دولة الإسلام أم دولة الإنسان

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

منذ أن قامت الثورة الإسلامية في إيران حصل الجدل حول نوع الدولة الصالحة للمجتمع البشري، فهل الدولة الصالحة هي النظام الليبرالي أو الدولة الصالحة هي النظام الإسلامي؟ وعندما هبّ الربيع العربي على الدول العربية وانتصر الإسلاميون في انتخابات تونس وعلا صوتُ الإسلاميين في مصر وفي ليبيا رجع الجدل مرة أخرى: هل أن النظام المطلوب هو النظام الليبرالي أو النظام الديني؟ ونحن من هذا المنطلق نتحدث عن هذا المحور - وهو النظام الليبرالي والنظام الديني - من خلال محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: فلسفة كل من النظامين.

ما هي فلسفة الليبرالية وما هي فلسفة النظام الديني؟

النظام الليبرالي ينطلق من نظرية رؤية الطبيعة، والنظام الإسلامي ينطلق من نظرية الخلافة.

النظام الليبرالي العلماني - المعبّر عنه بدولة الإنسان - يقول: إذا نظرنا للطبيعة والكون الذي نعيش فيه رأينا أن هذه الطبيعة تسير وفق قانون السببية، ولا يوجد دخلٌ للإيمان بالله في مسيرة الطبيعة، مثلاً: الجاذبية، جاذبية الأرض سببٌ للوقوع على الأرض، هذه السببية ثابتة سواءً آمنا بوجود الله أو لم نؤمن، إشراق الشمس على مياه البحر سببٌ في تبخر المياه، وتبخر المياه سببٌ في امتلاء الأفق بالغيوم، وهبوب الرياح على هذه الغيوب سببٌ في نزول الأمطار، فهذه المسيرة مسيرة جارية وفق قانون السببية سواءً آمنا بوجود الله أم لم نؤمن، هذه المسيرة ماشية، فسببية الأسباب لنتائجها لا ترتبط بالإيمان بوجود الله وعدمه، فهي تجري على المؤمن والكافر معًا.

ومن جهةٍ أخرى إذا لاحظنا الإنسان فالإنسان متى ما التقى ذكرٌ وأنثى وُلِدَ الإنسان، ويولد وهو حرٌ مختارٌ ينتخب ما يريد ويختار ما يشاء سواءً كان مؤمنًا بالله أو لم يكن مؤمنًا بالله، فالإيمان بالله والإيمان بالدين أمرٌ لا دخل له في نظام الطبيعة، ولا دخل له في كيونة شخصية الإنسان، فبما أن الإيمان بالله لا دخل له في مسيرة الطبيعة ولا دخل له في كينونة شخصية الإنسان إذن مقتضى ذلك أن يكون النظام السياسي على وفق نظام الطبيعة، فكما أن نظام الطبيعة لا يوقف على الإيمان بالله أو عدمه فالنظام السياسي لا ربط له بمسألة الإيمان أو الدين، النظام السياسي على وفق النظام الطبيعي، الإيمان بالله لا دخل له فالطبيعة جارية آمن الإنسان أم لم يؤمن، إذن النظام السياسي ليس من بنوده وليس من معالمه الإيمان بالله، فالنظام السياسي نظامٌ علمانيٌ ليبراليٌ سواءً كان الناس مؤمنين أو ملحدين، متدينين أو غير متدينين، النظام يمشي، انتخاب الناس لأي نظام واختيار الناس لأي نظام عبر صناديق الاقتراع سببٌ لولادة النظام وسيادة القانون وحاكمية الإنسان سواءً كان في بلد متدين أو في بلد غير متدين، هذه فلسفة النظام الليبرالي.

بينما فلسفة النظام الإسلامي أو النظام الديني ترتكز على نظرية الخلافة، وهي: الدين يرى أن الأصيل في هذا الكون ليس هو الإنسان، الأصيل في هذا الكون هو الله مبدأ وجود الإنسان، الكون كله فيضه وعطاؤه، فهو الأصيل، وبما أن الله هو الأصيل وليس هو الإنسان إذن مقتضى ذلك أن الإنسان خليفة ووكيلٌ ونائبٌ وليس هو الأصيل، وبناءً على أن الإنسان خليفة ونائبٌ وليس أصيلاً إذن يجب أن يكون النظام السياسي الثابت في هذا المجتمع البشري هو نظام الأصيل لا نظام الوكيل، هو نظام المستخلِف لا نظام الخليفة، فقرار الحكم والنظام بيد الأصيل وهو الله وليس بيد الوكيل والنائب ألا وهو الإنسان، فمقتضى نظرية الخلافة أن يكون النظام هو النظام الديني لا النظام الليبرالي.

ولذلك جاءت الآيات القرآنية لتؤكد هذه النظرية: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2]  ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ[3] ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [4] وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [5]، فالقرار في النظام الإسلامي للسماء، والقرار في النظام الليبرالي للإنسان عبر صندوق الاقتراع، هذه فلسفة النظام الليبرالي والنظام الديني.

المحور الثاني: ما هي المعالم «معالم النظام الديني، ومعالم النظام الليبرالي»؟

معالم النظام الليبرالي نطرحها أولاً، أنت لابد أن تكون عندك ثقافة بهذه الأمور لأن هذا مستقبل الأمة العربية، هو يمشي بهذا الطريق... ما هي معالم النظام الليبرالي؟

عندما نطرح سؤالاً على أي شخصٍ يتبنى النظام الليبرالي فنقول له: لماذا النظام الليبرالي يركّز على حقوق الإنسان ولا يركّز على حقوق الله؟ الليبرالي لا يهمه حقوق الله ما هي، ليس له شغلٌ، حقّ الله أن يُعْبَد، حقّ الله أن تجتنب الخمر، حقّ الله أن تجتنب الزنا، حقّ الله أن تجتنب الكذب... ليس له شغلٌ النظام الليبرالي بهذا، حقوق الله ليس له شغلٌ بها، هو شغله حقوق الإنسان، لماذا يركّز النظام الليبرالي على حقّ الإنسان ولا يركّز على حقّ الله؟ مع أن الليبرالي قد يكون متدينًا، ليس معناه أن كل واحد ليبرالي يعني ليس متدينًا، لا، قد يكون هو متدينًا يصلي ويصوم ويحج، لكن يتبنى النظام الليبرالي في مجال السياسة، لماذا يركّز النظام الليبرالي على حقوق الإنسان ويهمل حقوق الله؟ لو طرحنا هذا السؤال على الشخصية الليبرالية فسوف يجيبنا، يقول: هناك عدة أسباب ومعالم تجعل النظام الليبرالي يركّز على حقوق الإنسان، التفتوا إلى هذه الأمور بدقة:

المعلم الأول: أن وجود الله مسألة خلافية.

لم يتفق المجتمع البشري على وجود الله، هناك من يؤمن به وهناك من ينكره، أهمية الدين لم يتفق المجتمع البشري عليها، هناك من يؤمن بأهمية الدين وهناك من لا يؤمن بأهمية الدين، صحة الدين أو المذهب، أي الأديان أصح؟! أين المذاهب أصح؟! هناك من يؤمن وهناك من لا يؤمن، بما أن «الله» و«الدين» و«المذهب» مسائل خلافية لم تُحْسَم لدى المجتمع البشري ومازال المجتمع البشري يختلف فيها جيلاً بعد جيل إذن لا يمكن إقحام الدين أو المذهب في النظام السياسي، لأن الدولة عندما تقوم ففي هذه الدولة من يؤمن بالله ومن لا يؤمن، ومن يؤمن بالإسلام ومن لا يؤمن، ومن يؤمن بمذهب الدولة ومن لا يؤمن به، فلو أن الدولة كانت نظامًا دينيًا فهي تفرض دينها أو مذهبها أو عقيدتها على شعبها، وهذا خلاف العدل والإنصاف، مقتضى العدل والإنصاف ألا يُفْرَضَ على الشعب دينٌ أو مذهبٌ أو عقيدة، هذا المعلم الأول للنظام الليبرالي، فلابدّ أن يحرّر النظام من الدين والمذهب.

المعلم الثاني: أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان له حقٌ على الناس فهو أقدر على الدفاع عن حقه! لا يحتاج أحدًا يدافع عنه! لماذا ندافع عن حقوق الله والله أقدر منا في أن يدافع عن حقوقه؟! فهو بيده الكون كله، فلماذا يركّز النظام السياسي على الدفاع عن حقوق الله؟! بل عليه أن يركّز على الدفاع عن حقوق الإنسان لأن الله أقدر على الدفاع عن حقوقه.

وببيان آخر دعني أشرح لك هذه النقطة شرحًا دقيقًا: هناك كلمة في الفلسفة تُذكَر: السلطنة الذاتية لا تنقص بالعدوان بينما السلطنة العرضية تنقص بالعدوان، دعني أشرح لك هذا بالمثال: يعني الآن مثلاً أنا أمتلك سيارة، إذا أمتلك سيارة يعني لدي سلطنة على السيارة، سلطنتي على السيارة سلطنة مكتسبة، اكتسبتها من شرائي للسيارة، عندما بذلتُ ثمنًا واشتريتُ السيارة اكتسبت سلطنة على هذه السيارة، فسلطنتي على السيارة سلطنة اكتسابية، عندما يأتي شخصٌ ويستخدم السيارة قهرًا على أنفي ويتصرف فيها بدون إذني فهو قد أنقص من سلطنتي، صارت سلطنتي على السيارة سلطنة منقوصة، لِمَ؟ لأن هذا الشخص استطاع أن يتصرف في السيارة بدون إذني، واستطاع أن يستفيد منها من دون رضاي، فتصرفه العدواني أنقص من سلطنتي، وإنما أنقص منها لأن سلطنتي سلطنة اكتسابية قابلة للنقص.

بينما السلطنة الذاتية ليست قابلة للنقص، كيف يعني سلطنة ذاتية؟

يعني الآن مثلاً أنا عندي سلطنة على داخلي، على مشاعري، كل إنسانٍ عنده سلطنة على مشاعره، يحب من يشاء ويبغض من يشاء، أنا عندي سلطنة على ميولي، على مشاعري، مهما يحاول الآخرون هذه السلطنة لا تنقص، هذه السلطنة لا تذهب، باقية لا تتغير، سلطنة الله على هذا الكون كله سلطنة ذاتية وليست سلطنة اكتسابية، فبما أن سلطنة الله على الوجود كله سلطنة ذاتية نابعة من ذاته تبارك وتعالى وليست سلطنة مكتسبة لذلك لا تنقص سلطنته بمعصية العباد أبدًا، وإلا هذا العبد الذي يعيش على الأرض إذا عصى الله، قال: والله أنا سأتحدى الله وسأعصيه! تنقص سلطنة الله يعني؟! لا، مهما فعل من المعاصي لا تنقص السلطنة الإلهية في شيء، لِمَ؟ لأن هذا المخلوق الصغير فوق كوكب صغير، هذه الأرض بالنسبة لهذا الكون مثل ماذا؟! مثل النملة التي تعيش في صحراء قاحلة! هذا المخلوق الصغير فوق الكوكب الصغير الذي نسبته لهذا الكون نسبة الواحد للمليارات لو فعل ما فعل لن يخدش في سلطنة الله ولن يؤثر عليها أبدًا، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [6].

إذن نفس هذه النظرة موجودة عند الليبراليين، يقول لك: يعني ماذا؟! إذا الله له حقوق هو يأخذها، لماذا نحن ندافع عن حقوقه؟! نحن ندافع عن حقوق البشر، لماذا؟ لأن البشر إذا لم يعط حقوقَه أصبح ناقصًا، أصبح محرومًا، أما الله إذا لم يعط حقوقَه فإنه لا ينقص منه شيءٌ ولن يصبح محرومًا من شيء، فهو الغني المطلق جلّ وعلا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [7] ومن كان غنيًا مطلقًا فلا ينقص شيءٌ من غناه بمعصية العبد أو بتضييع العبد لحقه أبدًا، إذن الأولى الدفاع عن حقوق الإنسان لا الدفاع عن حقوق الله، هذا المعلم الثاني الذي يطرحه النظام الليبرالي.

المعلم الثالث الذي يطرحه النظام الليبرالي:

يقول لك: البشرية خاضت حروبًا طاحنة من أجل أن تصل إلى الحقوق، الثورة الفرنسية عندما قامت على الكنيسة وحطمت المؤسّسة الدينية في ذلك الوقت، الثورة الفرنسية بذلت دماءً، ونتيجة هذه الدماء وصلت إلى الحقوق، وهي:

  1. حقّ الإنسان في العدالة.
  2. حقّ الإنسان في الأمن.
  3. حقّ الإنسان في أن تكون له فرصة عمل في وطنه.
  4. حقّ الإنسان في أن يتحرّر من التمييز «التمييز الطائفي، التمييز العرقي، التمييز القومي».

هذه الحقوق الأربعة: حقّ الإنسان في توزيع الثورة، حقّ الإنسان في فرصة العمل، حقّ الإنسان في الأمن في وطنه، حقّ الإنسان في ألا يُمَارَس عليه تمييزٌ، هذه الحقوق الأربعة وصل إليها المجتمع البشري بعد صراع طويل وبعد بذل الدماء، فلو قيل للمجتمع البشري: لا حقوق لك! الحقوق تقرّرها الدولة؛ لأن الدولة دينية، والدولة الدينية هي من تقرّر الحقوق وليس الشعب هو الذي يقرّر الحقوق! فإذا قيل للمجتمع البشري: حقوقك تقرّرها السّماء ولستَ أنت الذي تقرّرها! كان ذلك ظلمًا للمجتمع الذي خاض الحروب الطاحنة من أجل أن يصل إلى هذه الحقوق، إرجاعًا للمجتمع البشري إلى الوراء وإلى المربع الأوّل الذي خاض من أجله الحروب الطاحنة وبذل الدّماءَ الكثيرة، إذن لابد أن تنفصل الدولة عن الدين، والدين لا يكون جزءًا من النظام السياسي.

المعلم الرابع من معالم النظام الليبرالي هو: الكرامة.

النظام الليبرالي يقول: الأساس في كل شيء: كرامة الإنسان، الإنسان ذو كرامة، فبما أن الأصل والأساس لكل شيء هو الكرامة فلو فُرِضَ عليه نظامٌ من السماء وفُرِضَ عليه نظامٌ دينيٌ كان ذلك منافيًا لكرامته، فإنّ مقتضى كرامته أن يكون له حقّ الاختيار وحقّ الانتخاب، فينتخب النظام الذي يريده، وينتخب النظام الذي يرغبه، أمّا فرض نظام عليه من قِبَلِ السّماء أو من قِبَلِ الدين هذا يتنافى مع كرامة الإنسان التي خُلِقَ عليها، فقد خُلِقَ الإنسانُ بطبعه حرًا مختارًا كريمًا، هذه هي معالم النظام الليبرالي.

معالم النظام الإسلامي:

النظام الديني في المقابل ماذا يقول؟ كيف يجيب؟ هذه شبهاتٌ، هذه إشكالاتٌ عويصة، كيف يجيب النظام الديني؟ كيف يثبت النظام الديني أنه أولى بالبقاء وأولى بالحكم؟ كيف؟

النظام الديني أيضًا يرتكز على ركائز وعلى معالم التفت إليها:

المعلم الأول:

النظام الديني يقول: نحن نختلف مع الرؤية العلمانية في الأسس وفي الجذور، ومن تلك الجذور: تعريف الإنسان، من هو الإنسان؟ نحن الآن وقعتنا كلها على الإنسان، صح لو لا؟! نريد أن نوفر دولة للإنسان، نريد أن نوفر دولة تُسْعِد الإنسان، إذن لابد من أن نعرّف الإنسان أوّلاً، من هو الإنسان الذي نريد أن نقيم له دولة تسعِده؟ من هو الإنسان؟!

النظام الليبرالي يقول لك: الإنسان هو هذا المتحرّك على الأرض صاحب العقل والاختيار، هو هذا الإنسان، الدين يقول: لا، الإنسان هو المحتاج إلى الدين، يعني: الدين حاجة مثلما الغذاء حاجة، مثلما الأمن حاجة، وهنا يأتي الخلاف الأساسي بين الليبرالية وبين الدين.

النظام الليبرالي يقول: الدين ليس حاجة، الدين هذا مسألة شخصية، مسألة اختيارية، يريد أن يصير متدينًا، يريد أن يصير غيرَ متديّنٍ، كما يريد، مسألة شخصية، الدين ليس حاجة، الدين اختيارٌ شخصيٌ، لماذا نقحم الدين في السياسة؟! لماذا نقحم الدين في الحكم؟! الدين ليس حاجة، ليس بعدًا من أبعاد شخصية الإنسان، الإنسان إنسانٌ تديّن أم لم يتديّن.

الدين يقول: لا، الرؤية الإسلامية تقول: لا، الدين حاجة أساسية من حاجات الإنسان، كما يحتاج الإنسان إلى الغذاء حتى يعيش، كما يحتاج الإنسان إلى الأمن حتى يبدع ويعطي، كما يحتاج الإنسان إلى الانتماء حتى يشعر بالمعزة والكرامة، يحتاج الإنسان أيضًا إلى الدين، لماذا يحتاج إلى الدين؟

هذه حاجة أساسية لأن الإنسان يحتاج إلى الاطمئنان، والدين هو الذي يغذيه بالاطمئنان، الإنسان بطبعه قلقٌ، خُلِقَ قلقًا، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [8] الإنسان بطبعه قلقٌ، وإذا ترى المقرّراتِ عن المجتمع الغربي ترى الأطباء النفسيين في المجتمع الغربي هم أكثر حراكًا من الأطباء البدنيين! يعني: الطبيب النفسي يعمل أكثر من الطبيب البدني في اليوم! آلاف، ملايين الذين يراجعون المطبات النفسية، هناك قلقٌ، هناك جزعٌ، هذا القلق يحتاج إلى ما يزيله، يحتاج إلى ما يذيبه، الدين يغذي هذه الحاجة، حاجة الإنسان إلى الاطمئنان والهدوء، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [9] الدين يعطيك حاجة أساسية نفسية وهي حاجتك إلى إرادة الصمود، هذه الحياة مصاعبها كثيرة، صح لو لا؟! لا توجد حياة ليس فيها مصائب، هناك كثيرٌ يعيش إخفاقاتٍ في حياته، إما يبتلى بإخفاقات في دراسته، إخفاقات في وظيفته، إخفاقات في زواجه، إخفاقات في تربيته لأبنائه، إخفاقات في علاقاته الاجتماعية، إخفاقات في صحته، إخفاقات في علاقته مع الدولة التي تحكمه، الإنسان يعيش هذه الإخفاقات، لا يخلو منها أحدٌ، إذا عاش الإنسان هذه الإخفاقات وهذه المصاعب فإنه ينهار فيحتاج إلى ما يغذي إرادته ويجعلها إرادة صامدة أمام مصاعب الحياة وأمام إخفاقاتها، والإرادة الصامدة يكتسبها الإنسانُ من أين؟ من الدين، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [10] ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [11].

إذن النظام الإسلام يقول: لا، أنا لا أستطيع أن أنزع الدين من النظام، لا يمكن، الدين بعدٌ من أبعاد الإنسان لأن الدين حاجة أساسية من حاجات الإنسان، فإذا كان الدين حاجة أساسية فلا يمكن إبعاده من النظام السياسي الذي يحكم الإنسان، هذا معلمٌ من معالم النظام الديني.

المعلم الثاني من معالم النظام الديني:

لا إشكال أن جميع الأنظمة الوضعية - ومنها الليبرالية والعلمانية... - جميع الأنظمة، لا يوجد استثناءٌ، جميع الأنظمة تقرّ بحقّ الإنسان في العقيدة، أنّ من حقك أن تختار العقيدة التي تقتنع بها، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [12] فإذا كانت الأنظمة الوضعية تقرّ أن من حق الإنسان العقيدة، أن يعتنق العقيدة التي يريدها، إذا اقتنع بالعقيدة الدينية وصار متدينًا ماذا يقول له النظام الليبرالي: هل من حقّ المتديّن أن يأمر الناسَ بالمعروف وينهى عن المنكر؟

في النظام الليبرالي: لا، ليس لك شغلٌ بالناس أنت! «كِيفك»! «كِيف» الناس! والله أنت عندك جارك يشرب خمرًا ما هو شغلك أنت فيه يعني؟! ويشرب خمرًا ماذا حدث يعني؟! أو مثلاً جارك والله يرقص على الموسيقى طول الليل! أنت ليس لك شغلٌ، دعه يرقص! ما هو شغلك أنت؟! ليس لك شغلٌ أنت، النظام الليبرالي يقول: من حقك أن تعتنق العقيدة التي تحبّها لكن ليس من حقك أن تدعو لهذه العقيدة غيرَك من دون رغبةٍ منه، ليس من حقك، طيّب أنا اعتنقت الدينَ والدينُ الذي اعتنقته يقول لي ماذا؟ ماذا يقول لي؟ يقول لي: مُرْ بالمعروف، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [13] ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [14] ”لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يسلطنّ عليكم شرارُكم ثم يدعو خيارُكم ولا يستجاب لهم“ العقيدة التي اعتنقتها فرضت عليّ أن آمر الناس بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، فما العمل؟! هنا يقع النظام الليبرالي في ماذا؟

في تهافت، لأنه من جهة يقول: من حقك أي عقيدة تعتقد بها، من حقك أن تعتنق العقيدة التي تعجبك، من حقك لكن ليس من حقك أن تطبّق هذه العقيدة على غيرك، فيقع التهافت بين الأمرين، إذا كان من حقي أن أعتنق أي عقيدة إذن من حقي أن أطبّق تلك العقيدة على غيري مادامت العقيدة تأمرني بالأمر بالمعروف وتأمرني بالنهي عن المنكر، فإعطاء الحق الأول دون الحق الثاني لغوٌ، يصير لغوًا، ما هو هذا الحق هذا؟! هذا المعلم الثاني.

المعلم الثالث:

لاحظ أنت الليبراليين... عندما نقول: «الليبراليين» نقصد النظام الليبرالي، أكرّر أنا: أنا لستُ في مقام ذمّ الليبراليين، لا، قد يكون الليبرالي متدينًا، إذا هو إنسانٌ متدينٌ على عيننا وعلى رأسنا، ليس عندنا أي مشكلة، كونه يرى الليبرالية أو لا يراها هذه مسألة فكرية، نحن ليس خلافنا مع الليبراليين، نحن نطرح بحثًا علميًا، يعني: ليس محلّ خلافٍ ولا محلّ نزاع، بحثٌ علميٌ بين الرؤية الليبرالية وبين الرؤية الدينية، نحن ليس عندنا مشكلة مع الإنسان الليبرالي، لا.

النظام الليبرالي ينادي بكرامة الإنسان، الأصل كرامة الإنسان، هذا مبدأ لا يمكن أن يتنازل عنه ويُرْفَع اليد عنه، كرامة الإنسان هي الأصل، ممتاز، نحن أيضًا - الإسلاميّون - نقول: كرامة الإنسان هي الأصل، القرآن يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [15] أين نقطة الخلاف؟

ما هي كرامة الإنسان؟ نحن متفقون على مبدأ الكرامة لكن ما هي الكرامة؟ ما هي الكرامة؟! النظام الليبرالي يقول: الكرامة أن يكون للإنسان حقّ الاختيار والانتخاب، هذا معنى الكرامة، أن يكون القرار بيد الإنسان، هذا معنى الكرامة، إذا كان القرار ليس بيده فليس مكرّمًا، كرامته أن يكون القرار بيده، لكنّ الرؤية الإسلاميّة تقول: لا، ليست كرامة الإنسان في أن يكون القرار بيده، بل كرامة الإنسان في أن يعطى نظامًا يلبي حاجته ومصلحته العامّة، هذا المهم، المهم أن يعيش في نظام يلبي حاجته ومصالحه العامة والخاصة، أما أن يكون القرار بيده هذا ليس له دخلٌ في الكرامة، لماذا؟

أضرب لك أمثلة:

  1. إذا قلنا بأن كرامة الإنسان في أن يكون القرار بيده لو اختار الإنسان أن يكون إرهابيًا هل من كرامته أن يعطى الحق في أن يكون إنسانًا إرهابيًا؟! لو اختار الإنسان مبدأ الإرهاب والتفجير وإبادة الحياة البشرية والزراعية والصناعية من على الأرض، فهل من كرامة الإنسان أن يكون القرار بيده ولو اختار مذهب الإرهاب؟!
  2. لو اختار الإنسان ترويج المخدرات، قال: أليست كرامتي أن يكون القرار بيدي؟! أنا قرّرتُ أن أروّج المخدرات! «كيفي»! هذا القرار بيدي! هل من كرامة الإنسان أن يكون القرار بيده ولو اختار ترويج المخدرات؟!
  3. هل من كرامة الإنسان أن يكون القرار بيده ولو اختار عبادة مخلوق أقلّ منه؟! قال: أنا أريد أن أعبد صنمًا، كيفي! أنت ما هو دخلك فيّ؟! مثلما موجود في الهند وفي أماكنَ أخرى، مثلاً: البعض يعبد الفأر، هناك أناسٌ يعبدون الفأر، لكنّه فأرٌ أبيض لا أسود! هناك من يعبد الفأر، هناك من يعبد الصنم، هناك من يعبد الشمس، ونحن نرى أن كرامة الإنسان أن يعبد ما هو مبدأ وجوده لا أن يعبد ما هو أقلّ منه في الوجود.

إذن ليس من كرامة الإنسان أن يحطم كرامته بنفسه وأن يذلّ نفسه بنفسه، كما ورد عن النبي محمّدٍ أنه قال: ”إنّ الله فوّض إلى المؤمن كلّ شيء ولم يفوّض له أن يذلّ نفسه“، ليس لك حق أن تذلّ نفسك، أنت تحطم كرامتك بيدك، ليس لك حق، مقتضى كرامتك ألا تحطم كرامتك بنفسك.

إذن هذا خلافٌ جوهريٌ بين الرؤية في النظام الليبرالي وبين الرؤية في النظام الإسلامي والديني، الرؤية في النظام الليبرالي تقرّر أن الأصل كرامة الإنسان، وكرامة الإنسان تعني أن حقّ الاختيار بيده، والإسلام يقول أيضًا: الأصل كرامة الإنسان ولكن كرامة الإنسان لا تعني أن حقّ الاختيار بيده مطلقًا، بل تعني أن يعيش تحت نظام يلبي حاجته وسعادته في إطار مصالحه العامة والخاصة.

المعلم الرابع من معالم النظام الديني:

من معالم النظام الديني: يقول لك: الآن كي يكون النظام فاعلاً لابد أن يكون منسجمًا مع هوية المجتمع وثقافته، ليس كافيًا أن يكون النظام منتخبًا، المهم أن يصبح النظام منتخبًا وخلاص؟! لا، النظام حتى يكون فاعلاً ومؤثرًا في الناس لا يكفي فيه أن يكون منتخبًا من قِبَلِ الناس، بل لابد مضافًا لكونه منتخبًا أن يكون منسجمًا مع هوية المجتمع وثقافة المجتمع، فلو كان عندنا مجتمعٌ غير ديني، مجتمع غير ملتزم، وصا رالنظام غير ديني، لا توجد مشكلة، أما إذا كان المجتمع مجتمعًا متدينًا، مجتمعًا إسلاميًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، هو مجتمعٌ دينيٌ بالنتيجة، إذا كان المجتمع مجتمعًا دينيًا فجعل نظام غير ديني يحكم هذا المجتمع الديني يكون عائقًا أمام فاعلية النظام وتأثيره، فإن النظام كي يكتسب الفاعلية والتأثير لابد أن يكون منسجمًا مع هوية المجتمع نفسه، مع ثقافة المجتمع نفسه، لابد أن يكون النظام نابعًا من عادات المجتمع وتقاليده وثقافته وهويته، فإذا كان المجتمع دينيًا فلابد أن يكون النظام المؤثر والفاعل فيه هو النظام الديني أيضًا.

وأما مسألة أن الله إذا كان له حقٌ فدعه هو يدافع عن حقه! نحن على ماذا هذه الوقعة «ندافع عنه»؟! وأن عدم مراعاة حقّ الله لا يوجب نقصًا في سلطنة الله... هذا ليس صحيحًا، لماذا؟

لأن العقل يحكم بلزوم إعطاء كل ذي حقّ حقه، سواءً كان بخس حقه موجبًا لنقص فيه أو لم يكن موجبًا لنقصٍ فيه، الظلم قبيحٌ أوجب النقص أو لم يوجب النقص، افترض الآن أنت عندك واحدٌ ثريٌ، ثري يملك له ألف بستان، وكل بستان خمسة كيلو، وأنت أتيتَ وأخذتَ رطبة واحدة، من هذه الألف بستان الذي كل بستان كم طوله وكم عرضه أخذتُ رطبة واحدة! وبالتأكيد فإنّ هذا لا يؤثر عليه أبدًا! صحيح لا يؤثر عليه، لكن هذا العمل قبيحٌ أم ليس قبيحًا؟ قبيحٌ، لِمَ؟ التصرف في شأن الغير وظلمه قبيحٌ أوجب نقصًا أو لم يوجب نقصًا، ليس له علاقة بالنقص، بالنتيجة يجب عليك أن تستأذنه.

إذن بالنتيجة: عدم رعاية حقوق الله ظلمٌ من العبد، سواءً كان هذا الظلم موجبًا لنقص في الله أو لم يكن موجبًا لنقص في الله، الظلم قبيحٌ على كل حالٍ، هذا بحكم العقل وحكم الفطرة.

المحور الأخير: هل يمكن التوفيق بين النظريتين؟

هذا بحثٌ في إيران قائمٌ على قدم وساق: أنستطيع أن نؤسّسًا نظامًا دينيًا ديمقراطيًا؟ يعني: يجمع بين المنطلقين، يجمع بين النظريتين، يجمع بين الرؤيتين، نظامٌ دينيٌ وأيضًا ديمقراطيٌ، يمكن أو لا؟

ربّما يقول البعض: لا، لا يمكن، كيف يصير؟! النظام الليبرالي يقول: المنطلق صندوق الاقتراع، لا يوجد منطلقٌ آخر، بينما النظام الديني يقول: المنطلق قرار الدين، قرار السماء، كيف تجمع بين الأمرين؟! هذا منطلقه صندوق الاقتراع، هذا منطلقه قرار السماء «قرار الدين»، كيف تجمع بين المنطلقين «بين النظرين»؟! غير ممكن.

نقول: ممكنٌ، لماذا ممكن؟

هناك أسسٌ ثلاثة أشير إليها بسرعةٍ إذا تأملنا وتدبرنا فيها أمكن لنا إيجاد صياغةٍ توفيقيّةٍ بين الرؤيتين «الرؤية الليبرالية، والرؤية الدينية»، طبعًا هذه ترتبط بالمذهب الإمامي.

الأساس الأول: أنّ المذهب الإمامي يرى المرجعية للعقل في الأصول والفروع.

وهذا ما يعبّر عنه العلماء ب «الحسن والقبح العقليين»، فالحسن يؤخذ من العقل، والقبح يؤخذ من العقل، وليس من الشرع، المرجعية الأولى في الحسن والقبح للعقل، سواءً في الأصول أو في الفروع، كيف في الأصول والفروع؟

أصلاً أنت لا تستطيع أن تثبت الدين إلا بماذا؟ بالعقل، إذا ما عندك عقل كيف تثبت الدين؟! فلولا العقل لما ثبتت حقّانيّة الدين، ولما ثبتت عدالة الله، ولما ثبتت نبوّة ولا معاد، إذن المرجعية الأولى للعقل، المنطلق هو العقل، بالعقل ثبت لنا الدين، فكما أنّ العقل مرجعٌ في إثبات أصل الدين العقل أيضًا مرجعٌ في فهم الدين، ولذلك يقول علماؤنا: الأدلة على الحكم الشرعي: كتاب الله، سنة نبيه، حديث المعصوم، وأيضًا ماذا؟ العقل القطعي، فإنّ العقل القطعي دليلٌ من أدلة الحكم الشرعي، ولذلك أنت ترى منهج علمائنا منهجًا عقلانيًا.

لو جاءتنا آية.. هل هناك أعظم من القرآن الكريم؟! طبعًا لا يوجد ما هو أعظم قدسية من القرآن الكريم، مع ذلك يقول علماؤنا: إذا كان ظاهر الآية يتنافى مع العقل القطعي فحكم العقل القطعي قرينة على الآية، يعني: تؤوّل الآية بما لا يتنافى مع منطق العقل القطعي، هو القرآن! القرآن إذا قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [16] إذا أخذنا بظاهر الآية معناه أنّ الله عسكريٌ جاء والملك صافين يضربون له تحية!! هذا إذا كنا سنأخذ بظاهر الآية، فإذا كان العقل القطعي يرى أنّ الله ليس جسمًا حتى تجوز عليه الحركة والذهاب والمجيء إذن لابدّ من تأويل الآية، بل تعتبر القرينة العقلية والحكم العقلي قرينة على مفاد الآية، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا يعني: جاء أمر ربك والملك صفًا صفًا ينتظرون أوامره جلّ وعلا.

فإذا كان العقلُ مرجعًا فلا تعارض بين حقوق الإنسان وحقوق الله عزّ وجلّ، لماذا نحن نخلق تعارضًا وصراعًا: إمّا حقوق الله، إمّا حقوق الإنسان؟! لا، لا يوجد صراعٌ، لأنّ الحاكم هو العقل، الذي حكم بحقوق الإنسان هو العقل، والذي حكم بحقوق الله هو العقل، مصدر كلا الحقين هو العقل، العقل هو الذي قال: بما أنّ الله منعمٌ فشكر المنعم واجبٌ، لذلك لله حقٌ عليّ، وهو حقّ الطاعة، والعقل نفسه يقول: الإنسان له حقّ الكرامة، كله العقل، فإذا صارت المرجعيّة في فهم الدين للعقل لم نجد تعارضًا بين النظام الديني وبين حقوق الإنسان التي ينادي بها النظام الليبرالي، فإنّ المرجع في القرار في كليهما هو ماذا؟ هو العقل القطعي.

لو فرضنا أنّ فقيهًا من الفقهاء أفتى بحكم يتنافى مع العقل، لو فرضنا من باب المثال يعني، افترض مثلاً فقيه جاء إلى ما ورد عن النبي محمّدٍ قال: ”لا تعلموهنّ الكتابة“ يعني: النسوان لا تعلموهنّ الكتابة، هناك رواية واردة عن النبي هكذا: ”ولا تعلموهنّ الكتابة“، فلو الفقيه أخذ بالرواية، قال: يحرم تعليم المرأة الكتابة! نحن نقول له: لا، هذا مرفوضٌ، لماذا؟ هذا ظلمٌ للمرأة، المرأة إنسانٌ يملك عقلاً، هو كالرجل تمامًا، من حقّه أن يتعلم، من حقّه أن يسترشد، من حقّه أن يعرف كيف يستقي المعلومات بالكتابة أو بالقراءة، هذا الحديث إرشادٌ وليس... يقولون في الأصول: ليس نهيًا مولويًا بل هو نهيٌ إرشاديٌ، بمعنى: إذا كانت الكتابة بالنسبة للمرأة طريقًا لفسادها وقيام علاقة غير مشروعة بينها وبين الرجل فحينئذٍ لا تعلمها الكتابة التي تكون طريقًا لإقامة علاقة غير مشروعةٍ بينها وبين الرجل، هذا يسمّونه نهيًا إرشاديًا وليس نهيًا مولويًا، إذن المرجعيّة للعقل، فلا تعارض، هذا أوّلاً.

الأساس الثاني من الأسس التي توفّق بين النظريتين والرؤيتين الليبرالية والدينيّة: أن نفرّق بين الدين وبين فهم الفقهاء، يعني كيف؟

الدّين قسمان: قسمٌ ثابتٌ، يعني: ثبت لنا بالدليل القطعي، هذا يبقى نظامًا إسلاميًا لا يمكن تغييره، مثلاً: المرأة ترث نصف سهم والرجل يرث سهمًا كاملاً، المرأة شهادتها نصف شهادة الرجل، هذه أنظمة قطعية وردت في القرآن الكريم، هذا نسمّيه دينيًا، هذا دينٌ، أمّا هناك مسائل هي مازالت محلّ البحث، لم تثبت بأدلةٍ قطعيّةٍ وإنّما هي محلّ اختلافٍ بين الفقهاء في فهمهم، هذا لا يعتبر هو الدين حتى يقال: هذا يعارض حقوقَ الإنسان، هذا فهمٌ للفقيه، والفقيه بشرٌ، يمكن أن يخطئ، يمكن أن يصيب، يظلّ هذا الفهم نحترمه، لكنّه ليس هو الدّين، الدّين شيءٌ وفهم الفقيه شيءٌ آخر.

مثلاً: افترض الآن هذه المسائل المثارة مثلاً، افترض مثلاً ولاية الفقيه، نظام ولاية الفقيه مسألة خلافيّة، هناك من الفقهاء من يرى أنّ النظام الثابت نظام ولاية الفقيه العامة، هناك من الفقهاء من ينكر ذلك، لا نستطيع أن نقول: هذا هو الدّين، بما أنّ الدّين يرى نظام ولاية الفقيه إذن الدّين يتعارض مع حقوق الإنسان، لا، مسألة ولاية الفقيه نظرية أحياها الإمام الخميني «قدّس سرّه» وتبعه كثيرٌ من الفقهاء من بعده، صحيحٌ، لكن تبقى هي فتوى وليست هي الدّين، فلا يصحّ أن يقال: الدين يتنافى مع حقوق الإنسان، هناك جزءٌ من التراث الديني هو فتاوى فقهاء، وهناك جزءٌ من التراث الديني ثبت بالأدلة القطعيّة، فهو الذي يمثّل الدين.

الأساس الثالث: صندوق الاقتراع.

النبي الأعظم أخذ البيعة من المسلمين، أليس كذلك؟! ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [17] لماذا النبي أخذ البيعة؟! أكان محتاجًا للبيعة؟! ليس محتاجًا للبيعة، النبي له الولاية من الله عزّ وجلّ، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [18] فالنبي ما كان بحاجة للبيعة لأنّ ولايته ثابتة من السماء، إذن لماذا أخذ البيعة؟ حتى يجمع بين حقّ الإنسان في الانتخاب والاختيار، وبين حقّ السّماء في الحكم، لأنّ البيعة عقدٌ عقلائيٌ ملزمٌ، فعندما أخذ البيعة من الناس على أن يحكمهم بنظام ديني فبعد أخذ البيعة من الناس على أن يحكمهم بنظام ديني صار هذا النظام نافذًا من جهتين:

  1. نافذ لأنّه نظامٌ سماويٌ.
  2. ونافذ لأنّ الناس انتخبوه عن طريق البيعة.

فالبيعة عقدٌ عقلائيٌ ملزمٌ مشمولٌ لقوله عزّ وجلّ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [19]، إذن من الممكن للنظام الديني أن يُعْرَضَ على الناس فينتخبوه من خلال صناديق الاقتراع، فإذا انتخب الناسُ النظامَ الديني من خلال صناديق الاقتراع صار النظامُ الدينيُ نظامًا إلهيًا من جهةٍ، ونظامًا مُنْتَخَبًا من جهةٍ أخرى، فإذن يمكن الجمع في مقام الحكم بين دولة الإنسان ودولة الإسلام من خلال مراعاة بعض الأسس التي تحدثنا عنها.

وإذا رجعنا إلى التاريخ الإسلامي وجدنا أنّ قادة الإسلام هم قادة حقوق الإنسان، علي بن أبي طالب كان قائد دولةٍ إسلاميةٍ لكن في نفس الوقت كان رائد حقوق الإنسان، علي بن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية كما يقول جورج جرداق - وهو إنسانٌ مسيحيٌ - قرأ في شخصية علي أنّه هو رائد العدالة الاجتماعية، هو منبع حقوق الإنسان، علي بن أبي طالب كان يحكم دولة فيها المسيحي واليهودي والمسلم، ولكلٍ حريته الدينية، علي بن أبي طالب يقول لمالك الأشتر: ”واعطف قلبك للرعية، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّ الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلق“، يقول له: المواطن صنفان: مواطن معك على الدّين، ومواطن ليس معك على الدين ولكنّه مواطنٌ له تمام حقوقه.

وعليٌ لا يقول الكلام ولا يطبقه، لا، هو يطبقه، الإمام علي مرّ على كنيسة، كنيسة في العراق موجودة قائمة أثناء حكمه، قال له بعضُ أصحابه له: هذا مكانٌ طالما عُصِيَ فيه الله! قال: ”مه! قل: هذا مكانٌ طالما عُبِدَ فيه الله“، هذا رائد حقوق الإنسان، هذا يقول: الكنيسة معبدٌ، والمسجد معبدٌ، كلاهما مكانٌ للعبادة، ”هذا مكانٌ طالما عُبِدَ فيه الله“، دولة علي دولة الإنسان كما هي دولة الإسلام، لم تفرّق بين الأديان، لم تفرّق بين المذاهب، لم تفرّق بين القوميّات، ولم تفرّق بين الأعراق، لم تفرّق بين الألوان.

وسار على مبادئ علي شبلُ علي الحسينُ بن علي، ثورة الحسين هي ثورة إنسانية قبل أن تكون ثورة دينية، الحسين نادى بالمبادئ الإنسانية، نادى بالحرية، بالكرامة، برفض الذل، ما طرحه الحسين هو شعارات إنسانية، ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة - شعار إنساني - يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون“، الحسين طرح شعار الإصلاح، شعار الإصلاح شعارٌ إنسانيٌ، ”ما خرجتُ أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح“.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] النحل: 90.
[2] البقرة: 30.
[3]ص: 26.
[4]المائدة: 44 - 45.
[5]الأحزاب: 36.
[6]البقرة: 255.
[7]فاطر: 15.
[8]المعارج: 19 - 21.
[9]الرعد: 28.
[10]الطلاق: 3.
[11]آل عمران: 122.
[12]البقرة: 256.
[13]آل عمران: 104.
[14]آل عمران: 110.
[15]الإسراء: 70.
[16]الفجر: 22.
[17]الفتح: 10.
[18]الأحزاب: 6.
[19]المائدة: 1.