القراءة الأخرى للقيادة العلوية

1443-09-19

تحرير المحاضرات

سم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة: 55]

صدق الله العلي العظيم

عندما نتحدث عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهناك قراءتان لهذه الشخصية العملاقة:

القراءة الأولى: القراءة الإسلامية؛ وهي أن علي كان إماماً مفترض الطاعة، منصوباً من قِبَل الله تبارك وتعالى.

والقراءة الثانية ألا وهي القراءة الإنسانية، كيف قرأ الآخرون الذين ليسوا من إطار المسلمين هذه الشخصية العظيمة شخصية الإمام أمير المؤمنين علي ، ماذا قال عشاق العظمة عن عظمة الإمام علي ، عليٌّ لم يكن حكراً على طائفة، ولا حكراً على دين، ولا منحصراً في لغة، ولا متقوقعاً في قومية، علي رمز الإنسانية جمعاء في العدالة وقوة الإرادة، من هنا يقول جبران خليل جبران: الإمام علي شأنه شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين أتوا إلى بلد ليس بلدهم، وإلى قوم ليسوا بقومهم، وفي زمن ليس بزمنهم، إن علياً كان فوق الزمن والمكان والظرف والمجتمع الذي عاش فيه، سبق زمانه ومكانه.

وقال ميخائيل نعيمة الأديب المعروف: إن الإمام علي بعد النبي على الإطلاق هو البلاغة والحكمة والفهم للدين والتحشد للحق، والتسامي على الدنايا. ثم يرقى ويقول: ليس بين العرب كلهم من صفت بصيرته صفاء بصيرة الإمام علي، ولا من دانت له اللغة مثل ما دانت لابن أبي طالب، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال.

ويقول ميخائيل: إن علياً لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمن ومكان.

ويقول جورج جرداق في صوت العدالة الاجتماعية: إذا ضربت بعينيك صفحات التاريخ فإنك قلما تجد في شخصياته العظيمة من أجمع الناس على حبه وإجلاله والانتصار له كإجماعهم على علي بن أبي طالب، وإنهم ليلتقون جميعاً عند حكم واحد ألا وهو أن علي بن أبي طالب عملاق فكر وبيان وشخصية تتدفق بنور الوجدان، وفي عداد هؤلاء من تتسم نظرته إلى علي بطابع النبوة، هكذا كان علي بن أبي طالب.

وقال الفيلسوف الفرنسي كارديفو: علي هو ذلك البطل الموجع المتألم والفارس الصوفي والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سر العذاب الإلهي.

عليٌ هذا الإمام العظيم، عليٌّ إذا أُريد قراءته قراءة إنسانية فلابد من النظر إلى عدة محاور في دولته وقيادته وشخصيته العملاقة:

المحور الأول: في معالم دولة الإنسان التي أقامها الإمام أمير المؤمنين علي .

هناك فرق بين الدولة المدنية ودولة الأمة ودولة الإنسان، الدولة المدنية مصطلح حديث يقوم على ركائز أربع: العقد الاجتماعي بمعنى أن تستند السلطة إلى الإرادة الاجتماعية العامة، وسيادة القانون والفصل بين السلطات وضمان الحقوق والحريات، أما دولة الأمة فهي الدولة التي أنشأها الرسول محمد وقد بناها على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: ترسيخ الإرادة المجتمعية أقام الرسول في السنة العاشرة من سني النبوة بيعة العقبة مع أهل المدينة، وفي السنة الثانية عشر بيعة الرضوان مع أهل المدينة، وأراد من هاتين البعتين أن يستند في مشروعه إلى الإرادة الاجتماعية العامة.
     
  • المرحلة الثانية: وصل الرسول المدينة فأبرم عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من أجل جمع الطاقات والخبرات والتجارب من أجل بناء مجتمع يقوم على أهداف سامية.
     
  • المرحلة الثالثة: أجرى صلحاً وعهداً بين يهود المدينة وبين أهل المدينة من أجل تأسيس دولته، وقامت دولته التي عبَّر عنها العلماء بدولة الأمة لأنها استندت إلى إرادة الأمة، أقام دولته على أسس ثلاثة:
  1. الأساس الأول: المواطنة، لم تكن المواطنة دين سواء كان مسلم أو يهودي أو مسيحي كلهم كانوا مواطنين في دولة الرسول وميزان المواطنة في دولة الرسول السلم، أن يكون المواطن مسالماً.
     
  2. الأساس الثاني: التعاون على بناء مرافق الدولة وتنظيم الشؤون الاجتماعية.
     
  3. الأساس الثالث: الدفاع عن حريم المدينة وهذه الدولة الفتية، لذلك أسس جيشاً عقائدياً للدفاع عن حريم تلك الدولة الفتية.

ومن ثم جاء عهد الإمام علي ، فانطلق الإمام علي من دولة الأمة إلى دولة الإنسان، أقام دولة لها عدة معالم تنبع من إنسانية الإنسان، واحترام إنسانية الإنسان، فكان لتلك الدولة العلوية معالم مشرقة تُبْرِز لنا مدى اهتمام هذه الدولة بإنسانية الإنسان:

المعلم الأول: الحرية.

لاحظوا جورج جرداق وهو المسيحي يقول: هناك مقالتان تناولت الحرية، المقالة الأولى مقالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حيث قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً! والمقالة الثانية مقالة الإمام علي بن أبي طالب : لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً.

يقول جورج: هناك فرق بين المقالتين، المقالة الأولى بند قانوني والمقالة الثانية بند حقوقي، ويختلف البند الحقوقي عن البند القانوني، ما صدر من الخليفة الثاني قانون صدر من رئيس الدولة ينهى عن استعباد أحد، أما ما صدر عن الإمام علي فهو مفردة حقوقية لكل زمن، ناشئة عن شخصية حقوقية.

الحرية، المساواة، الاستقلال، حقوق منتزعة من طبيعة الإنسان؛ لأن الإنسان ولد حراً فله الحرية، ولد مستقلاً فله الاستقلال، ولد متساوياً مع غيره فله حق المساواة، هذه الحقوق منتزعة من طبيعة الإنسان.

المعلم الثاني: الإرادة الواعية.

لاحظوا الإمام علي كيف بايعه الناس وكيف استقبل بيعة الناس، لما أقبل الناس إلى بيعته بعد رحيل الخليفة الثالث، قال: أيها الناس إنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت وإن المحجة قد تنكرت، فإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وإن بايعتموني ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول قائل ولا إلى عتب عاتب. مع ذلك أقبل الناس يبايعونه عن قناعة ورضا، فبذلك الإمام علي رسم المعلم الثاني من معالم دولة الإسلام ألا وهو أن تكون الإرادة الاجتماعية إرادة واعية.

المعلم الثالث: المنصب وسيلة وليس هدف.

لم يكن الإمام علي يركض وراء المنصب ولم يصر على البقاء في المنصب، علي صوَّر للناس أن هذا المنصب مجرد وسيلة وليس هدف، دخل عليه ابن عباس في منطقة ذي قار بالعراق ورآه يخصف نعله، فقال: يا ابن عباس ما قيمة هذه النعل؟ قال: ليس لها قيمة سيدي. قال: إنها خير لي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً. فالمسألة مسألة هدف وهو إقامة العدالة، وليست مسألة منصب أو سلطة.

المعلم الرابع: إلغاء الامتيازات وهذا الذي أجج الحروب ضد دولة علي .

وهو أنه منذ أن استلم الخلافة ألغى الامتيازات التي كانت موجودة قبله، فعندما استلم رفع صوته بكل شجاعة وثبات قال: أيها الناس ألا وإن كل قطيعة أقطعها فلان، وكل مال أخذه من بيت مال المسلمين فهو مردود إلى بيت المال، ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء وفرقه في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. لذلك بدأت النفوس التي كانت تعيش على الامتيازات والترف تخطط ضد دولة الإمام أمير المؤمنين علي ألا وهي دولة الإنسان.

المعلم الخامس: القاعدة الجماهيرية.

أن الإمام علي أظهر الإخلاص للقاعدة الجماهيرية التي استند إليها لما انتهى من معركة صفين ورجع ما قال للناس أتبعوني وأطيعوني، وقف وقال أيها الناس إن لكم من الحق علي مثل ما لي عليكم، ألا وإن الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها عند التناصف لا يجر لأحد إلى جرى عليه ولا يجر على أحد إلا جرى له، فلكم حقوقكم علي، ولي حقوق عليكم. ثم أوضح لائحة الحقوق بينه وبين جماهيره التي كانت معه تدافع عن دولته، وعن معالم دولة الإنسان في دولته المباركة.

المعلم السادس: المحاسبة.

كان يحاسب الولاة حساباً شديداً فقد كتب إلى أحد ولاته: بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما بين يديك دون مبالاة، فإن وصلك كتابي هذا فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس.

ابن حنيف كان واليه على البصرة لم يفعل ذنب فقط أنه دعي إلى مأدبة فذهب إليها، فكتب إليه الإمام أمير المؤمنين : يا ابن حنيف بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم هؤلاء فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت من طيب حله فنل منه. هكذا كانت محاسبته الشديدة للولاة.

المعلم السابع: الإنجازات.

دولة الإمام علي أول دولة أنجزت عدة إنجازات واستفادت منها الخلافة الأموية والخلافة العباسية، أول من وضع نظام الشرطة هو الإمام علي ، وقد وضع قبله الخليفة الثاني نظام العسس أي الذين يراقبون الوضع ليلاً، أما الإمام علي فقد وضع نظام الشَرَطة وهم المسؤولون عن حفظ الأعراض والأموال والأسواق وتنظيم مسيرة الحياة الاجتماعية آنذاك، الإمام علي أول من وضع ديوان المظالم، كل مظلوم يريد أن يشتكي على الرئيس أو على القاضي يمكن أن يذهب إلى ديوان المظالم ليُنْظر في شكواه.

الإمام علي أول من فصل بين السلطتين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، لذلك كتب في عهده لمالك الأشتر: اختر للحكم أفضل رعيتك الذي لا تمحكه الخصوم ولا تضيق به الأمور.

ومن أعظم معالم دولة الإنسان في هذه الدولة المباركة ألا وهي الدولة العلوية التي أقامها الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه المواطنة التي تبتني على السلم، ففي عهد علي كان هناك المسيح واليهود والمجوس، غير المسلمين بفرقهم وأصنافهم كانوا يعيشون تحت ظل دولة الإمام علي ، وقد كتب في عهده لمالك الأشتر: وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أُكُلهم، فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. سواء كان معك في الإسلام أم لم يكن هو مواطن له حقوق المواطنة ما دام إنساناً مسالماً.

المحور الثاني: القيادة العلوية.

تحدثت سابقاً عن الفرق بين الإدارة والقيادة، فكما عبَّر بعض علماء الاجتماع الإدارة ما شوهد، والقيادة ما لم يُشاهد، المدير ينظر إلى أمور مشهودة يقوم بتنظيمها وتصنيفها وترتيبها، أما القائد فهو يبدع ما لم يشاهد، ويوصل الناس إلى ما لم يخطر على بالهم، الفرق بين الإدارة والقيادة هو الفرق بين ما شوهد وما لم يشاهد، الفرق بين الإدارة والقيادة هو الفرق بين المشاكل المعقدة والمشاكل المستعصية، إذا حصلت مشاكل معقدة فهي تحتاج إلى إدارة، مثلاً لو حصل ازدحام في الشوارع فذلك يحتاج إلى تنظيم من قبل المرور لفك الازدحام، طبيب يريد أن يتهيأ لعملية جراحية معقدة يقوم بتنظيم وقته وبرمجة عمله ودراسة خطواته كي يقوم بالعملية الجراحية المعقدة، فهذه تسمى إدارة.

أما القيادة تأتي في المشاكل المستعصية لا في المشاكل المعقدة فقط، لو أن مجتمعاً انتشرت فيه جرائم المخدرات أو جرائم العنف فهذا لا يكفيه إدارة بل لابد من قيادة، القرار القيادي هو الذي يقضي على جريمة العنف أو جريمة المخدرات أو جريمة الاعتداء، القيادة في المشاكل المستعصية والإدارة في المشاكل المعقدة وفرق بين المنصبين والموقعين، لذلك إذا تساءلنا ما هي مقومات نجاح القيادة؟ متى يعد القائد قائداً ناجحاً؟

ننظر إلى علماء الاجتماع ماذا يقولون حول نجاح القيادة، هنا عدة نظريات لعلماء الاجتماع في مجال نجاح القيادة:

  • النظرية الأولى: نظرية توماس ويبر يقول: القيادة سحر وفن، ليست القيادة بالمنصب ولا بالمعلومات ولا بالثقافة، القيادة تعني أن للقائد جاذبية لنفوس الجماهير وهذه الجاذبية يكتسبها إما من أسلوبه وإما من قداسته وإما من شكله أو من مواقفه، القيادة كاريزما وفن يتمتع بها القائد ليؤثر على النفوس والعقول.
     
  • النظرية الثانية: نظرية فيدلر، يقول: القيادة تحتاج إلى ركنين الركن الأول: البنية الفاعلة؛ أي أن يكون مع القائد فريق عمل ناجح وإلا لا يمكنه القيادة، والركن الثاني السلطة؛ أن تكون له سلطة دينية أو اجتماعية أو سياسية تحقق له أهدافه وترسخ له الطريق.
     
  • النظرية الثالثة: القيادة مواقف، القائد بمواقفه لا بعلمه ولا بمنصبه ولا بشخصيته، القيادة مواقف كلما كانت مواقفه مواقف اجتماعية، مواقف معطاء، مواقف إنتاج، مواقف إبراز مشاريع تحققت له القيادة الناجحة.
المحور الثالث: هل تحققت معالم القيادة الناجحة في الشخصية العلوية في شخصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه أم لا؟

الإمام علي قيادة إنسانية، قيادة روحية، قيادة اجتماعية، تحققت فيها عدة من المثل وعدة من الملامح التي حققت نجاح القيادة.

الملمح الأول:

الشجاعة في إعلان المبادئ والثبات عليها مهما حصلت العواصف، خاض حروب ثلاث ما استكان ولا تراجع ولا تزلزل، أعلن مبادئه وثبت عليها دون أن يتراجع أنملة أو خطوة عنها، وهكذا كان الرسول محمد الذي قال: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله أو أهلك دونه. وقال علي بن أبي طالب: والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لسوايت بينهم فكيف والمال مال الله!

الملمح الثاني:

صيانة المنصب، علي أبعد أولاده وأهله وأقاربه عن بيت المال، واختص هو ببيت المال وخادمه قنبر، يدخل بيت المال فيفرغ المال ويوزعها ويصلي ركعتين ويخرج لكي يصون المنصب الذي هو فيه عن التهم والغمز واللمز، قال الإمام أمير المؤمنين: لقد جاءني أخي عقيل ومعه صبيته كأنما اسودت وجوههم من العظلم، وقد استماحني صاعاً من بركم فأحميت له حديدة وأدنيتها منه ففزع منها فقلت: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتفزع من نار أوقدها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه!

الملمح الثالث:

توافق القول والعمل، قوله عمله، كما قال علي : يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق.

الملمح الرابع:

أن الإمام أمير المؤمنين كان يصّر على المساواة، منذ أن كان مواطناً حتى عندما صار رئيس دولة، الإمام تخاصم مع شخص في سلاح له فتخاصما عند الخليفة الثاني فلما دخل على الخليفة الثاني، أجلس الخليفة الثاني الخصم عن يمينه ثم قال: يا أبا الحسن قم وأجلس إلى جانب خصمك، فقام الإمام علي وقد تغير وجهه، قال: لِمَا تغير وجهك يا أبا الحسن؟ أكرهت أن تقف إلى جانب خصمك؟ قال: ما كرهت ذلك ولكن ساءني أنك لم تسوِّ بيني وبينه، كنيتني ولم تكنه. إلى هذا المقدار والدقة يحرص الإمام أمير المؤمنين علي على المساواة بينه وبين غيره، وكان يقول علي : لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، لعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر! وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد.

إن هناك عدة ملكات ومواهب تنبع من منبع واحد، القوة في العبادة والصرامة في الحكم، والعدالة بين الناس، والشجاعة في المعركة، وكلها ملكها علي بن أبي طالب، فعليٌّ هو العظيم في محرابه، وعليٌّ هو الفارس في ميدانه، وعليٌّ هو الحكم الفصل العادل في قضائه وأحكامه، كيف استطاع علي أن يجمع كل هذه الملكات، كيف استطاع علي كما ذكر المتنبي في مدحه للإمام علي :

وتَركتُ   مدحي  للوَصيّ  iiتعمُّداً

إذ  كانَ  نوراً  مستطيلاً  iiشامِلا

جُمِعَت   في   صِفاتِكَ  iiالأَضدادُ

هو   البكاء  في  المحراب  iiليلاً

هو  الضحاك  إن  جد  iiالضراب







 
وإذا  استقَلَّ  الشيءُ  قام  بذاتهِ

وكذا ضياءُ الشمسِ يذهبُ باطِلا

فَلِهَذا     عَزَّت    لَكَ    iiالأَندادُ

هو   النبأ   العظيم  وفلك  iiنوح

وباب    الله   وانقطع   الخطاب

علي جمع هذه الصفات من منبع واحد ألا وهو قوة الإرادة، الإنسان إذا امتلك قوة الإرادة امتلك العبادة، امتلك الشجاعة، امتلك العدالة، امتلك الحلم، امتلك الكرم، كل هذه الصفات تعود إلى صفة واحدة ألا وهي قوة الإرادة التي كانت تتجلى في شخصية الإمام علي ، ومن أعظم مظاهر هذه الشخصية التي اقترن بها علي منذ صغره ومنذ صباه ألا وهي الشجاعة والفروسية، يوم الخندق عندما حفر المسلمون الخندق بمشورة من سلمان المحمدي «رضي الله عنه»، فأقبل المشركون ورأوا الخندق محفوراً فتقدم عمرو بن عبد ود العامري واستطاع أن يتجاوز الخندق بفرسه، فلما تجاوز الخندق وقف متبختراً أمام المسلمين لأن حيلتهم لم تنفع في صده وقال: يا أتباع محمد ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز ووقفت إذ جبن الشجاع مواقف البطل المناجز، إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز، فلم يجبه أحد، قال: من المبارز؟ قام علي وقال: أنا له يا رسول الله. قال: اجلس. لكي يختبر إرادة الباقين، رجع وقال: من يبارز؟ فلم يقم أحد، فقام إليه علي وقال: أنا له يا رسول الله. وسكت الآخرون فقال: اجلس. فنادى ثالثة فقال علي: أنا له يا رسول الله. فأخذه الرسول وبارك له ومسح على رأسه وكتفيه وسلمه سيفه ذا الفقار وبرز عليٌّ إلى عمرو بن عبد ود وقال: لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز، إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز، وكان علي راجلاً وكان عمرو بن عبد ود فارساً فالتقيا واصدما فضربه علي على فخذه فقطعها فأنزله من على فرسه ثم أجهز عليه في لحظات معدودة وكبَّر المسلمون وفرحوا، وكبَّر رسول الله وإذا بتلك المناداة وكلٌّ ينادي مع الرسول لأنه سمعوا صوت جبرئيل بين السماء والأرض: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وهذا النداء عم المدينة، وسمعه الكل.