في رحاب مناجاة الشاكين ج1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ

صدق الله العلي العظيم

هل تعني هذه الآية المباركة أن الله تبارك وتعالى لا يعبأ بعبده المسكين ولا يعتني بعبده الذي يفتقر إليه ويحتاج إلى مدده ومعونته؟ فهل أن الله بخيل على عبده وقاسٍ على عبده كيلا يعتني به ولا يلتفت إليه ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ؟

الجواب عن ذلك أن الدعاء له درجات، فهناك دعاء لفظي كقول الإنسان: «ربي اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم» وهناك دعاء قلبي، فإن خشوع الإنسان لربه وإن لم يتكلم بلسانه فهذا الخشوع بنفسه دعاء، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فإن نفس الخشوع النفسي رهبة النفس وقشعريرة النفس وخوفها من الله تبارك وتعالى هذا الخوف وهذه الرهبة هي بنفسها دعاء وإن لم يتحدث الإنسان بأي لفظ، هذا دعاء قلبي، وهناك دعاء عقلي لا لفظي ولا قلبي ألا وهو تذكر الإنسان لنعم ربه كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ هذا التفكر في مخلوقات الله هو دعاء، هو صورة من صور الدعاء، فالدعاء قد يكون لفظيًا وقد يكون قلبيًا وقد يكون عقليًا.

وكل درجة من درجات الدعاء وكل صورة من صور الدعاء هي موضع للعناية الإلهية وهي موضع للطف الإلهي، ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي بمعنى أن الله تبارك وتعالى وإن كان رحيمًا بعباده فهو أشد رحمة علينا من آبائنا وأمهاتنا، نحن نغضبه في كل يوم ونحن نسخطه في كل فعل ونحن لا نقدم إليه إلا المساوئ والمعاصي والرذائل ومع ذلك فهو يحيطنا بالنعم ويمدنا بالمواهب ومع ذلك فلا يقطع عنا رحمته ولا هبته ولا مدده، يهبنا العافية، يهبنا القدرة، يهبنا الحياة، يهبنا الرزق، يهبنا المعرفة، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا.

مع أنه رحيم بعباده ولكن له رحمتان: رحمة عامة لجميع عباده مؤمنًا أو كافرًا، وهناك رحمة خاصة لخصوص الداعين، لمن يرفع يديه إلى السماء فإن له رحمة خاصة به دون غيره، لمن ينكسر قلبه خوفًا من ربه رحمة خاصة، لمن يفكر في آخرته وقبره رحمة خاصة، إذًا قوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي يشير إلى الرحمة الخاصة، هذه الرحمة الخاصة لا أعطيها إياكم لولا دعاؤكم، لولا دعاؤكم سواء كان عقليًا أو قلبيًا أو لفظيًا، لولا دعاؤكم ما أنزلت عليكم الرحمة الخاصة، وإلا فرحمتي العامة تسعكم جميعًا، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ولكنه قال في آية أخرى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء أي الرحمة الخاصة.

هذه الرحمة الخاصة التي نحن نتطلع إليها، نحن ننشدها، نحن نرقبها، هذه الرحمة الخاصة تتوقف على الدعاء، الدعاء هو منشأ وصول الرحمة الخاصة إلينا، ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ وما هو هذا الدعاء؟

الدعاء قد يكون دعاءً صوريًا ككثير من أدعيتنا، نقف في الصلاة وندعو ولكن من دون أن نلتفت إلى فقرات الدعاء ومن دون أن نتفاعل مع ألفاظ الدعاء، هذا الدعاء الصوري المادي لا أثر له ولا يكون موجبًا لنزول الرحمة الخاصة، الدعاء الموجب للرحمة الخاصة الدعاء الحقيقي، أي الدعاء المشوب بالحسرة والآهة والندامة، الدعاء الذي يخرج من القلب لا من اللسان، الدعاء الذي يخرج ومعه آهة ومعه شجون ومعه حسرة على ما فرط الإنسان في جنب الله، الدعاء المقترن بالحسرة والآهة والنادمة هو الدعاء الحقيقي.

ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ متى قريب؟ قريب هذا هو الرحمة الخاصة، متى أكون قريبًا من عبدي القرب الخاص الذي يشعر به عبدي؟! إذا اقترب أبي مني أحسست برحمة خاصة، إذا اقتربت أمي مني أحسست برحمة خاصة، إذا اقترب أخي من أحسست برحمة خاصة، أنا أريد تلك الرحمة التي هي قرب أشعر فيها بالقرب الإلهي، أشعر أن الله يعنى بي، يهتم بي، أشعر أن الله يلطف بي، متى أصل إلى هذه الدرجة؟ متى أصل إلى درجة أشعر أن الله قريب مني يؤيدني يسددني؟ ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ يشعرون بتأييد الله، يشعرون بتسديد الله، يشعرون بأن الله معهم، متى نصل إلى درجة القرب الخاص والرحمة الخاصة أي الشعور بأن الله قريب منا؟ متى؟ ﴿إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ - متى؟ - أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ أي إذا صدر منه الدعاء الحقيقي، إذا رأيت عبدي يتأوه ويتألم ويتحسر على المعاصي والذنوب قربت منه وأحطته بعنايتي وأغدقت عليه رأفتي إلى أن يصل إلى درجة يشعر بحبه لي.

نحن كل منا يقول أنا أحب الله لكننا لا نشعر بحب الله أبدًا، نحن نحب الله حبًا لفظيًا، نحن نحب الله حب كلاميًا، لا أحد منا يشعر بحب الله شعورًا حقيقيَا، أنا إذا كان عندي صديق يحبني أشعر بحبه لي، أشعر بحب والدي لي، أشعر بحب أهلي لي، ولكن هل أنا أشعر بأنني أحب الله؟ هل أنا أشعر بلذة حب الله؟ هل أنا أشعر بلذة العلاقة مع الله؟ هل أنا ممن احتذى حذو أمير المؤمنين الذي أغرقه الحب؟ أغرقه حب الله وأغرقه الشعور بلذة حب الله حتى أن السهام تنفذ إلى بدنه ولا يشعر بها لأنه مشغول بحب الله، مشغول بلقاء الحبيب.

إذًا الرحمة الخاصة والقرب الخاص إنما يأتي إذا وصل الإنسان إلى درجة يشعر فيها بلذة حب الله، ووصول الإنسان إلى هذه الدرجة درجة الشعور والإحساس بلذة حب الله منوطة بالدعاء، الدعاء خير وسيلة لحب الله وللشعور بحب الله، ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ الدعاء موطن رحمة، ولذلك ورد عن الصادق : ”ما رفع العبد كفيه إلى ربه إلا واستحيا الله أن يردهما صفرًا حتى ينزل عليهما من رحمته“ ما رفع العبد كفيه إلا ونزلت الرحمة، وهذه الرحمة قد تكون رحمة في سلوكه «يصبح إنسانًا صالحًا» وقد تكون رحمة في رزقه، وقد تكون رحمة في علمه، وقد تكون رحمة في علاقاته، المهم أنه لا يرد كفيه إلا وقد نال رحمة، فالدعاء استمطار للرحمة واستجلاب للعناية الإلهية وطريق للشعور بلذة حب الله.

ونحن في الأيام القادمة إن شاء الله نتناول بعض الفقرات من بعض المناجاة الخمسة عشر كما كنا في العام الماضي لنصل إلى درجة نشعر فيها نتيجة نفس الإمام زين العابدين وروح الإمام زين العابدين إلى درجة الشعور بلذة الدعاء ولذة العلاقة واللقاء مع الله تبارك وتعالى.

اللهم اجعلنا من الداعين، اللهم اجعلنا ممن نظرت إليه فرحمته، اللهم تقبل أعمالنا واغفر ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار وارحم أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات وإلى أرواح أموات الجميع بلغ ثواب الفاتحة تسبقها الصلوات.

اللهم صل على محمد وآل محمد