في رحاب القرآن الكريم

1443-09-29

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول محورين:

  • في أنحاء التعامل مع آيات القرآن الكريم.
  • في آثار التدبر في كتاب الله عزوجل.
 المحور الأول: في أنحاء التعامل مع آيات القرآن الكريم.

التعامل مع مضامين القرآن الكريم بعدة أنواع وألوان، هناك استظهار وهناك تفسير وهناك تأويل، وهناك استبطان، فهذه عدة عناوين للتعامل مع آيات القرآن الكريم:

  • النوع الأول: الاستظهار؛ أي الأخذ بالظهور العربي للفظ الوارد في القرآن الكريم، القرآن الكريم كتاب عربي نزل باللغة العربية كما قال القرآن: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195] لذلك الأخذ بظواهر القرآن عملية يستطيع أن يقوم بها كل عربي وتسمى مرحلة الاستظهار، فعندما يقرأ الإنسان قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] يفهم العربي بظاهر الآية أن هناك فرقاً بين البيع والربا، وأن البيع أمضى الله بإباحته وحليته وحرم الربا تكليفاً ووضعاً.
     
  • النوع الثاني: التفسير؛ مرحلة أعلى من الاستظهار وأقوى منها، فالتفسير هو تحديد المعنى الحقيقي للآية المباركة أو ما يعبر عنه العلماء بكشف القناع؛ بمعنى تحديد ما وراء اللفظ، تحديد المعنى الحقيقي للآية المباركة هو التفسير، لذلك التفسير ليس أمراً متاحاً لكل عربي وليس متاحاً لكل أحد، لذلك ورد عن النبي محمد : ”من فسَّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار“ تفسير القرآن يعتمد على أحد وجهين إما تفسير القرآن بالقرآن، وإما تفسير القرآن بالرواية الصحيحة المعتبرة، مثلاً: عندما نأتي إلى قوله تعالى: ﴿حم «1» وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ «2» إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «3» [الدخان: 1 - 3] هنا لو أخذنا بهذه الآية لن نستطيع أن نحدد ما هي تلك الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم ولكن لو نظرنا إلى آية أخرى وهو قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185] عرفنا من الآية الثانية أن تلك الليلة هي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ «2» [القدر: 1 - 2] إذن بالجمع بين الآيتين نصل إلى أن الليلة المباركة هي ليلة من ليالي شهر رمضان، هذا تفسير للقرآن بالقرآن.

    أما عندما نأتي إلى تفسير القرآن بالرواية المعتبرة نقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] من هم أهل البيت؟ من خلال القرآن نفسه قد لا نستطيع أن نصل إلى تفسير هذا المفهوم ولكن بالرجوع إلى الروايات الصحيحة نصل إلى أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
     
  • النوع الثالث: تأويل، تقول الآية المباركة: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] التأويل يختلف عن الاستظهار والتفسير، التأويل من الأول؛ إعادة الشيء وإرجاعه إلى أصله تأويل له، لأنه يؤخذ من الأول، آل الشيء إلى كذا؛ أي انتهى إلى كذا، القرآن الكريم فيه آيات محكمات، وهذه الآيات المحكمات بمثابة القواعد الكلية للقرآن الكريم، وفيه آيات مفصلات بمعنى أنها تتحدث عن التفاصيل لا عن الأمور العامة، والتشابه يحصل من الآيات التي تتعرض للتفاصيل، ولا يرتفع التشابه في هذه الآيات إلا إذا أُرجعت إلى الآيات المحكمات؛ أي الآيات التي تتحدث عن القواعد العامة، فإرجاع آيات التفاصيل إلى الآيات المحكمات هي عملية تأويل لذلك عندما نمثل لهذا المعنى مثلاً قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] هذه الآية تتعرض إلى تفصيل معين من تفاصيل يوم القيامة، هل أن لله مجيء؟ هل أن الملائكة بمثابة الجنود الذي يصطفون بين يدي الله تبارك وتعالى؟ هل هذا التجسيم يقره القرآن الكريم؟ هنا حصل تشابه لأن الآية تتعرض لتفصيل من التفاصيل، وحتى نرفع هذا التشابه نرجع هذه الآية إلى آية محكمة وهي تعد من الآيات الكلية بمثابة القاعدة في القرآن الكريم، نرجعه إلى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] إذن ليس هناك تجسيم فلا محال معنى المجيء هنا مجيء أمر الله، مجيء أمرٍ صادرٍ من الله وليس مجيء للذات الإلهية، رفع التشابه تم بإرجاع هذه الآية إلى آية محكمة، وهذا ما يعبر عنه بعملية التأويل.
     
  • النوع الرابع: استبطان، ورد عن النبي : ”إن للقرآن ظهراً وبطناً“ تارة نتناول القرآن بظاهرة وهذه عملية استظهار وتارة نريد أن نستنتج باطن المعنى القرآني، وهذه تسمى عملية استبطان، معرفة بطون القرآن عملية معقدة هي عبارة عن الأخذ بلوازم الآيات القرآنية، ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي في تفسير هاتين الآيتين: الآية الأولى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف: 15]، والآية الثانية: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة: 233]، الآية الأولى لا تتحدث عن مدة الحمل فقط وإنما تتحدث عن المجموع، والآية الثانية أيضاً لا تتحدث عن مدة الحمل بل تتحدث عن مدة الإرضاع، لكن إذا جمعنا بين الآيتين كما صنع الإمام علي نستنتج بطناً من بطون القرآن، لم تتحدث الآيتان عنه ولكننا نستنتجه من خلال الأخذ بلوازم الآيتين وهو أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر بمقتضى الجمع بين الآيتين المباركتين، وهذا ما نعبر عنه بعملية الاستبطان.
     
  • النوع الخامس: التدبر، قال تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] إذا نظرنا إلى الآية المباركة الأولى من دلائل إعجاز القرآن الكريم أنه نفس واحد لا تفاوت فيه؛ بمعنى أن من قرأ القرآن وجد أوله كوسطه، ووسطه كآخره، نفس واحد وأسلوب واحد، وماء واحد، الرسول الأعظم صدع بالقرآن خلال ثلاث وعشرين سنة ومع ذلك طبع الأديب، طبع الشاعر أنه يتفاوت مستواه، إذا شاعر يتحدث من خلال شعره أو أديب يتكلم من خلال أدبه، أو خطيب أو عالم أو أي شخص، إذا تكلم ثلاث وعشرين سنة فمن الطبيعي يتفاوت مستواه إما إلى صعود وإما إلى نزول، طبع البشر هكذا أنه لا يتحدث بمستوى واحد ونفس واحد، أما إذا راجعت القرآن الكريم لوجدت القرآن خلال ثلاث وعشرين سنة بأسلوب بلاغي محكم واحد، وهذا من دلائل إعجاز القرآن وأنه من عند الله لا من عند بشر ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً [النساء: 82]
 المحور الثاني: في آثار التدبر في كتاب الله عزوجل.

التدبر بمعنى التأمل واستلهام العظة والعبرة والبصيرة ومعرفة الطريق، كيف يأخذ المسلم القرآن هادياً له، ومنيراً لطريقه، من هنا إذا تأمل في آيات القرآن خصوصاً آيات الآخرة، والآيات التي تتحدث عن النفس وتهذيب النفس واستلهم منها العظة والعبرة والهداية فهذا هو التدبر في القرآن، التدبر في القرآن أعظم من تلاوة القرآن وقراءته، التدبر في القرآن هو ميزة الأولياء والمتقين، ميزة المرتبطين بالله تبارك وتعالى.

عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] نستوحي منها ونحن نتدبر ونتأمل في مداليلها، أن الإنسان خُلق مرتين وفي إحدى المرتين كان فرداً وفي المرة الأخرى كان جمعاً، إذن الإنسان مر بعالمين العالم الأول الذي خُلق فيه خلق فيه فرداً لا أب لا أم لا عشيرة ولا مجتمع، خلق روحاً تسبح الله وتهلله، ثم جاء إلى عالم آخر عن طريق أب وأم عن طريق نطفة منوية علقت في جدار الرحم ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» [المؤمنون: 12 - 13] فهذا خلق ثاني وليس خلق أول مرة، أول مرة كنت روحاً بلا عشيرة بلا أب ولا أم، كنت في عالم آخر تسبح الله وتهلله وهذا ما يعبر عنه في الروايات الشريفة عالم الذر، ثم نزلت إلى هذا العالم عالم المادة ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] حتى الإنسان هو شيء وكان في خزائن الله، نزلت إلى هذا العالم محفوفاً بالأقدار، محفوفاً بالحدود وهذه تعتبر خلقة ثانية.

وبعد ذلك عندما يأتينا الموت فنعود إلى نفس العالم الذي جئنا منه، وإذا جئنا إلى ذلك العالم الذي كنا فيه قبل عالم المادة نتذكر نعم كنا هنا قبل فترة، كنا فرادى وعدنا إلى هذا العالم فرادى، جئتم إلى هذا العالم مرة أخرى وإذا هو عالم غريب، هذا العالم عالم الملائكة والأشباح والأرواح، وعالم الجان عالم مليء بأصناف وألوان من الخلائق ما يرى وما لا يرَ عالم الغيب والشهادة، عالم الغيب الذي سننتقل إليه، سنرى ما كان يرى وما كان لا يرَ، عالم آخر، عندما ننتقل إليه نتذكر أننا مررنا على هذه الدنيا مروراً سريعاً مهما عشنا خمسين أو سبعين أو تسعين فما هي لحظات سريعة قضيناها بين هذين العالمين، كنت في شاطئ ثم دخلت البحر بحر الدنيا، بحر مصاعبها، بحر نوائبها، بحر آثامها وأدرانها، خضنا هذا البحر ونحن سننتقل إلى الشاطئ إذا وصلنا إلى الشاطئ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] سنصل إلى اللقاء وعندما نصل إليه ننظر إلى البحر الذي خضناه هل كان بحراً صافياً نقياً من الذنوب والمعاصي، نقياً من الآثام أم كان هذا البحر بحراً محفوفاً بالرمال والأشواك والأدران، كيف خضنا ذلك البحر وهل وصلنا إلى الشاطئ بثوب نظيف أم بثوب ملوث بالذنوب والمعاصي هنا يأتينا النداء ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] فلنستعد إلى ذلك اليوم الذي ركز الأوصياء والأنبياء والأولياء على خطورة ذلك اليوم، وعلى رهبة ذلك اليوم وماذا يحصل للإنسان في ذلك اليوم، كما ورد في خطبة الإمام الحسين : ”الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متقلبة بأهلها حالاً بعد حال فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا الدنية فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها“ الحسين من خلال وعظهم بالدنيا يجرهم إلى هذه النتيجة ”وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم“.