هل صاغ النبي محمد (ص) القرآن بلغته؟

1443-09-07

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]

صدق الله العلي العظيم

هل خضع القرآن الكريم لصياغة النبي ؛ بمعنى أن النبي تلقى المعاني والمضامين وقام هو بصياغتها بلغته وبأسلوبه العربي أم لا؟

طُرحت هذه النظرية في العديد من الأبحاث وهي أن النبي المصطفى هو الذي قام بصياغة القرآن باللغة العربية، ويجب التنويه إلى أن هذه النظرية قد طرحت من قِبَل بعض المتقدمين وعلى رأسهم سيد أحمد خان الهندي في القرن الثامن عشر عام 1817م، وله تفسير للقرآن أيضاً ذكر فيه أن النبوة هي مَلَكَة طبيعية المَلَكَات البشرية التي قد تتفتق عند توفر ظروفها ومناخاتها وبيئتها كما هو الحال في ثمار الأشجار.

ثم جاء بعده أمين الخولي في القرن التاسع عشر 1904 الأستاذ في جامعة القاهرة، فأقام مذهباً تفسيرياً لم يخرج عن الأرثودوكسية إلا أن نقده الأدبي والصريح كان مُنْصبَّاً على أن صياغة القرآن باللغة العربية قد تمت من قبل النبي ، وأيضاً سار على هذه النظرية في الجملة نصر حامد أبو زيد وهو مفكر مصري معروف، وقد ذهب في أبحاثه القرآنية إلى ما هو أبعد من ذلك فقد أقام حركة نقدية فلسفية اجتماعية تأويلية حتى للنص القرآني، حيث صَرَّح بأن القرآن نص تاريخي ثقافي متأثر بزمان نزوله ومكان نزوله وتدرّج نزوله إلى ثلاثة وعشرين سنة، وهناك شبيه بهذه النظرية في بعض اللمسات في كلمات محمد أركون وحسن حنفي.

لذلك عندما ذهب السيد عبد الكريم سروش المفكر الإيراني إلى أن الوحي القرآني صياغة من قبل النبي فهو لم يأتِ بشيء جديد وراء هذه النظريات والكلمات التي سبقت الإشارة إليها، بل ذهابه إلى أن الوحي عبارة عن تجربة روحية يؤكد الرؤية البروتستانتية المعروفة عند فرقة من المسيحين حيث يرون الوحي عبارة عن رؤية ومكاشفة روحية بين المسيح وبين ربه.

ذكر السيد سروش في مقابلة له ما يؤكد تبنيه لهذه النظرية بشكل واضح حيث قابله الصحفي الهولندي وسأله عن رأيه في الوحي بشكل واضح فقال: إن النبي خالق للوحي، فالذي يحصل من الله هو مضمون الوحي ولكن هذا الوحي بما هو مضمون لا يمكن بيانه للناس لأنه يفوق مستوى فهمهم، فهذا الوحي فاقد للصورة وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري ليجعله في متناول فهم الجميع كما يفعل الشاعر بصياغة ما أُلهم بأدوات لغوية وأسلوب خاص، كما أن لشخصية النبي دوراً مهماً في صياغة النص القرآني، وكذلك سيرته وحياته ومراحل صباه وحالاته الروحية، ولو قرأتم القرآن تشعرون أن النبي أحياناً يكون في قمة الجذل والفصاحة بينما يكون أحياناً مفعماً بالملل وتجده عادياً في كلامه، ولذلك ترك تأثير ذلك كله على النص القرآني من الناحية البشرية.

نحن عندما نريد أن نسلط الضوء على هذه النظرية وهي أن الوحي مضمونٌ صاغه النبي من قبل نفسه باللغة العربية فنحن الآن نتحدث عن محاور ثلاثة:

  • في نفي الإمكان.
  • في نفي الوقوع.
  • في نقض الهدف.
المحور الأول: في نفي الإمكان.

هل يمكن أن النبي يقوم هو بصياغة القرآن بمعنى أن الله تبارك وتعالى يفرغ عليه المضامين وهو يقوم بصياغتها بلفظه وأسلوبه العربي أو ليس بممكن؟ 

نحن نقول ليس بممكن، وهذا الاحتمال ننفي إمكانه فضلاً عن نفي وقوعه، وهنا مقدمات ثلاثة إذا دققنا فيها سنصل إلى النتيجة وهي أنه لا يمكن للنبي أن يتولى هذه المهمة وهي صياغة القرآن باللغة العربية:

المقدمة الأولى:

مقتضى الحكمة الإلهية والله حكيم هو عنصران: تحديد الهدف وضمان الوسيلة، فتحديد الهدف وضمان الوسيلة هما العنصران المبرزان للحكمة وإلا لو لم يحدد الهدف للزم أن تكون حركته حركة عبثية، ولو لم يضمن الوسيلة التي توصله إلى الهدف للزم من ذلك نقض هدفه، ونقض الهدف قبيح من الحكيم.

المقدمة الثانية:

الله تبارك وتعالى حدد الهدف وهو ما قاله تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] والهدف هو تحقيق العدالة والقسط على الأرض، ومن أجل تحقيق العدالة والقسط على الأرض نحتاج إلى وسيلة، والوسيلة المضمونة لتحقيق القسط على الأرض هي إنزال النظام السماوي الذي من خلاله يمكن إقامة القسط والعدالة على الأرض.

فإنزال النظام السماوي هي الوسيلة، ونضمن وصول النظام السماوي إلى المجتمع البشري كما هو واقعه دون زيادة أو نقص أو تحريف عبر أحد نحوين:

  • النحو الأول: أن يقوم الله تبارك وتعالى بنفسه بصياغة النظام السماوي بألفاظه وأقسامه وسائر شؤونه، ويصل النظام السماوي إلى المجتمع البشري جاهزاً.
     
  • النحو الثاني: الصياغة النبوية؛ أن يتصدى النبي للصياغة، الله يعطيه المضامين وهو يقوم بالصياغة لكن مع العصمة التامة؛ بمعنى أن الله يعصم نبيه من أي خلل ومن أي خطأ ومن أي غفلة وسهو حتى يقوم بصياغة الوحي باللغة العربية صياغة سليمة مضمونة لأنه حين تلقي المضامين، وحين تلقي الوحي، وحين صياغته، وحين بيانه هو معصوم من تمام الجهات ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «4» [النجم: 3 - 4]، لأنه لو تركت صياغة الوحي إلى بشرية النبي من دون عصمة لكان الوحي القرآني معرض النقص ومعرض الخلل والزلل لما يعترض شخصيته من الحالات البشرية، فبالنتيجة هو بشر يتعب ويمر بحالة ضيق في النفس في بعض الموارد نتيجة الضغوط الاجتماعية، يمرض، يمل، ولو تركت صياغة الوحي إليه من دون إضافة عنصر العصمة لكان الوحي في معرض النقص والخلل نتيجة لعروض حالات عديدة على النبي كسائر البشر، وهذا خلف الحكمة وهو ضمان الوسيلة.

المقدمة الثالثة:

إذا دار الأمر بين هذين النحوين إما الأول أو الثاني، إما أن يتصدى الله للصياغة وإما أن تُترك الصياغة للنبي لكن مع عنصر العصمة، أي الأمرين ألصق بضمان الوسيلة ثبوتاً وإثباتاً؟

قد يقول أحدهم من ناحية ثبوتية كلاهما على حد سواء، وقد تمت الصياغة ضمن تسديد وإحاطة إلهية، فالضمان الثبوتي حاصل مع أي من النحوين، لكن الضمان الإثباتي لا يتحقق للوسيلة إلا إذا كانت الصياغة منطلقة ومنتسبة لله تبارك وتعالى لأنه لو لم تستند الصياغة القرآنية لله لم يحصل الوثوق بالقرآن، خصوصاً عند الطائفة التي لا تؤمن بعصمة النبي ويرى أن النبي معروض للحالات البشرية المتنوعة، وبالتالي حتى لو كانت الوسيلة مضمونة واقعاً فهي ليست مضمونة إثباتاً بمعنى أن الوثوق بالنص القرآني كوحي إلهي يعد مرجعاً دستورياً للمسلمين لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا استندت الصياغة القرآنية لله تبارك وتعالى، فمنه المضمون ومنه الصورة ومنه اللفظ ومنه التقسيم ومنه الترتيب وإليه يستند القرآن جملة وتفصيلاً وإلا لن يحصل الوثوق بكون القرآن مرجعاً إلهياً ما دام الاحتمال يتطرق إلى أن النبي لعله صاغه ولعله خضع لحالاته البشرية، لذلك حكمته تبارك وتعالى تقتضي أن ينزل القرآن على النبي بمعناه ولفظه لا بخصوص معناه، ولا يمكن أن يُسند هذا الجانب إلى النبي لذلك تجد القرآن يكرر ويكرر أن اللفظ من الله تبارك وتعالى حتى يسد باب هذا الاحتمال في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الأعراف: 203]، ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس: 15]، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]، وقال: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114]، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19» [القيامة: 16 - 19]

وقال تعالى للنبي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1]، وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1]، ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27] فلو كان النبي هو من صاغه فلا يحتاج إلى كلمة قل واتل واقرأ، إذن لا يمكن أن تترك صياغة الذكر الحكيم للنبي .

المحور الثاني: نفي الوقوع.

لو افترضنا أن إيكال الصياغة اللفظية إلى النبي أمر ممكن، ولكنه في الواقع أمر لم يقع لوجود أدلة لدينا على نفي الوقوع وبيانها من خلال زوايا ثلاث:

الزاوية الأولى:

الإعجاز الرقمي للقرآن، لا يمكن أن يتم إذا لم تكن الصياغة اللفظية مستندة إلى الله تبارك وتعالى، كان إعجاز القرآن في السابق من خلال الفلسفة والكلام والعرفان والأدب والبلاغة بعد ذلك استُفيد من خلال الرياضيات الوصول إلى نتائج إعجازية في القرآن، لقد أدت رؤية المصري رشاد خليفة في كشف المفتاح الرياضي للقرآن إلى حقائق لا تقبل الإنكار، لا نقول أن كل ما قاله صحيح لكن مقدار مما ذكره من الإعجاز الرقمي كان واضحاً جداً، مثلاً العلامة المدهشة بين الأعداد سبعة وتسعة وأربعة، كل عدد من هذه الأعداد يتكرر في القرآن من خلال مجموعة من الحقائق كأنما الحقائق المذكورة في القرآن كلها ترجع إلى العدد سبعة أو تسعة أو أربعة، أحصى ذلك إحصاءً رياضياً حتى وصل إلى هذه العلامة المدهشة في القرآن الكريم.

وواصل الدكتور السيد محمد فاطمي أستاذ الفيزياء في جامعة طهران هذه التحقيقات في القرآن وطبع كتاباً بعنوان «الآية الكبرى» ضمنه عشرات الجداول ومئات الروابط الرياضية المذهلة من قبل عشرين سنة، وأشار الكاتب المصري عبد الرزاق نوفل في كتابه «الإعجاز العددي للقرآن» إلى قرابة مئة وخمسين رابطة والمساواة العددية في القرآن مثلاً المساواة بين الأضداد، عدد كلمات الدنيا في القرآن بعدد كلمات الآخرة، عدد كلمات الصبر بعدد كلمات الشكر، عدد كلمات المرأة بعدد كلمات الرجل، عدد كلمات الشيطان بعدد كلمات الملك... وهكذا، يعني إحصاء دخول الأعداد كلها في مساواة عددية من حيث أرقامها في القرآن الكريم، مثلاً تكررت كلمة يوم 365 مرة في القرآن الكريم وهي مجموع أيام السنة، وتكررت كلمة شهر اثنا عشر مرة وهي مجموع شهور السنة، كما توصل كتاب «سير تحول القرآن» إلى محاولة في ترتيب آيات القرآن إلى نتائج أيضاً مذهلة حيث استطاع أن يحصي كلمات القرآن وآياته وقسمها فوجدها من حيث الرقم تتساوى مع عدد ثلاث وعشرين سنة هي مدة الوحي النازل على النبي المصطفى محمد .

الزاوية الثانية:

القرآن تحدى العرب بإعجازه البلاغي في عدة آيات ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 23]، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38]، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود: 13] هذا التحدي في مجال البلاغة اللفظية للقرآن الكريم إنما يصح إذا كان القرآن مستنداً للصياغة الإلهية وإلا ما الداعي للتحدي! هو يريد أن يستند إلى الإعجاز اللفظي لا الإعجاز المعنوي، وواضح أن معاني القرآن ومضامينه هي معجزة في حد ذاته لكنه الآن يترقى إلى الإعجاز اللفظي أنه حتى الصياغة هي معجزة وأراد بالاستدلال بالإعجاز في الصياغة إلى أن يثبت أن القرآن من الله، فإذا كانت الصياغة من النبي فما هو المبرر للتحدي بالإعجاز اللفظي والحال بأن الصياغة من النبي ! هذا نقض للهدف، فلا معنى للتحدي بالإعجاز اللفظي كدليل على صدور القرآن من الله بينما تكون الصياغة من النبي .

الزاوية الثالثة:

هذه الزاوية كُتِبَ فيها كُتُبٌ عديدة في الفرق بين حديث النبي والقرآن، علماء الأدب يعرفون أن لكل شاعر نفس أدبي ولكل أديب نفس أدبي معين يميزه، الإمام علي له نفس أدبي في نهج البلاغة، والحسين في خطاباته له نفس أدبي معين، النبي محمد في أحاديثه وخطبه له نفس أدبي معين، إذا قورن النفس الأدبي للنبي من خلال أحاديثه وخطبه مع القرآن الكريم يُرى اختلاف واضح بين النفسين وبين النحوين مما يكشف عن أن صياغة القرآن الكريم لم تخضع للنبي المصطفى ، إن اختلاف الأحاديث النبوية عن الآيات القرآنية كان معروفاً للقاصي والداني حتى عند الكفار أنفسهم، فقد كانوا يميزون بين كلام النبي وبين القرآن الكريم لذلك كانوا يعتبرون القرآن سحر، لأنهم يعرفون الاختلاف في النفس الأدبي بين الطرفين ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15]

في المحور الأول ذكرنا أنه لا يمكن أن يستند القرآن لصياغة النبي المصطفى ، وفي المحور الثاني نقول لو كان إسناد الصياغة للنبي أمراً ممكناً إلا أنه لم يقع لوجود هذه الدلائل التي منعت وقوعه من قِبَلِ النبي المصطفى .

المحور الثالث: في نقض الهدف.

قد يُطرح إشكال وهو أنه إذا كان الهدف من نزول القرآن بالصياغة اللفظية على النبي أن يصل النظام السماوي إلى المجتمع البشري فهناك عائق أعاق وصول هذا الهدف، والعائق هو الاختلاف، اختلاف الأديان، اختلاف المذاهب، اختلاف العلماء في فهم القرآن، فهذا الاختلاف أعاق وصول النظام، الهدف من إنزال النظام السماوي على المجتمع البشري هو إقامة القسط والعدل، وهذا الهدف اقتضى أن تكون الوسيلة وسيلة مضمونة، وضمان الوسيلة يكون بالصياغة اللفظية الإلهية، لكن الاختلاف أعاق وصول هذا الهدف، الاختلاف بين الأديان وبين المذاهب، الاختلاف في فهم القرآن والسنة، بالنتيجة ما وصل النظام السماوي على واقعه، نتيجة هذا الاختلاف، فلماذا من الأول تترك الصياغة للنبي، فإذا صاغه النبي سيصل لنا النظام السماوي بمقدار تسعين بالمئة، أما الآن لما صاغه الله سبحانه وتعالى وصل إلينا لفظاً واختلف العلماء في فهمه، فما وصلنا منه إلا أربعين بالمئة أو خمسين بالمئة فما الفائدة؟ إذن انتقض الهدف الإلهي من إنزال النظام السماوي فأي فرق بين الأمرين؟ بين أن يتولى الله صياغته ولكن يختلف العلماء في فهمه وبين أن يوكل الصياغة للنبي فيصل لنا منه المقدار الأكبر، بالنتيجة لا فرق بين الأمرين وبالتالي الوسيلة لم تُضْمن على كل حال، والهدف لم يتحقق نتيجة عدم ضمان الوسيلة، فأي مرجح حينئذ لأن يتولى الله صياغته اللفظية مع عدم ضمان الوسيلة؟

الجواب عن ذلك ببيان أمرين:

الأمر الأول:

الاختلاف على ثلاثة أنواع: اختلاف تكاملي واختلاف اجتهادي واختلاف هادم مرضي.

  1. النوع الأول: الاختلاف التكاملي؛ وهو الاختلاف الذي فرضته عوامل التغير؛ بمعنى أن الإنسان يتغير حسب تغير العصور، فبما أن الإنسان يشهد تغيرات ثقافية واجتماعية مختلفة لذلك فالإنسان كائن متغير ومتطور في وعيه للمفاهيم والقضايا الكلية، لأجل ذلك مقتضى كون الإنسان متغيراً متطوراً جاءت رسالات متعددة لتواكب مسيرة الإنسان العقلية والثقافية والاجتماعية، ومقتضى كون الإنسان متغيراً في ثقافته الاجتماعية هو أن الوحي نزل مادة، ونزل تفسيره وتأويله على النبي وكان بيد الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم لمدة مئتين وخمسين سنة، وقد كانت مدة كافية لبيان وجلاء القرآن بتمام مفاهيمه ومعطياته ومضامينه، فالقرآن الكريم عاش مواكبة الإنسان في تغيراته من خلال إيكال تفسيره وتأويله إلى الراسخين في العلم وهم محمد وأهل بيته صلوات وسلامه عليهم أجمعين.
     
  2. النوع الثاني: الاختلاف الاجتهادي؛ وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122] اختلاف الفقهاء في فهم الدين لا يعني اختلاف الدين، الدين له وجود واقعي ثبوتي لا يختلف، ويختلف الفقهاء نتيجة لاختلاف قدراتهم العقلية، ونتيجة لاختلاف خبراتهم ونتيجة لاختلاف طرق فهمهم للنص، فنتيجة لهذا الاختلاف من الطبيعي أن يختلفوا في فهم القرآن والسنة، إلا أن هذا الاختلاف لا يضر بضمان الوسيلة باعتبار أن الوسيلة لإيصال النظام السماوي للمجتمع البشري هي عبارة عن القرآن والسنة المعصومية التي استمرت مئتين وخمسين سنة، بالتالي اختلاف الفقهاء في فهم القرآن والسنة لا يغير من لُباب التشريع ولا يغير من روحه أبداً؛ لأنه اختلاف في التفاصيل والتفريعات مع ثبات المبادئ والأسس الكلية والأصول العامة فإذن الوسيلة ما زالت مضمونة من قبله تعالى باعتبار ضمان سلامة المبادئ والأصول والخطوط العامة المذكورة في القرآن الكريم والسنة المعصومية من قبل أهل البيت .
     
  3. النوع الثالث: الاختلاف الهادم المرضي الذي ينشأ عن اختلاف في المصالح وكما عبر عنه القرآن: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] فهذا الاختلاف الناشئ عن المصالح والأطماع ومحاولة ممارسة التحريف والتزوير كاختلاف بعض الصحابة في مرجعية سنة النبي هل أن المرجع هو القرآن وحده أو سنة النبي ، هذا الاختلاف المرضي لم يُثر غباراً على ضمان الوسيلة التي أُريد من خلالها إيصال النظام السماوي إلى المجتمع البشري من خلال القرآن وسنة النبي وسنة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

الأمر الثاني:

بعد وضوح وورود هذا الاختلاف نقول: لو دار الأمر بين أن يتصدى الله تبارك وتعالى لصياغة القرآن صياغة لفظية مع اختلاف العلماء في فهمه وتفسيره، وبين أن يترك أمر الصياغة للنبي وإن لم يختلف العلماء في فهمه، فبأي النحوين سنضمن مرجعاً إلهياً دستورياً نعود إليه عند الاختلاف وتكون محوراً وحاكماً عند حصول الاختلافات؟ فبالطبيعي سيكون بالنحو الأول؛ لأنه بالنحو الثاني ليس لدينا مرجعية إلهية، فسيقولون هو بصياغة النبي وهناك فِرَقٌ لا تؤمن بعصمة النبي ولا تؤمن بسلامة النبي من الخطأ والزلل والخطأ والسهو والغفلة إذن لن نمتلك مرجعية إلهية نستطيع تحكيمها في موارد الاختلاف ما دامت صياغة القرآن لم تخضع للتصدي الإلهي المباشر، وبالتالي اختلاف العلماء في فهم القرآن مهما بلغ لن يصل إلى عامل يضر بوصول النظام السماوي من حيث المبادئ والأسس والخطوط العامة التي هي كفيلة ببقاء روحه ولبابه ومضمونه إلى المجتمع البشري.