النور المحمدي

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في نقطتين:

النقطة الأولى: في إثبات نصوصهم صلوات الله وسلامه عليهم.

النقطة الثانية: في وحدتهم النورية.

النقطة الأولى: ما هي الطريقة لإثبات النصوص؟، إذا جاءنا نص وأردنا أن نثبت صدوره أو أردنا أن نثبت صحته، فما هو المنهج الذي نستخدمه لإثبات صحة النص ولإثبات صدوره؟! هل المنهج في إثبات النصوص هو منهج قراءة الرواة، بمعني أن رواة النص نعرضهم على الميزان لنعرف أنهم ضعاف أو ثقات مقبولون أو غير مقبولين معروفون أو مجهولون، هل هذا هو المنهج؟ هل المنهج في إثبات النصوص قراءة تاريخ النص لمعرفة ثقاتهم من ضعفهم وجهالتهم من معرفتهم؟ أم المنهج غير ذلك.

نحن عندما نرجع إلى المجتمعات العقلائية، المجتمعات العقلائية كيف تثبت نصوصها؟ كيف توثق معلوماتها؟ المجتمع العقلائي إذا أراد أن يوثق معلومة من المعلومات أو يوثق نصا من النصوص، ماهو المنهج الذي يستخدمه لتوثيق النص ولإثبات النص؟ المنهج العقلائي الذي جرى عليه أو جرت عليه المجتمعات العقلائية لإثبات النصوص وتوثيق المعلومات هو منهج دليل حساب الاحتمالات، والمقصود بدليل حساب الاحتمالات جمع القرائن وجمع الطرق الذي إذا تراكمت وتعاضدت أوصلت الإنسان إلى اليقين بتلك المعلومة إلى الوثوق بتلك المعلومة، مثلاً: إذا جاءنا نصُ منسوبُ إلى شكسبير، كيف يثبته العلماء؟ كيف يثبتون هذا النص فعلا صادرٌ عن شكسبير أم لا؟

مثلاً: إذا وصلتنا معلومة منسوبة إلى إنجيل برنابا، كيف يثبت العلماء أن هذه المعلومة منسوبة إلى هذا إنجيل دون غيره؟

هل يراجعون الرواة؟ هل رأيت أنت أحداً من علماء التاريخ أو علماء الاجتماع أو من أي فنٍ آخر يراجع ا، رواة ليعرف هل هذا الراوي ثقة أن غير ثقة؟ مجهول أو غير مجهول؟ معروف أو معروف؟ أم أنهم لا يسلكون هذا الطريق؟ هذا الطريق يرونه طريقاً عقيماً، طريقاً قصير المدى، طريقا غير متوفر في أغلب الحقول وفي أغلب المعلومات وفي اغلب المجالات، لذلك المجتمع العقلائي لا يُعوِل على طريق قراءة تاريخ الرواة وأنهم ثقات أو غير ثقات، لا يُعوِل على هذا الطريق أبدا، المجتمع العقلائي يثبت النصوص ويوثق المعلومات عن طريق دليل حساب الاحتمالات، يعني عن طريق جمع القرآن، جمع الطرق التي إذا تعاضدت وتراكمت وانضم بعضها إلى بعض وصل الإنسان من خلالها إلى اليقين والى الوثوق بهذه المعلومة، أو الوثوق بصدور هذه المعلومة وصدور هذا المضمون.

ما هي القرائن التي يعتمد عليها دليل حساب الاحتمالات؟ أو ما هي الطرق التي يبتني عليها منهج حساب الاحتمالات؟ بحيث إذا جمعنا الطرق أوصلتنا إلى اليقين بالنص من دون حاجة إلى قراءة الرواة ومعرفة تاريخهم وأنهم ثقات أم غير ثقات، لا نحتاج إلى هذا الطريق العقيم أبدا.

الطرق التي من خلالها إذا انضم بعضها إلى بعض، وصلنا إلى اليقين بالمعلومة. اذكر منها أربعة طرق:

الطريق الأولى: تعدد القنوات وتعدد الطرق في النقل.

نأتي مثلا إذا جاءنا قوله : ”أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“ هذا الحديث له قنوات متعددة، هذا الحديث يثبُت من خلال كثرة قنواته وكثرة طرقه، رواه الحاكم، رواه أبو داود في سننه، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، رواه ابن حجر في صواعقه، وإذا تأني إلى صعيد الصحابة، رواه جابر، رواه ابن مسعود، رواه أبو هريرة، رواه غيرهم، إذا لاحظنا تعدد القنوات، تعدد الطرق، حديث واحد رواه عدة رواة، حديث واحد تعددت طرقه تعددت قنواته، تعددت وسائل نقله، نفس هذا التعدد ”تعدد الطرق، تعدد الرواة، تعدد وسائل النقل“ نفس هذا التعدد قرينة على الوثوق بصدوره، نفس هذا التعدد يكشف عن صحة صدوره، حتى وإن كان بعض الرواة ضعيفاً، لكن العامل الكمي - وهو عامل كثرة الطرق، كثرة الرواة، كثرة القنوات - العامل الكمي يوجب عند الإنسان تراكم الاحتمالات وتصاعدها إلى أن تصل إلى درجة الوثوق، ودرجة اليقين بصدور هذا النص، إذاً تعدد الطرق إحدى القرائن التي علينا أن نسلكها في سبيل الوصول إلى اليقين بالمعلومة أو اليقين بالنص.

الطريق الثاني أو القرينة الثانية: وحدة النفس. ما معني وحدة النفس؟ كل متكلم له نفس معين، نفس أدبي معين ينعكس عليه، كل متحدث كل أديب كل مفكر كل مثقف له نفس أدبي معين، ينعكس على أفكاره، ينعكس على كلماته، ينعكس على نثره، ينعكس على إنشائه، ينعكس على مضامينه، كل مفكر له نفس أدبي معين. إذا أردت أن تعرف النص، فأفأ النفس الأدبي لهذا النص، ستجد أنه صحيح أم غير صحيح؟

مثلا: عندما نقارن بين ثلاث مقطوعات، عندما نقرأ خطبة الإمام أمير المؤمنين في الخطبة الشقشقية ”لقد تقمصها ابن فلان وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فطويت عنها كشحى وسدلت دونها ثوبا وطفقت أرتئي بين أن أَصول بيدٍ جذاء أو أصبر على طخيةٍ عمياء يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا“.

أقرأ هذه المقطوعة بتأمل ثم أقرأ مقطوعة أخرى منسوبة إلى السيدة زينب ”سلام الله عليها“ " أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وأفاق السماء أن بك على الله كرامة وبنا عليه هوانا، فشمخت بأنفك ونظرة في عطفك جذلان مسرورا، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة فمهلاً مهلا لا تطش جهلا، أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌهذه المقطوعة الثانية.

اقرأ المقطوعة الثالثة للسيدة الزهراء «سلام الله عليها» ”أنّا زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة ومهبط الروح الأمين والطبٍ بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وماذا نقموا من أبي الحسن، نقموا منه والله نكير سيفه، وقلةِ مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمروه في ذات الله واجتهاده في أمر الله، أما والله لو سلموها أبا الحسن، لسار بهم سيرا شُجحا لايكلمُ خشاشه ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً لا تطفح ضفتاه ولا يترنقُ جانباه ولأصدرهم بطأنا ونصح لهم سراً وإعلاناُ“.

عندما تقرأ المقطوعات الثلاث ماذا تكتشف؟ تكتشف أن النَفس واحد، نَفسٌ أدبيٌ واحد ينعكس على المقطوعات الثلاثة، تكتشف أن هناك نَفس أدبي واحد يجمع هذه المقطوعات الثلاثة: المقطوعة لأمير المؤمنين المقطوعة للسيدة زينب ”سلام الله عليها“ المقطوعة للسيدة الزهراء ”“. نَفس أدبي واحد ينعكس على هذه المقطوعات وعلى هذه الخطابات كلها.

الأدباء، النقاد في مجال الأدب يميزون أن النَفس واحد، نفسٌ تفصيلي ينعكس على هذه الجهات الثلاث، نَفس يعتمد على جزالة اللفظ في المقطوعات الثلاث، نَفس يعتمد على الإيقاع الموسيقي الواحد لكل فقره، كل فقرة متوازنة مع الفقرة الأخرى في الإيقاع الموسيقي الواحد، نَفس يعتمد على مزج الحزن والتفجُع بالبرهان وبالدليل، نَفسٌ يمزج على روح التفجُع وروح البرهنة والاستدلال. النقّاد الأدبيون عندما يقرؤون هذه النصوص ويجدون نفساً أدبياً واحد يجمع هذه النصوص كلها، ماذا يقولون؟ هذه النصوص تُفرِغ عن لسانٍ، واحد هده النصوص تُفرٍغ عن روحٍ واحده، هذه النصوص تُفرِغ عن أسرةٍ واحده وعن خطٍ واحد وعن تربيةٍ واحده.

أذن النفس الأدبي قرينة من قرائن النص، النَفس الأدبي قرينة وطريقة من طرق اليقين ومن طرق تحصيل اليقين بصدور النص.

وأنت تشغل نفسك هذا ثقة أو غير ثقة؟ هذا ضعيف أو غير ضعيف؟ انتقل واقفز عن هذا الفكر العقيم والخط الجامد إلى فكر أرحب والى فكر أعمق والى فكر أوسع. طريق إثبات النص وطريق إثبات المعلومة قراءة النَفس الأدبي لهذا النص، تحليل النَفس الأدبي لهذا النص، مقارنته بالنَفس الأدبي للنصوص الأدبية الأخرى.

ونحن كما ذكرنا، إذا قرأت هذه المقطوعات الفاطمية العلوية تجد أنها متناسبة، منسجمة، لسان واحد ونفس واحد وروحٌ أدبيةٌ واحده، مما يثبت صدورها عن أسرةٍ واحده وعن جماعةٍ واحده وهم الصفوةُ من أهل البيت ”صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين“.

مثلاٌ: نحن عندما ترد علينا مقطوعةٌ منسوبةٌ لأمير الشعراء أحمد شوقي في منظومته قيس وليلى عندما يتحدث عن قيس ويقول:

وذا بن قريح رضيعُ الحسين

أحب      الحسين     iiولكنما

حبستُ   لساني   عن  مدحه



 
فبيتُ  الرضيعيني والمرضعا

لساني   عليه   وقلبي   معه

أخاف    أميةَ    أن   iiتقطعه

عندما تقرأ هذه النصوص، عندما تقرأ هذه المقطوعة المنسوبة إلى شوقي، كيف تعرف أنها لشوقي أم لا؟ من خلال الرواة؟! من رواها؟؟ لا، من خلال النَفس الأدبي المتضمن المختزن فيها، إذا كان النَفس الأدبي في هذه المقطوعة هو نفس شوقي، هو روح شوقي، هو أدب شوقي، إذاً هذه المقطوعة لشوقي. هكذا علماء الأدب يوثقون النص ويثبتون المعلومة.

إذن إذا قرأنا ”أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“ من أجل أن نثبت أنها صادره عن النبي أو غير صادره، نقرأ النَفس الأدبي المختزن في هذه المقالة، نقرأ عندما نشك هل أن هذه الخطبة صادرةٌ عن السيدة الزهراء ”سلام الله عليها“: أفعلا عمدٍ تركتم كتاب الله وخلفتموه وراء ظهوركم، إذ قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِ الأنثيين، وقال فيما اختص يحيى بن زكريا، ربي هبني من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضيا، وقال وورث سليمان داود، إنه للزهراء أم لغير الزهراء؟ نقرأ النَفس الأدبي له ونقارنه مع خُطبٍ هذا البيت ومقطوعات هذا البيت، علياً وفاطمة وحسن وحسين وزينب العقيلة ”صلوات الله عليهم أجمعين“ نستطيع من خلال ذلك أن نثبت صدور النص عن السيدةِ الزهراء ”صلوات الله وسلامه عليها“.

الطريق الثالث أو القرينة الثالثة: درجة النفس، ما معني درجة النفس؟ كل أديب، وكل مفكر يصل إلى مستوى فكري معين، يصل إلى مستوى فكري معين من النضج ومن العمق ومن الدقة ومن التأصل، يقف عند ذلك المستوى، هذا معروفٌ وملحوظ.

مثلاً: نحن عندما نقارن بين نَتَاج طه حسين ونَتَاج العقاد، طه حسين متنوع أكثر من العقاد ولكن العقاد أكثر عمقاً في الفكرة وأكثر دقًة في صياغة الفكرة من طه حسين، عندما نقارن بين الفكرين، نستطيع أن نحدد مستوى العمق ومستوى الدقة في كل فكر بالنسبة للفكر الآخر.

مثلا: عندما نقارن بين نتاج الشهيد السيد محمد باقر الصدر ”قدس سره“ وبين نتاج الشهيد العلامة المطهري ”قدس سره“، هذا له نتاج وهذا له نتاج، عندما نقارن بين النتاجين من حيث مستوى العمق، من حيث مستوى الدقة، من حيث مستوى الشمولية في كل من هذين الفكرين، ماذا نستنتج؟ نجد أن فكر الشهيد المطهري أكثر تنوعاً، الشهيد المطهري دخل مجالات أوسع ودخل في مجالات أوسع مما دخل فيها الشهيد الصدر ”قدس سره“ ولكن فكر الشهيد الصدر أدق، أكثر عمقاً، أكثر دقةً، أكثر نضجاً من الفكر الذي ومن النتاج الذي وصل الين عن الشهيد المطهري ”قدس سره“ إذاً عندما نقرأ نَتَاج المفكرين وعندما نقرأ أطروحات العلماء، نجد أنها تتفاوت من حيث المستوى ”مستوى النفس“ نجد أنها تتفاوت من حيث العمق والدقة، نجد أنها تتفاوت من حيث النضج والتجدر.

لأجل ذلك من هنا نعرف كيف نثبت صحة المعلومة وكيف نوثق المعلومة؟

الآن أضرب لك أمثلة: كيف نثبت أن القرآن الكريم صادر من قبل الله عز وجل؟ لعل القرآن الكريم صاغه مجموعة كما يقول بعض المستشرقين، مجموعة من اليهود والنصارى تعاونوا مع النبي وصاغوا ورتبوا هذا القرآن الكريم، وقال طلعك كتاب سماوي، كيف نثبت أن القرآن الكريم صادر عن الله عز وجل على لسان المصطفى محمدٍ ؟ نثبت من خلال وحدة المستوى، كيف يعني وحدة المستوى؟ كلام يصدر خلال ثلاثة وعشرين سنة، ما اختلف مستواه، كلامه ومستواه في أول نزوله كمستواه في آخر نزوله، كلام يصدر خلال ثلاث وعشرين سنة بمستوى واحد، بعمق واحد، بدقة واحده، بأصالة واحده، وحدة الدرجة، درجة النفس واحدة من قبل ثلاث وعشرين سنة إلى آخر ثلاث وعشرين سنة، وحدة العمق وحدة الدقة وحدة النفس تدل على صدوره عن مشرعٍ واحد، ومقننٍ واحد، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، ليس المقصود بالاختلاف يعني التعارض والتناقض، المقصود بالاختلاف تفاوت المستوى، لو كان هذا الكلام من غير الله لوجدوا أن المستوى متفاوت، لأن طبيعة الإنسان يتطور، أليس كذلك؟! أنت لو عاشرت صديقا منذ أن كان في المرحلة المتوسطة إلى أن أصبح بروفسور، كلامه يوم كان في المتوسطة مثل كلامه لما صار بروفسور؟! طبيعي لا، كلامه لما كان في المتوسطة له مستوى معين، فكره يوم صار في الجامعة نضج أكثر، فكره يوم صار بروفسور تحدده جذوره، تحدده ملامحه، طبيعة الإنسان يتطور فكره، طبيعة الإنسان ينضج فكره، طبيعة الإنسان يتكامل مستواه، فكلامه الأخير أنضج من كلامه الأول، هذا أمر طبيعي في الإنسان.

ولكن إذا قرأت القرآن الكريم وجدت مستوىً واحد لا يتفاوت ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ً نفسُ هذه النظرية نطبقها على الإمام الصادق ”صلوات الله وسلامه عليه“ الإمام الصادق منذ متى تحدث مع الناس ومع الأمة؟ منذ أن كان عمره عشر سنوات، في حيات أبيه الإمام الباقر منذ أن صار عمره عشر سنوات بدأ يتحدث مع الناس وبدأ الرواة ينقلوا أحاديثه ويسجلونها ويثبتونها، كم عاش الإمام الصادق؟

عاش ثمانية وستين سنة، يعني ثمانية وخمسين سنة يتكلم، ثمانية وخمسين سنة يتحدث مع الناس، تصور إنسان يتحدث ثمانية وخمسين سنة مع البشر، ماذا سيكون كلامه؟ لو كان إنساناً عادياً، من الطبيعي أن كلامه يتفاوت قوةً وضعفاً، كلام في عشر سنوات غير كلام في عشرين سنة وغير كلام خمسين سنة وغير كلام خمسة وستين سنة، لو كان كلام الإمام الصادق ”سلام الله عليه“ صادر من البشر العادي، لوجدت هذا الكلام متفاوتاً ضعفاً وقوتاً هزالاً وعمقاًن، ولكن إذا قرأ هذا الزخم وهذا التراث إنسانٌ منصف ”خلي الإنسان المغرض خلي الإنسان الذي يعيش في قلبه مرضاً“ خلي إنسان محايد، نجيب إلينا أديب فرنسي أو أديب إنجليزي خارج عن الإسلام نقوله هذا التراث موجود تراث الإمام الصادق في الكافي في من لا يحضره الفقيه، اقرأ ستة عشر ألف حديث من يوم كان عمره عشر سنوات إلى أن صار عمره ثمانية وستين سنة، اقرأ هذا التراث أنت بقراءة محايدة، بقراءة موضوعية، بقراءة خالية من الأغراض والأمراض.

اقرأ أنت بنفسك هذا الزخم خلال ثمانية وخمسين سنة وانقل إلينا رؤيتك وانقل إلينا تقويمك، إذا قرأ هذا الزخم سيجد أنه نَفسٌ واحد، ما في تفاوت أبدا، مستوى واحد على مدى ثمانية وخمسين سنة، مستوى واحد للفكر، درجة واحدة من العمق، درجة واحده من الأصالة، درجة واحده من الدقة.

هذا الذي يتكلم ثمانية وخمسون سنة بنَفس واحد، بمستوى واحد من العمق والدقة والأصالة، هذا دليلٌ على أن فكره ليس من عنده، بل فكره فكرٌ سماوي، فكره فكر السماء، وكلامه كلام السماء، ومنظوره منظور السماء، وليس كلاماً من صنع بشر أو من أغراض بشر أو من تفنن بشر، كلامٌ واحد عن نَفسٍ واحد بمستوً واحد دليل على إمامته ”صلوات الله وسلامه عليه“، كلامكم نور وأمركم رُشد ووصيتكم التقوى، طبعا المقصود من وحدة النفس القراءة الشمولية، ما معنى القراءة الشمولية؟!

يعني مثلاً: أذا أحنا نجي نقرأ القرآن الكريم، هناك نوعان من القراءة: قراءة التجزيئيه وهناك قراءة الشمولية، القراءة التجزيئية تأخذ آية، لو جاءنا مستشرق وآخذ آية من القرآن «حمعسق» يقولك شنوا هذا القرآن حمعسق؟ إذا يقرأ القرآن من الناحية التجزيئية، من الطبيعي يطعن في القرآن ويقدح في القرآن لأنه آخذ جزء من القرآن

أو مثلاً يجي يقرأ قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى يقولك شنو هذا القرآن إلي يتكلم عن الحيض والنفاس، يقولك شنو هذا القرآن إلي جاء ينظم حياة البشرية، مثلاً لو أخذ نص واحد يمكن أن يقدح، يمكن أن يطعن في القرآن، أما إذا قرأ القرآن قراءةً شمولية استيعابية، رأى أن بعضه ينضم إلى بعض ويفسر بعضاً، فإذا قراءه قراءة شمولية، عرف أنه نفس واحد.، نفس القضية بالنسبة إلى الإمام الصادق، أنت تأخذ حديث من أحاديث الإمام يطعن في زراره وحديث يطعن في محمد بن عمير، إذاً هذا دليل على خلل في الفكر وهذا دليل على قدح في الفكر، هذه ليست قراءة منصفة، أليس كذلك؟! هذه ليست قراءة موضوعية، القراءة الموضوعية هي أن تقرأ الفكر بأكمله أن تقرأ التراث بأكمله قراءةً شموليةً مستوعبةً لتعرف كيف يفسر بعضه بعضاً وكيف ينضم بعضه للبعض الآخر، وكيف يعبر عن مستوٍ واحد ونفسٍ واحد ونورٍ واحد.

الطريق الرابع أو القرينة الرابعة: التي توصل إلى اليقين والوثوق بالفكر هي وحدة المرجعية، ما معنى وحدة المرجعية؟ يعني مثلاً الآن نجي إلى القرآن الكريم، القرآن الكريم هو نفسه يقول عن نفسه: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍما معني أحكمت ثم فصلت؟ يعني القرآن فيه قواعد عامة وفيه تفاصيل، القواعد العامة تسمى محكمات، والتفاصيل تسمى متشابهات، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ”أم يعني القواعد العامة“ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ”تتحدث عن التفاصيل“ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ”يأخذون بالتفاصيل ويتركون القواعد العامة“ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ”تأويله يعني إرجاع المتشابهات إلى المحكمات، إرجاع التفاصيل إلى القواعد العامة“ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ.

إذن القرآن له قواعد عامة وله تفاصيل، نفس الأمر بالنسبة إلى فكر أهل البيت ”سلام الله عليهم“ الإمام الصادق، فكر الإمام الصادق، ستة عشر ألف حديث عن الإمام الصادق ”“ نفس القضية، فكر الإمام الصادق له قواعد عامة وله تفاصيل، لا يمكنك معرفة التفاصيل حتى ترجعها إلى القواعد العامة، لا يمكنك معرفة الخصوصيات حتى تقارنها بالقواعد العامة.

إذن هناك مرجعية يعني قواعد عامة وهناك تفاصيل تعود إلى لهذه المرجعية، أذا أردنا أن نعرف نصاً من النصوص أن هذا النص صادر أو غير صادر؟ نطبق عليه القواعد العامة للفكر، المرجعية للفكر أُمِ الفكر، فإذا انطبقت عليه فهو صار وإلا فهو ليس بصادر، ولهذا ورد عن الإمام الصادق ”سلام الله عليه“ لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا ”هذه مرجعية وسنة نبينا“ إذا ورد عليك كلام فقسه على كلامنا ”يعني إحنا لنا كلام فقيس هذا الكلام عليه،. إذا فبالنتيجة هناك مرجعية لفكرهم“ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين".

وصلنا في هذه النقطة كلها إلى أن المنهج العقلائي في توثيق المعلومات وفي إثبات النصوص هو منهج دليل حساب الاحتمالات وليس منهج قراءة السند، ودليل حساب الاحتمالات يعني جمع القرائن، فإذا اجتمعت وتراكمت أوصلت إلى اليقين، ما هي القرآن؟ تعدد الطرق، وحدة النفس، وحدة المستوى، وحدة المرجعية؟، هذه القرائن إذا طُبقت ودرست وضُم بعضها إلى بعض توصل الإنسان إلى اليقين والى الوثوق بصدور الفكر.

النقطة الثانية باختصار حتى أتعرض للسيدة الزهراء ”سلام الله عليها“ بمناسبة يوم وفاتها.

ذكرنا في النقطة الأولى أن من جملة القرائن على توثيق المعلومة وحدة المرجعية، أن النص يعود إلى مرجعيةٍ واحدة كالبقية النصوص، المرجعية في فكر أهل البيت كتاب الله وسنة نبيه، فهم العِدل الثاني لكتاب الله «إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هذا مو شيء حتى نتعمق أكثر، حتى نتأمل أكثر في الأفكار، هذا ليس شيء منفصل لوحده، يعني عندما نقول بأن فكرهم يعود إلى كتاب الله وأن ما صدر عنهم مرجعيته كتاب الله، هذا ليس أمراً نقراه لوحده، ما معنى ليس أمر نقراه لوحده؟

هذا جزء من منظومة أكبر، جزء من منظومة أعمق، ما هي هذه المنظومة؟ أن نورهم ”صلوات الله عليهم“ هو نور مُندكٌ في نور الله عز وجل، ليست المسألة مسألة كلام، كلامهم يرجع إلى كلام الله؟ لا، ليس كلامهم، جميع أفعالهم، جميع تصرفاتهم تصب في قناة واحده، تصب في نتيجة واحده، تصب في مرجعية واحدة وهي الإندكاكُ في الله عز وجل، التعلق بالله عز وجل، الارتباط بالله عز وجل، من أجل أن أوضح هذه النقطة لاحظوا أمرين:

الأمر الأول: أن كثير من النصوص دلت على أنهم نور، مثلا: ورد عن النبي محمد ”إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم“، أنت تقرأ في الزيارة الجامعة «خلقكم الله أنوراً، فجعلكم بعرشه محدقين»، أنت تقرأ في زيارة الحسين «أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة كلامكم نور».

الأمر الثاني: هذا النور مظهراً لنورٍ الله، حاكم في نور الله، مندكٌ في نور الله، عز وجل نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء، نوره هو نور أهل البيت، نور أهل البيت مظهرٌ لنوره، حاكم لنوره، يهدي الله لنوره من يشاء، وهو نور أهل البيت ”صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين“ إذاً نوريتهم نورية إندكاكية، نورية إلهية، نورية مرتبطة بنور الله عز وجل، حاكية عن نور الله عز وجل، هذا ليس في أحاديثهم فقط بل في جميع شؤونهم، هم مظهرٌ لله وهم نور الله وهم كلمة الله. وأشرقت الأرض بنوركم وفاز الفائزون بولايتكم إلى آخر ما ذُكر في الزيارة الجامعة، لكي نطبق هذه النظرية ”نظرية إندكاكية النور“ ومظهرية نورهم لنور الباري عز وجل، فلنقرأ شخصية السيدة الزهراء، الزهراء نورٌ من نور الله ومظهرٌ لنور الله، المرحوم الشيخ علي الجشي يقول:

هي النور من نورٍ وبالنورِ زُوِجت

فانورُ  عليٍ  قد  غشى  نورَ iiفاطمٍ

 
تبارك   ربهٌ   فيه   جمع   iiالخيرا

فأولدها    نجماُ    وأعقبها   iiبدرا

الصفحة الأولى: صفحة جهادها ونضالها، السيدة الزهراء بذلت دمها بذلت نفسها بذلت وهي شابة، الزهراء كانت في ريعان شبابها، الزهراء ما بلغت الخامسة والعشرين من عمرها، الزهراء في ريعان شبابها في عنفوان شبابها، بذلت شبابها الريّان وبذلت عمرها الزاهر، وبذلت دمها ونفسها في سبيلِ ماذا؟ في سبيل دنيا؟! أو في سبيل حطام؟! أو في سبيل أرض؟! في سبيل حق الأمة الإسلامية في القيادة الرشيدة وفي منصب الإمامة، الزهراء بذلت كل ما عندها وضحت بنفسها في سبيل المنصب ”منصب الإمامة حق الأمة“ في أن تحصل على القيادة العالمة الرشيدة، بذلت الزهراء ذلك، إذاً الزهراء في جهادها كانت نوراً لله، كانت نورتً يعبر عن إرادة الله، كانت نوراً يعبر عن إتمام نور الله، أراد الآخرون أن يطفئون نور الله وأرادت الزهراء إتمام نوره وإحياء حجته، فسعت بنورها لإتمام نور الله ولإظهار نور الله تبارك وتعالى﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا نور الزهراء أحيا نور الله وتمم نور الله عز وجل.

الصفحة الثانية: تعال إليها ”سلام الله وصلواته عليها“ في عطائها الاجتماعي، الزهراء ما كنت امرأة محراب فقط، وما كانت راهبة مسجدٍ فقط، وما كانت امرأة متبتلةٍ متهجدةٍ فقط، بل كانت الزهراء روحاً اجتماعية، روحاً معطاء، تبذل تعطي تنفق من كل ما عندها في سبيل المجتمع وفي سبيل إنعاش المجتمع. الإمام الحسن الزكي ”سلام الله عليه“ يقول: ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلى صلاتها تتورم قدماها من طول الوقف بين يدي ربها - شاهدنا في الفقرة الثالثة - وما رأيتها دعت لنفسها قط وإنما تدعوا للمؤمنين والمؤمنات فأقول لها أماه فاطمة لما لا تدعين لنفسكِ، فتقول بني حسن الجار ثم الدار ”تعلم طفلها على الروح الغيرة على الروح الاجتماعية، ترشدنا وترشد ولدها إلى أنهم“ ”نور الله لا يفكرون في أنفسهم فقط، لا ينفصلون في محرابهم عن المجتمع، نورهم نور الله حاكيٍ عن نورِ الله، ولذلك يتسابقون إلى الصدقة ويتسابقون إلى الإنفاق ويتسابقون إلى العطاء، قال تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًالأجل ماذا؟ إنما نطعمكم“ هذا هو نور الله، هذا هو الحكاية عن نورٍ الله ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًاإذاً هي في جهادها تممت نور الله، وفي عطائها لا تقصد إلا وجه اللهِ عز وجل، وهي في عبادتها أيضاً مظهرٌ لله عز وجل، السيدة الزهراء التي وصل إلينا عنها تسبيح فاطمة، تسبيح الزهراء، أفضل تعقيبٍ بعد الصلاة تسبيح الزهراء، في الرواية عن الإمام الصادق ”“ «فليسبح قبل أن يثني رجليه» ما معنى قبل أن يثني رجليه؟ يعني قبل أن تتحرك بأي حركة، قبل ما تقرأ أي دعاء، قبل ما تصلي أي صلاة تسبح تسبيح الزهراء ”سلام الله عليها“ قبل أن يثني رجليه أول تعقيب وأفضل تعقيب بعد الصلاة تسبيح الزهراء ”صلوات الله سلامه عليها“.

بقي هذا العمل المستحب في كلِ صلاةٍ ذكرى لعبادة الزهراء، ذكرى لتهجد الزهراء، ذكرى لعشق الزهراء لربها، ذكرى لارتباط الزهراء بربها، ذكرى تُرشِدنا أن الزهراء كانت نوراً لله، وكانت مظهراً لله عزوجل، هي الزهراء تقول: «بسم الله النور، بسم الله النور، بسم الله نورٍ على نور، بسم الله النور، بسم الله ربِ النور، بسم الله نورٌ على نور»، والنور على النور هو نور الزهراء، نور فاطمة الزهراء ”صلوات الله وسلامه عليها“. كانت مظهراً لله في عبادتها وتهجدها ونافلتها ”صلوات الله وسلامه عليها“. لذلك فهي نورٌ من نور الله، لذلك فهي مظهرٌ لنور الله تبارك وتعالى.

هي النورُ من نورٍ وبالنورِ زوجت   تبارك   ربه  فيهما  جمع  iiالخيرا

والإمام الحسن يتحدث هم نور عبادتها، يقول: كانت أمي فاطمة إذا قامت الى الصلاة تتورم قدماها من طول الوقف بين يدي ربها"، عشق الله أشغلها عن جسدها، عشق الله أشغلها عن تعبها، تتورم قدماها من طول الوقف بين يدي ربها. تتورم قدماها، يعني أقدامها كانت متورمة، يعني الزهراء لما وضعت على المغتسل، أثر العبادة كان بادي على أقدامها، لأن أقدامها متورمة وهذا آثر باقي على جسدها.