ظاهرة الإختلاف في القرآن

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [1] 

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: في نظر القرآن الكريم لظاهرة الاختلاف.

هناك آية في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [2]  وقد وقع الكلام بين المفسرين في تفسير هذه الجملة، ما معنى قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ؟

قال بعض المفسرين أنّ اللام هنا «لام العاقبة» وليست «لام الغاية» كما في قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [3] ، آل فرعون عندما التقطوا موسى لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا وإنما التقطوه ليكون لهم ولدًا بارًا، ولكنّ العاقبة صارت غير ما قصدوه وغير ما خططوا له، صارت عاقبة التقاطه أنّه صار لهم عدوًا وحزنًا مع أنّ غايتهم من التقاطه أن يكون ولدًا بارًا بهم، إذا خطط الإنسانُ لشيءٍ وأصبحت النتيجة على خلاف ما خطط فهذا يسمّى بالعاقبة وليس بالغاية، هنا أيضًا اللام لام العاقبة: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ خلقهم لأجل الاتفاق لكن عاقبة خلقهم والنتيجة أصبحت هي الاختلاف، اللام هنا لام العاقبة وليست لام الغاية، واسم الإشارة «ذلك» يرجع إلى الاختلاف.

التفسير الآخر: أنّ اللام لام الغاية وليست لام العاقبة واسم الإشارة في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ يرجع إلى الرحمة لا إلى الاختلاف، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ولأجل الرحمة خلقهم لا لأجل الاختلاف خلقهم، ﴿وَلِذَلِكَ - يعني: ولأجل الرحمة - خَلَقَهُمْ، ما معنى أنهم خلقوا للرحمة؟

الإنسان خُلِقَ لكي يكون وجهًا لله تبارك وتعالى، لاحظوا الحديث القدسي: ”كنت كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أعْرَف فخلقت الخلق لكي أعْرَف“ أنا خلقتُ هذا الخلق لكي يكون هذا الخلق معرّفًا لي، لكي يكون هذا الخلق وجهًا لي، لكي يحكي الخلق صفاتي، أردتُ أن يكون هذا الخلق ظلاً لي ووجهًا لي وحاكيًا لصفاتي، خلقتُ الخلق لكي أعْرَف، الهدف من خلق الإنسان أن يكون وجهًا لله، أن يكون ظلاً لله [*] عجل الله تعالى فرجه الشريف: ”أين وجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء؟“ [*] لحكمة الله، لعلم الله، حياته مظهرٌ لحياة الله عزّ وجلّ، فهو وجه الله، المطلوب من الإنسان أن يكون وجه الله تبارك وتعالى، وإنّما يكون الإنسان وجه الله إذا اتصف هذا الإنسان بالرحمة، أوسع صفةٍ لله هي صفة الرحمة، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [4]  الرحمة، ”يا من سبقت رحمتُه غضبَه“، الرحمة هي أوضح وأوسع الصفات والمظاهر الإلهيّة، كي يكون الإنسان وجهًا لله لابدّ أن يكون هذا الإنسان قطعة من الرحمة على أعدائه فضلاً عن أصدقائه، فضلاً عن أهله، فضلاً عن أسرته، أن يكون مصدرًا للرحمة، مصدرًا للعطف، مصدرًا للحنان، أن يتقاطر رحمة وعطفًا وحنانًا، إذا اتصف الإنسان بالرحمة صار مظهرًا لله وصار وجهًا لله تبارك وتعالى، إذن هذا ما عنته الآية المباركة: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ يعني ولأجل أن يكونوا رحماء ولأجل أن يكونوا مظاهر لله عزّ وجلّ، ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.

المطلب الثاني: ظاهرة الاختلاف بين البشر.

الاختلاف على قسمين:

1 - اختلافٌ إنسانيٌ.

2 - واختلافٌ عدوانيٌ.

الاختلاف الإنساني هو الاختلاف الذي يصبّ في إطار التكامل، الاختلاف الذي يصبّ في مسيرة الوجود وفي تكامل هذا الوجود، والاختلاف الذي يهدم استقرار نظام الوجود فهو اختلافٌ عدوانيٌ، ما هو الفرق بين الاختلاف الإنساني والاختلاف العدواني؟

هناك سؤالٌ يطرحه كثير من الأشخاص، وهو أنّه لماذا لم يخلق الله الأشياء بلا سبب؟! يعني مثلاً: لماذا خلقني الله عن أبٍ وأم؟! لماذا لم يخلقني مباشرة كما خلق آدم من دون أب وأم؟! لماذا يخلق الشجرة عن طريق البذرة؟! لماذا لم يخلقها مباشرة؟! لماذا مثلاً يخلق التفاعل من دون نارٍ؟! وهكذا.. لماذا لم يخلق المسببات بدون أسباب؟! أليس قادرًا على ذلك؟! نعم هو قادرٌ على ذلك وهو على كلّ شيء قدير، هو قادرٌ على أن يخلق الإنسان بدون سببٍ مادي وقادرٌ على أن يصنع الشجرة بدون سببٍ مادي، إذن لماذا ربط المسببات الماديّة بأسبابها الماديّة؟! لماذا؟! ما هي الحكمة وراء ذلك؟

نظام الوجود، نظام هذا الكون، هذا النظام حتى يستمر، الحياة حتى تستمر، هذا الكون كله حياة، كله وجود، هذه الحياة الكونيّة حتى تستمر بالعطاء والحيويّة والتجدّد، لكي تستمر حياة الكون لابدّ من حركةٍ في هذا الكون، الحياة فرع الحركة، لا يمكن أن تكون هناك حياة بدون حركةٍ، لكي يحيا هذا الكون، لكي يتجدّد لابدّ أن تكون فيه حركة، الحركة تصنع الحياة سواءً كانت حركة ذاتيّة أو كانت حركة ظاهريّة، الحركة الذاتيّة مثل حركة الجنين ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [5] ، هذه حركة الجنين من علقةٍ إلى مضغطةٍ إلى عظام تسمّى حركة ذاتيّة، وهناك حركة ظاهريّة، مثل: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [6] ، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [7] ، هذه حركة ظاهريّة، هناك حركة ذاتيّة في الأشياء، وهي حركة النمو، وهناك حركة ظاهريّة بين الأشياء، لا يمكن أن تنبعث الحياة في الكون إلا عبر الحركة سواءً كانت حركة ذاتيّة أو حركة ظاهريّة ولا يمكن أن تتحقق الحركة إلا بالتفاعل بأن يكون هناك طرفان متفاعلان، إذا كان هناك طرفان متفاعلان تولدت الحركة، وإذا تولدت الحركة تولدت الحياة، إذن لكي نحتاج إلى الحياة نحتاج إلى الحركة، ولكي نحتاج إلى الحركة نحتاج إلى التفاعل بين الطرفين، والتفاعل بين الطرفين لا يتمّ إلا بالاختلاف، هنا يكون الاختلاف ضروريًا، الاختلاف الذي يولد تفاعلاً والتفاعل الذي يولد حركة، والحركة التي تولد حياة، هنا يكون الاختلاف أمرًا ضروريًا من أجل تحقيق التفاعل ومن أجل تحقيق الحركة التي تبعث الحياة، كيف يكون الاختلاف ضروريًا؟

لابدّ أن يكون كلّ شيء في هذا الكون مؤثرًا ومتأثرًا، يعني يملك شيئًا فيعطيه غيره ويفقد شيئًا فيأخذه من غيره، هذا معنى الاختلاف، اختلاف الطاقات، اختلاف القدرات، اختلاف المستويات، هذا يمتلك طاقة فكريّة، هذا يمتلك طاقة بدنيّة، هذا يمتلك طاقة إداريّة، هذا يمتلك اختصاصًا في الطب، هذا يمتلك اختصاصًا في الهندسة، هذا يمتلك اختصاصًا في مجال آخر.. هذا الاختلاف ضروريٌ لانبعاث الحياة في هذا الكون، وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [8]  كي يكون الإنسان مؤثرًا متأثرًا لابدّ من الاختلاف، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [9]  ليستفيد بعضكم من البعض الآخر، إذن هذا الاختلاف أمرٌ ضروريٌ، وهذا ما نسمّيه بالاختلاف الإنساني الذي هو عاملٌ ضروريٌ لانبعاث الحياة.

أمّا الاختلاف الآخر فهو الاختلاف العدواني، الاختلاف العدواني ما هو منشؤه؟

القرآن الكريم يسلط الضوء على منشأ الاختلاف العدواني، القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [10] ، المنشأ هو البغي، ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [11]  بغيًا، سبب الاختلاف العدواني هو البغي، ما معنى البغي؟

الإنسان بطبيعته يمتلك غريزة حبّ الذات، وغريزة حبّ الذات تقوده إلى غريزة الاستيلاء والسيطرة، يريد أن يسيطر على ما حوله، يريد أن يسيطر على كلّ شيءٍ حوله، لماذا؟! لأنّه إذا سيطر على ما حوله امتدّت ذاته وامتدّ وجوده، فمن أجل أن يمتدّ وجوده يبسط نفوذه على ما حوله، الإنسان يريد أن يسيطر على الأشياء لأنّ غريزة حبّ الذات تبعثه للسيطرة على الأشياء، وإذا امتلك وسائل السيطرة أقصى الآخرين وألقى الآخرين حتى يسيطر على الأشياء التي حوله، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [12] ، إذا رأى نفسه يمتلك وسائل السيطرة والنفوذ طغى وسيطر على الأشياء التي حوله ولا يبالي بإقصاء الآخر ولا يبالي بإلغاء الآخر، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى.

إذن السيطرة والنفوذ انطلاقًا من غريزة حبّ الذات هو هذا البغي، وهذا هو منشأ الاختلاف العدواني بين البشر، ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [13] ، هذا الذي يريد أن يبسط نفوذه بكلّ صورةٍ سواءً كان نفوذًا ماديًا، سواءً كان نفوذًا فكريًا، سواءً كان نفوذًا اقتصاديًا، الذي يريد أن يمدّ نفوذه بكلّ وسيلةٍ ممكنة هذا يعيش روحيّة البغي، يعيش روحيّة الاختلاف العدواني، وهذا الاختلاف العدواني هو الذي يقود البشر إلى التنافر، ويقود المجتمع إلى عدم الاستقرار، لا يمكن أن يستقر نظام الوجود إلا بالتفاعل بأن يكون هناك توازنٌ بين الطاقات، بين الكفاءات، أمّا طغيان فئةٍ على فئةٍ أو طغيان طاقةٍ على طاقةٍ أخرى أو طغيان جماعةٍ على جماعةٍ أخرى فإنّه يؤول إلى اختلال النظام ويُعْدِم نظام الوجود الاستقرارَ والبقاء لأنه بغيٌ وطغيانٌ وليس توازنًا وتفاعلاً بين الطاقات، لذلك القرآن الكريم مثلاً يركّز على هذا البغي في القضايا الاقتصاديّة: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ [14] ، ويركّز الإمام عليٌ عندما يقول: ”ما جاع فقيرٌ إلا بما متّع به غنيٌ“ يعني فٌقِدَ التوازنُ فأصبح أحدهما يطغى أكثر من الآخر، ويأخذ نفوذًا أكبر من الآخر، ونتيجة عدم التوازن أصبح ما يتمتّع به الغنيُ هو ما يتوق إليه الفقيرُ، هذا هو الاختلاف العدواني بين البشر وهذا هو منشؤه.

المطلب الثالث:

هناك مجموعة من الحكماء على ممّر الأجيال وعلى ممّر المراحل التاريخيّة حاولوا أن يعالجوا الاختلاف العدواني، حالوا أن يعالجوا ظاهرة الاختلاف العدواني، وقدّموا أطروحات، وقدّموا نظريّات لعلاج الاختلاف العدواني حتى لا يفتك باستقرار المجتمع البشري، من تلك الأطروحات التي طرحها كثيرٌ من الحكماء وعمالقة التاريخ: «أطروحة الوحدة»، الوحدة بين المذاهب الإسلاميّة، أطروحة الوحدة بين المذاهب الإسلاميّة طُرِحَت لكي تعالج الاختلاف العدواني، لكي تساعد المجتمع الإسلامي على البقاء مستقرًا متفاعلاً متاوازنًا، فلذلك طرحوا مبدأ الوحدة وطرحوا نظريّة الوحدة، الوحدة حتى نضع الأمور في مواضعها الدقيقة الفاصلة، الوحدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - هناك وحدة عقائديّة.

2 - وهناك وحدة سياسيّة.

3 - وهناك وحدة اجتماعيّة.

ولا ينبغي الخلط بين هذه الأقسام من الوحدة، لا يُطْرَح الكلام [*] من دون تدقيق ومن دون وضع النقاط على الحروف، هناك وحدة عقائديّة، هناك وحدة سياسيّة، هناك وحدة اجتماعيّة، ولكلّ قسم موازينه وقواعده وأطره.

1 - الوحدة العقائديّة:

الوحدة العقائديّة بين المسلمين لا تتمّ إلا بأن يرجعوا إلى ما هم متفقون عليه، المسلمون متفقون على الله وعلى النبي وعلى القبلة وعلى الكتاب وعلى الضروريّات «كالصلاة والصوم والحج والزكاة»، هذا لا يحتاج أن يتوحّدوا فيه، هم متحدون فيه، إذن ما الذي يحتاج أن يتحدوا فيه بحيث يكون محورًا جامعًا بينهم «جامعًا جمعًا عقائديًا، مركزًا جامعًا بينهم جمعًا عقائديًا»؟

المحور للوحدة العقائديّة: مرجعيّة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لا يمكن أن تتمّ وحدة عقائديّة بدون هذا المحور وبدون هذا المركز، جميع المسلمين متفقون على أهميّة أهل البيت، هناك خلافٌ بين المسلمين في الصحابة، لكن ليس هناك خلافٌ بين المسلمين في أهميّة أهل البيت، فليرجع المسلمون إلى ما اتفقوا عليه، ما اتفق عليه المسلمون: أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، جميع المسلمين - بلا استثناء - يقولون في صلواتهم الواجبة: «اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم»، إذن آل البيت، آل النبي أمرٌ متفقٌ عليه بين المسلمين، يختلفون في الصحابة، يختلفون في أمورٍ أخرى، لكنهم لا يختلفون في أهل البيت، إذن كيف نتعامل مع أهل البيت؟ نحن لا نريد من المذاهب الإسلاميّة أن تعترف بأنّ أهل البيت أئمة معصومون وإلا لأصبحوا شيعة، ولا نريد من الشيعة أن يعتبروا أهل البيت كغيرهم من الصحابة لا ميزة لهم وإلا لخرجوا عن التشيّع، إذن ما هو المطلوب؟

المطلوب: الاعتراف بمرجعيّة أهل البيت، أهل البيت بالنتيجة رواة ثقات، إذا لم يكونوا أئمة ولم يكونوا معصومين على الأقل هم رواة ثقات، الرجوع لأهل البيت كرواةٍ ثقاتٍ، الرجوع لأهل البيت في تفسير القرآن، في معرفة أحكام الله، في معرفة أحاديث النبي .. الرجوع لأهل البيت فيما جُعِلوا مرجعًا فيه هو المركز الذي يوحّد المسلمين قاطبة، وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [15] ، ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [16] ، ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [17] ، وما ركّز عليه النبي المصطفى في حديث الثقلين وهو حديث صحيحٌ عند جميع المسلمين: ”إنّي مخلفٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي“، إذن مرجعيّة أهل البيت في تفسير القرآن، في أحاديث النبي، هذه المرجعيّة هي الموحّد العقائدي لجميع المسلمين، أمّا عندما تنطلق كلمات: أنّ أهل البيت أناسٌ عاديون كغيرهم من الناس! كغيرهم من المسلمين! هذا يتنافى مع الوحدة العقائديّة ومع مركز الوحدة العقائديّة التي أصرّ عليها النبيُ المصطفى في حديث الثقلين، أو لا، يزداد الأمر ما هو أكثر من ذلك عندما تعتدي فئة على آل البيت، على أضرحتهم، على مشاهدهم، على قبورهم، على مكانتهم، على موقعيتهم لدى المسلمين، فكيف يمكن أن تتحقق وحدة عقائديّة والمركز للوحدة العقائديّة - وهو حرمة أهل البيت التي اتفق المسلمون على رواياتها وعلى أحاديثها - هي محلّ تفكيكٍ وتضييع؟!

إذن بالنتيجة: الوحدة العقائديّة مرتبطة بالرّجوع إلى ما ركّز عليه النبيُ المصطفى ألا وهو محوريّة أهل البيت ومرجعيّة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هذه الوحدة العقائديّة.

الوحدة الأخرى: الوحدة السياسيّة.

إذا لم تكن بيننا وحدة عقائديّة، افترض أنّه لا توجد وحدة عقائديّة، لا يوجد جامعٌ يجمعنا جمعًا عقائديًا لا أقل نلجأ إلى الوحدة السياسيّة، الوحدة السياسيّة يعني توحيد الجهود المشتركة أمام العدو المشترك، نحن أمامنا عدوٌ مشتركٌ، العدو المشترك الذي يغزونا ويغزو بلادنا بسلاحه، بقوته، بفكره، باقتصاده، بثقافته، العدو المشترك يحتاج إلى تنسيق بين المسلمين، يحتاج المسلمون في مواجهة هذا العدو المشترك إلى تنسيق الجهود ما بينهم، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [18] ، هناك عدّة آياتٍ في القرآن الكريم تركّز على الوحدة السياسيّة، يعني: تنسيق الجهود في مواجهة العدو المشترك، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وقال تبارك وتعالى مثلاً في آيةٍ أخرى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [19] ، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [20] ، الوحدة السياسيّة تعني: تنسيق الجهود والقدرات والطاقات أمام العدو المشترك.

الآن أضرب لك مثالاً: نحن مبتلون بالغزو الفكري الذي هو أعظم من أيّ غزوٍ آخر، الفكر الحداثي والفكر العلماني والفكر الغربي يهدم أصول ديننا ودعائم ديننا ونحن مشغولون بالقضايا الأخرى عن الدفاع عن أصول ديننا وعن دعائم ديننا! أنت الآن إذا أخذت نظرة على كثيرٍ من المنابر وكثيرٍ من القنوات وكثيرٍ من المواقع ترى التركيز على قضايا [*] أما التركيز على الدّين، على الفكر الدّيني، على الدّفاع عن الدّين، عن مبادئه، «القرآن» يتعرّض إلى تشكيكٍ، «الدين، النبوّة» تتعرّض إلى تشكيك، «أصل الألوهية» يتعرّض إلى تشكيكٍ كبيرٍ، ماذا صنعنا نحن أمام هذا الغزو الفكري؟! ماذا صنعنا نحن أمام هذه الحرب الفكريّة؟!

من الغريب جدًا أنت إذا تأخذ نظرة على قنواتنا ترى الأمر بين إفراطٍ وتفريطٍ، تشاهد بعض القنوات لا تتحدّث إلا عن زوّار القبور! وعن الشرك! وعن التوسّل بالأولياء والصالحين! وكأنّ الدّين لم يبق منه إلا هذه الأفكار ولم تبق منه إلا هذه المعلومات حتى يُتَكَلم عنها أو تُنَاقَش!! وتفتح بعض القنوات ولا تجد إلا اللطم والمواكب العزائيّة! كأنّه ليس في المذهب إلا اللطم والمواكب العزائيّة!! نحن نعيش بين إفراطٍ وتفريطٍ، التركيز على بعض العبادات وعلى بعض المستحبّات هذا أمرٌ جيّدٌ، لكن إهمال الأولويّات وإهمال الأمور الأولويّة والجوهريّة هذه ظاهرة خطيرة، عندما تركّز قناة على القضايا الظاهريّة وتهمل القضايا الأساسيّة وتهمل القضايا الجوهريّة «الدّفاع عن فكر الدّين، الدّفاع عن دعائم الدّين، الدّفاع عن أصول ثقافة الدّين وأصول ثقافة السّماء» حينئذٍ نجد أنّنا بعيدون عن مواجهة الغزو الفكري الذي يتربّص بنا يوميًا ويتربّص بنا في مختلف المواقع وفي مختلف الحقول.

إذن الوحدة السياسيّة التي نحن نحتاج إليها هي تنسيق الجهود والطاقات أمام العدو المشترك خصوصًا في مواجهة الغزو الثقافي والغزو الفكري.

الوحدة الأخيرة هي: الوحدة الاجتماعيّة.

والوحدة الاجتماعيّة هي الوحدة القائمة على دعامتين:

1. نشر الحبّ والألفة بين أبناء الإسلام.

2. وعدم الاعتداء على رموز أيّ طرفٍ؛ لكيلا تتحوّل ردّة فعلٍ إلى حربٍ طائفيّةٍ وفتنٍ مذهبيّةٍ لا يبقى فيها شجرٌ ولا حجرٌ.

لاحظوا ما ورد عن الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هؤلاء عمالقتنا، هؤلاء أبطالنا، ماذا يقولون؟! الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه ورد عنه أنّه قال: ”إنّ الرّجل منكم إذا صدق في حديثه وورع في دينه وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، وقيل: هذا أدب جعفر، رحم الله جعفر، ما كان أحسن ما يؤدّب به أصحابه، فيدخل عليّ السّرور، وإذا فعل خلاف ذلك قيل: فعل الله بجعفر ما فعل! ما كان أسوأ ما يؤدّب به أصحابه“، ”كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا“، ”كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم“، وورد عن الإمام العسكري ، لاحظوا الإمام العسكري كيف يتعامل مع المسلمين ولاحظوا بعض من يتظاهر بالإسلام كيف يتعامل مع الإمام العسكري صلوات الله وسلامه عليه، الإمام العسكري يقول: ”صِلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وصلوا معهم في مساجدهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، واشهدوا لهم وعليهم، إنّ الرّجل منكم ليكون في القبيلة فيكون زينها: أدّاهم للأمانة، وأصدقهم في الحديث، وأوفاهم للحقوق“، هكذا أئمتنا، هكذا يتحدّث أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يطالبون بالوحدة الاجتماعيّة بأن ننشر الألفة، بأن ننشر روح المحبّة، بأن ننشر روح المودّة، بأن نقيم علاقات حميمة مع إخواننا المسلمين، بأن نقيم أواصر حميمة مع إخواننا المسلمين، بأن تكون لنا معهم علاقات متميّزة بالصدق والأمانة وحسن السلوك وأداء الحقوق لنكون مرآة ناصعة تحكي خلق أئمتنا وتحكي سيرة أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما ركّز عليه الأئمة الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

لاحظوا مراجعنا، مراجعنا على سيرة أئمتنا الطاهرين، كما كان أئمتنا يُفْتَكُ بهم يومًا بعد يوم، أنتم اقرؤوا تاريخ أئمتنا، كيف كان يُصْنَع بهم؟! كان يٌفْتَكُ بهم ما بين سجينٍ وبين مسموم وبين مضطهدٍ وبين مشرّدٍ وبين معذبٍ.. ومع ذلك ما قابل أئمتنا هذا الفعل بردّة فعل، ما قابل أئمتنا هذا الفعل السيّئ بردّة فعلٍ أبدًا، قابلوا كلّ هذه الإساءات وكلّ هذه التعدّيات قابلوها بالرّحمة، قابلوها بالعطف، قابلوها بالحنان، جعلوا أنفسهم آباءً لجميع المسلمين، فرضوا أبوّتهم وحنانهم وعطفهم لجميع أبناء المسلمين بلا استثناء، وهذا ما سارت عليه المرجعيّة الحكيمة، المرجعيّة الرّشيدة للشيعة الإماميّة، لاحظوا المرجعيّة الرّشيدة في النجف الأشرف كيف تدعوا العراقيين لأن يكون إخوانًا، كيف تقول المرجعيّة الرشيدة: «أهل السنة أنفسنا وليس إخواننا»، «أنفسنا» أكثر من «إخواننا»، وتدعوا إلى التهدئة وضبط النفس وعدم ارتكاب أيّ ردّة فعلٍ في سبيل الحفاظ على الوحدة الاجتماعيّة بسائر مظاهرها وسائر تفاصيلها، وتصرّ على هذه الوحدة الاجتماعيّة: ألا يكون هناك اعتداءٌ على رموز أيّ طرفٍ لا بالقول ولا بالفعل ولا بالتفجير ولا بالفتك ولا بالمواجهة لكي تبقى الوحدة الاجتماعيّة تربط بين أبناء الإسلام.

إذن هناك عندنا وحدة عقائديّة، وهناك وحدة اجتماعيّة، وهناك وحدة سياسيّة.

المطلب الأخير: كيف نطرح الوحدة؟ نحن عندما ندعو إلى مبدأ الوحدة كيف نطرح هذا المبدأ؟

أنت افتح مواقع الإنترنت أو اقرأ بعض الكتب وانظر كيف يُطْرَح مبدأ الوحدة، هناك من يرى أنّ الوحدة لا تتمّ بين المسلمين حتى يتبرّأ الشيعة من لعن بعض الصحابة ومن التعريض بهم، وهناك من يطرح أنّه لا تتمّ وحدة بين المسلمين حتى يقوم الشيعة بتنقيح تراثهم وتصحيح رواياتهم وتمييز السقيم منها من الصحيح وحتى يتخلصوا من الكثير من الكتب التي أغثت المسلمين وسبّبت الفرقة بين المسلمين، وهناك من يطرح أنّ الوحدة لا تتمّ حتى يتخلص الشيعة من بعض المراكز الحسينيّة التي تثير نفوس بعض المسلمين وتحفزهم على ردّة فعلٍ أو على مواجهةٍ.. وكأن المشكلة كلها في الشيعة! لا تتمّ الوحدة حتى يتبرأ الشيعة! حتى يتنازل الشيعة! حتى يتخلص الشيعة! حتى يتراجع الشيعة! حتى يكون الشيعة..! كأنّ المشكلة كلّ المشكلة هي في الشيعة! فالمطلوب من الشيعة أنفسهم أن يتخلصوا.. أن يتبرؤوا.. أن يهدّئوا.. أن يتراجعوا.. أن يفعلوا.. أن يتركوا.. أن... حتى يُقْبَلُوا على الساحة الإسلاميّة!! هل هذا الطرح للوحدة هو الطرح الصحيح للوحدة؟!

الوحدة لا يمكن أن تعطي آثارها ولا يمكن أن تعطي نتاجها الخيّرة المثمرة إلا بثلاث دعائم:

الدّعامة الأولى: أن يكون الطرح قويًا.

ألا يكون على سبيل الاستهزاء ولا على سبيل الاستحياء، هناك من يطرح الوحدة وهو خَجِلٌ من عقائده! لا يريد أن يقول: «أنا أعتقد بكذا، أنا أعتقد بالإمام الغائب..» يخجل من هذه العقيدة! «أنا أعتقد بأنّ الأئمة معصومون مفترضو الطاقة يملكون ولاية تكوينيّة وعلمًا ببعض المغيبات..» لا! أنا لا أخجل من هذه العقائد! لا أريد أن أطرحها أمام الناس! لا تطرحوا في القنوات هذه العقائد حتى لا تحركوا الآخرين علينا!

لماذا؟! لماذا أنت تخجل؟! هذه عقائد قام عليها الدّليل وقام عليها البرهان وهي مثبتة في كتب الإماميّة أخفيتها أم أظهرتها، كتبك موجودة، مكتباتك موجودة، علماؤك موجودون، إذن هذه العقائد موجودة في كتبك، عند علمائك، في مصادرك، شئت أم أبيت، أظهر أم أخفيت، لماذا يكون طرحك للوحدة طرح استحياءٍ؟! طرح خجلٍ؟! لماذا؟! لماذا يكون طرحنا للوحدة طرح استجداء: «يا عالم اقبلونا! اقبلونا إخوانًا لكم! نحن مستعدون إلى أن نتراجع، إلى أن نتنازل، إلى أن نهدّئ، إلى أن نشدّد.. المهم أن تقبلونا! المهم أن تقبلونا إخوانًا لكم»! الوحدة ليست استجداءً، الوحدة ليست استحياءً، الوحدة ميثاقٌ يفرض على كلا الطرفين أن يتعامل مع الوحدة تعاملاً موضوعيًا وتعاملاً جادًا، الوحدة ميثاقٌ وعقدٌ بين طرفين يفرض على كلّ طرفٍ أن يتعامل معها بجدٍ وموضوعيّةٍ، ليست المشكلة في الوحدة هي الشيعة حتى نطرح الوحدة طرح استحياءٍ أو طرح استجداءٍ!

لاحظوا الإمام الخميني قدّس سرّه، من أوضح علمائنا وعمالقتنا الأبرار الذين طرحوا الوحدة: الإمام الخميني، الإمام الخميني طرح مبدأ الوحدة بين الشيعة والسنة، وألزم الشيعة بالصلاة خلف أئمة الحرمين شعارًا للوحدة، ومنع كثيرًا من المظاهر في سبيل تحقيق الوحدة، لكنّ هذا الإمام العظيم طرح الوحدة بمنطق القوّة، وما طرحها بمنطق الاستحياء، ولا بمنطق الاستجداء، طرح الوحدة بمنطق القوّة، في الوقت الذي طرح الوحدة بين المسلمين أصرّ على الشهادة الثالثة في الأذان في جميع القنوات والإذاعات للجمهوريّة الإسلاميّة، في الوقت الذي طرح الوحدة جعل المذهب الرسمي في بلاده - باعتبار الغالبيّة - هو المذهب الإمامي، في الوقت الذي طرح الوحدة كتب وصيته وذكر فيها عقائده كلها، يعتقد بالولاية التكوينيّة لأهل البيت، يعتقد بأنّ أهل البيت يعلمون بعض المغيّبات، يعتقد بأنّ لأهل البيت قوّة خارقة.. طرح الوحدة وطرح عقائده أيضًا التي قام عليها البرهان والدّليل، طرحها بكلّ قوّةٍ.

نحن نريد أن تُطْرَح الوحدة هكذا طرح، الوحدة تُطْرَح كميثاق بين المسلمين لكنّ عقائدنا هي عقائدنا، وهذه أدلتنا، وهذه براهيننا، وهذه كتبنا، وهذه أقوال علمائنا.. نحن نطرح الوحدة لا طرح استجداء ولا طرح استحياء ولا طرح تنازل ولا طرح تراجع، نحن نطرح الوحدة كما نحن عليه من عقائد، كما نحن عليه من أفكار، كما نحن عليه من أدلةٍ وبراهين تدعم عقائدنا وتدعم أفكارنا ومبادئنا، وللآخر أيضًا أن يطرح ما عنده، نحن لا نطلب من الآخر أن يتنازل عن شيءٍ من عقائده أبدًا، نحن لا نطلب من الآخر أن يتنازل عن شيءٍ من أفكاره، فليطرحها بأدلتها وبراهينها وفي نفس الوقت نحن إخوانٌ متحابون بيننا وحدة سياسيّة ووحدة اجتماعيّة ووحدة عقائديّة، ولكلٍّ عقائده الخاصّة بأدلته وبراهينه.

إذن يجب أن يكون الطرح طرحًا قويًا، هذه هي الدّعامة الأولى.

الدّعامة الثانية:

الشخصيّة التي تتصدّى لطرح الوحدة يجب أن تكون شخصيّة معبّرة على مستوى العالم الشيعي، أما يأتيك شخصٌ يطرح الوحدة في مسجد الإمام علي ! ما أثر هذا؟! أو يأتي شخصٌ يطرح الوحدة في حسينيّةٍ من الحسينيّات! ما هو الأثر لهذا الطرح؟! يجب أن تكون الشخصيّة المتصدّيّة لطرح الوحدة شخصيّة على مستوى عالم الشيعة حتى يكون لطرحها تأثيرٌ، حتى يكون لطرحها وقعٌ، حتى يكون لطرحها بصمات واضحة على سلوك الإماميّة، على سلوك الشيعة، أمّا أنا أطرح الوحدة بشكلٍ متنافر وبأعدادٍ معيّنةٍ وبكلماتٍ مموّجةٍ ومطاطة ومعمّاة وغير واضحة.. ما هي الفائدة؟! ضرر هذا الطرح أكثر من نفعه، هذا الطرح المختزل، هذا الطرح الذي ينشأ من آفاق ضيّقة ومن مستوياتٍ ضيّقةٍ، هذا الطرح يخلق فتنة بين الإماميّة أنفسهم ويخلق خلافًا بين الإماميّة، ضرره أكثر من نفعه، ضرره أكثر من مصلحته، يجب أن أتصدّى للوحدة في القنوات، في المواقع، العلماء متواجدون على مستوى الشيعة الإماميّة، عندما طرح الوحدة شرفُ الدّين، عندما طرح الوحدة الشيخ كاشف الغطاء، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء كان مرجعًا وطرح الوحدة فكان لطرحه تأثيرٌ، عندما طرح الوحدة الشيخ محمد حسين شرف الدّين كان مرجعًا فكان لطرحه تأثيرٌ، عندما طرح الوحدة الإمامُ الخمينيُ كان لطرحه تأثيرٌ، عندما ينطلق الطرح من مراجعنا ومن علمائنا الذين لهم التأثير على الشارع الإمامي وعلى الشارع الإسلامي بصفةٍ عامةٍ يكون لهذه الوحدة تأثيرٌ ووقعٌ، هذه الدّعامة الثانية.

الدّعامة الثالثة:

كما قلنا أنّ هناك خلطًا بين أنواع الوحدة، يأتيك واحدٌ يتكلم عن الوحدة فلا تدري ماذا هو يريد أن يقول! يتكلم عن الوحدة أو يكتب كتابًا عن الوحدة ولا تدري ماذا يقول! يريد أن يصل إلى ماذا؟! ما هي الحدود لهذه الوحدة؟! ما هي الأطر لهذه الوحدة؟! هو يتكلم عن وحدةٍ عقائديّةٍ، يتكلم عن وحدةٍ سياسيّةٍ، يتكلم عن وحدةٍ اجتماعيّةٍ.. أنت لا تدري في أيّ بحرٍ يخوض!

بالنتيجة: هذا يدعونا إلى أن تكون أطروحة الوحدة أطروحة تحت نظر الحوزات العلميّة وتحت نظر مراجع المذهب حتى لا نخطو خطوات غير مدروسة، حتى لا نخطو خطوات غير محسوبة، حتى لا نخطو خطوات لا تبتني على أسسٍ علميّةٍ ولا تبتني على أسس فكريّةٍ مدروسةٍ، يأتيك شخصٌ ويقول لك: «فعلينا من أجل الوحدة أن نرفع لعن بعض الصحابة»! طيّب هذا كلام جميل! لكن مَنْ مِنَ المراجع يؤيّدك على هذا الكلام؟! صح لو لا؟! «لابدّ حتى نطرح الوحدة أن نتنازل عن بعض المراسيم الشيعيّة»! طيّب شيءٌ جميلُ! مَنْ وراءك من مراجع الشيعة؟! أنت يجب أن تأتي بأدلةٍ وبراهين تدعمها المرجعيّة وتدعمها الحوزة العلميّة، أليس كذلك؟! من وراء هذا الطرح؟!

إذن بالنتيجة: هذه الأطروحات فاشلة وعقيمة وضررها أكبر من نفعها، لابدّ أن تكون هذه الأطروحات تحت إشراف الحوزة العلميّة بالنجف الأشرف وفي قمّ المقدّسة تحت نظر المرجعيّة؛ لأنّ المرجعيّة تدرس خيار الوحدة بجميع لوازمه، بجميع توابعه، بجميع مبادئه، بجميع نتائجه، لا تطرحه طرحًا مختزلاً أو في جهةٍ معيّنةٍ أو في نقطةٍ معيّنةٍ، لابدّ أن تكون هذه الأطروحات تحت نظر المرجعيّة، تحت نظر القيادة الإماميّة، تحت نظر الحوزة العلميّة.

أنا أستغرب كثيرًا من بعض شبابنا ومن بعض إخواننا وأبنائنا: أمامه صفحة الإنترنت فيطرح ما عنده في هذه الصفحة من الإنترنت وكأن المذهب الإمامي خلا! ليس فيه علماء! ليس فيه حوزات! ليس فيه مفكرون! ليس فيه المنظرون! كأن التنظير والتفكير كلها صارت في هذه الصفحة من الإنترنت وفي هذا المكان الخاص!!

علينا أن نخطط لمستقبلنا تخطيطًا محكمًا، لا يمكن أن نجني ثمارًا تنعكس بالصلاح على أوضاعنا إلا إذا كان تخطيطنا محكمًا، والتخطيط المحكم هو الذي يأتي من الحوزة، هو الذي يأتي من القيادات، هو الذي يأتي من الحوزات، هو الذي يأتي من موقع القرار، أنت مليون مرّة تتلكم عن الوحدة يعني سيستمع لك شيخ الأزهر؟! يعني شيخ الأزهر سيذهب ويبحث له عن صفحةٍ في الإنترنت ليرى ماذا يقولون هؤلاء في الإنترنت حتى نحن إن شاء الله نصنع ما يقولون!!! هل يبالي بك أحدٌ في هذا الكلام؟! مليون مرّة أنت تكلم! يتكلم في بعض المساجد أو في حسينيّةٍ أو في مسجدٍ أو في موقع أو في صفحةٍ مبدأ الوحدة بحسب ما تراه وبحسب أسلوبك وبحسب تشخيصك! أبدًا ولا يبالون بشيءٍ من ذلك!! الكلام الذي يُهْتَم به ويُعْتَنَى له ويُدْرَسُ هو كلام المرجعيّة، هو كلام القيادة، هو كلام الحوزات العلميّة.

إذن يجب أن تكون أطروحتنا للوحدة منطلقة من موقع القرار، منطلقة من مصدر القرار لكي يكون طرحنا طرحًا مدروسًا، طرحًا مبنيًا على الأسس العلميّة التي تتوافق مع قواعد مذهبنا ومع مبادئ تفكيرنا لا مع آرائنا الشخصيّة ولا مع تصوّراتنا الذاتيّة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من السائرين على خطى أئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في التفكير البعيد لمستقبلنا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا في الدنيا والآخرة، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ إخواننا في العراق من جميع المكائد، أن يحفظ إخواننا المسلمين جميعًا من جميع الخطط خطط الفتنة وخطط الإرهاب وخطط الفرقة، أن يوحّد صفوفهم، أن يوحّد كلمتهم، أن يوحّد المسلمين المؤمنين في لبنان وفي فلسطين وفي أيّ مكان، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يمنّ علينا جميعًا بالهداية، اللهم نبهنا من نومة الغافلين، اللهم نبهنا من نومة الغافلين، اللهم نبهنا من نومة الغافلين.

والحمد لله ربّ العالمين

[1]  آل عمران: 103.
[2]  هود: 118 - 119.
[3]  القصص: 8.
[4]  الأعراف: 156.
[5]  المؤمنون: 12 - 14.
[6]  يس: 40.
[7]  النمل: 88.
[8]  الزخرف: 32.
[9]  الحجرات: 13.
[10]  آل عمران: 19.
[11]  البقرة: 213.
[12]  العلق: 6 - 7.
[13]  النازعات: 37 - 39.
[14]  الحشر: 7.
[15]  الأحزاب: 33.
[16]  آل عمران: 61.
[17]  الشورى: 23.
[18]  الأنفال: 60.
[19]  الأنفال: 46.
[20]  آل عمران: 103.
[*] خللٌ صوتيٌ في المحاضرة المسموعة.