مقدمة في تفسير سورة الفاتحة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وردت رواياتٌ كثيرة - ومنها بعض الرّوايات عن الإمام الباقر سلام الله عليه - أنّ المراد بالسّبع المثاني هو فاتحة الكتاب، أي: سورة الفاتحة، وللحديث عن هذا المطلب نتكلم في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: ما هو وجه تسمية فاتحة الكتاب بالسّبع المثاني؟

ذكر المفسّرون عدّة أقوال في المقام:

القول الأوّل: أنّ المراد بالمثاني قسمٌ من القرآن الكريم، والسّبع من هذا القسم هي آيات فاتحة الكتاب، فقد نقل الفريقان عن النبي : ”أعْطِيتُ الطولة مكان التوراة - والمقصود بالطول: من سورة البقرة إلى سورة التوبة - وأعْطِيتُ المئين مكان الإنجيل - والمقصود بالمئين: السّور التي تتضمّن أكثر من مئة آيةٍ - وأعْطِيتُ المثاني مكان الزبور - والمثاني جمع مثنى، أي: المتكرّر، والمقصود بها: السّور التي تقلّ عن المئين، أي: ما كانت مئة آية أو أقل - وفضّلت بالمفصّل، وهو سبعٌ وستون سورة“.

القول الثاني: أنّ المراد بالسّبع المثاني الفاتحة لتكرّرها في الصّلاة، باعتبار أنّ الواجب قراءة الفاتحة مرتين في الصّلاة.

الوجه الثالث: أنّها إنّما سمّيت بذلك لنزولها مرتين: مرة بمكّة، ومرة بالمدينة؛ لعظمة شأنها.

والصّحيح: أنّ المراد بالمثاني جميع القرآن الكريم، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ المراد بالمثاني هو جميع آيات القرآن، والوجه في تسمية آيات القرآن بالمثاني قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [2] ، لماذا سمّي القرآن بالمثاني؟

نحن لو تأمّلنا هذه الآية الشّريفة: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ لاستفدنا منها أنّ معرفة القرآن بثلاثة طرق:

1. المعرفة اللغويّة.

2. والمعرفة الربطيّة.

3. والمعرفة الرّوحيّة.

كلّ كتابٍ يقرؤه الإنسان يمكن أنْ يتعرّف عليه بثلاثة طرق: المعرفة اللغويّة.. مثلاً إذا وقع بيدي كتابٌ للعقّاد أو لطه حسين أو وقع بيدي كتابٌ للسّيّد الصّدر قدّس سرّه أو الشّيخ مطهري قدّس سرّه فأنا عندما أقرأ هذا الكتاب أتعرّف عليه بثلاثة طرق:

الطريق الأوّل: المعرفة اللغويّة.

الكتاب له لغة وله أسلوبٌ كُتِبَ به، هناك أسلوبٌ واحدٌ ولغة واحدة تجمع كلّ ألفاظ الكتاب وكلّ حروف الكتاب، فأنا إذا قرأتُ الكتابَ أنستُ بلغته وأنستُ بأسلوبه، ولذلك لو أعطاني شخصٌ جملة من خارج الكتاب أستطيع أنْ أميّز أنّها من جمل الكتاب أو من غيره نتيجة لمعرفتي اللغويّة بالكتاب، وهذه الطريقة يستخدمها المحللون التاريخيّون لإثبات سند أيّ قصةٍ وأيّ روايةٍ، ولذلك يذكر المحللون التاريخيّون أنّه مثلاً إذا جاءنا بيتٌ، بيت شعر للمتنبي وأردنا أنْ نعرف أنّه له أم ليس له نقايسه بلغة الدّيوان وبأسلوب ونفس المتنبي، نُسِبَ للمتنبي أنّه قال:

وتركتُ    مدحي   للوصيّ   متعمّدًا

وإذا  استطال  الشّيءُ  قام  iiبنفسه

 
إذ   كان   نورًا   مستطيلاً   iiشاملاً

وصفات ضوء الشّمس تذهب باطلاً

لو قاسينا بين هذين البيتين وبين نفس المتنبّي لوجدناهما متطابقين، ممّا يدلّ على أنّ هذا الشّعر صادرٌ عن المتنبّي حقًا، مثلاً: إذا قرأنا الخطبة الشّقشقيّة نجد أنّها منسجمة مع لغة نهج البلاغة ومع نفس نهج البلاغة، وبذلك نستدلّ على أنّها من نهج البلاغة وأنّها صدرت عن علي عليه السّلام، فمن جملة الطرق لتوثيق التاريخ ومن جملة الطرق لإسناد جميع الأمور إلى أصلها هو طريق المعرفة اللغويّة.

أيضًا من جملة الطرق المعرفة اللغويّة بالقرآن، أيّ آيةٍ تُنْسَب إلى القرآن يمكن معرفة أنّها من القرآن أم ليست منه من خلال قراءة لغتها ونفسها، قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا المراد بالكتاب المتشابه الذي تشابهت آياته وتشابهت سوره من حيث اللغة ومن حيث الأسلوب، فقوله: ﴿مُّتَشَابِهًا إشارة إلى المعرفة اللغويّة.

المعرفة الثانية هي: المعرفة الربطيّة.

بمعنى أنّني إذا قرأتُ كتابًا للسّيّد الصّدر استطعتُ أنْ أربط أوّله بوسطه ووسطه بآخره، استطعتُ أنْ أفسّر بعضَ كلامه بالبعض الآخر وبعضَ مقاصده بالبعض الآخر، هذا يسمّى بالمعرفة الربطيّة.

هنا أيضًا القرآن الكريم يمكن تفسير آياته بالآيات الأخرى، لاحظوا قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [3] ، القرآن الكريم ينقسم إلى قسمين:

1 - آيات محكمات.

2 - وآيات متشابهات.

المقصود بالآيات المحكمات هي الأصول والقواعد، تمامًا مثل علم الطب، علم الطب له قواعدُ عامة وله تفصيلات جزئيّة، فالطبيب هو الإنسان القادر على أنْ يُرْجِعَ التفصيلات الجزئيّة إلى القواعد العامّة، مثلاً: علم الفقه له قواعدُ عامة وله تفصيلات جزئيّة، الفقيه هو القادر على إرجاع التفصيلات الجزئيّة إلى القواعد العامّة، القرآن الكريم أيضًا كذلك له آياتٌ تتضمّن الأصول العامّة والقواعد العامّة للفكر القرآني، وله آياتٌ تتضمّن قضايا جزئيّة، والمفسّر الحقيقي للكتاب هو القادر على إرجاع الآيات المتعلقة بالقضايا الجزئيّة إلى الآيات المتعلقة بالقواعد العامّة، فالآيات المتضمّنة للقواعد العامّة تسمّى بأمّ الكتاب، أمّ الكتاب يعني: مرجع الكتاب، ما يرجع إليه تفسيرُ الكتاب، وتسمّى بالآيات المحكمات، والآيات المتعرّضة للتفاصيل الجزئيّة هي الآيات المتشابهات، فإنّها ما لم تُرْجَع إلى الآيات المحكمات لمعرفة تفسيرها والمراد الجدّي منها تبقى متشابهة ومجملة.

إذن هناك فرقٌ بين الآيات المتشابهات وبين الكتاب المتشابه، الآيات المتشابهة مقابل الآيات المحكمات، وهي الآيات المتعرّضة لتفاصيل الفكر القرآني، ولذلك قال القرآن الكريم: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ التأويل هو إرجاع الشّيء إلى أصله، تأويل الشّيء يعني إرجاعه إلى ما يؤول إليه، إرجاعه إلى أصله، فإرجاع التفاصيل القرآنيّة إلى أصلها - يعني: إلى الآيات المحكمات - هو إرجاع المتشابهات إلى المحكمات المسمّى بالتأويل، التأويل وإرجاع المتشابهات إلى المحكمات هو الذي نسمّيه بالمعرفة الربطيّة، المعرفة الرّبطيّة: ربط القرآن بعضه ببعض، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: ”إنّ القرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض“، فإرجاع بعض آياته إلى البعض الآخر نسمّيه بالتأويل ونسمّيه بالمعرفة الرّبطيّة ونسمّيه بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات، فالآيات المتشابهات مقابل الآيات المحكمات، وهذا غير الكتاب المتشابه، القرآن المتشابه معناه أنّه متشابهٌ بتمام آياته، والمراد بالتشابه هنا تشابه آياته في اللغة والأسلوب، بخلاف المراد بالآيات المتشابهات، هي الآيات التي لو لم تُرْجَع إلى الآيات المحكمات لكانت مجملة وغير واضحة المعنى، لأجل ذلك نقول بأنّ قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ التعبير بالمثاني إشارة إلى المعرفة الرّبطيّة؛ لأنّ المثاني جمع مثنيّة، والمثنيّة يعني: ما يُثْنَى بعضه على بعض وما يلوى بعضه على بعض، فإرجاع بعض القرآن للبعض الآخر تثنية، لذلك يسمّى القرآن مثاني.

3/ وأمّا المعرفة الرّوحيّة فهي قوله تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أنا إذا قرأتُ كتابًا للسّيّد الصّدر قدّس سرّه أحصل على المعرفة الرّوحيّة، وهي أنّني أستفيد فوائدَ فكريّة أو روحيّة من الكتاب، إذا قرأتُ القرآنَ أيضًا قراءة تدبّر كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [4]  قراءة التدبّر المأمور بها هي القراءة التي تورث المعرفة الرّوحيّة.

فالآية الكريمة: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تشير إلى المعارف الثلاث: الرّوحيّة، والرّبطيّة، واللغويّة.

إذن المراد بالمثاني جميع آيات القرآن لأنّه يُثْنَى بعضها على البعض الآخر ويُرْجَع بعضها إلى البعض الآخر فلذلك سمّي القرآنُ بالمثاني، وبما أنّ الفاتحة جزءٌ من القرآن سمّيت بالسّبع المثاني ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، إذن كلامنا في النقطة الأولى هو إشارة إلى وجه تسميّة الفاتحة بالسّبع المثاني.

النقطة الثانية:

سورة الفاتحة سمّيت بالفاتحة وسمّيت بأمّ الكتاب، وأمّ الشيء مصدره ومرجعه كما في قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [5] ، سورة الفاتحة إنّما سمّيت بفاتحة الكتاب وسمّيت بأمّ الكتاب واُعْتُبِرَت عِدْلاً للقرآن الكريم، لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يعني جعلها عِدْلاً للقرآن العظيم، إنّما كانت كذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّها تتضمّن أصول الدّين الخمسة.

الأصل الأوّل هو: التوحيد.

التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الذات وتوحيد الفعل وتوحيد العبادة.

1/ توحيد الذات: أشار إليه قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني أنّ الذات الإلهيّة هي الذات الوحيدة التي تستحقّ الحمد؛ لأنّها الذات الوحيدة التي تستجمع صفات الكمال والجلال والجمال، فحصر الحمد بالله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ حصر الحمد بالله عزّ وجلّ لأجل انحصار استجماع صفات الكمال والجلال والجمال في ذاته تبارك وتعالى، فعبارة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى حصر الحمد به تبارك وتعالى، ونفس هذه العبارة إشارة إلى انحصار سائر صفات الجلال والجمال به تبارك وتعالى، وحصر الكمال والجلال بذاته تبارك وتعالى هو عبارة عن توحيد الذات، بأنّ ذاته لا يماثلها ذاتٌ أخرى في صفاتها وجلالها وجمالها وكمالها، هذا توحيد الذات.

2/ توحيد الفعل: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ، ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارة إلى حصر ربوبيّة العالمين فيه تبارك وتعالى وألا مربّي ولا مدبّر إلا هو، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [6] ، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [7] ، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [8] .

3/ توحيد العبادة: في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ تقديم المفعول على الفعل دالٌ على حصر الفعل، دالٌ على حصر العبادة به تبارك وتعالى، فإنّ مَنْ انحصرت فيه صفات الجلال والجمال والكمال ومَنْ انحصرت فيه أمور العالمين وتربية العالمين فهو الأحقّ بانحصار العبادة به تبارك وتعالى.

إذن الآيات المباركات في سورة الفاتحة أشارت إلى الأصل الأوّل وهو أصل التوحيد بأقسامه الثلاثة «توحيد الذات، وتوحيد الفعل، وتوحيد العبادة» مع الترتيب بينها، يعني: أشارت أوّلاً إلى توحيد الذات، ثم أشارت إلى توحيد الفعل؛ لأنّ مَنْ كان واحدًا في ذاته فهو واحدٌ في فعله، ثم أشارت إلى توحيد العبادة لأنّ مَنْ كان واحدًا في ذاته وفعله فهو الأحقّ بوحدة العبادة فيه.

الأصل الثاني هو: أصل العدل.

أصل العدل أشار إليه ذيلُ السّورة، قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، هذا التقسيم يدلّ على أنّ البشر على صنفين:

1/ صنفٌ أنعم الله عليهم، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [9] .

2/ وقسمٌ غضب عليهم، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [10] .

إذن هذا التقسيم مظهرٌ لعدله تبارك وتعالى، الذين أنعم اللهُ عليهم لم يُنْعِمْ عليهم جزافًا، والذين غضب اللهُ عليهم لم يغضب عليهم جزافًا، أمّا الذين أنعم اللهُ عليهم - وهم النبيّون والصّدّيقون والشّهداء - فإنّما أنعم اللهُ عليهم لعلمه أنّهم حتى لو لم يُنْعِم عليهم لكانوا مظهرًا لهذه النعمة.

مثلاً: هناك سؤالٌ مطروحٌ: لماذا أعطى اللهُ محمّدًا النبوّة ولم يعطها غيره؟ لماذا أعطى اللهُ عليًا الإمامة ولم يعطها إخوانه؟ لماذا ميّزهما بالنبوّة والإمامة على غيرهما؟

والجواب عن ذلك: إنّما أعْطِيَ النبيُ النبوّة وعليٌ الإمامة لأنّ الله عَلِمَ أنّ النبي حتى لو لم يعطَ النبوّة فإنّه سيكون أقوى إرادة وأقوى جلدًا وصمودًا من غيره: ”واللهِ لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في شمالي على أنْ أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظْهِره اللهُ أو أهلك دونه“، وإنّما أعطى عليًا الإمامة لأنّه عَلِمَ أنّه حتى لو لم يعطه الإمامة فإنّه سيكون أقوى صمودًا وأقوى إرادة من غيره: ”واللهِ لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أنْ أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلتُ“، إذن ما أعطاهم هذه النعمة إلا لأنّه عَلِمَ أنّهم أهلٌ لها، وأهليتهم للنعمة لعلمه أنّهم سيكونون في الحياة أقوى صمودًا وأقوى إرادة من غيرهم حتى بدون هذه النعمة، فأعطوا النعمة لأنّهم أهلٌ لها، إذن النعمة وضعها الله في موضعها.

كذلك عندما نأتي للذين غضب الله عليهم: لماذا غضب عليهم؟ لأنّهم هم أصرّوا على الغضب الإلهي ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لأنّهم طلبوا الزيغ، لأنّهم طلبوا الغواية، الله تبارك وتعالى حرمهم من النور، وحرمانهم من النور هو غضب الله عليهم.

فوَضَعَ النعمة في موضعها - يعني: في الموضع المستحقّ لها - ووَضَعَ الغضب في موضعه - يعني: في الموضع المستحقّ له - فكان وضع كل منهما في الموضع المستحقّ له مظهرًا لعدله تبارك وتعالى، فهذه الآيات إشارة إلى الأصل الثاني من أصول الدّين ألا وهو أصل العدل.

الأصل الثالث من أصول الدّين ألا وهو: النبوّة، والأصل الرّابع من أصول الدّين ألا وهو: الإمامة.

أشار إليهما بقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْفإنّ الذين أنعم اللهُ عليهم هم النبيّون والصّدّيقون والشّهداء، النبيّون إشارة إلى الأصل الثالث، والصّدّيقون والشّهداء إشارة إلى الأصل الرّابع وهو الإمامة، باعتبار أنّ المراد بالشّهداءِ الشّهداءُ على الخلق، ليس المراد بالشّهداء في القرآن الكريم مَنْ قتِلوا في سبيل الله، بل المراد بالشّهداء في القرآن الكريم مَنْ لهم مقام الشّهادة على أعمال الخلائق.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [11]  وورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”نحن الأمّة الوسط“، الشّهداء على أعمال الخلق الذين تُعْرَضُ عليهم أعمال الخلق هم أعلى الخلق مرتبة وأقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، فهم الشّهداء على أعمال الخلائق، قال تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [12]  كتاب الأبرار يعني: أعمال الأبرار مسجّلة في كتابٍ، وذلك الكتاب يشهده المقرّبون، بمعنى أنّهم الشّهداء عليه، فإذا كان كتاب الأبرار ممّا شهد عليه المقرّبون فكتاب الخلائق - يعني: كتاب أعمال الخلائق - ممّا يشهد عليه هؤلاء المقرّبون، وهم أهل بيت النبوّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إذن هذا هو الأصل الرّابع.

الأصل الخامس هو: المعاد.

وهو قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فكلمة ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إشارة إلى الأصل الخامس وهو أصل المعاد.

إذن بما أنّ سورة الفاتحة تضمّنت أصول الدّين الخمسة لذلك كانت أمّ الكتاب، ولذلك كانت فاتحة معارف الكتاب، ولذلك جُعِلت عِدْلاً للقرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.

الوجه الثاني:

أنّ القرآن له أساليب متعدّدة:

الأسلوب الأوّل: أسلوب الذكر.

في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [13] . وفي قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [14] . وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [15] .

القرآن يحث على ذكر الله لأنّ ذكر الله يُوحِي للنفس بحضوره تعالى في كلّ شيءٍ، وحضوره تعالى في كلّ شيءٍ يحسّس النفس بالمسؤوليّة أمام الله عن أفعالها وعن أقوالها وحركاتها وسكناتها، فالأسلوب الأوّل من أساليب القرآن الكريم هو أسلوب الذكر، وهذا الأسلوب تضمّنته سورة الفاتحة أيضًا في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فإنّ الحمد لله أوضح وأبلغ مصاديق الذكر لله عزّ وجلّ لما ورد عن الإمام، قال الإمام الصّادق سلام الله عليه: ضلت بغلة لأبي، فنذر إنْ حصل على البغلة ليحمدنّ الله محامدَ يرضاها، فلمّا حصل على البغلة واستوى عليها وأمسك بلجامها قال: ”الحمد لله“، ثم قال: ”ما تركتُ حمدًا إلا وهو داخلٌ في قولي: الحمد لله“، الحمد لله هو أبلغ أنواع الذكر لله كما سيأتي توضيحه عند تفسير هذه الفقرة.

الأسلوب الثاني من أساليب القرآن الكريم هو: أسلوب الامتنان.

والمقصود بأسلوب الامتنان تذكير العبد بمحفوفيّته بنعم الله عزّ وجلّ، العبد محفوفٌ بالنعم.

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [16] . ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [17] . ﴿وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [18] .

الإنسان محفوفٌ بالنعم الإلهيّة، فحقيقٌ به إنْ كان إنسانًا أنْ يكون مشغولاً بشكر الله عزّ وجلّ، شكر الله بلسانه، وشكر الله بقلبه، وشكر الله بعمله، فشكر اللسان هو الثناء، وشكر القلب هو امتلاؤه حبًا لله، وشكر الله بالعمل هو إطاعته واجتناب معصيته، إذن الأسلوب الثاني من أساليب القرآن أسلوب الامتنان، وهو تذكير الإنسان بالنعم، وهذا ما أشارت إليه سورة الفاتحة بقولها: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ فإنّ تربية العالمين وتدبير أمر العالمين من أوضح النعم الإلهيّة.

الأسلوب الثالث: أسلوب الترغيب.

كما في:

قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [19] . وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [20] . وقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [21] .

إذن هذه الآيات ترغب الإنسان في أنْ ينجذب إلى ربّه، في أنْ يتوب من ذنبه، في أنْ ينيب إلى خالقه، لأنّ الإنابة والتوبة والإقبال على الله تبارك وتعالى يجعل الإنسان موضعًا للرّحمة الإلهيّة، هذا الأسلوب أشارت إليه سورة الفاتحة بقولها: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنّ محفوفيّة الإنسان بالرّحمة الرّحمانيّة وبالرّحمة الرّحيميّة تُوحِي للإنسان بالرّغبة إلى الله تبارك وتعالى، استشعار الإنسان بأنّه محفوفٌ بالرّحمتين: الرّحمة الرّحيميّة والرّحمة الرّحمانيّة يُوحِي إليه بالرّغبة في الإقبال على الله والإنابة إلى الله عزّ وجلّ.

الأسلوب الرّابع: أسلوب الترهيب.

أي: تخويف الإنسان من عذاب القبر ومن عذاب البرزخ ومن عذاب النار ومن أهوال يوم الموقف، كما في:

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [22] . وقوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [23] . وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [24] .

بعض البشر لا يجدي معه إلا أسلوب الترغيب، وبعض البشر لا يجدي معه إلا أسلوب الترهيب، فالترهيب أسلوبٌ قرآنيٌ لتطويع البشر على العبادة والإنابة، وهذا الأسلوب أشارت إليه سورة الفاتحة في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

الأسلوب الخامس هو: التركيز على الهدف.

الهدف العامّ من القرآن الكريم هو الهداية: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [25] ، وهذا الهدف العامّ من القرآن الكريم تكرّر في مطاوي الآيات القرآنيّة:

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [26] . ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [27] . ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [28] . ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [29] .

التركيز على الهداية الذي هو الهدف العامّ للقرآن الكريم والذي هو الهدف العامّ لوجود الإنسان أشارت إليه سورة الفاتحة بقولها: ﴿اهْدِنَا.

الأسلوب السّادس هو: التركيز على التربية السّلوكيّة.

تربية الإنسان على الاستقامة، تربية الإنسان على سلوك الصّراط المستقيم.

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [30] . قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [31] . قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [32] .

تركيز القرآن على أنّ الهدف الأساس من خلق الإنسان هو الوصول إلى الكمال والوصول إلى الكمال طريقه الاستقامة، هذا الهدف ركّزت عليه سورة الفاتحة في قولها: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.

الأسلوب السّابع هو: الأسلوب القصصي.

ثلث القرآن متضمّنٌ للأسلوب القصصي، والغرض من الأسلوب القصصي في القرآن: إعطاء الإنسان العظة والعبرة والموعظة، وتذكير الإنسان بتاريخه؛ فإنّ التاريخ هو زاد المستقبل، لا يمكن للإنسان أنْ يبني حضارة أو أنْ يبني كيانًا اجتماعيًا إلا إذا قرأ تاريخه، قراءة التاريخ هي بناء الحاضر وهي بناء المستقبل، لذلك ركّز القرآنُ على الأسلوب القصصي ليكون زادًا لنا في بناء حضارتنا ومستقبلنا، وهذا الأسلوب القصصي ذكرته سورة الفاتحة في قولها: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فالذين أنعم الله عليهم هم النبيّون والصّديقون والشّهداء والصّالحون وما لهم من تاريخ مضيء بالبطولات والتضحيات، والذين غضب اللهُ عليهم هم اليهود وما لهم من تاريخ في الخبث والمكر والكيد للبشريّة، والذين هم الضّالون هم النصارى وما لهم من تاريخ في مجال الضّلال والتيه عن الطريق السّويّ.

إذن فسورة الفاتحة إنّما اُعْتُبِرَت فاتحة الكتاب لأنّها تضمّنت الأساليب السّبعة التي ضمّها القرآنُ الكريمُ في مختلف سوره وآياته، ولذلك ورد في الرّوايات إشارة إلى هذا المعنى، لاحظوا هذه الرّوايات:

1. عن أبي عبد الله عليه السّلام: ”إنّ سورة الفاتحة من كنوز العرش، وأنّها لو قرئت على ميّتٍ سبعين مرّة ثم رُدّت فيه الرّوح ما كان عجبًا“.

2. وعن النبي : ”إنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش“.

3. وعن علي عليه السّلام: ”نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش“.

4. وعن النبي أنّه قال لجابر رضي الله عنه: ألا أعلمك أفضل سورةٍ أنزلها اللهُ تعالى في كتابه؟ قال: بلى علمنيها، فعلمه الحمد لله أمّ الكتاب ثم قال: ”هي شفاءٌ من كلّ داءٍ“.

ولأجل ذلك - يعني: لأجل أنّها أمّ الكتاب، فاتحة الكتاب، السّبع المثاني، عِدْل القرآن الكريم - أمر اللهُ بقراءتها في الصّلاة مرّتين، وورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم: ”لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب“.

النقطة الثالثة:

من هذا البحث هو مدى عمق الحبّ الإلهي والحنان الإلهي على العبد من خلال سورة الفاتحة، لنقرأ هذه الرّواية: روى الفريقان عن نبيّنا أنّه قال: قال الله عزّ وجلّ: ”قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل“.

1/ لاحظوا هذا السّطر، هذه العبارة، تشتمل هذه العبارة على عظيم حبّ الله لنا، الله يحبّنا، من شدّة حبّه لنا أنّه اعتبرنا قرناء له وعدلاء له، الله يعتبر عبده عِدْلاً له وقرينًا له، يقول: ”قسّمتُ فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي“ كأنّ عبده عِدْلٌ له وفي عرضه وقرينٌ له، وهذا يدلّ على عمق الاهتمام وعمق العناية من قِبَلِه تعالى بنا.

ثانيًا: قسّمها بالسّويّة، يعني: جعل عبده مساويًا له في النصيب ”فنصفها لي ونصفها لعبدي“ وهذه التسوية في التقسيم دليلٌ آخر على عمق محبّته وحنانه تبارك وتعالى.

الفقرة الثالثة: ”هذا لعبدي ولعبدي ما سأل“.

”لعبدي ما سأل“ وعد الله عبده بأنْ يحقق له ما سأل، بأنْ يجيب دعاءه، بأنْ يفي له بما وعده، يدلّ على عمق حنانه ورأفته بعبده.

تقول الرّواية: ”إذا قال العبد: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقّ عليّ أن أتمم له أموره وأبارك له في أحواله، فإذا قال: ﴿الحمد لله رب العالمين، قال الله جلّ جلاله: حمدني عبدي وعَلِمَ أنّ النعم التي له من عندي وأنّ البلايا التي دُفِعَت عنه بتطوّلي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة، وأدفع عنه بلايا الدنيا كما دفعتُ عنه بلايا الآخرة، وإذا قال: ﴿الرّحمن الرّحيم، قال الله جلّ جلاله: شَهِدَ لي عبدي أنّي الرّحمن الرّحيم، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظه، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: ﴿مالك يوم الدين، قال اللهُ تعالى: أشهدكم كما اعترف بأنّي أنا المالك يوم الدين لأسهلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته، فإذا قال: ﴿إياك نعبد، قال الله عزّ وجلّ: صَدَق عبدي إيايّ يعبد، أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابًا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: ﴿وإياك نستعين، قال الله تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره، ولأغيثنه على شدائده، ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: ﴿اهدنا الصّراط المستقيم... إلى آخر السورة، قال الله عزّ وجلّ: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، وقد استجبتُ لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته - أو: وأمّنته - ممّا منه وَجِلَ“.

لاحظوا هذه الرّواية، هذه الرّواية تُظْهِر لنا أنّ سورة الفاتحة ظلّ الله عزّ وجلّ، هذا الظل المملوء بالرّحمة، المملوء بالحنان، كيف الإنسان إذا أصابته حرارة الشّمس وضربته شدّة قسوة الشّمس والتجأ إلى ظل ظليل يهبّ فيه الهواءُ العليلُ كيف يشعر بالرّاحة والاستقرار، لاحظوا كيف أنّ الإنسان لو أصابه احتراقٌ ثم ضمّدت جراحه وضمّدت حروقاته كيف يشعر بالرّاحة والاستقرار، الإنسان يحتاج إلى ظل الله الظليل، الظل المملوء بغمائم الرّحمة، المملوء بسحائب الرّأفة، المملوء بالحنان، المملوء بالعطف الإلهي، المملوء بالرّأفة الإلهيّة، الله تبارك وتعالى من خلال هذه الرّواية يبيّن لنا أنّ سورة الفاتحة ظله تبارك وتعالى، من قرأ سورة الفاتحة بمجرّد أنْ يقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فقد دخل تحت ظلّ الله، فقد دخل تحت حنان الله، فقد دخل تحت الرّأفة والرّحمة الإلهيّة، فليستشعر الإنسانُ أثناءَ صلاته وأثناءَ قراءته للفاتحة أنّه خرج من النار إلى الظلّ الإلهي، أنّه خرج من مملكة الشّيطان إلى المملكة الرّحمانيّة الرّحيميّة، فليُشْعِر قلبه أنّه يعيش وهو يقرأ سورة الفاتحة محفوفًا بالرّحمات، محفوفًا بالنعم، محفوفًا بالعطف، محفوفًا بالحنان الإلهي، محفوفًا بوفرة العطاء الإلهي، هذه السّورة من خلال هذه الرّواية تُظْهِرُ لنا مدى عمق الحنان والحبّ الإلهي الذي يسبغه الله على العبد، الله يحبّنا فهل نحن نحبّه؟! الله يقرّبنا إليه فهل نحن نقرب إليه؟! الله يدعونا، يشدّنا، يجذبنا، إلى ظله، إلى سورة الفاتحة، إلى ظلاله الوارفة، إلى نعيمه، فهل نحن كذلك؟! نتودّد إليه بالنعم فنتبغض إليه بالمعاصي! ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [33] ، هل نحن من الذين آمنوا الذين قال عنهم تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [34] ؟!

والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين

[1]  الحجر: 87.
[2]  الزمر: 23.
[3]  آل عمران: 7.
[4]  محمد: 24.
[5]  الشورى: 7.
[6]  الأعراف: 54.
[7]  الملك: 1.
[8]  يس: 83.
[9]  النساء: 69.
[10]  الصف: 5.
[11]  البقرة: 143.
[12]  المطففين: 18 - 21.
[13]  الجمعة: 10.
[14]  الكهف: 24.
[15]  آل عمران: 191.
[16]  لقمان: 20.
[17]  النحل: 18.
[18]  لقمان: 27.
[19]  الزمر: 53.
[20]  البقرة: 186.
[21]  الأعراف: 156.
[22]  الحج: 2.
[23]  التحريم: 6.
[24]  النساء: 56.
[25]  الإسراء: 9.
[26]  الإنسان: 3.
[27]  البلد: 10.
[28]  الكهف: 13.
[29]  العنكبوت: 69.
[30]  هود: 112.
[31]  الروم: 30.
[32]  طه: 14.
[33]  آل عمران: 31.
[34]  البقرة: 165.