في رحاب مناجاة الشاكين ج3

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

”اللهم إني أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة وإلى سخطك متعرضة تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل طويلة الأمل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع“

نفسي مريضة، ومرض النفس هو مرض التمرد ومرض الطغيان، وهذا المرض له أسباب وله عوامل:

العامل الأول: ضعف الإرادة، لأن إرادتي أمام شهواتي وغرائزي ضعيفة فلأجل ضعف إرادتي أصبت بمرض طغيان النفس وتمردها واسترسالها وراء المعاصي والشهوات، لو كنت أمتلك إرادة قوية، لو كنت أمتلك إرادة حازمة لما أصبت بهذا المرض النفسي، لما كانت نفسي تجري وراء شهواتها ووراء غرائزها، فضعف الإرادة عامل خطير من عوامل مرض النفس بمرض الطغيان ومرض التمرد، ولذلك أنا أحتاج إلى تقوية إرادتي، أحتاج إلى أن أدرب نفسي على أن أقف أمام شهواتي، أمام غرائزي، أحتاج إلى أن أدرب نفسي على كلمة «لا»، «لا» حتى لو اشتقت إلى المعصية، حتى لو أحببت المعصية، حتى لو حصلت لي إثارة تهيجني نحو المعصية، أنا لابد أن أدرب نفسي على أن أقول «لا» وأقف بحزم أمام طغيانها وتمردها.

والعامل الثاني من عوامل مرض النفس بمرض الطغيان والتمرد: الترف، ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الترف داء خطير، ليس المراد بالترف أن أكون غنيًا، لا، الترف هو التركيز على المظهر من دون التركيز على جودة العمل، عندما أركز على مظهري، عندما أركز على راحتي، عندما أركز على جسمي، التركيز على الراحة والجسم هذا ترف ولو كان الشخص فقيرًا، عندما أصرف الوقت في تحسين شكلي، عندما أهتم فقط بوسادتي، أن أنام على وسادة ناعمة، أن أكل أحسن ما أريد، أن ألبس أفضل زينة، أن أظهر بأحسن مظهر، عندما يكون جسمي شغلاً لي، عندما تكون راحتي وبطني شغلاً لي، بطني هو شغلي، شكلي هو شغلي، نومي هو شغلي، عندما يستغرق وقتي في الاهتمام بجسمي فقط فهذا هو الترف، والترف يقود إلى طغيان النفس وتمردها فتسترسل نفسي أمام الشهوات وأمام الغرائز نتيجة لعامل الترف.

والعامل الثالث من عوامل مرض النفس: صديق السوء، وهو أشد العوامل تأثيرًا علي، عندما يكون صديقي يجرني نحو الدنيا، يجرني نحو الرذيلة، إذا كان صديقي يجرني إلى المسجد، إذا كان صديقي يجرني إلى الدعاء، إذا كان صديقي يجرني إلى النافلة، فهذا الصديق صديق لي في الدنيا وصديق لي في الآخرة، كما ألتقي مع صديقي في المسجد، كما ألتقي مع صديقي في قراءة الدعاء سألتقي معه في ظلال الجنان أيضًا، وأما إذا كان صديقي يجرني إلى الهاوية، يزين لي المعاصي، يقول لي: هذه المعاصي لا تعني شيئًا، ارتكبها ولو مرة واحدة، أنت شباب، أنت في عصر الشباب، أنت في عصر الحيوية والنشاط، ارتكب المعاصي، متى؟ متى ستستوفي لذائذ الدنيا إذا لم تستوفها الآن؟! متى ستشبع نفسك من لذات الدنيا وشهواتها إذا لم تشبعها أيام شبابها؟! إذًا عندما يشجعني صديقي ويزين لي المعصية ويحفزني نحو إشباع الشهوة والغريزة فهذا عامل خطير من عوامل مرض النفس وموت النفس.

الإمام زين العابدين يقول لابنه الباقر عليهما السلام: ”بني خمسة لا ترافقهم ولا تحادثهم: الكذاب فإنه كالسراب يقرب لك البعيد ويبعد عنك القريب، والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها، والبخيل فإنه يمنعك أحوج ما تكون إليه، والأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وقاطع الرحم فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله“.

إذًا هذه العوامل إذا اجتمعت على النفس أبتليت النفس بمرض خطير وهو مرض التمرد والاسترسال والطغيان، ”تسلك بي مسالك المهالك“ أتدري ما هي المهالك؟ ”تسلك بي مسالك المهالك“.

المهلك الأول: ضيق الصدر، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا الفاسق يعيش ضيق والمؤمن يعيش انشراح المؤمن منشرح الصدر بمعنى أنه يلتذ بالدعاء يلتذ بطعم القرآن، يلتذ بالنافلة، أما الفاسق فصدره ضيق لا يلتذ بدعاء ولا يلتذ بموعظة ولا يلتذ بنافلة، صدره يعيش ضيقًا وجفاءً وقسوةً، ولذلك ورد عن النبي : ”من سآته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن“ إذا وجدت نفسك تنشرح بقراءة الدعاء، تنشرح وتلتذ بالنافلة، تلتذ بحضور المسجد فهذه علامة الصحة، هذه علامة سلامة النفس، وإذا وجدت صدرك يضيق وينفر من المسجد، من الدعاء، من قراءة القرآن، من النافلة، فهذه علامة خطيرة على المرض أن النفس مريضة، أن النفس بلغت المهلك الأول وهو ضيق الصدر، ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء.

والمهلك الثاني: حبس الفيض، الله حنون علينا، عطوف علينا، دائمًا يبعدنا عن المعاصي، نحن نصر على المعصية والله يبعدنا عنها، يضع أمامنا العوائق حتى لا نرتكب المعاصين كم من معصية خططنا لها وأعاقنا الله عنها؟ كم من معصية أصررنا على ارتكابها ولما بلغنا أن نرتكبها وضعت موانع وعوائق أمامنا؟ رأفته بنا، عطفه علينا يجعله لا يحبس عنا الفيض، يمنعنا عن المعاصي بطريقة أو بأخرى، لكننا إذا أصررنا على الرذيلة وأصررنا على اقتحام الذنب وحاولنا أن نرفع العوائق مرة بعد مرة بلغنا المهلك الثاني وهو حبس الفيض، فإذا حبس عنا الفيض ارتفعت موانع المعاصي وقعنا في الهاوية، حبس عنا الفيض ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ - يعني نرفع عنهم الموانع والعوائق - لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا نحن نصل إلى درجة من المهالك أننا لا نجد عوائق، مفتوحة المعاصي أمامنا، مفتوح باب الرذائل وفرص المعصية أمامنا، هذا يعني أن الفيض حبس عنا، وهذا مهلك شديد فوقعنا في مرتبة ثانية من المهلكة ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ حبس عنهم الفيض.

والمهلك الثالث: العذاب، وما أشد العذاب؟! وأعظمه عذاب القبر، قد تهون الآخرة أمام عذاب القبر، عذاب القبر مع أنه عذاب مؤقت، مع أنه عذاب محدود لكنه عذاب أشد من أي عذاب آخر، عذاب النار قد يتخلص الإنسان منه بعفو، بشفاعة، برحمة، أما عذاب القبر فلابد من أن يقع فيه العاصي والمذنب، عذاب القبر، عذاب النار قد تخفف منه أن الناس معي يعذبون، ولكن عذاب القبر أعذب به وحدي، عذاب معه وحدة، معه غربة، معه وحشة، عذاب القبر كعذاب السجن، تصور الإنسان إذا سجن، الإنسان إذا كان في السجن كيف يضيق صدره؟ الإنسان إذا وضع في زنزانة وحده زنزانة ضيقة صغيرة المساحة كيف يضيق صدره؟ كلما مرت الأيام عليه وهو في الزنزانة يرجو هواء يتنفس به لا يجد، يرجو صديق يتحدث معه لا يجد، يرجو أن يخرج أن يحرك رجله لا يجد، عذاب السجن لأنه عذاب نفسي وقلبي أشد من الضرب، أشد من الجلد، القبر كالسجن، الإنسان في القبر كالسجن لا مهرب، لا ملجأ، سجن، أي عذاب آخر يهون أمام سجن إنسان في تراب منت موحش مظلم لا يستطيع الفرار منه ولا يقوى على الحركة، مقيد مغلل في ذلك المكان، عذاب القبر شديد، ولذلك الإمام زين العابدين إذا تذكر عذاب القبر بكى وقال: ”وما لي لا أبكي؟ أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“ فعذاب القبر مهلكة ما فوقها مهلكة.

فهذه نفسي لإصرارها على المعاصي ولإصرارها على الرذائل ”تسلك بي مسالك المهالك“ توقعني في مهلكة بعد مهلكة إلى أن توقعني في تلك الحفرة، الحفرة المظلمة، الحفرة الموحشة، الحفرة المنتنة، إلى أن أقع في تلك الحفرة التي لا ملجأ منها.

”وتجعلني أهون هالك“ هناك هالك قد نرق له وهناك هالك لا نرق له أبدًا، لو أن إنسانًا أساء إلينا، لو كان هناك شخصان: شخص يسيء إلينا لكن بدون تحدي، وشخص يسيء إلينا بعنجهية وتحدي، إذا عرض عليهما بلاء «كلاهما أصابه بلاء» فإن الثاني عندنا أهون من الأول لأننا نقول: صحيح الأول أساء إلينا لكن ما كان متعجرفًا، ما كان يسيء إلينا بعنجهية، كان يؤذينا ولكن بمرتبة أقل، لذلك إذا أصابه الأذى والخطر نرق إليه نقول مسكين، أما الثاني الذي كان يسيء إلينا بتعجرف وبأذى فإنه إذا أصابه الخطر لا نرق له فهو عندنا أهون هالك.

أنا نتيجة تمردي على الله وقلة حيائي أمام الله وإصراري على المعاصي والإسراف في الذنوب، كل يوم أنصح فلا أستمع النصيحة، أوعظ فلا أبالي بالموعظة، أدري أنه ذنب وأصر عليه، أدري أنها خطيئة وأصر عليها، نتيجة هذا التعدي والعنجهية في التعامل مع الله إذا أصابني الخطر فأنا عند الله أهون هالك، لا أستحق رقة ولا أستحق رحمة لأن معصيتي لله كانت مشوبة بعنجهية وإصرار وتحدٍ، ”تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل طويلة الأمل“.

اللهم اجعل أملنا في طاعتك وفي طلب مرضاتك، اللهم اجعلنا ممن استفاد من وقته وممن عمر هذا الشهر المبارك بصيامه وقيامه، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، وارحم أموتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات وإلى أرواح أموات الجميع بلغ ثواب الفاتحة تسبقها الصلوات.

اللهم صل على محمد وآل محمد