في رحاب مناجاة الشاكين جـ8

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

”إلهي لا حول لي ولا قوة إلا بقدرتك ولا نجاة لي من المكاره إلا بعصمتك فأسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيئتك ألا تجعلني لغير جودك متعرضًا ولا تصيرني للفتن غرضًا وكن لي على الأعداء ناصرًا ومن المخازي والعيوب ساترًا ومن البلاء واقيًا ومن الذنوب عاصمًا برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين“

بعد أن شكا في دعائه من مجموعة من الأمراض الخطيرة:

منها مرض النفس وهو مرض الطغيان والتمرد ”إلهي أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة“

ومنها مرض الاسترسال مع حديث الشيطان وحبائل الشيطان ”إلهي أشكو إليك عدوًا يضلني وشيطانًا يغويني“

ومنها مرض قسوة القلب ”إلهي أشكو إليك قلبًا قاسيًا مع الوسواس متقلبًا“

ومنها مرض الغفلة والبعد عن التوبة في قوله: ”وعينًا عن البكاء من خوفك جامدة وإلى ما يسرها طامحة“

بعد أن شكا هذه الأمراض الخطيرة اتجه إلى ربه عز وجل قائلاً: ”إلهي لا حول لي“ أي لا يمكنني التخلص من هذه الأمراض الخطيرة «مرض تمرد النفس ومرض قسوة القلب ومرض الاسترسال مع الشيطان» لا يمكنني التخلص من هذه الأمراض الخطيرة إلا بحول منك وقوة، وإلا فأنا عاجز.

”إلهي لا حول لي ولا قوة إلا بقدرتك ولا نجاة لي من المكاره إلا بعصمتك“ اختلاف الهدف أوجب اختلاف المطلوب، فالهدف في الفقرة الأولى هو القوة والصمود أمام المعاصي والذنوب، لأنني أطلب القوة والصمود أمام هذه الأمراض الخطيرة التي شكوتها إليك، لأجل أن هذا هو هدفي لذلك طلبت حصة من قدرتك، أن تفيض علي شيئًا من قدرتك حتى أقتدر به أن أقاوم هذه الأمراض الخطيرة ”لا حول لي ولا قوة إلا بقدرتك“، والهدف في الفقرة الثانية الحرز والوقاية، ولأن هدفي أن يكون عندي حرز ووقاية من مكاره الدنيا، من الشرور في هذه الدنيا، من أمراضها، من فتنها، من حروبها، لأجل أن هدفي هو الوقاية لذلك كان مطلوبي عصمتك فقال: ”ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك“ أي عصمتك لي وأن تعطيني وقاية وجنة من هذه المكاره ”ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك“.

ثم ذهب إلى الدعاء، وصل الآن الكلام في المسألة التي أريد أن أسألك بها، ”إلهي أسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيئتك ألا تجعلني لغير جودك متعرضًا“ أنا أريد أن أسألك العطاء والعطاء يحتاج إلى عنصرين: حكمة وقدرة، لا يمكن لأي إنسان أن يعطي حتى تكون عنده حكمة وقدرة، فبقدرته يستطيع أن يمد بالعطاء وبحكمته يستطيع أن يضع العطاء في موضعه، فلأجل أن العطاء يحتاج إلى حكمة وقدرة قال: ”أسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيئتك“ حكمته بليغة، وهذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، كأنه قال: «أسألك بحكمتك البليغة ومشيئتك النافذة السارية في كل شيء» ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ”ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيئتك“ أن تعطيني، ما هو هذا العطاء؟ ”ألا تجعلني لغير جودك متعرضًا“ ما أذل مسألة المخلوق، أنا لا أريد أن أسأل المخلوق، أنا لا أريد أن أسأل أحدًا غيرك، إنني إذا سألت غيرك أذلني، إذا سألت غيرك فضحني، أنا لا أريد إلا أن أسألك أنت، أنت الذي تستمع إلي وتستقبلني وترحمني وأنت الذي تستر علي عيوبي، أنت حبيبي الحقيقي لأن الحبيب الحقيقي هو الذي يستر العيوب، هو الذي يتجاوز، هو الذي يغفر، هو الذي يستقبل، هو الذي يرحم، أنا لا أريد أن أسال غيرك، ”ألا تجعلني لغيرك جودك متعرضًا“ لا أريد إلا جودك ولا أريد إلا مسألتك أنت.

”ولا تصيرني للفتن غرضًا“ والفتن قد تكون فتن اجتماعية وقد تكون فتن نفسية، الفتنة أشد من القتل يعني الفتن الاجتماعية، الفتن الاجتماعية بين الناس أشد من القتل، والفتنة النفسية هي التي قال عنها تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، فهناك فتن اجتماعية وهي أشد من القتل، وهناك فتن نفسية وروحية تودي بي وتقضي على استقامتي، وأنا أريد منك تعالى ألا تجعلني للفتن من كلا القسمين ”وألا تجعلني للفتن غرضًا“ بألا أكون مقصدًا للفتن الاجتماعية والنفسية.

”وألا تجعلني للفتن غرضًا وكن لي على الأعداء ناصرًا“ من هم أعداؤنا الذين نريد أن ننتصر بالله عليهم ونسأل الله أن ينصرنا ويقوينا عليهم؟ أعداؤنا من يجروننا إلى المعصية، كل شخص يجرني إلى المعصية فهو عدوي وليس صديقي، كل شخص يحبب لي الرذيلة ويزين لي القبيح ويحثني عليه فهو عدوي وليس صديقي، إذًا ”كن لي على الأعداء ناصرًا“، أعطني قوة أنتصر بها أمام كل عدو يجرني إلى المعصية وإلى الرذيلة.

”كن لي على الأعداء ناصرًا ومن المخازي والعيوب ساترَا“، القبائح على قسمين: عيوب ومخازي، كلاهما قبيح لكن هناك مخازي وهناك عيوب والمخازي أشد من العيوب، الذنب إذا سمعه الناس.. بعض الذنوب يعتبرها الناس عيبًا لكن بعض الذنوب يعتبرها الناس مخزية مسقطة للحياء، مسقطة لماء الوجه، مسقطة لشخصية الإنسان وكرامته، لو اطلع الناس على أني استمعت أغنية مطربة فإن هذا عيب، يقولون مريض، ولكن لو اطلع الناس أن لي علاقة غير مشروعة مع فتاة أجنبية بوسيلة أو بأخرى فإن هذا القبيح مخزٍ لا أنه مجرد عيب، مسقط للشخصية وللكرامة ولماء الوجه، إلهي فإن كنت قد ارتكبت شيئًا من هذه القبائح، فإن كنت قد جنيت على نفسي بجناية من هذه القبائح فأرجوك أن تسترها علي.

”وعلى المخازي والعيوب ساترًا ومن البلاء واقيًا“ ما هو البلاء الذي نريد أن يقينا الله منه؟ «المرض، الفقر، الخوف وعدم الأمن» هذه بلاءات تتكرر في الأدعية طلب الوقاية منها، لكن هنا عندما يتعرض إلى حديثه عن الذنوب والمعاصي والمخازي والعيوب يقصد بلاء خاص، بعد أن ذكر المخازي والعيوب وقال ”وعلى المخازي والعيوب ساترًا“ ثم قال ”ومن البلاء واقيًا“ يقصد بلاء خاص أشد من بلاء المرض، أشد من بلاء الفقر، أشد من بلاء الخوف والقلق وعدم الأمن، بلاء خطير يصعب التخلص منه، ما هو هذا البلاء الذي أريد أن تقيني منه؟ بلاء الشره، شره النفس، النفس إذا صارت شرهة فإن هذا بلاء، بلاء خطير، شره النفس يجرني إلى الشهوات، النفس الشرهة هي التي لا تشبع من الشهوات، لا تسأم من الشهوات، لا تسأم من إشباع الغرائز، النفس الشرهة هي التي تعيش دائمًا في الشهوات، في المعاصي، في الغرائز، لا يهمها إلا بطنها، لا يهمها إلى شهواتها، لا يهمها إلا غرائزها ونزعاتها.

”ومن البلاء واقيًا ومن الذنوب عاصمًا“ العصمة هي الانصراف النفسي، المعصوم هو الذي لا تنصرف نفسه إلى المعصية بل نفسه منصرفة إلى الطاعة، أنا أريدك أن تصرف نفسي عن الذنوب، أن تحبب نفسي للعبادة، للذنوب أجواء وللعبادة أجواء، لا يصرع أجواء الذنوب إلا أجواء العبادة، كلما أقبل الشخص على العبادة ضعفت رغبته في الذنوب، كلما انصرف الشخص للعبادة أعرضت نفسه عن الذنوب، أريدك أن تصرف نفسي للعبادة كي تنصرف عن الذنوب، أريدك أن تحبب لي المسجد والقرآن والنافلة والدعاء كي تنصرف نفسي عن شلل السوء وأصدقاء المعصية وجلسات المعصية والأفلام الخليعة والأغاني المطربة، أريدك أن تصرفني إلى أجواء طاعتك.

”وعن الذنوب عاصمًا برأفتك ورحمتك“ هناك رأفة وهناك رحمة والرأفة أخص من الرحمة، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ الرحمة هي العطاء، والرأفة هي الرقة والشفقة، الرأفة أخص من الرحمة، إذا وجدت مريضًا أمامي يحتاج إلى علاج فإذا قدمت له الدواء فهذه رحمة، أما إذا وضعت يدي على جسمه وأشعرته بحناني وحاولت أن أهدئ من قلقه فهذه رأفة، فالرأفة أشد تأثيرًا في نفس الآخر من الرحمة، إلهي أريد منك رحمة ورأفة، أريد أن تصبغ علي عطاءك فتوفقني للصلاة والصوم واجتناب المعاصي فهذه رحمة، لكنني أريد أكثر من ذلك، أريد أن أشعر بلذة عنايتك ومددك قد أنا لا أشعر بك لا لقصور فيك بل لقصور في، أنا نتيجة المعاصي والذنوب التي أحدقت بي وركبت ظهري أصبحت لا أشعر بك، لا أشعر بعنايتك، لا أشعر بعطفك، فأنا كما أريد رحمة منك وعناية تعطر بها قلبي أريد أيضًا أن أشعر بطعم عنايتك، بلذة اهتمامك بي، وهذه هي الرأفة، فهناك شخص إذا صلى شعر بانشراح الصدر في صلاته، هذه رحمة، وشعر مضافًا لانشراح الصدر أن هناك يدًا خفية غيبية تستقبل دعاءه وتحتضنه، وهذا شعور بالرأفة، ”برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين“.

والحمدلله رب العالمين