وحدة الوجود بين الفلسفة والعرفان

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن معرفة الإنسان بربه، ومن هذا المنطلق نتحدث عن محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: في الفارق بين المعرفة الصورية والمعرفة الشهودية لله تبارك وتعالى.

الآية المباركة قسّمت المعرفة - أي: معرفة الإنسان بربه - إلى قسمين:

  1. معرفة آفاقية عبّرت عنها الآية المباركة: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ.
  2. ومعرفة أنفسية عبّرت عنها الآية المباركة: ﴿وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.

وفي آية أخرى قوله عزّ وجلّ: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [2]  وهذا تعبيرٌ عن المعرفة الآفاقية ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [3]  وهذا حديثٌ عن المعرفة الأنفسية، تارة يتعرف الإنسان على ربه من خلال آثاره ومخلوقاته من سماء وأرض وعوالمَ وموجوداتٍ، وتارة يتعرف الإنسان على ربه من خلال التدبر في نفسه والتأمل في داخله، فما هو الفرق بين المعرفتين: بين التعرف على الله من خلال الوجود الخارجي الذي نعيش فيه، أو من خلال الوجود الداخلي، أي: من خلال أنفسنا، ومن خلال قوانا الداخلية؟

الفرق بين المعرفتين هو الفرق بين المعرفة الصورية والمعرفة الشهودية، ما معنى ذلك؟

الإنسان عندما يريد أن يتعرف على الأشياء تارة يتعرف عليها معرفة صورية عبر صورة ترتسم في ذهنه، في عقله، وتارة يتعرف على الأشياء معرفة شهودية بأن يشهدها شهودًا وجدانيًا، شهودًا قلبيًا، مثلاً: كيف أنا أعرفك أنت؟ أنت الذي تجلس أمامي إنّما أتعرّف عليك معرفة صورية، يعني: معرفتي إياك عبر صورة، صورتك ترتسم في ذهني، إذا رأيتك ارتسمت لشخصيتك صورة في ذهني، فأنا أتعرف عليك من خلال الصورة، وإلا أنت لم تحضر بنفسك في داخل قلبي وفي داخل وجداني، إذن من خلال الصورة تعرفت عليك، هذه تسمّى معرفة صورية عبر الصور.

أمّا عندما أريد أن أتعرف على نفسي فلا أحتاج أن أوسّط بيني وبين نفسي صورة، إذا أردتُ أن أتعرف على نفسي فنفسي حاضرة بذاتها عندي، لا أحتاج إلى أن أوسّط صورة بيني وبين نفسي، فأنا أعرف نفسي معرفة شهودية، أشهد نفسي شهودًا وجدانيًا قلبيًا، بينما معرفتي بك لأنّك لستَ حاضرًا عندي، معرفتي بك معرفة عن طريق الصورة وبواسطة الصورة، فهي معرفة صورية.

إذن المعرفة على قسمين: معرفة بواسطة الصورة، كما في تعرفي عليك، ومعرفة بواسطة الشهود والوجدان والإحساس الداخلي، وهذه تسمّى معرفة شهودية، ولا إشكال أنّ المعرفة الشهودية أقوى وأرسخ وأتم من المعرفة الصورية، أنا أتعرف على حبك لي، أنت تحبني، لكنني أتعرف على حبك لي بواسطة، بينما أتعرف على حبي لك بدون واسطة، لأنّ حبي لك حاضرٌ في وجداني، في قلبي، معرفتي بحبك لي غير معرفتي بحبي لك، معرفتي بحبك لي بواسطة، معرفتي بحبي لك بدون واسطة، فالمعرفة الثانية أتم وأجلى من المعرفة الأولى.

من هنا نأتي إلى التعرف على الله جلّ جلاله: تارة الإنسان يتعرف على الله معرفة صورية من خلال آثاره، من خلال مخلوقاته، عندما يتأمل، يتدبر في هذا الكون، القرآن الكريم يشير إلى هذه المعرفة الصورية: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [4] ، هذه المعرفة الناتجة عن التفكر التي يعبّر عنها النبي محمّدٌ : ”تفكّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة“، هذه المعرفة الناشئة عن التفكر مازالت هي معرفة متقوقعة في الصورة، مازالت هي معرفة صورية، يعني: يرتسم في ذهنك لله صورة معينة، لنور الله صورة معينة، لقوة الله صورة معينة، لصفات الله صورة معينة، فهي معرفة مؤطرة بالصورة، متقوقعة بالصورة، لذلك هذه المعرفة معرفة صورية.

بينما إذا عبر الإنسان إلى ربه عن طريق داخله، عن طريق النفس، إذا اكتشف الإنسان نفسه اكتشف ربه اكتشافًا وجدانيًا شهوديًا وليس اكتشافًا صوريًا، الإنسان إذا تدبر نفسه وصل إلى ربه وصولاً وجدانيًا، ورد عن النبي محمّدٍ : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، وورد عنه : ”أنفع المعرفتين معرفة النفس“، وورد عنه : ”أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه“.

عندما يتأمّل الإنسان في هذه النفس يجد أنّها نفسٌ ضعيفة مهما الإنسان من علم، من قوة، من طاقة، مهما ملك الإنسان من طاقة وقوّة وقدرة لكنه إذا تأمل في نفسه وجدها ضعيفة جدًا، ضعيفة تحتاج إلى استمداد القوة، جاهلة تحتاج إلى استمداد العلم، ميتة تحتاج إلى استمداد الحياة، النفس ضعيفة، كلما تأمل الإنسان في أطوار نفسه، في نوازع نفسه، في غرائز نفسه، وجد أنها عين الضعف، عين النقص، عين المحدودية، فإذا تأمل في نفسه وتدبرها وجد أنها عين النقص، عين الضعف، عين العجز، إذن يجد حاجة داخلية وجدانية لقوة أخرى تمده بالعطاء، تمده بالعلم، تمده بالنشاط، إحساس الإنسان إحساسًا داخليًا بحاجته لقوة تمده بالعطاء والعلم والنشاط والقدرة، هذا الإحساس شهودٌ لله شهودًا وجدانيًا وليس شهودًا صوريًا، كلما تأمل في نفسه استقر وجدانه على الحاجة.

نظير الطفل، الطفل كلما جاع إلى الحنان عانق أمه، أمسك بأمه، لماذا؟ هناك إحساسٌ داخليٌ، ليست المسألة مسألة معرفة صورية، هناك معرفة شهودية وجدانية، هذا الطفل كلما جاع إلى الحنان، كلما ظمئ إلى الحنان والعطف لجئ إلى أمه، الطفل يعانق أمه، لماذا؟ يعانق أمه لأنّ هذا العناق يغذيه بما يشعر بالحاجة إليه شعورًا وجدانيًا، هو الطفل يشعر شعورًا وجدانيًا أنه يعيش نقصًا في الحنان، يعيش نقصًا في العطف، يعيش نقصًا في المحبة، فيشعر بالاحتياج إلى قوّة تملؤه بالمحبة والحنان والعطف، وهذا الشعور الداخلي هو معرفة الطفل بأمه لكن معرفة شهودية وجدانية وليست معرفة صورية.

من هنا الطريق الثاني في التعرف على الله وفي الوصول إلى الله هو التعرف إليه عن طريق النفس وسبر قواها وسبر أطوارها وشؤونها إلى أن يصل إلى درجة أنه يشعر بالحاجة شعورًا وجدانيًا، كما يشعر بالحاجة إلى الطعام إذا جاع، كما يشعر بالحاجة إلى الماء إذا عطش، كما يشعر بالحاجة إلى الحب إذا أحسّ بالمحرومية، يشعر بالحاجة إلى القوة، إلى قوة الله تبارك وتعالى؛ لأنّه يشعر دائمًا بالضعف والنقص والمحدوديّة، هذا هو المحور الأول من حديثنا: بيان الفرق بين المعرفة الصورية والمعرفة الشهودية لله تبارك وتعالى.

المحور الثاني:

المعرفة الشهودية لله تبارك وتعالى يعبّر عنها علماءُ العرفان بمصطلح يسمّى «وحدة الوجود»، ما هو المقصود بهذا المصطلح لدى علماء العرفان؟ نحن شرحنا هذا المصطلح بتعبير آخر سميناه «المعرفة الشهودية»، الآن نشرحه بهذا العنوان الثاني المسمّى بوحدة الوجود، وحدة الوجود مصطلحٌ اختلف في مدلوله ومفاده العلماءُ، نحن نذكر تعريفين:

  1. التعريف الفلسفي لوحدة الوجود.
  2. والتعريف العرفاني لوحدة الوجود.

التعريف الفلسفي لوحدة الوجود:

الفلاسفة يقولون: مفهوم الوجود واحدٌ، يعني: لفظة الوجود مفهومها واحدٌ، وهو الثابت، الوجود يعني الثبات، فكل ما هو ثابتٌ فهو موجودٌ، إذن مفهوم الوجود واحدٌ، إنما مراتب الوجود متفاوتة، كيف؟

مثل النور، النور مفهومه واحدٌ، النور ما يزيل الظلمة، كل شيء يزيل الظلمة ويكشفها ويبدّدها فهو نورٌ، لكنّ مراتب النور متفاوتة، لا يقاس نورُ المصباح بنور الشمس، نور المصباح بالنسبة لنور الشمس ذرّة بالنسبة إلى مليون مثلاً، أو بالنسبة إلى مليار، مرتبة نور الشمس أقوى وأتمّ وأوسع من مرتبة نور المصباح، لكن كليهما نورٌ، هذا نورٌ وهذا نورٌ؛ لأنّ كليهما يزيل الظلمة، إلا أنّ هذه المرتبة - وهي نورية الشمس - أتم وأوسع من مرتبة نورية المصباح.

بالنسبة لله والمخلوق «وعبده»: الوجود كمفهوم يجمعهما، الوجود هو الثبات، الله له ثباتٌ إذن هو موجودٌ، المخلوق أيضًا له ثباتٌ إذن هو موجودٌ، لكن موجودية الباري تختلف اختلافًا تامًا عن موجودية العبد والمخلوق، وجود الباري وجودٌ هو ذاته، ذاته هي الوجود، وجود الباري وجودٌ لا يحده حدٌ، لا يشوبه عدمٌ، لا يعتريه نقصٌ، لا يقيده قيدٌ، وجودٌ مطلقٌ، ولذلك هذا الوجود جامعٌ لسائر أنواع الكمالات لأنّه وجودٌ مطلقٌ لا يشوبه عدمٌ ولا نقصٌ.

بينما وجود الإنسان وجودٌ محدودٌ، محدودٌ زمانًا، محدودٌ مكانًا، محدودٌ قدرة، محدودٌ علمًا، محدودٌ حياة، فأين المحدود من اللامحدود؟! وأين المقيّد من المطلق؟! وأين الممكن من الواجب؟! إذن الفرق بين الوجودَيْن فرقٌ جوهريٌ واضحٌ، وإن كان هذان الوجودان يشتركان في معنى كلمة الوجود، يعني: الثبات، وإلا فبينهما فرقٌ من حيث الموجوديّة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [5]  وبين الغنى والفقر فرقٌ واضحٌ.

إذن معنى وحدة الوجود يعني مفهوم الوجود واحدٌ، وإلا مراتب الوجود متفاوتة، هذا بحسب التعريف الفلسفي، بحسب الاصطلاح الفلسفي.

التعريف العرفاني:

علماء العرفان يقولون: وحدة الوجود لها معنىً آخر، وحدة الوجود بمعنى أنّ الإنسان يصل إلى درجة يشعر بوجدانه... المسألة مسألة وجدانية شهودية كما شرحنا في المحور الأول، يصل إلى مرحلة ألا يرى شيئًا غير الله عزّ وجلّ، كل ما سواه فهو مجرّد إشارة ومجرّد وجه ومجرّد تجلٍ ومجرّد نظر يشير إلى الباري تبارك وتعالى ليس إلا.

يعني الآن من باب المثال أمثل لك: هذا الإنسان، أنت الآن الذي جالس أمامي، أنت أنا كيف أكتشفك؟! أكتشفك من خلال كلامك، من خلال وجهك، من خلال حتى لباسك أستطيع أن أكتشفك، الإنسان له كواشفُ يتجلى فيها، قد تتجلى شخصيّة الإنسان من خلال وجهه، الإمام أمير المؤمنين عليٌ «عليه السّلام»: ”ما أضمر امرؤٌ في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، أنا أكتشفك أحيانًا من خلال قسمات وجهك، قسمات وجهك تشير إلى شخصيتك، أكتشفك أحيانًا من خلال كلامك، الكلام، نوع الكلام، مستوى الكلام، رصانة الكلام، تدل على شخصيتك، ولذلك ورد عن الإمام علي «عليه السّلام»: ”المرء مخبوءٌ تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه“، لسانه هو الذي يعبّر عنه.

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه   فلم  يبقَ  إلا صورة اللحمِ iiوالدّمِ

اللسان يعبّر عن شخصية الإنسان ومدى تفكيره ومدى ثقافته، إذن لسانك مظهرٌ لك، قسمات وجهك مظهرٌ لك، طريقة مشيك، أحيانًا طريقة المشي تكشف عن الشخصية، طريقة مشيك مظهرٌ لك، إذن أنت شخصية لها مظاهرُ من لسان، من مشي، من قسمات وجهك، فإذا أنا قرأتُ شخصيتك من خلال هذه المظاهر التي رأيتُها لك توصّلت لشخصيّك من خلال هذه المظاهر، حينئذٍ يعدّ هذا نوعًا من المعرفة والوصول إلى شخصيتك.

نأتي إلى الباري تبارك وتعالى: الله جلّ وعلا خلق هذه المخلوقاتِ وقلنا: أقربها إلى الإنسان نفس الإنسان، خلق هذه المخلوقاتِ كلها، كيف يقرؤها الإنسانُ؟ كيف ينظر إليها الإنسانُ؟ إذا وصل الإنسانُ إلى مرحلة - بعد تهذيب نفسه وإصلاح نفسه والتدبّر في ضعف نفسه - وصل إلى مرحلة أنّه يرى هذه الأشياء وجهًا لله معبّرًا عن الله مشيرًا لله، لا يرى شمسًا ولا قمرًا ولا نباتًا ولا إنسانًا ولا حيوانًا، هذه الكثرات كلها تذوب، كما يقول علماء العرفان: الكثرة تذوب في الوحدة.

هذه كلها الكثرات: إنسانٌ وشجرٌ وحيوانٌ وسماءٌ وأرضٌ... كل هذه الكثرات تزول وتذوب وتتحد هذه الألوانُ كلها في شيء واحدٍ وهو أنها مظهرٌ لله مشيرٌ لله معبّرٌ عن الله عزّ وجلّ، إذا ذابت الكثرات في الوحدة وأصبح كلُ شيء يعني شيئًا واحدًا وهو الله، وأصبح كلُ شيء يشير إلى شيء واحدٍ وهو الله حينئذٍ يكون الإنسانُ وصل إلى مرحلة معرفة الله معرفة شهودية، وصل إلى مرحلة معرفة الله بوحدة الوجود، أي: ألا موجود حقيقة إلا الله، وباقي الأشياء مجرّد مشير، مجرد رمز، مجرد معبّر، مجرد وجه لله تبارك وتعالى.

وفي الآية الكريمة إشارة لهذا المعنى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [6] ، ما هو معنى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؟

بعض المفسّرين يفسّرها: يعني كل شيء سوف يموت، يبقى وجهُ الله، لا، هناك تفسيرٌ آخر، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني: جميع هذه الألوان - لونٌ نسمّيه سماءً، لونٌ نسمّيه نباتًا، لونٌ نسمّيه حيوانًا، لونٌ نسمّيه إنسانًا... - جميع هذه الألوان زائفة هالكة لا حقيقة لها إلا وجه الله الذي ظهر فيها، هذا معنى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ، يعني: جميع هذه الألوان والصور والكثرات ليس لها حقيقة، ما له الحقيقة من هذه الصور كلها هو وجه الله الذي يتجلى فيها ويظهر فيها ويبرز من خلالها، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.

ألا كل شيءٍ ما خلا اللهُ باطلُ   وكلُ   نعيمٍ   لا  محالة  iiزائلُ

وفي دعاء يا مجير الذي يُقرَأ في الأيام البيض من شهر رمضان فيه هذا اللفظ: ”تعاليتَ يا موجود“، الإنسان يخاطب ربّه: ”تعاليتَ يا موجود“، ما هو معنى ”تعاليتَ يا موجود“؟ يعني: تعاليتَ يا من هو موجودٌ بالوجود الحقيقي والذي ما سواه مجرّد رمزٍ ومشيرٍ إليه ليس إلا.

من وصل إلى هذه المرحلة من المعرفة الشهوديّة - لا يرى شيئًا إلا وهو وجهٌ لله - صحّ له أن يقول: ”عرفتك بذاتك، وأنت دللتني عليك“، صحّ له أن يقول أمير المؤمنين عليٌ : ”يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته“، صحّ له أن يقول كالإمام الحسين : ”أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليلٍ يدلّ عليك؟!“ أنت واضحٌ في كل شيء، بارزٌ في كلّ شيءٍ، ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليلٍ يدلّ عليك؟! ومتى كانت الآثارُ هي التي توصل إليك؟! عميتُ عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودّك نصيبًا“.

المحور الثالث:

هل يمكن لنا نحن، نحن الإنسان العادي، هل يمكن لنا أن نتعرف على الله معرفة شهودية، أن نشعر بالله شعورًا وجدانيًا، أن نصل إلى هذه المرحلة ولو من بعض مراتبها ومنازلها أم لا؟ هل يمكن ذلك أم لا؟

علماء العرفان يقسّمون المراتب إلى: شريعة، طريقة، حقيقة.

1. الشريعة: هي الطقوس العبادية التي نمارسها، هذه الشريعة، هذه طقوسٌ لابد منها، طقوسٌ واجبة، نحن نقوم بالصلاة مثلاً، نصلي لربنا، هذه الصلاة التي نمارسها هذه هي الشريعة، وهذه الشريعة طريقٌ ومعبرٌ لأمر آخر ألا وهو الطريقة: ما هي الطريقة؟

2. الطريقة: إظهار الخضوع والذل من النفس إلى الجوارح، الإنسان حتى يصل إلى هذه المعاني والمضامين لا يكفي أن يصلي صلاة رياضية، نحن نصلي صلاة رياضية، يعني: نمارس حركاتٍ رياضية بقصد القربة لله! لا يكفي أن يصلي الإنسان صلاة رياضية، حتى يصل إلى هذه المعاني يحتاج إلى أن يبرز الخضوع والخشوع الكامن في نفسه على جوارحه، على حركاته، على سكناته.

مرّ الإمامُ أميرُ المؤمنين عليٌ ، رأى رجلاً يصلي وهو يعبث بلحيته، قال: ”لو خشع قلبُه لخشعت جوارحُه“، هذا إنسانٌ يصلي صلاة رياضية، صلاة روتينية، هذا إنسانٌ لم يبرز الخضوع من قلبه على جوارحه، الطريقة التي هي وراء الشريعة، الطريقة التي هي وراء هذا الطقس الذي نمارسه أن تبرز الخشوع، أن تبرز الذل، أن تبرز أنّك واقفٌ موقفَ الخاضع الذليل.

كان الإمام الحسنُ الزكيُ «سلام الله عليه» إذا وقف على باب المسجد وقف خاضعًا ذليلاً مصفرّ اللون وهو يقول: ”إلهي مسكينك ببابك، أسيرك بفنائك، يا محسن قد أتاك المسيء، أنت المحسن وأنا المسيء، يا محسن تجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم“، إذن الطريقة إبراز الخضوع وإبراز التذلل.

ثم الإنسان ينتقل من الطريقة إلى الحقيقة، كيف ينتقل الإنسان من الطريقة إلى الحقيقة؟ أن يزيل غبارَ الغفلة، نحن مشكلتنا مشكلة الغفلة، كلنا نعيش مرض الغفلة، قد يكون الإنسانُ وقتَ الصلاة ملتفتًا خاشعًا ذليلاً، لكن بمجرد أن تنتهي الصلاة يعود إلى ما كان، نحن نعيش مرض الغفلة، ومرض الغفلة هو الحاجب، الحاجب الكبير بيننا وبين الحقيقة.

3. الحقيقة: أن تتذوق طعمَ هذه العبادة، بعد أن تبرز الخضوع والذل على بدنك «على جوارحك» تتذوق طعمَ العبادة، هل تشعر بأنّ للصلاة طعمًا؟! هل تشعر بأنّ للنافلة طعمًا؟! هل تشعر بأنّ للدعاء طعمًا؟! عندما تتذوق طعمَ هذه الأشياء وتصل إلى نكهتها وتصل إلى لذتها حينئذٍ تشتاق إليها، من اشتاق إلى الدعاء، من اشتاق إلى النافلة، من اشتاق إلى القرآن، من اشتاق إلى الصلاة على محمّدٍ وآل محمّدٍ، من اشتاق لهذه العبادات هو الذي وصل إلى مرحلة الحقيقة، من شعر بطعمها، من شعر بلذتها.

أما الذي يعشر أن الصلاة واجبٌ لابد من إلقائه عن عاتق الإنسان لكي يسقط الأمر فهذا لم يصل إلى مرحلة الحقيقة، مازال يعيش في الشريعة بعد، أمّا من شعر بأنّ الصلاة لقاء المحب ومحبوبه، والعاشق ومعشوقه، من وصل إلى هذه المرحلة هو الذي وصل إلى مرحلة الحقيقة، ولذلك المانع الأساس والعائق الكبير أمام الشعور بطعم العبادة وبطعم المناجاة وبطعم لقاء الله هو غفلتنا عن أنفسنا، نحن مصابون بمرض الغفلة، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [7] .

مرض الغفلة الذي تحدث عنه الإمام أمير المؤمنين عليٌ ، مرّ يومًا على السّوق، والناس مشغولة في السّوق بالبيع والشراء والمساومة والمماحكة، وقف ونظر إليهم وصار يبكي، قال: ”يا عبيد الدنيا وعمّال أهلها، إذا كنتم بالنهار تحلفون، وبالليل تنامون، وما بين ذلك أنتم غافلون، فمتى تهيّئون الزاد، وتستعدون للمعاد؟!“ متى؟! إذا أنا في النهار في الوظيفة والعمل، وأرجع تعبان وأريد أن أتغدى وأصلي وأرتاح مع عيالي وأطفالي، وأستمر على هذا المنوال عشرين، ثلاثين سنة أنا على هذا المنوال، على هذه الطريقة: النهار عملٌ والليل راحة، إذن متى الاستعداد؟! متى تهيئة الزاد؟! متى الاستعداد للمعاد؟! متى؟!

إذن أنا مصابٌ بمرض الغفلة، لأنّني مصابٌ بمرض الغفلة لذلك لا أشعر للعبادة طعمًا، ولا أشعر للعبادة لذة، ولا أشعر للدعاء نكهة أبدًا، أمارسها كما أمارس أي روتين في حياتي، وأي عادةٍ في حياتي، لأنّ الغفلة مسيطرة عليّ، الدنيا وأشغالها وأعمالها ووظائفها شغلت وقتي وفكري ونفسي وقلبي، لا يمكن للإنسان أن ينفذ من هذه المنازل ويصل إلى مرحلة الحقيقة حتى يتخلص من مرض الغفلة.

والتخلص من مرض الغفلة بالخلوة، بأن يخلو الإنسان بنفسه ولو في كل يوم خمس دقائق، ولو في كل يوم عشر دقائق، أن يخلو الإنسانُ بنفسه ليصلي ركعتين لربه، ليس من الضروري أن يصلي صلاة الليل كلها، ركعتين، ”ركعتان مقتصدتان خيرٌ من سبعين ركعة“، ركعتان مقتصدتان يتذكر الإنسانُ فيهما ذنوبَه، ويتذكر فيهما معاصيه، ويتذكر فيهما شريطه الأسود وأعمالَه السيئة، إذا الإنسان يخلو بنفسه عن أطفاله، عن عياله، عن الحياة كلها، وعن زخمها وضوضائها، يخلو بنفسه في اليوم ركعتين ليتحدث مع ربّه، ليناجي ربه، ليستذكر ذنوبَه، ليؤنّب قلبَه، ليوبّخ نفسه على أخطائه ومعاصيه، هذه الخلوة ضرورية لنا، علاجٌ حاسمٌ لنا، هذه الخلوة طريقٌ إلى أن نصل إلى مرحلة لذة العبادة وطعم العبادة «اللهم نبّهنا من نومة الغافلين».

وهذا ما أكّد عليه أهلُ بيت النبوّة من ضرورة الخلوة مع الله، والخلوة في مناجاة الله تبارك وتعالى، ولقد رأيتُه ليلة من لياليه قابضًا على شيبته يتململ تململَ السّليم وهو يقول: ”إليكِ يا دنيا غرّي غيري، فلقد بِنْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها، فعيشكِ حقيرٌ، وعمركِ قصيرٌ، وخطركِ كبيرٌ، آهٍ من قلة الزاد - هذا أمير المؤمنين يقول - آهٍ من قلة الزاد، ووحشة الطريق“.

نحن نحتاج إلى أن ننير دروبنا بنفس هذه الخلوة، ولذلك كان أهلُ البيت يصرّون على مزاولة الخلوة وصلاة الليل، ويوصي بعضُهم بعضًا بالخلوة وصلاة الليل؛ لأنّها وقت أنْسِهم بربهم ومعشوقهم تعالى...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] فصلت: 53.
[2] الذاريات: 20.
[3] الذاريات: 21.
[4] آل عمران: 191.
[5] فاطر: 15.
[6] القصص: 88.
[7] الأعراف: 179.