تفسير سورة الفاتحة 12

تحرير المحاضرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا الكلام إلى هذه الآية المباركة، وهي قوله تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين تحدّثنا فيما مضى عن حقيقة العبادة، وتحدّثنا فيما مضى عن الحاجة إلى العبادة، وتحدّثنا فيما مضى عن العناصر المقوِّمة للعبادة الحقيقيّة، وذكرنا أنّ حاجة الإنسان إلى العبادة تكمن في حاجته إلى الاطمئنان النفسي، فإنّ العبادة تصبغ على النفس جوًا من الاطمئنان والاستقرار، وذكرنا أنّه كثير من الناس إذا أصيب في صلاته بشرودٍ أو إذا أصيب في صلاته بحالةٍ من سفر النفس وتنقلها يظنّ أنّ هذا شرٌ أو يظنّ أنّ هذه مشكلة لا يمكن قبولها ولا يمكن استيعابها، وقلنا بأنّ هذا اشتباهٌ، لِمَ؟

فرقٌ بين الشّرود الاختياري وبين الشّرود القهري، تارة الإنسان يشرد في صلاته، تارة الإنسان تسافر روحه في صلاته ويشرد ذهنه في الصّلاة باختياره، بمعنى أنّه يطلق لنفسه العنان ويفتح لها المجال فتتنقل أثناءَ الصّلاة شرقًا وغربًا وتسافر أثناءَ الصّلاة أسفارًا ماديّة دنيويّة باختيارها وبإرادتها، الشّرود الاختياري والسّفر الاختياري للنفس أثناء الصّلاة أمرٌ مذمومٌ، وقد ذمّته الرّواياتُ الواردة عن أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين حيث ورد عنهم أنّه ليس للعبد من صلاته إلا بما أقبل به على الله تبارك وتعالى، وهناك قسمٌ آخر من الشّرود وهو الشّرود القهري، ليس الشّرود الاختياري، الشّرود القهري يعني شرود النفس وسفر النفس الذي يفرض نفسه على المصلي، أحيانًا يصاب الإنسان أثناء صلاته بشرودٍ قهري وبسفرٍ قهري للنفس، النفس فجأة تفرض على الإنسان وهو في صلاته تنقلها وسفرها وشرودها عن أذكار الصّلاة وأفعال الصّلاة، هذا الشّرود القهري ليس أمرًا مذمومًا، الأمر المذموم هو الشّرود الاختياري، الأمر المذموم هو السّفر الاختياري، الإنسان أمِرَ بأنْ يوجّه نفسه في إطار العروج إلى الله تبارك وتعالى وبأنْ يوجّه نفسه في إطار التعلق بالله تبارك وتعالى، وفي إطار الخشوع والخضوع لله عزّ وجلّ، ولكنّ الشّرود القهري يعني الذي يفرض نفسه على الإنسان فهذا الشّرود القهري أمرٌ طبيعيٌ جدًا في الإنسان وليس من الشّيطان ولا منقصة في الإنسان وإنّما هو شرودٌ قهريٌ أو سفرٌ قهريٌ يعرض على النفس وهو مؤشرٌ على حالةٍ من الاستقرار النفس والاطمئنان النفسي فإنّ النفس إذا اطمأنت وهدأت واستقرّت تصاب في بعض الأحيان قهرًا عليها بحالةٍ من السّفر والشّرود، إذن فرقٌ بين الشّرود الاختياري وبين الشّرود القهري، ما ذكرناه أمس بعض الإخوة قال: كيف ذكرتَ في محاضرتك السّابقة بأنّ النفس إذا سافرت أثناء الصّلاة فهذه حالة جيّدة مع أنّ القرآن يأمرنا بالخشوع ويقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ؟! مع أنّ القرآن يذمّ السّهو: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ كيف يذمّ القرآنُ حالة السّهو وأنت تقول بأنّها حالة جيّدة؟! لا، فرقٌ بين السّهو الاختياري والسّهو القهري، بين الشّرود الاختياري والشّرود القهري، السّهو الاختياري حالة مذمومة، أمر الإنسانُ بأنْ يصبّ نفسه في إطار الخشوع لله عزّ وجلّ، وبين الشّرود القهري الذي يفرض نفسه على الإنسان، هذا الشّرود القهري الذي يفرض نفسه على الإنسان مؤشرٌ على حالة الاطمئنان والاستقرار النفسي التي تصبغها أجواءُ العبادة على النفس الإنسانيّة، وهذه أولى مراتب العبادة، أولى درجات العبادة أنْ يشعر الإنسانُ بحالةٍ من الاطمئنان والاستقرار، وأمّا المراتب الأخرى فهي التي سنتحدّث عنها في هذا اليوم إنْ شاء الله، هذا ما يتعلق بالمحاضرة السّابقة.

وصل بنا الكلام إلى أقسام العبادة، العبادة قسّمها أهلُ البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كما في الأحاديث الكثيرة إلى ثلاثة أقسام، منها هذا الحديث الوارد عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة: ”إنّ قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار“ وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: ”ما عبدتُك خوفًا من النار ولا طمعًا في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك“، عندما نريد أنْ نتحدّث عن أقسام العبادة نذكر أمورًا ثلاثة:

الأمر الأوّل:

قد يقال - كما ذكر هذا بعضُ الأعلام - أنّ عبادة الخوف تختلف عن عبادة الشّكر في أنّ عبادة الخوف هي عبارة عن عبادة الوسيلة بينما عبادة الشّكر هي عبارة عن عبادة الغاية، فرقٌ بين عبادة الوسيلة وعبادة الغاية، والفرق بينهما كما يذكر الفلاسفة هو الفرق بين ما به ينظر وما فيه ينظر، مثلاً: أنا تارة آخذ هذه النظارة، تارة آخذ النظارة وأجعلها على عيني لأرى بها الأشياء، هنا النظارة تسمّى وسيلة، تسمّى ما به ينظر، يعني: بوسيلة هذه النظارة أنا أرى الأشياء، فالنظارة ما به ينظر، تارة لا، آخذ النظارة لأفحصها، أشوفها نظيفة أو غير نظيفة، مثلاً عدساتها سليمة أو غير سليمة، هنا النظارة ليست وسيلة بل غاية، يعني: هي الغاية في النظر، فالنظارة هنا ما فيه ينظر وليست ما به ينظر، إذن الفرق بين الوسيلة والغاية أنّ الوسيلة ما به ينظر بينما الغاية ما فيه ينظر، الإنسان في تعامله مع الله تبارك وتعالى أحيانًا يتعامل مع الله كوسيلة وأحيانًا يتعامل مع الله كغاية، أحيانًا يتعامل مع الله على نحو ما به ينظر، وأحيانًا يتعامل مع ربّه على نحو ما فيه ينظر، كيف؟ مثلاً أنا عندما أعبد الله عزّ وجلّ لطلب الرّزق، هنا اتخذتُ الله وسيلة، استخذتُ الله وسيلة لتحصيل الرّزق، فتعاملتُ مع الله على نحو الوسيلة، على نحو ما به ينظر، أنا أعبد اللهَ من أجل أنْ أحصل على الثواب، إذن الله وسيلة لتحصيل الثواب، أنا أعبد الله لأجل الفرار من الجحيم، إذن الله وسيلة للخلاص من الجحيم، هنا التعامل مع الله على نحو الوسيلة، على نحو ما به ينظر، وهذه التي عبّر عنها الإمامُ أمير المؤمنين: ”إنّ قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا اللهَ رهبة فتلك عبادة العبيد“ أي أنّهم اتخذوا اللهَ وسيلة لتحصيل مآربهم ومطامعهم الشّخصيّة فتعاملوا مع الله على نحو ما به ينظر، ولكنّ هناك تعاملاً آخر مع الله ”ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك“ أنا أعبدك لك أنت لا لشيءٍ آخر، أعبدك شكرًا لك لأنّك منعمٌ، أعبدك تقديرًا لك، أعبدك لأنّك جميلٌ عظيمٌ تستحقّ العبادة والشكر، أعبدك لك، إذا أعبدك لك يعني اتخذتُ اللهَ غاية لعبادتي، يعني: اتخذتُ اللهَ وتعاملتُ معه على نحو ما فيه ينظر لا على نحو ما به ينظر، ففرقٌ بين التعامل على نحو الوسيلة والتعامل على نحو الغاية، ربّما يقول قائلٌ: إذن لماذا إذا كانت عبادة الخوف وعبادة الطمع وعبادة الرّجاء تعني التعامل مع الله تعامل الوسيلة فهذه معاملة دنيئة، هذه معاملة حقيرة، لماذا يعتبرها الإمامُ أميرُ المؤمنين عبادة؟! التعامل مع الله على نحو الوسيلة تعاملٌ دنيءٌ، تعاملٌ حقيرٌ، فلماذا يعتبره الإمامُ عليٌ عبادة؟! ويعتبره القرآن أيضًا عبادة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا إذن القرآن يعتبره عبادة مع أنّه تعاملٌ حقيرٌ وهو التعامل مع الله على نحو الوسيلة.

نحن عندما نجيب عن هذه المقالة وعن هذا الاستفهام نذكر أنّ المراد بعبادة الخوف وعبادة الرّجاء يعني العبادة التي يكون المحرِّك والدّافع وراءها الخوف والرّجاء ليس المقصود به مطلق الخوف أو مطلق الرّجاء، المقصود به الخوف المطلق لا مطلق الخوف، والرّجاء المطلق لا مطلق الرّجاء، وفرقٌ بين مطلق الوجود والوجود المطلق، فرقٌ بين هاتين العبارتين، فرقٌ بين مطلق العلم والعلم المطلق، ما هو الفرق بينهما؟

مثلاً: الإنسان أعطي نصيبًا من العلم، أعطي نصيبًا من علم الهندسة، أو نصيبًا من علم الفقه، أو نصيبًا من علم مثلاً الكيمياء.. أي علم آخر، هذا يقال: حصل على مطلق العلم، يعني: حصل على نصيبٍ منه، وهناك من أعطي جميعَ شتات العلم، أعطي جميعَ مراتب العلم، هذا يقال: عنده العلم المطلق، ففرقٌ بين مطلق العلم والعلم المطلق، بين مطلق الوجود والوجود المطلق، المطلوب من العبد ألا يعبد الله بمطلق الخوف، يعني: بدرجةٍ من درجات الخوف أو بمرتبةٍ من مراتب الخوف، لا، المطلوب من العبد أنْ يعبد اللهَ على نحو الخوف المطلق، يعني: بألا يخاف إلا الله، ويظلّ دائمًا في حالة خوفٍ وفي حالة رهبةٍ وفي حالة قشعريرةٍ وفي حالة انكسارٍ أمام جبّار الجبابرة وملك الملوك، إذن ليس المقصود من عبادة الخوف العبادة بدافع مطلق الخوف، وإنّما المقصود من عبادة الخوف العبادة بدافع الخوف المطلق، يعني: بأنْ يقع الإنسانُ تحت إطار الخوف والرّهبة من الله في كلّ أفعاله وفي كلّ حركاته وفي كلّ سكناته، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وكما ورد عن الإمام الصّادق سلام الله عليه: ”خف الله كأنّك تراه“ تمامًا كما ترى أصابعك الخمسة ولا تنساها اجعل ربّك نصب عينيك دائمًا حتى تظلّ في حالة الخوف والرّهبة، ”خف الله كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك، وإنْ كنتَ ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإنْ كنتَ ترى أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية - يعني: تتحدّاه، تتمرّد عليه - ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك“، إذن ﴿ادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا يعني: العبادة بدافع الخوف المطلق، والخوف المطلق ملازمٌ للتوحيد والارتباط في جميع الحركات والسّكنات بالله عزّ وجلّ، أو بدافع الرّجاء المطلق، فإنّ من لا يرجو إلا ربّه يظلّ دائمًا يشعر بالنقص، الرّجاء المطلق يعني أنْ تشعر دائمًا بالنقص، دائمًا يشعر بأنّه في حالة نقصٍ، في حالة ضعفٍ، في حالة فقرٍ، الشّعور الدّائم بالفقر والنقص والحاجة يقتضي التعلق الدّائم بالله عزّ وجلّ والارتباط الدّائم بالله عزّ وجلّ، إذن المقصود بعبادة الخوف وعبادة الرّجاء يعني أنْ تظلّ دائمًا في حالة رهبةٍ من الله، وهذا هو ملازمٌ لتوحيد الله عزّ وجلّ، وأنْ تظلّ دائمًا في حالة شعورٍ بالنقص والفقر والحاجة إلى الله تبارك وتعالى، وهذه هي عبادة الطمع وعبادة الرّجاء، فكلتا العبادتين عبادة ملازمة للتوحيد وملازمة للتوحيد العملي وتنقية السّلوك وتهذيب السّيرة فكيف لا يعتبرها القرآنُ عبادة وكيف لا يعتبرها الإمامُ أميرُ المؤمنين عليه السّلام من أقسام العبادة ومن أنواع العبادة؟! هذا هو الأمر الأوّل.

الأمر الثاني:

أنّ عبادة الخوف تحقق مدلولاتٍ تربويّة قد لا تراها بالنظر الأوّلي وبالنظر البدوي، هناك مدلولات تربويّة وروحيّة تتحقق وتتولد عن عبادة الخوف وعبادة الرّجاء:

المدلول الأوّل: ربط العبادة بإنسانيّة الإنسان، كيف ربط العبادة بإنسانيّة الإنسان؟

الإنسان مخلوقٌ إحساسيٌ كما يقولون، يعني: الإنسان يدور مدار إحساسه ولا يدور مدار عقله، بعض البشر يتحرّك على ضوء عقله، أمّا أغلب البشر يتحرّك على ضوء إحساسه، الإنسان مخلوقٌ إحساسيٌ وليس مخلوقًا عقلانيًا بمعنى أنّه يدور مدار عقله، إنّما أغلب حركاته وأغلب منطلقاته هي منطلقات إحساسيّة وليست منطلقات عقليّة، أنت تلاحظ الآن مثلاً يأتي واحد مثلاً يتحدّث عن موضوع علمي، كم يجذب من الناس؟! واحد يصعد المنبر يتحدّث عن موضوع علمي، كم يجذب من الناس؟! يجذب من الناس مثلاً مئة نفر، فليصعد واحد يأتي بنكاتٍ لطيفةٍ، أو قصص لطيفة، كم يجذب من الناس؟! يجذب له ثلاثة آلاف نفر، صح لو لا؟! فليصعد إنسانٌ مثلاً يتحدّث عن موضوع مبني على البراهين العقليّة والقواعد العلميّة كم يجتذب من النفوس؟! فليصعد إنسانٌ يملك صوتًا جميلاً عذبًا جذابًا ويستطيع أنْ يؤثر على نفوس مستمعيه ومشاهديه، كم يجتذب من الناس؟! إذن الإنسان بطبعه مخلوقٌ إحساسيٌ يتحرك من منطلقاتٍ إحساسيّةٍ غالبًا، ويندر من يتحرّك بمنطلقات عقليّةٍ لا بمنطلقاتٍ إحساسيّةٍ، لأجل أنّ الإنسان مخلوقٌ إحساسيٌ والمخلوق الإحساسي يعيش غريزة الخوف بطبعه، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا خلق وعنده غريزة الخوف، خلق وهو عنده غريزة الخوف، لأجل ذلك الله تبارك وتعالى لو طلب من الإنسان أنْ يعبده عبادة عقليّة وعبادة تجريديّة منفصلة عن إحساسه ومنفصلة عن غريزة الخوف لكانت هذه العبادة بعيدة عن إنسانيّته، بعيدة عن المستوى الإنساني الذي يعيشه الإنسانُ، فلأجل أنْ تمتزج العبادة بإنسانيّة الإنسان، لأجل أنْ تقترن العبادة بإنسانيّة الإنسان الله تبارك وتعالى اعتبر أوّل مراتب الخوف.. اعتبر الخوف عبادة له عزّ وجلّ، قال: عبادة الخوف عبادة، لِمَ؟ لأنّ العبادة الخوفيّة عبادة تمتزج بأحاسيس الإنسان، تمتزج بغريزة الخوف عند الإنسان، تمتزج بالمستوى الإنساني لدى الإنسان، فالإنسان عندما ينطلق إلى الله من خلال إنسانيّته يعني من خلال غريزة الخوف التي تسيطر على إحساسه، من خلال أحاسيسه التي تسيطر عليه، إذا انطلق إلى ربّه من خلال ذلك مزج بين إنسانيّته وبين إلهيّته، يعني مزج بين علاقته بنفسه وعلاقته بربّه عزّ وجلّ، الله تبارك وتعالى يقول: بما أنّك خائفٌ فاربط خوفَك بي واعلم ألا مخلص لك من جميع أسباب الخوف ومناشئ الخوف إلا ربّك ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، هذا المدلول التّربوي الأوّل.

المدلول التّربوي الثّاني: استشعار الحضور الإلهي.

استشعار الحضور الإلهي في جميع حركات الإنسان وسكناته، إذا اعتقد الإنسان يعني بلحاظ عبادة الرّجاء، بلحاظ عبادة الطمع، إذا اعتقد الإنسان أنّه في جميع أفعاله يحتاج إلى المدد الإلهي، في رزقه يحتاج إلى المدد، في صلاته يحتاج إلى المدد، في راحته يحتاج إلى المدد، في استقراره يحتاج إلى المدد، الله تبارك وتعالى أراد منك من خلال عبادة الرّجاء أنْ تشعر بالحضور الإلهي في كلّ حركاتك وسكناتك، اعبد الله بمنطلق الطمع، اعبد الله بمنطلق الطمع وبمنطلق الرّجاء، لماذا؟ لأنّ عبادتك لله بمنطلق وبدافع الطمع والرّجاء تجعلك تستحضر الله دائمًا في حركاتك وسكناتك، العبادة بدافع الطمع والرّجاء تستلزم وتستدعي أنْ يستحضر الإنسان، أنْ يستشعر الإنسانُ، أنْ يتحسّس الإنسانُ بحضور الله عزّ وجلّ دائمًا في كلّ حركاته وسكناته، فعبادة الطمع وعبادة الرّجاء عبادة ملازمة لاستشعار الحضور الإلهي ولاستشعار الرّقابة الإلهيّة، فهي من أجلى أنواع وأجلى مظاهر التوكّل على الله عزّ وجلّ.

المدلول التّربوي الثّالث: أنّ عبادة الخوف والطمع توحيدٌ عمليٌ.

كثيرٌ منا قد يتعامل مع التوحيد معاملة نظريّة بمعنى أنّه يعرف البراهين الدّالة على وحدانيّة الله تبارك وتعالى، برهان الفلاسفة، برهان المتكلمين، برهان الصّديقين، الدّليل العلمي على وحدانيّة الله عزّ وجلّ.. براهين متعدّدة ذكرها العلماءُ لإثبات وحدانيّته عزّ وجلّ، هذا يسمّى توحيدًا نظريًا، توحيدًا فكريًا، توحيدًا علميًا، لكنّ التوحيد العملي يحتاج إلى برمجة عمليّة، يحتاج إلى خطواتٍ عمليّةٍ، التّوحيد العملي هو عبارة عن جناحي الخوف والرّجاء، هذا هو التّوحيد العملي، ولذلك ورد في الحديث الشّريف: ”لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون خائفًا راجيًا“ حتى يعيش بجناحي الخوف والرّجاء.

الشيخ حسن الدّمستاني في قصيدته:

مَنْ يُلهِهِ المردِيَان: المالُ والأملُ لم يدرِ ما المنجِيَان: العلمُ والعملُ

يقول:

تعادل الخوفُ فيهم والرّجاءْ فلم يفرقْ بهم طمعٌ يومًا ولا مللُ

يعني خوفهم بمستوى رجائهم، رجاؤهم بمستوى خوفهم.

تعادل الخوفُ فيهم والرّجاءْ فلم يفرقْ بهم طمعٌ يومًا ولا مللُ

إذن الإنسان عندما يطير بجناحي الخوف والرّجاء فهذا هو التّوحيد العملي، من أجل تربية النفس على التوحيد العملي الله يخاطبك ويقول لك: اعبدني بعبادة الخوف، اعبدني بعبادة الرّجاء، لأنّك إذا عبدتني خائفًا راجيًا شعرت بالحضور الإلهي في كلّ خطوةٍ من خطواتك، وإذا أحسست بالحضور الإلهي في كلّ خطوةٍ من خطواتك كان هذا مظهرًا للتّوحيد العملي، للتّوحيد المبرمج من خلال سلوكك وأفعالك، إذن فعبادة الخوف والرّجاء لها مدلولات علميّة جمّة ومدلولات تربويّة كثيرة كما ذكرنا.

نأتي إلى الأمر الثالث والأخير ممّا يتعلق بأقسام العبادة:

نلاحظ أنّ النّصوص الشّريفة اختلفت في القسم الثالث من أقسام العبادة، كيف؟

الإمام أمير المؤمنين عبّر عن القسم الثالث من أقسام العبادة: ”ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك“، القسم الثالث هو أنْ تعبد الله لأنّه أهلٌ للعبادة، الإمام أمير المؤمنين نفسه في حديثٍ آخر اعتبر القسم الثالث عبادة الشّكر: ”إنّ قومًا عبدوا الله رغبة.. وإنّ قومًا عبدوا الله رهبة.. وإنّ قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار“ ما هو الفرق بين عبادة الشكر وبين عبادة الله لأنّه أهلٌ للعبادة؟ حديث ثالث عن الإمام الصّادق عليه السّلام: لا، عند الإمام الصّادق تقسيمٌ آخر، يقول: ”إنّ قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله حبًا فتلك عبادة الأحرار“ يقول الإمام الصّادق سلام الله عليه، كيف نوفق بين هذه النصوص: عبادة الله شكرٌ، عبادة الله لأنّه أهلٌ، عبادة الله حبًا له؟

هذه - كما يذكر علماء العرفان - هي درجات، يعني: القسم الثالث من العبادة هو أيضًا درجات ومراتب، المرتبة الأولى المسمّاة عند علماء العرفان بمرتبة الخلع، أنّ الإنسان يخلع العامل المادّي، يخلع العالم الناسوتي لينطلق إلى عالم اللاهوت عالم الأسماء والصّفات، مرحلة الخلع، درجة الخلع، درجة الخلع هذه المسمّاة بعبادة الشّكر، أنّ الإنسان إذا أدرك أنّ ربّه منعمٌ عليه في كلّ ذرةٍ وفي كلّ جزءٍ من وجوده ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا رأى نفسه منقادًا وممتنًا لله وأنّ جميع ما يصدر منه ليس جهدًا، هو لا يقدّم جهدًا أصلاً ولا يقدّم عطاءً أصلاً وإنّما هو حقٌ عليه ألا وهو حقّ الشّكر لله عزّ وجلّ، عبادة الشّكر.

المرتبة الثّانية ألا وهي التي عبّر عنها الإمام الصّادق: الحبّ، ”وإنّ قومًا عبدوا الله حبًا“ هذه يعبّر عنها العرفاءُ بمرتبة الفناء، فناء المحبّ في المحبوب، كيف يتعلق المحبّ بمحبوبه؟ الإنسان إذا أحبّ شخصًا حبًا مفرطًا كيف يتعامى عن عيوبه وعن أخطائه وكيف أنّه لا يفكّر إلا فيه ولا يلتذ إلا بسماع صوته والجلوس معه ولا يلتذ إلا بلقائه؟! كيف أنّ الإنسان يفنى في محبوبه فناءً روحيًا ويذوب فيه ذوبانًا عاطفيًا؟! هذه هي مرتبة الفناء، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ورد عن الإمام الحسن الزكيّ سلام الله عليه:

تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه هذا لعمرك في الفعال بديعُ

لو كان حبك صادقًا لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعُ

الفناء الدّرجة الثانية، المرتبة الثانية مرتبة الفناء، فناء المحبّ في المحبوب، وكيف تتحقّق هذه المرتبة؟ إذا أدرك الإنسان جمالَ النعمة، أنّ الله أنعم عليه والنعمة جمال، إذا أدرك جمالَ نعمته أدرك جمالَ ذاته، فإنّ جمال الفعل يكشف عن جمال الذات، إذا أدرك جمالَ نعمته أدرك جمال ذاته، وإذا أدرك أنّ ذاته جميلة، أنّه هو عين الجمال تبارك وتعالى أحبّه، ومن لا يحبّ الجمال؟! وإذا أحبّ الجمالَ الحقيقي الصّرف - وهو جمال الله عزّ وجلّ - تعلقَ به تعلق المحبّ بمحبوبه وفنيَ فيه فناءَ المحبّ في محبوبه، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القسم الثالث من العبادة.

المرتبة الثالثة هي: مرتبة الصّعق كما يقول العرفاء.

خلاص يصبح مصعوقًا، هذا ليس فناءً فقط، مصعوقٌ في الله عزّ وجلّ، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا مرتبة الصّعق، مرتبة الصّعق ينتفي معها كلّ شعورٍ، مرتبة الصّعق إذا وصل إليها العبدُ أثناءَ عبادته إذا وصل إلى مرتبة الصّعق يعني سيطرت عليه الأنوارُ الإلهيّة وامتدت الأنوارُ والأضواء الإلهيّة إلى كلّ كيانه، وإلى كلّ ذرّات وجوده، وإلى كلّ مراتب وجوده، إذا سيطرت الأنوارُ الإلهيّة على الإنسان غُشِيَ بها وصعق لأجلها فلا يكاد يشعر بنفسه إطلاقًا ولا يكاد يحسّ بإنيّته إطلاقًا، وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يصلي والسّهام تنفذ إلى جسده فلا يشعر بها لأنّه كان يعيش مرتبة الصّعق، وصل إلى استيلاء النور الإلهي على قلبه، مرتبة الصّعق يعني ألا يرى اثنينيّة، لا يوجد عابد ومعبود، لا يوجد متّجِه ومُتَوَجَّه إليه، لا يرى اثنينية، لا يرى إلا النور الإلهي، لا يرى اثنينة «عابد ومعبود، وإنسان أمام ربّه»، لا يرى إلا النور الإلهي، وهذا ما يسمّى بمرتبة الصّعق.

المرتبة الأخيرة: مرتبة المحو.

مرتبة المحو يعني إذابة الكثرة في الوحدة، اضمحلال الصّفات في الذات، أنا لا أبعد الله لأنّه عالمٌ ولا أبعد الله لأنّه قادرٌ ولا أعبد الله لأنّه حيٌ، أعبده لأنّه هو هو، أعبده لذاته، لا أعبد حتى لصفاته التي هي في الواقع عين ذاته، يعني لا أجعل واسطة بيني وبينه حتى صفاته، لا واسطة بيني وبينه حتى صفاته، حتى علمه، حتى قدرته، حتى حياته، أعبده لذاته، أعبده لأنّه هو هو جديرٌ وحقيقٌ بالعبادة، هذه إذابة الكثرة في الوحدة، محو جميع الوسائط والاتجاه نحوَ الله، نحو الذات، ولهذا يقول المفسّرون: لماذا قال: ﴿إِيَّاكَ؟ عبّر بالضّمير الدّال على الذات، إياك أنت، عبّر بالضّمير الدّال على الذات، وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ «إياي» يعني بالضّمير الدّال على الذات ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ بمعنى رفع جميع الوسائط بين العبد وبين ربّه حتى صفات ربّه وإذابة جميع الكثرات في الذات المقدّسة، إذا وصل الإنسانُ إلى هذه المرحلة مرحلة المحو فهي أعلى مرحلة عبّر عنها عليٌ عليه السّلام: ”ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك“ وهذه المرتبة هي التي جعلت عليًا عليه السّلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فهو يمشي وهو يصلي، فهو يجلس وهو يصلي، وهو يباشر أمورَه وهو يصلي، كلّ أوقاته في صلاةٍ، في علاقةٍ نفسيّةٍ وروحيّةٍ مع ربّه عزّ وجلّ، وكان زين العابدين عليه السّلام يقول لابنه الباقر: ناولني صحيفة أعمال جدّي أمير المؤمنين حتى أتأسى به، فيؤتى إليه بصحيفة أعمال أمير المؤمنين فيبكي زينُ العابدين وهو زين العابدين وسيّد السّاجدين يبكي ويتألم ويقول: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟! زين العابدين يعترف بالعجز، أنّه لا يستطيع أنْ يصل إلى عبادة أمير المؤمنين: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟! عبادة خالطت لحمَه ودمَه وخالطت رزقه وخالطت أعمالَه وخالطت أفعالَه، وتجلى عليٌ بذلك مظهرًا وأعلى مصداقًا من مصاديق العبادة لله عزّ وجلّ، ومن يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!

ولذلك الرّسول الأعظم : ”ضربة علي يومَ الخندق تعدل أعمالَ الثقلين إلى يوم القيامة“ لأنّها ضربة امتزجت بدرجةٍ من الإخلاص وامتزجت بدرجةٍ من العبادة وامتزجت بدرجةٍ من التعلق والعشق لله لم يحصل عليها أحدٌ قط، ”ضربة علي يومَ الخندق تعدل أعمالَ الثقلين إلى يوم القيامة“.

هذا ما أردنا بيانه بالنسبة لأقسام العبادة