في رحاب مناجاة الشاكين جـ6

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

”إلهي أشكو إليك قلبًا قاسيًا مع الوسواس متقلبًا وبالرين والطبع متلبسًا“

من الأمراض الخطيرة الفادحة التي تتلف الشخصية الإيمانية للإنسان مرض قساوة القلب، قال تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ هذا الحجر الأصم قد يكون أحسن حالاً من القلب، قد يكون أقرب إلى ربه من قلب الإنسان، هذا الحجر الأصم يدرك خالقه الواحد ويسبحه، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وقد يتعالى تسبيحه إلى ربه إلى مستوى الخشية فيهبط من خشية الله، وقال تبارك وتعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إن القرآن ينفذ تأثيره على الصخرة وعلى الجبل الصم ومع ذلك قد لا ينفذ تأثيره على قلبي وعلى روحي، فقلبي أشد قساوة من الصخرة الصماء لأن الصخرة الصماء قد تتأثر بذكر الله، قد تتأثر بالقرآن، لأن الصخرة الصماء قد تهبط من خشية الله، أما قلبي فلا يبالي بذكر الله ولا يتأثر ولا يتغير بقراءة القرآن.

مرض قساوة القلب مرض له مظاهر وله عوامل، هل أنا مبتلى بهذا المرض وهو مرض قساوة القلب أم لا؟ هناك مظاهر، هناك أعراض إذا وجدت عندي فأنا مبتلى بهذا المرض وإلا فلا:

المظهر الأول: الجفاف الروحي، ألا يشعر الإنسان بطعم العبادة أبدًا، يصلي كأن الصلاة روتين فارغ لا طعم له، أقرأ الدعاء كأن الدعاء قصة لا طعم لها، أقرأ القرآن كأنها لقلقة لسان لا أثر لها، إذا لم أشعر بلذة الدعاء وبلذة النافلة وبطعم القرآن الكريم، إذا لم أشعر بطعم ذلك «بطعم العبادة» فأنا عندي جفاف روحي، وهذا الجفاف الروحي عرض لمرض وذلك المرض قسوة القلب.

المظهر الثاني من مظاهر هذا المرض: عدم المبالاة بالذنب، أصنع المعصية ولا أبالي، هناك من يصنع المعصية ويتحسر ويتألم ويتندم لأنه صنع المعصية، أما أنا فكأن شيئًا لم يحدث، أصنع المعصية وكأنني لم أصنع شيئًا، ولو نبهني شخص فقال لي هذه معصية هذه رذيلة، أقول: «لا بأس، مثلي أمثال يصنعون المعصية، مثلي أمثال يصنعون الرذيلة» لا أبالي، لا أكون مستعدًا لتوبيخ نفسي ولتقريعها، وقد ورد عن النبي : ”من سرته حسنته فهو مؤمن، ومن ساءته سيئته فهو مؤمن“ أنا لا تسوؤني سيئتي، أصنع السيئة ولا أستاء منها ولا أتأثر بها، فأين الإيمان؟ لو كان الإيمان يعمر قلبي لاستئت، لتندمت، لتحسرت على فعل السيئة وارتكاب المعصية.

والمظهر الثالث: عدم الاهتمام بالمحرومين، نحن ننام على الوسادة الناعمة مرتاحين ونعيش في بحبوحة ورغد من العيش مستقرين، وهناك أناس لا يذوقون لقمة الخبز، وهناك أناس لا يجدون ما يسترون به أبدانهم، نحن نسمع عنهم أو نشاهد صورهم لكن قلوبنا لا تتحرك لأجلهم، لكن قلوبنا لا تتأثر، فليكن هناك فقراء، فليكن هناك محرومون، المهم أننا نحن مرتاحون، هذا عرض ثالث من أعراض مرض قسوة القلب.

فالقلب القاسي لا يلتذ بعبادة ولا يبالي بالذنب ولا يعنى بآلام المحرومين والمساكين، إذًا قلبي قاسٍ ميت لأنه يعيش هذه الأعراض والمظاهر الخطيرة لمرض قساوة القلب.

هذا المرض وهذه أعراضه فما هي أسبابه؟ لماذا أبتليت أنا بمرض قساوة القلب؟ وما هي العوامل التي سببت أن أبتلى بهذا المرض؟

العامل الأول: ترادف الذنوب، الذنب على الذنب والمعصية على المعصية، ليس عندي توبة، ليس عندي استغفار، ذنب بعد ذنب، معصية إثر معصية، رذيلة بعد رذيلة، لا أتوقف، لا أتراجع، ترادف الذنوب وتكاثرها على قلبي جعل قلبي فحمة سوداء لا تفقه موعظة ولا تلتذ بعبادة، أنا أسمع الموعظة، أحضر المسجد، أسمع الموعظة ولكن لا أتأثر بها، إذا تحدث شخص عن العصاة فكأني لست منهم مع أنني من أشد العصاة، إذا تحدث شخص عن المذنبين أقول أنا لست منهم، وأنا منهم أو من أشدهم، فإذا أنا لا أبالي حتى بالموعظة التي أسمعها في المسجد ولا أهتم بها فأي قساوة أشد من هذه القساوة؟ وأحيانًا أكره أن أسمع الموعظة، أحيانًا أستثقل أن أسمع الموعظة، لا أريد أن أسمع الموعظة، لا أريد أعكر مزاجي بسماع الموعظة، أحيانًا قد أفتح الراديو فأسمع دعاء، أسمع صوت الدعاء، دعاء أبي حمزة يهدر، أكره أن أسمعه لأنه يذكرني بالموت، لأنه يذكرني بالقبر، لأنه يذكرني بعالم لا أريد أن أتذكره، أنا أريد أن أعيش لذة في حياتي وبهجة، لا أريد أن أعكر صفو مشاعري، حتى الدعاء أستثقل أن أسمعه، حتى هذا الصوت الهادر المؤثر لا أريد أن أتأثر به، دعه لغيري، أي قساوة أعظم من هذه القساوة التي أعيشها؟ ترادف الذنب على الذنب حجب قلبي عن التلذذ بالعبادة، حجب قلبي عن الرغبة في استماع الموعظة، حجب قلبي عن الرغبة في استماع الدعاء، وورد عن الصادق : ”إذا أذنب العبد خرجت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن عاد عادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا“ يصبح القلب فحمة سوداء وإذا صار القلب قطعة سوداء لم يفلح ولم يسمع موعظة ولم يبال بالذنب والرذيلة، وهكذا قلوبنا.

العامل الثاني من عوامل قسوة القلب: استحقار الذنوب، نكذب ثم نقول هذه كذبة صغيرة، نغتاب نقول هذه غيبة عابرة، نقوم بذنوب ثم نقول هذه ذنوب صغيرة، احتقار الذنب يجرئني على الذنب مرة أخرى، لذلك ورد عن النبي : ”أشد الذنوب ما استهان به صاحبه“ لأنه يجرئك على الذنب، يقسي قلبك، استصغار الذنب يقسي القلب، وورد عن زين العابدين: ”يا بني اجتنبوا الكذب الصغير والكبير، في جد أو هزل، فإن العبد إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير“ استصغار الذنب يقسي القلب، يوجب الجرأة على الله، أما إذا حاسبت نفسي ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“ إذا حاسبت نفسي ولقنتها أن هذا ذنب خطير، أن هذه المعصية جرأة على الله، تمرد على الله، طغيان على الله، محاسبة النفس تردع القلب عن القساوة.

العامل الثالث: مجالسة الموتى، ورد عن النبي : ”ثلاث يقسين القلب: ترادف الذنب واللهو ومجالسة الموتى، قيل: ومن هم الموتى يا رسول الله؟ قال: كل مترف فهو ميت“ أنا أجالس المترفين، المترف هو الإنسان الذي لا يهتم إلا بنفسه «همه جيبه، همه بطنه، همه شهوته، همه شكله، همه زينته» الإنسان الذي لا يهتم إلا بنفسه مترف ميت، قلبه ميت، إذا جلست معه يتحدث عن ماذا؟ يتحدث لي عن شكله، عن سيارته، عن أجهزته، عن زينته، عن أمواله، عن علاقاته، ما أسمعه يومًا يتحدث عن ذكر الله، عن القرآن، عن الدعاء، عن المسجد، لا يتحدث إلا عن نفسه، هذا مترف ميت القلب، فإذا جالسته سرى الموت إلى قلبي، ومنه كثرة مجالسة النساء لأن حديثهن يتمحض في الحديث عن الدنيا والمظاهر والزينة والشكل، وهذا يدخل في مجالسة الموتى والمترفين، إذًا المجالس التي ليس فيها إلا الحديث عن النفس مجالس الموتى، مجالس تقسي القلب.

والعامل الرابع: البعد عن ذكر الله، كيف البعد عن ذكر الله؟ تقرأ في دعاء أبي حمزة: ”أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني أو فقدتني من مجالس العلماء فقليتني“ مجالس العلماء هي مجالس الذكر، ذكر الله، مجالس العلماء «مسائل.. مواعظ.. مفاهيم» تذكرني بالله، تذكرني بآخرتي، تربطني بديني، وهناك مجالس ليس فيها إلا الغيبة والنميمة والحديث عن الدنيا والحديث عن الأموال، هذه المجالس تبعد عن ذكر الله وتقس القلب.

إذًا هذه عوامل إذا الإنسان لازمها أو عاصرها واستمر عليها قسا قلبه وخشنت روحه وجفت أحاسيس الروحانية من قلبه ومن روحه، فقلوبنا ضعيفة أمام المعصية لأنها قاسية، ”إلهي أشكو إليك قلبًا قاسيًا مع الوسواس متقلبًا“ يتقلب مع الوسواس لضعفه، لو كان قويًا لصمد أمام الوساوس، لو كان قويًا لصمد أمام وساوس الشيطان وتزيين الشيطان لكن لأنه قلب قاس قلب ضعيف ينهار أمام وساوس الشيطان وأمام أحاديثه وتزييناته، ”ومع الوساوس متقلبًا“.

والحمدلله رب العالمين