هل الأبحاث الأركيولوجية تنقض قصص القرآن؟

1443-09-08

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24]

صدق الله العلي العظيم

من الإشكالات التي طرحت على عقيدة الأديان بالنبوات والرسالات إشكالان:

الإشكال الأول: لماذا انحصرت النبوات بالمنطقة العربية ولم يتحدث التاريخ عن النبوات في غير المنطقة العربية؟

الإشكال الثاني: إن الأبحاث الأرضية الأريكيولوجية لم تظهر أثراً لبعض الأنبياء الذين تحدث عنهم القرآن أو لم تظهر أثراً أو بصمات لبعض الأحداث العظيمة التي ذكرها القرآن الكريم كطوفان نوح وفرقان موسى وما أشبه ذلك من الأحداث؟

لذلك حديثنا هذه الليلة يكون في محورين:

  • حول الإشكال الأول وهو لماذا اقتصرت النبوات والرسالات على البيئة والمنطقة العربية ولم تمتد إلى ما هو أوسع من ذلك؟
  • حول قيمة الأبحاث الأرضية في تحديد وجود أنبياء أو أحداث تاريخية تعرض لها القرآن الكريم.
المحور الأول: حول الإشكال الأول وهو لماذا اقتصرت النبوات والرسالات على البيئة والمنطقة العربية ولم تمتد إلى ما هو أوسع من ذلك؟

الإشكال يقول: إن الأنبياء بحسب ما ذُكر في الكتب الدينية إنما أُرسلوا إلى منطقة معينة وهي المنطقة المعروفة بالمنطقة العربية حالياً أي ما بين النهرين، وما بين المغرب وفارس، وما بين سوريا واليمن، والسؤال ما هو وجه تخصيص هذه المنطقة بالأنبياء إذا كانت النبوة حاجة بشرية للمجتمع البشري بأسره كما يزعم المتدينون فيفترض أن تلبية الحاجة للمجتمع البشري تقتضي سعة دائرة الأنبياء والرسل لأكثر من هذه المنطقة المعروفة.

وللإجابة عن هذا الإشكال نتعرض إلى عدة وجود:

  1. الوجه الأول: سبق في تقرير الحاجة إلى النبوات والرسالات قلنا مقتضى حكم العقل بضرورة اللطف، حكم العقل بضرورة تلبية حاجة المجتمع البشري إلى النظام السماوي، بما أن المجتمع البشري يحتاج إلى النظام السماوي لإقامة القسط والعدالة على الأرض فلابد من تلبية هذه الحاجة من قبل الله تبارك وتعالى لأن عدم تلبيتها إما لجهل منه بالحاجة أو لعجز فيه عن تلبية الحاجة أو لعدم حكمة فيه بأن يضع الأشياء في مواضعها، فإذا فُرض أنه عالم قادر حكيم كان مقتضى علمه بحاجة المجتمع البشري إلى النظام وقدرته على تلبية هذه الحاجة وحكمته التي تقتضي وضع الأشياء في موضعها بأن يرسل الأنبياء والرسل إلى المجتمع البشري، وهذا ما يُعبر عنه بقاعدة اللطف التي هي واجبة من الله تبارك وتعالى.

    إذن مقتضى قاعدة اللطف التي يحكم بها العقل العملي أن لا فرق بين مجتمع ومجتمع، جميع المجتمعات البشرية لابد من إرسال الأنبياء إليها إما بوجود نبوة عامة شاملة لكل المجتمع البشري، وإن كانت هي تعيش في المنطقة العربية لكن نبوتها عامة، كما في رسالة الرسل أولو العزم، فإن رسالتهم عامة ولهم أوصياء ومندوبون ولهم من يقوم بأداء رسالتهم إلى الأقوام المختلفة، أو بوجود نبوة خاصة لكل أمة من الأمم ولكل مجتمع من المجتمعات، هذا ما يفرضه العقل العملي من ضرورة قاعدة اللطف فلا يمكن المحيص عنه.
     
  2. الوجه الثاني: ما ذُكر من أن انحصار النبوات والرسالات في المجتمع العربي فهو لا دليل عليه، فمن أين افترض المُشْكل بأن ذلك شيء مسلم به، من أن النبوات والرسالات انحصرت في المجتمع العربي، هذا لا صحة له، والقرآن الكريم يؤكد أن لكل أمة رسول ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24]

    وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يونس: 47]، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد: 7]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا [المؤمنون: 44] ظاهر مجموع هذه الآيات القرآنية أنه لم تخلو أمة ولا مجتمع من رسول أو نذير، فهذه الدعوى منافية لصريح النقل الوارد في القرآن الكريم.

    نعم القرآن الكريم لم يذكر لنا قصص كل الأنبياء الذين أُرسلوا إلى الشعوب المختلفة، والقرآن اعترف بذلك أيضاً فقال: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا «164» رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا «165» [النساء: 164 - 165] فالقرآن الكريم تضمن نصاً واضحاً أنه لم يتعرض لقصص جميع الأنبياء والمرسلين كي يقال أن ما تعرض له القرآن الكريم الأنبياء خصوص الأمة العربية أو خصوص المجتمع البشري، هو القرآن الكريم ذكر أنه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء والمرسلين.
     
  3. الوجه الثالث: ذكر القرآن دليلاً على أنه لا يمكن أن يخلو مجتمع من رسول لأجل أمرين:

    الأمر الأول: إقامة القسط، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] الناس بما فيهم من جنسيات وألوان وأطوار مختلفة، إذن مقتضى قيام الناس بالقسط عموم الرسالات لجميع الأقوام.

    الأمر الثاني: قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15]، ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا «165» [النساء: 165] إذن لا يمكن لله أن يعذب قوماً حتى يرسل رسولاً لأن عقابهم بدون إرسال رسول عقاب بلا بيان فلابد أن يرسل إليهم حتى يقيم عليهم الحجة وحتى يكون عقابهم عقاباً مستنداً إلى الحجة.
     
  4. الوجه الرابع: نعم هذه المنطقة التي تمتد من بلاد فارس إلى بلاد المغرب ومن تركيا إلى اليمن حظيت بعناية إلهية أكثر من المناطق الأخرى نتيجة لما لها من الأهمية في تلك العصور، فقد كانت هي المنطقة الآهلة؛ أي المنطقة التي تعيش مناخاً معتدلا وتعيش إعماراً وحضارات، حضارة الروم، حضارة الفرس، حضارة بلاد النهرين، حضارة الفراعنة، حضارة الكلدان، كلها قابعة في هذه المنطقة فلأجل أنها كانت آهلة بالحضارات، مستقرة من حيث المناخ كانت محل عناية، ابتداء من آدم أب البشرية وصولاً إلى الرسول محمد ، ولم تكن منطقة عربية ولم يكن كل أقوامها عرب كان فيها الفرس وكان فيها الأقباط في مصر، وكان فيها بنو إسرائيل، وكان الروم والترك في محيط البحر المتوسط، ما كانت هذه المنطقة ذات عرق واحد وهو العرق العربي كي يقال لماذا خصص الله الأنبياء بالمنطقة العربية بل جاء الأنبياء في هذه المنطقة لعموم الأعراق التي كانت تعيش فيها وتقطنها.
المحور الثاني: حول قيمة الأبحاث الأرضية في تحديد وجود أنبياء أو أحداث تاريخية تعرض لها القرآن الكريم.

مجموعة من الباحثين استعانوا بالبحوث الأركيولوجية في إنكار وجود بعض الأنبياء؛ لأن البحوث الأرضية لم تكشف عن أي بصمات لمثل هؤلاء الأنبياء، أو إنكار بعض الأحداث التي طرحها القرآن الكريم كحدث الطوفان قالوا: لو كان للطوفان وجود لتبينت آثاره الأرضية بينما الأبحاث الأركيولوجية لم تكشف لنا بصمات أو آثار لهذا الحدث العظيم المسمى بحدث الطوفان، لذلك نحن نحتاج إلى أن ندخل في بحثين:

  • البحث الأول: هل هذه البحوث الأركيولوجية ذات منهج علمي تام حتى يُعتمد عليها في تحديد وجود الأشخاص وفي تحديد وجود الأحداث أم لا؟
  • البحث الثاني: في تطبيق هذا المنهج على هذه المسائل المثارة.

البحث الأول: هل هذه البحوث الأركيولوجية ذات منهج علمي تام حتى يعتمد عليها في تحديد وجود الأشخاص وفي تحديد وجود الأحداث أم لا؟

وهنا عدة أسئلة:

السؤال الأول: هل ارتقت الأبحاث الأركيولوجية أن تكون علماً؟

 السؤال الثاني: هل أن علماء هذه الأبحاث قاموا بممارسة موضوعية معرفية بريئة من التحيزات أم أن هناك دوافع إلحادية مسبقة قررت النتائج وفرضتها وقصدوا أبحاث معينة ليوكدوا تلك النتائج التي يريدوا الوصول إليها؟ 

 السؤال الثالث: هل بلغت هذه الأبحاث درجة من الكثرة والوضوح بحيث تقدم نتائج حاسمة في تقويم ما ورد في القرآن الكريم من التاريخ تاريخ الأنبياء وتاريخ الأحداث أم لا؟ 

هذه الأسئلة الثلاثة عندما نريد أن نبحث الموضوع بحثاً منهجياً لابد أن نتعرض لعدة نقاط عرض أغلبها الدكتور سامي عامري في كتابه «الوجود التاريخي للأنبياء»، بحث مناقشات منهجية لهذه الأبحاث الأركيولوجية وهي جديرة بالمطالعة.

النقطة الأولى:

جمع من العلمويين اعتبروا البحث الأركيولوجي علماً كعلم الرياضيات وعلم الفيزياء بل رفعوا اليد عن علم التاريخ، من أيام ابن خلدون في مقدمته إلى يومنا هذا التاريخ علم له أسسه وله مبادئه، وهؤلاء يقولون بأن التاريخ ليس علم، وأن العلم المسمى بعلم التاريخ ما هو إلا تجميع لنقولات تاريخية غير موثقة لا تصلح لأن تكون علماً، العلم هو الأركيولوجيا لأنه حسم النتائج وأوصلنا إلى يقين بالأحداث إثباتاً أو نفياً، ولكن مما يخل بهذا المنهج ويؤثر على قيمته عاملان:

العامل الأول: نقص الآثار، منذ ستينات القرن الماضي إلى الآن وما زالت المشاريع التي دخل فيها تعتبر ناقصة جداً وقليلة لا تشكل مادة يستند إليها.

العامل الثاني: اختلاف التفسيرات كما ذكر ندوف نمان وهو أحد علماء البحث الأركيولوجية وهو بنفسه اعترف أن التفسيرات هنا مختلفة ولا ضابطة لها، يقول[1] : نتائج الحفريات الأركيولوجية مثل المصادر المكتوبة، مفتوحة لتفسيرات مختلفة وأحياناً متناقضة، الأدبيات الأركيولوجية تعج بالخلافات على عدد لا حصر له من القضايا بما في ذلك طبقية الآثار الفخارية وتصنيفها ووظيفة المباني والمصنوعات اليدوية في الحفريات والتسلسل الهرمي للمستوطنات وتقدير عدد السكان وأشياء أخرى كثيرة البيانات لا تتحدث عن نفسها بنفسها فتفسيرها محفوف بالصعوبات، وكل هذه الصور تحتاج إلى تفسير، والتفسيرات في المقام مختلفة متناقضة.

نتيجة هذه النقطة بقيت أسئلة حائرة لها ربط بالوصول إلى النتائج ولكن ليس لها جواب، ما هي مصادر الحياة المتوفرة من ماء وزرع وحيوان؟ إلى الآن عندما تبحث في أرض معينة يُرى فيها بصمات الزرع والإنسان والحيوان، وما هي مصادر هذه الحياة هل هي مصادر كانت نابعة من الأرض أم أنها مصادر مستوردة؟ ما هي أسباب الاستيطان في الأرض؟ هل الاستيطان كان موسمياً أم كان مستقراً، كم جيل من الحياة مر على هذه الأرض كما توحي به طبقات الأرض؟ هل هناك فجوات مرت على المكان؟ ما هي أسباب انقراض الاستيطان في هذا المكان هل هو عدوان صار عليهم أو هل هي أوبئة أو أعاصير أو سيول... لابد من تحديد كل هذه الأمور، مالم تكن هناك إجابات شافية عن كل هذه الأسئلة الحائرة لا يمكن حينئذ الوصول إلى نتيجة سواء كانت موافقة للقرآن في ذكره للطوفان أو الفرقان أو ما أصاب قوم عاد وثمود أو كانت مخالفة، بالنتيجة لابد من إجابات واضحة وحاسمة عن جميع هذه الأسئلة.

النقطة الثانية:

إن هناك فرقاً بين دراسة الأنظمة الطبيعية ودراسة الأنظمة الثقافية، إن الهدف من الأركيولوجيا هو الوصول إلى ثقافة الأمم وعقائدها بينما محور ثقافة الأمم هي الحركة الفكرية والسلوك العملي، بينما محور بحث الآثار الطبيعية مجرد ما هي اللمسات التي تركها القوم على الأرض والصخر والبناء وما أشبه ذلك، ومن الواضح أنه لا يمكن إخضاع الفكر والسلوك والحركة الحياتية إلى المختبرات المعملية التي من خلالها يُعرف الفخار وتاريخ صناعته ومدى الدقة في فن صنعه، فرق بين الأمرين، إذن الطريق للوصول إلى الثقافة غير الطريق إلى الوصول إلى لمسات الإنسان في هذه الأرض، الأول دراسة نظام ثقافي والثاني دراسة نظام طبيعي ولا يمكن بمجرد البحوث الأركيولوجية أن نصل إلى عمق ثقافة الإنسان وتاريخه السلوكي على الأرض، الدراسة الأولى دراسة آلية تكرارية بينما الدراسة الثانية هي دراسة حدسية عقلية وفرق بين الدراستين.

لذلك ذهب بعض العلماء كما نقل الدكتور سامي عامري إلى أن الأركيولوجيا ليست علم إنما هي معالجة تقنية لآثار مدنية تركها قوم من الأقوام، فهي تجميع تقنيات وليست علماً، تُنبئ عن لمسات للإنسان على هذه الأرض وليست علماً لفهم الإنسان لأنها لا تملك هذه الأبحاث غير القياس الفيزيائي والحسابي.

النقطة الثالثة:

ماذا يراد من الأبحاث الأركيولوجية؟ هدفهم إعادة كتاب التاريخ، أن التاريخ الذي كتبه القرآن وكتبته التوراة وكتبه علماء التاريخ وأنه مر بأنبياء ورسل وأحداث، إن إعادة كتابة التاريخ مشروع أكبر من الأبحاث الأركيولوجية لأنه مشروع أكبر من جمع الآثار وتصنيفها وحصرها وقراءتها لأن إعادة كتابة التاريخ تحتاج إلى أدوات أخرى كالخبرة بالتاريخ، وعلم النفس، وعلم اجتماع وعلم إدارة من أجل توفير القدرة على قراءة الإنسان الذي سكن هذه الأرض، ولمعرفة ثقافته وفنونه وإبداعه وتطلعاته، لذلك مما يزيد البحث الأركيولوجي أزمة أن الباحثين في مجاله غير مؤهلين أكاديمياً في هذه المجالات.

نقل الدكتور سامي عامري[2]  تصريح جيوفاني غاربيني وهو أحد الباحثين في هذا المجال في كتابه التاريخ والإيديولوجيا في إسرائيل القديمة بقوله: كل الذين اهتموا بتاريخ الكتاب المقدس العبري وكتبوا حوله ليسوا مؤرخين بالمعنى المهني وهم كلهم بلا استثناء أساتذة لاهوت.

وكثير من الكلام الذي نقله في هذا المجال مما يؤكد قصور الأبحاث الأركيولوجية إلى يومنا هذا.

النقطة الرابعة:

من أوجه القصور والنقص في البحوث الأركيولوجية التعارض بين نتائجها والوثائق التاريخية القطعية، مثلاً اكتشف الباحثان فنكلشتاين وزفيكل أن عدد سكان أورشليم في العصر الفارسي لم يكن يتجاوز بضع مئات، وكان البالغين في أورشليم في ذلك العصر لا يصلون إلى مئة شخص، فإذن ماذا كان لأورشليم في ذلك العصر من أهمية وثقل؟ هذه نتيجة الأبحاث الأركيولوجية، بينما يصر كثير من الباحثين اليهود على أن هناك رسالة من مصر في القرن الخامس قبل الميلاد من أحبار الفينتاين إلى حاكم يهوذا في العصر الفارسي زمن داريوس تظهر أن أورشليم كانت منطقة مدنية عامرة لها ثقل سياسي كبير، وقد دعم هذه الوثيقة التاريخية في الوثائق المسمارية في منطقة عقرون جنوب أورشليم.

والوثائق المسمارية تختلف عن الوثائق الأركيولوجية، الوثائق المسمارية تعتمد على الكتابات المذكورة في الصخور وفي الألواح لذلك هو يقول أنه حتى الوثائق المسمارية تدعم أن أورشليم كانت منطقة آهلة وذات ثقل سياسي في العصر الفارسي مما يكذب الأبحاث الأركيولوجية لبيان عدم أهميتها.

النقطة الخامسة:

مناهج البحث الأركيولوجي هل يُعتمد عليها أم لا؟ مناهج البحث الأركيولوجي مبتلات بمشكلتين:

  • المشكلة الأولى: اختلاف مساحة البحث؛ أي تحتوي هذه البحوث على مناهج متعددة كل منهج تختلف مساحته عن المنهج الآخر وبالتالي لا يمكن استحصال نتيجة علميه موضوعية من جميعها مثلاً الأركيولوجيا الجديدة التي ظهرت في ستينات القرن الماضي كانت تعنى بالجانب الطبيعي والبيئي، بينما المنهج الأحدث من الأركيولوجيا في هذا القرن ركز على الجانب الإنساني بصورة أكبر، ونحن عندما نريد أن ندرس الإنسان في أي مجتمع هل ندرس الإنسان من خلال المنطق الجبري حيث توجد نظرية في علم التاريخ أن هناك سنن تاريخية أثرت على حركة الإنسان على مدى التاريخ بنحو المنطق الجبري، أو من المنهج الآخر وهو أن التاريخ وإن خضع لسنن إلا أنه خضع لشخصيات كاريزمية فذة كانت هي الدخيلة في صناعة التاريخ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد هؤلاء بغض النظر عن كونهم أنبياء أو لا بالنتيجة شخصيات كاريزمية غيرت مسار التاريخ وصنعت أحداث، لم يكن التاريخ جارياً وفق سنن جبرية محضة بل كان لهذه الشخصيات الكاريزمية أثر في صناعته لذلك حتى منهج البحث الأركيولوجي متشعب بين النظرتين والاتجاهين فليس له منهج محدد.
     
  • المشكلة الثانية: إن ما تظهره المخبوءات الصامتة تحتمل تفسيرات كثيرة ولأنها تحتمل تفسيرات كثيرة استعان الأركيولوجيون بعدة علوم أخرى، استعانوا بعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الجيولوجيا وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء والجغرافيا وعلم المعادن وعلم الإحصاء، ولأنهم استعانوا بهذه العلوم كلها في دراسة الإنسان، وهذه العلوم مناهج مختلفة، وهذه العلوم في حد نفسها فيها اختلافات بين مناهجها لذلك أصبحت النتائج ليست نتائج حاسمة وذات موضوعية نتيجة لأنها ارتبطت بعدة علوم وتلك العلوم في نفسها ذات مناهج متعددة لذلك لم تصل هذه الأبحاث إلى نتائج علمية بحيث نستطيع أن نقول أن البحوث الأركيولوجية علم اسْتَنِدوا إليه في قراءة التاريخ وفي تحديد الأهداف وتشخيصها.

 

[1]  ذكر هذا التصريح الدكتور سامي عامري ص 46 من كتابه.
[2]  في كتابه صفحة 48.