتأملاته وثقافته، ويبدع في كل جيل قانون ينسجم مع حاجات ذلك الجيل إلى أن يصل إلى القانون الكامل، مثل قرارات الأمم المتحدة بين كل فترة تصدر قرارات جديدة هي تعتبر تطور وتكامل في الرؤية القانونية لمسيرة الإنسان وعقل الإنسان.

الجواب عن ذلك:

أولاً: هناك فرق بين المبادئ والأسس والتشريعات، المبادئ تعني المصالح والمفاسد لأن القوانين إنما شرعت لحماية المصالح ووأد المفاسد فتعتبر المصالح والمفاسد مبادئ القانون، والأسس هي أن لك قانون أمهات كبريات وهذه الكبريات تنطلق منها التفريعات، ومنها تنطلق التشريعات، هناك قوانين كبروية عامة مثلاً عندما نأتي إلى الدين الإسلامي هناك قوانين عامة كحرمة النفس البشرية، المهم لا يزاحم الأهم، الإنسان له حق في نفسه وعرضه وماله، هذه الكبريات العامة تسمى أسس.

والتشريعات هي الأنظمة التي تُشرَّع لمعالجة الحاجات المتغيرة والمتطورة، كلما تغيرت مجموعة من الحاجات جاء قانون يغطي هذه الحاجة المتغيرة، وهذه تسمى تشريعات وهي متفرعة على المبادئ وعلى الأسس.

من هنا نقول: العقل البشري لو ترك بإنجازاته ونضجه وعملقته قد يستطيع الوصول إلى التشريعات أي إلى القوانين التي تعالج الحاجات المتغيرة ولكنه لا يستطيع الإحاطة بكل المبادئ والأسس، فإن الإحاطة بالمبادئ يعني الإحاطة بكل أنواع الإنسان، علم النفس وإلى الآن الذي يدرس نفس الإنسان ما زال في أول الطريق وما زال لم يكتشف الإنسان بكل أبعاده وهو متخصص في نقاط معينة من النفس البشرية فكيف بالمصالح العامة! إذن الإحاطة بالمبادئ التي تعنى بالمصالح التي ترتبط بمسيرة الإنسان فرداً ومجتمعاً في كل زمان لا يمكن للعقل أن يحيط بها ما دام العقل ابن زمانه وابن ثقافته، لذلك قد يتفوق العقل في مجال التشريعات ولكنه يبقى قاصراً في مجال المبادئ والأسس اللذين يعتمد عليهما هيكل القانون ولائحة القانون.

ثانياً: الحركة التكاملية القانونية التي ظهر فيها قانون حمورابي وقانون الفراعنة.. وما أشبه ذلك من القوانين الموجودة عندنا، ما جاءت من فراغ، نفس الأنبياء والرسل ساهموا فيها، إذا أخذت في قراءة القوانين الموجودة الآن كثير منها مستلهمة من الديانات والأنبياء والرسل، إذن هذا يعني أن الحركة التكاملية القانونية التي نشأت عن الإنجازات البشرية استفادت واستقت من حركة الأنبياء والرسل على مدى التاريخ ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] أول شريعة من نوح ثم إلى إبراهيم وإلى موسى وإلى عيسى وإلى النبي هذا كله حركة تكاملية قانونية ألهمت كل شريعة منها المجتمع البشري بمجموعة من المبادئ والأسس التي أوجبت حركة تكاملية قانونية.

ثالثاً: لم يُمنَع العقل البشري من المساهمة في الحركة التكاملية، ذكرنا في عدة ليالي أن الشريعة حقلان، حقل ضروري وحقل نظري، كل شريعة ومنها شريعة الإسلام فيها حقل ضروري أي أحكام ثبتت بالتواتر فهي أحكام ضرورية، وهناك أحكام نظرية العقل البشري يبدع فيها، اختلاف الفقهاء واختلاف المجتهدين، اختلاف المدارس الفقهية، كله ناشئ عن تطور الرؤية القانونية في العقل البشري في المجال النظري، اقرأ فقه الشيخ المفيد واقرأ فقه الشيخ الخوئي تجد بينهما فرق بين السماء والأرض، المستوى يختلف بلا إشكال، مستحيل أن تبقى البشرية سبعمئة سنة على مستوى واحد، عندما تلاحظ الفكر القانوني الموجود عند الخوئي أو الموجود عند الصدر تراه متفوقاً بأبعاد ما هو موجود عند المفيد أو الطوسي أو الحلي بلا إشكال، طبيعة الرؤية القانونية طبيعة متطورة نتيجة لتراكم المعارف البشرية وتداخل الثقافات وانفتاح العقل أمام أبعاد مختلفة من هذا التطور، قد تكونوا قد سمعتم عن رويا متحدة لديه ترجمة للحلقة الأولى من أصول السيد الصدر، السيد الصدر لديه كتاب الحلقات في علم الأصول، الحلقة الأولى والثانية والثالثة، والحلقة الأولى التي هي للمبتدئين، ورويا متحدة قام بترجمة الحلقة الأولى منه، التقيت به في الولايات المتحدة ولكن لا أعرف اتجاهه الفكري ومذهبه، ولكن عنده خبرة معرفية بالتشيع وبفكره وبعلمائه، وقام بترجمة الحلقة الأولى للسيد الشهيد محمد باقر الصدر في الأصول إلى اللغة الإنجليزية وأصبح مقرراً دراسياً في عدة حوزات في أوروبا والولايات المتحدة.

رويا متحدة سألناه هل قرأت الكتب التي كتبت في مجالات المعاملات مثل مصباح الفقاهة للسيد الخوئي، وكتاب البيع للسيد الخميني، حيث أن أكثر الفقهاء لديهم بحث مطول وعريض في مجال أسس المعاملات البشرية، فقال: نعم اطلعت على كتاب السيد الخوئي مصباح الفقاهة، وهذا الكتاب ستة أجزاء وبعض الطبعات سبعة أجزاء، يتحدث عن الأسس العامة للمعاملات الجارية في المجتمع البشري، قال: بحسب تشخيصي فإن هذا الفكر إن لم يكن أعمق وأدق من الفكر الاقتصادي الحالي فهو لا يقل عنه.

وكل ذلك جاء من جهود بشرية على مدى السنين، طبيعة الفكر تتطور، كلما مر جيل على الحوزة أبدعت عقولاً وأبدعت رؤى وأبدعت تطلعات فكرية قانونية تعالج الحاجات المتغيرة، إذن لم يُحرم الإنسان من الاعتماد على الإنجازات العقلية له في الحركة التكاملية القانونية في مجال الحق النظري للدين بل للإنسان إبداعاته وإسهاماته في هذا المجال.

رابعاً: لو سلمنا أن الإنسان يمكن أن يصل للقانون المتكامل إلا أن التشريع الإلهي للقانون يعطي الإنسان حيوية وفاعلية لا يعطيها لو خلِّي الإنسان وفطرته، وجود الوحي التشريعي من الله يعطي القانون نفسه حيوية وفاعلية لا يستطيع القانون الوصول إليه لو خلِّي ونفسه من دون الاستعانة بالوحي، إن الإنسان المؤمن بالله وبيوم الحساب ليست لديه عبثية فكرية، هو يؤمن بهدف ويؤمن برسالة ولذلك فهو شخص يعيش روح المسؤولية والانضباط لأنه يتحرك في مسار واضح المعالم، فإيمانه بأن للحياة هدفاً وقيمةً يجعله ينطلق في تطبيق القانون الإلهي من وحي شعوره بالمسؤولية دنياً وآخرة وهذا يسهم في حيوية القانون، وهناك فرق بين قانون أنت تمارسه لأن المجتمع البشري اتفق عليه وبين قانون أنت تمارسه لأنك تؤمن بأن هذا القانون هو الصلاح لك لأنه صادر من إلهك، لو تُرك المجتمع البشري وحده هو من يصل إلى القانون لكان كل فرد من أبناء المجتمع البشري يطبق القانون من خلال أنه قانون موجود ولا يوجد غيره، بينما إذا آمن الإنسان أن هذا قانون من الله، من خالقه الذي خلقه لحكمة وهدف، فإن إيمانه بأن القانون من الله يعطيه حيوية ودافعية في التفاعل مع القانون ودقة تطبيقه أكثر مما لو آمن أن هذا القانون مجرد اختراع وتوافق بشري وليس قانوناً من خالقه وملهمه، إذن نزول القانون من الله تبارك وتعالى يعطي القانون حيوية في مقام التطبيق أكثر مما لو تُرك القانون معتمداً على الإنسان نفسه.

الدليل الخامس:

إذا كان العقل يدرك الحسن والقبح العقليين، يدرك حسن العدل وقبح الظلم فسيدرك مصاديق العدل ومصاديق الظلم، وسيستطيع أن يرسم قانوناً مبنياً على مدركات الحسن والقبح، فما هي الحاجة إلى قانون السماء؟

الجواب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأول: هناك خلاف كبير في الحسن والقبح، فهناك المدرسة الفلسفية أفلاطون وسقراط وأرسطو لا يسلمون بالحسن والقبح العقليين بل يرون أن الحسن والقبح هو بناء عقلائي وتطابق عقلائي؛ أي أن العقلاء لما عاشوا في مجتمع رأوا أن هذا المجتمع لا يمكن أن يستقر وأن ينتظم إلا بهذه المخترعات وهي العدل واجتناب الظلم، والصدق واجتناب الكذب، والعفة واجتناب الشهوة، وإلى غير ذلك، كلها مخترعات عقلائية بنى عليها العقلاء من أجل نظم أمورهم وتسيير حركة المجتمع العقلائي، فليس هناك اتفاق على أن الحسن والقبح عقليان.

الوجه الثاني: لو سلمنا أن الحسن والقبح أي حسن العدل وقبح الظلم عقليان والبشر يدركوه ولا يحتاجوا إلى من يقول لهم ما هو الحسن وما هو القبيح، لكن عندما نأتي إلى هذه النقطة العدل الحسن هو إعطاء كل ذي حق حقه، والظلم هو سلب ذي الحق حقه، ولكن من يحدد الحقوق؟ لابد من تشريع مسبق يحدد لنا الحقوق، إذن حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم مسبوق بلائحة تشريعية تحدد ما هي الحقوق، حق الزوج، حق الزوجة، حق الأسرة، حق المجتمع، حق السلطة، حق المواطن، حق الأرض، حق البيئة.. إلخ، من يحدد لنا الحقوق؟

المسألة تكمن في تحديد الحقوق، وتحديد الحقوق يتوقف على الإحاطة بجميع المصالح البشرية من أجل تحديد الحقوق، من هنا احتاجَ العقل إلى نور الوحي، إلى أنه يحتاج إلى اللائحة التشريعية التي توضح لنا ما هي موارد الحقوق.

أبسط مسألة مثلاً تدخل المستشفى امرأة حامل مريضة فإما أن تعيش هي أو يعيش ولدها، لا يمكن بقاء الجميع، فمن يحدد الحق هنا؟ من يقول الأم أحق بالحياة؟ أو من يقول الجنين هو أحق بالحياة؟

أو مثلاً مسألة طرحها السيد الشهيد في كتابه «اقتصادنا» مسألة الأرض والحق، هل يمكن مِلْك رقبة الأرض؟ هل المصلحة البشرية تقتضي أن يتملك الإنسان رقبة الأرض أو لا كما يقول الاقتصاد الاشتراكي أن المصلحة البشري تقتضي أن يكون له حق في الأرض لا ملك، بنى الأرض له حق في البناء، زرع الأرض له حق في الزرع، لكن لا يملك رقبة الأرض.. هكذا الاقتصاد الاشتراكي، فمن يحدد أن المصلحة تقتضي مِلْك رقبة الأرض أو أن المصلحة تقتضي بأن لك الحق في جهودك التي تقوم بها على الأرض من زرع أو بناء أو ما أشبه ذلك؟

كل ذلك يحتاج إلى لائحة تشريعية تحيط بالمصالح تحدد لنا واقع الحقوق وموارد الحقوق، ولأجل ذلك هذا الدليل أيضاً لا يتم.

الدليل السادس:

قد يقال أن الحضارة تغني عن الأديان، وبيان ذلك أن واقع المجتمعات المعاصرة يؤكد عدم حاجتنا إلى النبوة، فالمجتمعات التي بعدت عن الدين قد استطاعت أن توجد لنفسها نظاماً يكفل للإنسان مستوى مقبولاً من الاستقرار، المجتمعات الغربية مجتمعات مستقرة، وأما المجتمعات الدينية كالمجتمعات الإسلامية فهي مجتمعات تعيش توتر والصراعات المذهبية والتخلف العلمي، كما تعيش الفقر والجهل والتخبط على أكثر من صعيد، مما يعني أن الدين هو سبب معاناتها وتخلفها، وإلا لو تحررت من الدين مثل الثورة الفرنسية لعاشت مثل فرنسا نظام اقتصادي يكفل لها مستوى مقبول من المعيشة بينما هي تعيش وترزح تحت الصراعات والاختلافات.

الجواب عن ذلك: 

أولاً: مقتضى الإنصاف أن التطور الحضاري الذي وصلت إليه البشرية في مجال القانون وفي مجال مدارس علم النفس وفي مجال مدارس علم الاجتماع، وفي مجالات الترابط، كان للرسالات والأنبياء إسهام فيه، استفادت كل هذه الحضارات من الرسالات والأنبياء، فإن إنجازات الأنبياء والرسل في مجال تحريك العقول وتحريرها من الخضوع للطبيعة كالخضوع للصنم أو الحيوان أو الإنسان، ودعوة هذه الكتب أو الرسالات إلى تنضيج العقل وتحريكه ساهمت في بناء الحضارة الحديثة، من يقرأ القرآن الكريم يجد أن القرآن الكريم ما يقارب ثلثه يدعو إلى التأمل والاعتماد على العقل ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت: 20]، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد: 41]، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30]، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]

كل هذه الآيات لا تتكلم عن أحكام الصلاة ولا أحكام الصوم كلها تتكلم عن بعث العقل نحو قراءة الكون وقراءة الطبيعة، التأمل، الوصول إلى الحقائق، وهذه الآيات على سنخ الإنجيل والتوراة وصحف إبراهيم، ساهمت في تحرير الإنسان، وساهمت في تطوير عقله فهي ساهمت بشكل مباشر في بناء الحضارة الحديثة.

ثانياً: المجتمع البشري يحتاج إلى حضارة إنسانية وليست حضارة تكنولوجية فقط، فهل سَلِمَت الحضارة الحديثة من اضطهاد الشعوب الفقيرة في إفريقيا! من الذي يضطهدها؟ هي شعوب ليست متدينة بالدين الإسلامي ولكنها خاضعة للاضطهاد من الغرب بشكل سافر، هل الحضارة التي تقوم على اضطهاد الشعوب الفقيرة هي أمل الإنسان وهي التي يريد الوصول إليها الإنسان؟ وهل سلمت الحضارة الحديثة من الحروب؟ وهل سلمت الحضارة الحديثة أو المجتمعات الغربية من تمزق الأسرة وانتشار الأمراض النفسية كالكآبة والقلق؟ هل سلمت المجتمعات الحديثة من التوحش والبعد عن الخصال الإنسانية في كثير منها؟ إذن مجرد أن الحضارة وُجِدت فهذا لا يعني الغنى عن الدين ومعطياته.

ثالثاً: الصراعات الموجودة في المجتمعات الإسلامية ليست ذات منشأ ديني وإنما مبعثها مصالح وأهواء وألاعيب سياسية تلبست لبوس الدين وووظفتها في لعبتها ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19]

وقال تبارك وتعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية: 17]