في رحاب مناجاة الشاكين جـ5

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

في مناجاة الشاكين تحدث الإمام زين العابدين عن ثلاثة أمراض خطيرة يمر بها الإنسان المؤمن:

  • مرض النفس.
  • مرض الاسترسال مع الشيطان.
  • مرض قسوة القلب.

فأشار إلى المرض الأول بقوله: ”إلهي أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة وإلى سخطك متعرضة“ إلى أن قال: ”تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة“ والحوبة هي القبر، فإن القبر قد يكون روضة من رياض الجنة وقد يكون حفرة من حفر النار، فإذا كان القبر حفرة مشتعلة بالنار عبر عنه بالحوبة، ”تسرع بي إلى الحوبة“ أي أن هذه النفس بإصرارها على المعاصي والذنوب تقذفني إلى تلك الحفرة الممتلئة نارًا، فإن الإنسان إما في صعود وإما في نزول، فإذا كان في صعود فقد عبر عنه تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وإذا كان في نزول فقد عبر عن تعالى: ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى من أسخطني بمعاصيه، من أسخطني بإصراره على الذنوب والمعاصي فإنه يهوي، نفسه تهوي به إلى حفرة من حفر النار، نفسه تقذفه إلى حضيض من النار.

”تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة“ كلما أردت أن أتراجع عن الذنوب، كلما عزمت على التوبة زينت لي البقاء على المعصية، كلما أصررت على أن أتوب وأنيب إلى ربي وقفت نفسي أمامي وقالت لي: «لماذا التوبة؟ أنت خذ لذتك من المعاصي الآن.. الآن أنت شاب وعصر الشباب هو عصر اللذة وعصر البهجة.. خذ فرصتك من المعاصي.. خذ لذتك من الذنوب والرذائل وسيأتي يوم للتوبة.. ستتوب مستقبلا.. ستعود إلى ربك مستقبلا.. لا داعي الآن إلى أن تضيع الفرصة عليك.. فرصة اللذة بالمعصية.. فرصة البهجة بالمعصية».

”تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة“ الله يناديني: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا هناك توبة صورية وهناك توبة نصوح، التوبة الصورية هي التوبة التي نحن نقولها في كل يوم، فنحن في كل يوم نقول أستغفر الله ربي وأتوب إليه، في كل يوم أصنع المعصية وأتحسر وأتأذى ولكنني أعود إلى المعصية مرة أخرى، أتحسر وأتندم وأعود للمعصية كأن لم يكن ندم، كأن لم تكن حسرة، هذه توبة صورية.

أما التوبة النصوح التي يناديني ويدعوني إليها ربي فهي التوبة المشفوعة بالإرادة، نحن نفتقر إلى الإرادة، نفتقر إلى الحزم، ليس عندنا إرادة وحزم مع أنفسنا، التوبة النصوح هي التوبة النابعة من الإرادة، التوبة النابعة من الصمود والحزم بأن أقول لنفسي «لا» ولشهواتي «لا» ولغرائزي «لا» وأقف بكل قوة وجلد أمام إصرار شهواتي ونزعاتي، هذه هي التوبة النصوح، والنفس تمنعي عن أن أنال تلك التوبة النصوح، ”تسوفني بالتوبة“ هذا هو المرض الأول مرض طغيان النفس وتمردها.

والمرض الثاني وهو لا يقل عن الأول خطورة، مرض الركون للشيطان والاسترسال مع الشيطان، ”إلهي أشكو إليك عدوًا يضلني وشيطانًا يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى ويزين لي حب الدنيا ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى“ الاسترسال مع الشيطان مرض خطير، مرض مهلك، ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ من اتبعك فهو غاوي، النتيجة هي الغواية، الشيطان له عدة وظائف، عدة أدوار:

1/ وظيفة سلوكية.

2/ ووظيفة روحية وقلبية.

3/ ووظيفة مساعدة.

الوظيفة الأولى وظيفة سلوكية ”عدوًا يضلني وشيطانًا يغويني“ هذا التأثير السلوكي له درجتان: درجة الإضلال. ودرجة الغواية.

درجة الإضلال: الشيطان يدخلني في متاهة، ”عدوًا يضلني“ الضلال مقابل الهدى، الهداية أن أمشي على بصيرة، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي فالهدى والبصيرة وضوح الطريق، أمشي وأنا مطمئن عارف آخرتي، عارف قبري، أمشي وأنا أدري أن قبري راحة وسعادة، ومسيري بعد الموت نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، وآخرتي عفو شفاعة، هذه هي البصيرة هذا هو الهدى.

ولكن الشيطان يضلني، يدخلني في متاحة، يدخلني في درب مظلم، لا أدري، أنا أمشي وأنا لا أدري، إذا فاجأني الموت ماذا سيكون مصيري؟ وبماذا أعتذر إلى ربي؟ وكيف سأتعامل مع ذلك اليوم الرهيب المرعب؟ لا أدري، أنا في ضلال، أنا في متاهة، لا أدري ما هو خبري وكيف ستكون رقدتي وكيف ستكون معيشيتي، لا أدري، أنا لا أدري بتلك الظلمات التي تستقبلني، ظلمة بعد ظلمة، وهول بعد هول، وفزع بعد فزع، مواقف مرعبة، مشاهد مخيفة.

ولذلك كان يقول زين العابدين: ”وما لي لا أبكي؟“ إنه يعبر عنا، عن أنفسنا، عن خواطرنا، إذا كنت في درب مظلم لا أعرف مصيري، لا أعرف نتيجتي فلماذا لا أبكي؟ الإنسان الذي عرف مصيره هو الذي لا يبكي أما أنا فمادمت أسير في درب مظلم مع الذنوب والمعاصي فكيف لا أبكي؟ الإنسان إذا دخل الامتحان وهو لا يدري بنتيجة الامتحان يظل قلقًا حائرًا لا أدري ما هي نتيجة امتحاني، أنا الآن لا أدري، لا أدري عن موتي وعن قبري وعن حشري ونشري، لذلك أبكي، ”ومالي لا أبكي؟ أبكي لخروج نفسي“ هل هو خروج هادئ أو خروج عنيف؟ هل تجر روحي ملائكة الرحمة أم تنزع روحي ملائكة الغضب؟ ”أبكي لخروج نفسي“ لشدائد الموت ولسكراته، ”أبكي لظلمة قبري“ لأنني لم أعد النور، لأنني مشغول، مشغول بحياتي المادية، مشغول بالتوافه من الحياة، مشغول عن النافلة، مشغول عن قراءة القرآن، مشغول عن الدعاء، مشغول عن الصلاة، مشغول بالدنيا، ليس عندي ذرة نور، ليس عندي شمعة أضيء بها قبري، ”أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“.

درجة الإغواء: ”عدوًا يضلني وشيطانًا يغويني“ الإغواء أشد خطرًا، درجة أكبر من الإضلال، الإضلال هو المتاهة أما الإغواء فهو الانحراف، كنت في متاهة ولكنني أصررت على إتباع الشيطان فساء حالي فانتقلت من المتاهة من الإضلال إلى الخسران المبين إلى الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم إلى الغواية ”وشيطانًا يغويني“ هذه وظيفة سلوكية يقوم بها الشيطان.

وهناك وظيفة قلبية ”قد ملأ بالوسواس صدري وأحاطت هواجسه بقلبي“ هذا الدور الروحي النفسي الذي يقوم به الشيطان معي نوعان «لونان»:

”قد ملأ بالوسواس صدري“ الوسواس هو تحبيب المعصية، ترغيب الرذيلة، يصور لي الرذيلة كأنها شيء جميل، كأنها شيء لذيذ، هذه الجيفة، الرذيلة جيفة، استماع الأغنية المطربة جيفة، العلاقة الغير مشروعة جيفة منتنة، أنا أصر على الجيفة، على شمها، على تناولها، على التلبس بها، لأن الشيطان صورها لي أنها شيء جميل، قال: «هذه المعصية تخفف عنك.. تروح عنك.. إنها جميلة.. إنها لذيذة.. اقضها.. خذ فرصتك منها» هذا وسواس، الوسواس الترغيب في المعصية ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «1» مَلِكِ النَّاسِ «2» إِلَهِ النَّاسِ «3» مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ «4» الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ”قد ملأ بالوسواس صدري“.

واللون الآخر التشكيك في الطاعات، الشيطان لا يرغب لي المعاصي فقط، بل يشككني في الطاعات والقربات، وهذا التشكيك عبر عنه : ”وأحاطت هواجسه بقلبي“ الهواجس هي التشكيك «ماذا تستفيد أنت من النافلة؟ النافلة شيء متعب وهو مستحب لا تعاقب على تركه، اتركه، ماذا تستفيد أنت من قراءة القرآن؟ اتركه، لماذا أنت تعتقد بالأئمة؟ لماذا أنت تعتقد بالنبي؟ لماذا أنت تعتقد بالمسجد؟ بالصلاة؟ بصلاة الجماعة؟ مو بلازم» التشكيك في الطاعات هواجس الشيطان، ”وأحاطت هواجسه بقلبي“ «صلي بالبيت، لماذا تصلي جماعة تتعب نفسك تذهب إلى المسجد وترجع؟ اجلس بالبيت صلي، سريعًا تخلص الصلاة، لماذا تسمع الدعاء؟ لماذا تقرأ الدعاء؟ كاف هذا الدعاء الذي تقرؤه في قنوت الصلاة.. وهكذا» كما يرغبني في المعصية ينفرني من الطاعة، كما يوسوس لي لتزيين المعصية يملأ بهواجسه قلبي حتى أحتقر الطاعة، أستصغر الطاعة إلى أن أتركها، ”وأحاطت هواجسه بقلبي“.

والوظيفة الثالثة الوظيفة المساعدة، الشيطان يساعد شيئًا في داخلي، أنا عندي في داخلي، في شخصيتي أشياء الشيطان يساعدها يكملها ”يعاضد لي الهوى ويزين لي حب الدنيا“ وحب الدنيا رأس كل خطيئة.

اللهم نبهنا من نومة الغافلين واجعلنا لك من الذاكرين واجعلنا لك من الخاشعين اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار...

هذا جدًا كلمة إذا نلتفت إليها «توفنا مع الأبرار» كلمة مهمة هذه، احرص على الدعاء بها، أن يموت الإنسان وهو في زمرة الأبرار، من توفيق الإنسان أن يموت في يوم مع جماعة من الأبرار، مع جماعة من الشهداء، مع جماعة من الصالحين، من توفيق الإنسان أن يموت في يوم تصعد فيه الأرواح إلى الله، شهر مناسبة، شهر عظيم كشهر رمضان، أو يوم عظيم كيوم جمعة، كيوم مثلا عرفة، كيوم الغدير، يوم تصعد فيه الأرواح إلى الله أو شهر تصعد فيه الأرواح إلى الله، هذه وفاة مع الأبرار «وتوفنا مع الأبرار».

والحمد لله رب العالمين