الإنسان والغيب

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ «1»

صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في عدة محاور:

المحور الأول «بيان أوعية الوجود»: إن كل شيء من الموجودات المادية كالإنسان مثلا والحيوان والملك، إذا كان مرتبطا بعالم المادة يمر بعدة أوعية في مسيرة وجوده وفي صراط وجوده، يمر بعدة أوعية وبعدة ظروف:

الوعاء الأول «الخزائن - المعبر عنه في كلماتهم ب «الغيب المطلق»: فإن الغيب المطلق هو أول وعاء يمر به الموجود يمر به الإنسان وهو في مسيرة الوجود والمقصود بالغيب المطلق، هو الوجود اللامحدود، بمعنى أنني قبل أن أنزل إلى عالم المادة وقبل أن أهبط إلى عالم المادة كان لي وجود أيضا، لكن وجودي كان وجودا ليس له حدود يعني ليس له زمن، ليس له مكان، ليس له أب وأم، ليس له مثلا طول وعرض، كان لي وجود قبل نزولي إلى عالم المادة لكن هذا الوجود كان وجودا لا حد له ولا قدر له فيسمى وجودي في ذلك العالم ب «الغيب المطلق» ويسمى ب «الخزائن».

وهذا ما عبرت عنه الآيات المباركات مثلا قوله تعالى ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ «2»، أو قوله عز وجل ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ «3» أو قوله عز وجل ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ «4» هذه الخزائن هي عبارة عن عالم الغيب المطلق الوعاء الأول لجميع الموجودات وهو وعاء الوجود اللامحدود، هذا الوعاء يعبر عنه في القرآن الكريم بالخزائن ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ قبل أن ينزل إلى عالم المادة، كلن عندنا كان في الخزائن ولكنه كان موجودا وجودا لا حد له وجودا مطلقا ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ إذا نريد أن ننزله إلى عالم المادة ننزله بقدر، نعين أب.. نعين أم.. نعين الزمان له.. نعين طول.. نعين عرض.. نعين عمر نعين... وهكذا.

فلا ينزل إلى عالم الدنيا إلا مقدر بأقدار ومحدد بحدود ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ، فعالم الخزائن وهو عالم الغيب المطلق هو المعبر عنه في الآية «مفاتح الغيب» ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ مفاتح وليس مفاتيح، المفاتيح غير المفاتح، مفاتح جمع مفتح، والمفتح هو الخزانة، يعني خزائن الغيب كأنه قال ”وعنده خزائن الغيب“، مفاتح الغيب هي خزائن الغيب وهي عبارة عن عالم الغيب المطلق الوجود اللامحدود.

﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ هذا العالم يعني عالم الوجود اللامحدود لا يعلم به أحد حتى النبي، حتى الرسول، حتى المَلك، هذا العالم اختص به تبارك وتعالى، الإحاطة بأول وعاء من أوعية الوجود وهو وعاء الغيب اللامحدود، وعاء الغيب المطلق هذا العالم لا يعلم به أحد ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ لماذا؟

لأن البشر يمكن أن يعلم الغيب لكن يمكن أن يعلم الغيب المحدود ولا يمكن أن يعلم الغيب المطلق بلحاظ أن العلم بالشيء فرع محدوديته، بما أن البشر محدود فعلمه محدود، والعلم المحدود لا يمكن أن يحيط بالمعلوم إلا إذا كان المعلوم محدودا له حدود معينة، سواء كان بحجم السماء بحجم الأرض، هذه السماوات السبع محدودة.

جميع الموجودات المادية محدودة مهما بلغت من سعتها وعظمتها ومن مساحتها، هي محدودة يمكن للبشر أن يعلم بالمغيب إذا كان المغيب أمرا محدودا، أما إذا لم يكن محدودا مبهم في عالم الغيب المطلق فإنه حينئذ لا يمكن أن يحيط به الذهن البشري، لا يمكن أن يحيط به العقل البشري لأنه محدود - العقل البشري - فلا يمكن أن يحيط بالمطلق ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ.

الوعاء الثاني «وعاء الكتاب المبين»: الكتاب المبين غير مفاتح الغيب ولذلك جعل الكتاب المبين ظرفا إلى الماديات لم يجعله ظرفا إلى الخزائن، قال ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، الآن إلى شيء آخر وعاء ثاني ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا إشارة إلى دقة إحاطته سبحانه وتعالى ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «5».

﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ كل هذا الموجودات المادية في كتاب مبين، فالكتاب المبين غير مفاتح الغيب، الكتاب المبين وعاء الموجودات المحدودة يعني حدّدت أولا، ثم أصبحت في كتاب مبين قبل أن تحدد في عالم خزائن الغيب، بعد أن حدّدت أصبحت في كتاب مبين.

ولذلك القرآن يشير إلى الفرق بين العالمين: عالم الغيب المطلق وعالم الكتاب المبين عندما يقول عز وجل ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا «6»، |مذكور| يعني محدود، نعم مرّ على الإنسان أنه صار شيء، لكن ما كان شيء مذكور، ثم صار شيئا مذكورا ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًايعني كان شيئا لكنه لم يكن مذكورا يعني لم يكن محدودا، كان في عالم الغيب المطلق ثم أصبح محدودا ومذكورا في عالم الكتاب المبين.

فعالم الكتاب المبين هو عالم الأقدار وهو عالم يسبق الموجودات ويكون معها ويبقى حتى فنائها، عالم الكتاب المبين عالم فيه البرنامج «الخطة» كلها مثل ما أنت تكتب الخارطة - خارطة المنزل مثلا - في صفحات معينة، أيضا عالم الكتاب المبين فيه الأقدار والحدود لجميع الموجودات التي ستوجد أو وجدت أو موجودة بالفعل فهو مع الموجودات وقبلها وبعدها يسمى ب «عالم الكتاب المبين».

﴿ولا أصْغَرُ منْ ذلكَ ولا أكْبَرُ إلا في كِتَابٍ مُبِينٍ «7» جميع الموجودات بجميع حدودها هي موجود في هذا الكتاب المسمى بالكتاب المبين، هنا يأتي علم الرسول وعلم الإمام وعلم الحجة بالغيب يعني يطّلعون على الكتاب المبين، ما يعلم به النبي أوالأئمة أو الحجة وسائر الحجج - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - من المغيبات هو عبارة عن الإحاطة بما في الكتاب المبين باعتبار أن ما في الكتاب المبين علم بالأشياء بما هي محدودة مقدرة، فيحيطون بما في الكتاب المبين ويعلمون بالغيب عن طريق الاتصال بذلك الكتاب المبين.

ولذلك لمّا تحدث عن القرآن الكريم قال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ «8»، هذا القرآن هو موجود من الموجودات أيضا هذا القرآن كان له وجود وحدود في عالم الكتاب المبين ﴿لّا يَمَسُّهُ يعني لا يناله وهو في ذلك الكتاب المكنون وهو في ذلك الكتاب المبين ﴿إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ «9»، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «10».

الوعاء الثالث «وعاء المحو والإثبات - عالم التغير -»: هذا غير خزائن الغيب وغير الكتاب المبين، عندنا وعاء ثالث وهو وعاء المحو والإثبات وهو عالمنا الآن هذا الذي نعيش فيه، هذا العالم المادي هو عالم التغير هو عالم المحو والإثبات، ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «11»، هذا كله في عالمنا عالم المادة، عالم المادة يتغير فيه الوجود ويمر من مرحلة إلى مرحلة ويعيش في صراط متدرج إلى أن يفنى ويزول.

عالم المحو والإثبات هو عالم المادة وهو عالم التغير وهذا هو المقصود بقوله عز وجل ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ يعني في هذا العالم ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ «12»، يعني الكتاب المبين، أما هذا العالم المادي فهو عالم التغير والمحو والإثبات، كان جنينا ثم صار طفلا ثم صار شابا ثم صار كهلا ثم صار شيخا وهكذا، كيف «عالم المحو والإثبات»؟

عالم المحو والإثبات المعبر عنه ب «الإبداء» هو عبارة عن إبداء شيء ثم إبداء خلافه، وإلا الله ما يبدو له شيء الله تبارك وتعالى يعلم بالأشياء منذ الأزل وأنه على هكذا ستكون، ولكنه يبدي شيئا في عالمنا - عالم المادة - ثم يبدي خلافه بالنسبة لنا بدا، وبالنسبة له لا يبدو، هو يعلم بالأشياء منذ الأزل على ما هي عليه، بالنسبة لنا نحن الذين لا نحيط بالأمور يصير بدا لأنه أبدى الله لنا شيئا ثم أبدى خلافه، مثلا إنسان ميؤوس منه أصيب بمرض خطير - والعياذ بالله -، إذا أصيب الإنسان بمرض خطير وأشرف على الموت أو توقف قلبه عن النبض وقيل مات، هنا أبدا الله للعباد أن هذا قد مات أو أشرف على الموت.

ولكن هذا الذي مات موتا نسبيا أو شارف على الموت يتصدق ولده عنه يذبح كبشا يهدى - ذبح الكبش مؤثر أكثر من أن تدفع مالا، هذا موجود في الروايات والنصوص -، يعني عند حدوث بلاء أو عند اقتراب بلاء إذا أردت دفع ذلك البلاء أو تفريج ذلك الكرب تذبح كبش تريق الدم، إذا أرقت الدم وذبحت الكبش وتصدقت بلحمه على الفقراء كان طريقا من طرق دفع البلاء وتفريج الكربة، فالله تبارك وتعالى أبدى للعباد أن فلانا ميت أو أشرف على الموت ثم قام ولده الصالح وتصدق عنه وإذا به عاد إلى الحياة مرة أخرى صحيحا سليما.

هنا ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب يعني أبدى موته ثم أبدى حياته فمحا ما أبداه أولا وأثبت ما أبداه ثانيا ببركة عمل صالح قام به عبد صالح، والله يعلم من الأول، هو بالنسبة له ما تغير شي ويعلم من الأول أن ابن فلان سيتصدق عن أبيه المريض وسيبقى أبوه حيا، ولكنه أبدى موته ثم أبدى حياته لبيان أثر العمل القربي لبيان أثر العمل العبادي.

يريد أن يقول لعباده هناك مسببات تستطيعون أن تصلوا إليها بأسباب اختيارية، تستطيعون أن تصلوا إلى هذا المسببات من تفريح الكرب من شفاء الأمراض من تغيير الأقدار من إزالة البلاء والمحن، تستطيعون أن تصلوا إلى هذا المسببات بأسباب اختيارية سهلة مثل صدقة.. دعاء.. صلة رحم، هذه أسباب اختيارية سهلة ”الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد ابرم إبراما“.

خصوصا الصدقة عند شروق الشمس وعند غروبها مؤثرة جدا حتى لو ريال واحد، الإنسان إذا يضع عنده في البيت صندوق إلى الصدقة وقت الشروق يضع فيه ريال، وقت الغروب يضع فيه ريال، الصدقة وقت الشروق ووقت الغروب مؤثرة جدا في دفع البلاء عن الإنسان وفي تنمية رزقه.

فعالمنا الذي نعيش فيه وهو عالم المادة هو الوعاء الثالث وهو وعاء المحو والإثبات، ومعنى المحو والإثبات أن الله يبدي شيئا ثم يبدي خلافه إذا حدث سبب اختياري من العبد، ”ما عبد الله بشيء أحب إليه من البداء“، يعني أن تعتقد، نفس هذا الاعتقاد يعتبرعبادة، اعتقادك أن الصدقة وصلة الرحم أسباب لدفع المكروه، نفس هذا الاعتقاد هو عبادة في نفسه.

المحور الثاني: نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قسّم الموجودات إلى غيب وشهادة، قال ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ «13»، وهذا التقسيم ليس بالنسبة إلى الله بل بالنسبة للعبد، وإلّا.. الله ليس عنده غيب وشهادة الجميع شهادة بالنسبة إلى الله، الغيب والشهادة بالنسبة إلينا نحن، فما كان مستورا عن المخلوقين بحيث لا يمكن أن يصلوا إليه بالطرق المحسوسة والميسورة، كل ما لا يمكن للمخلوقين الوصول إليه بالطرق الميسورة هو بالنسبة لهم غيب ولا يمكنهم أن يصلوا إليه، هو بالنسبة لهم شهادة لكن الجميع بالنسبة لله تعالى سواء فليس بالنسبة إليه غيب وشهادة، إنما تنقسم الموجودات لغيب وشهادة بالنسبة للإنسان.

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِليس عنده غيب وشهادة، غيب وشهادة بالنسبة للإنسان، هنا من خلال هذا المحور نتحدث عن أن هناك شبهة ترد على علم الأنبياء وعلى الأئمة بالغيب، وهذه الشبهة تارة تصاغ بصيغة نقلية، تارة تصاغ بصيغة عقلية:

فالصياغة الأولى: وهي الصياغة النقليه هو أن يقال أن علم الأئمة أو الأنبياء بالغيب يتنافى مع القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم يقول - وعلى لسان نبيه - ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ «14»، بينما أنا مسني سوء، النبي يتعب ويمرض وكسرت رباعيته يوم أحد، فلو كان يعلم الغيب واستكثر من الخير لما مسه السوء، كما أن علمهم بالغيب يتنافى مع قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي «15»، ما أدري ما سيصير غدا.. ما بعده، ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، إذن هو لا يعلم بالمنايا والبلايا، فكيف يدعي أن عنده علم الغيب والقرآن نفسه يصرح بأنه ليس لديه علم الغيب ﴿ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب؟

والجواب عن هذه الشبهه أو عن هذه الصياغة: المقصود في هذه الآيات المباركات بعلم الغيب نفي الاقتضاب البشري لا نفي العلم الفعلي، ولو بسبب غير بشري، هو يريد أن يقول البشر من حيث هو بشر، بشريته لا توصله إلى الغيب، النبي بما هو بشر لا بعلم الغيب، لأن علمه بالغيب لا يقتضي طبعه البشري، فإن العلم البشري لا يقتضي إلا علم الشهادة، والطبع البشري لا يقتضي الوصول إلى الغيب ولا يقتضي علم الغيب فنفي علم الغيب عن النبي أو الإمام المراد به نفي الاقتضاء في الطبع البشري.

فالنبي أو الإمام لا يعلم الغيب بالأصالة لأنه بشر والطبع البشري لا يقتضي، لكنه لا يعلم الغيب، لا بالأصالة، بل بسبب إلهي، بتعليم إلهي ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ، إذا ارتضى أطلعه، هو لا يعلم بذاته، إذا ارتضى أطلعه على الغيب ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «16».

الصياغة الثانية لهذا الشبهة أن يقال: بأن علم الأئمة والأنبياء والحجج بالغيب يتنافى مع تاريخهم فإنهم قد أقدموا على الأضرار فالنبي دخل معركة أحد وأصيب فيها وكسرت رباعيته حتى كاد أن يغشى عليه، لو كان يعلم الغيب لما أقدم إقدامه على هذه الأضرار التي قادته إلى الهلكة، والإنسان العاقل لا يقدم على الهلكة.

وعلي - - ذهب إلى مسجد الكوفة ليلة التاسع عشر من شهر رمضان وضرب، ولو كان يعلم الغيب لما أقدم، لأن الإقدام على الضرر لا يصدر من العاقل الملتفت.. وأمثال ذلك، إذن علمهم بالغيب يتنافى مع تاريخهم لأنهم أقدموا على الأضرار الخطيرة ولو كانوا يعلمون لما أقدموا عليها، فهم عقلاء ولكن العاقل لا يقدم على ما فيه الضرر الكبير.

والجواب عن هذه الشبهه: هناك عبارة علمية: ”العلم بالخلاف لا يتنافى مع الاختيار والإرادة“، إذا رأينا واحد اختار طريق فيه ضرر لا نستطيع أن نقول أنه لا يدري.. لو يدري لم يسلكه، لا، لايوجد تنافي بين العلم بالخطر واختيار الخطر الآن أضرب لك أمثلة عادية، هذا الذي يشرب مخدرات أو يتعاطى المخدرات لا يدري أن فيها خطر؟!، لا، يدري أن فيها خطر، هذا الإنسان مع أنه يعلم أنه في هذا المخدر خطر على حياته ولكنه يقدم عليه، يقول: هالسعادة التي أحصلها هذه عدني أهم من الخطر الذي يأتي منه، فهو يقدم على الخطر باختياره مع انه يعلم أن فيه خطرا، فلا تنافي بين العلم بالخطر أو العلم بالخلاف وبين الاختيار.

بحسب الصياغة الفلسفية: ”أن هذا الفعل معلول لعدة علل ومن علله الاختيار نفسه“، يعني الآن مثلا نأتي لهذا الذي يتعاطى المخدّر، هذا موته أو إصابته بمرض خطير موته مسبب يحتاج إلى سبب، وسبب موته مكوّن من عدة عوامل منها: أنه اشترى هذه المادة المخدرة.. منها أنه هيأها.. من هذه العوامل الإرادة، فإرادته جزء من السبب وجزء من العلة فهو قبل ذلك يعلم بأن موته مسبب وعن اختياره وإرادته ومع ذلك أقدم على إحداث هذا المسبب الناشئ عن اختياره وإرادته باختياره وإرادته، فأقدم على المسبب الاختياري بالاختيار، وهذا لا يتنافى مع علمه بذلك المسبب إطلاقا.

فذلك المعصومون - - يعلمون بهذه الأخطار المحدقة، يعلم أنه سيدخل معركة أحد باختياره وأنه ستكسر رباعيته فيها باختياره هو قبل أن يدخل المعركة، ما قال لعمه الحمزة قبل ما تبدأ المعركة - معركة أحد -؟!، التفت إلى عمه الحمزة وقال ”يا عم عد إلي بما عندك“، حمزة فهمها واختنق بعابرته، بكى الحمزة، عرف المصير - يعني لن تنجو من المعركة - وقال: ”يا رسول الله اقضٍ شهيدا“، فلم يردّ عليه النبي شيئا.

إذن النبي يعرف مصير عمّه الحمزة ويدري أنه ستكسر رباعيته - رباعية النبي -، - يعني هؤلاء غريبين - المؤرخين.. الطبري وغير الطبري - يقولوا: ”كان يدري بمصير عمّه الحمزة وهو الذي أنبأه لكن لا يدري عن نفسه ستكسر رباعيته“، هذا لا يعقل، يدري بشيء وبشيء لا يدري.

إذن هو يعلم أنه سيدخل المعركة وأنه سيصاب بهذا الضرر وأنه ستكسر رباعيته، يعلم بذلك ويعلم بأن هذه الأضرار إنما تقع عليه باختياره، هذه أضرار اختيارية، باختياره ستقع عليه ومع ذلك أقدم عليها، إنما أقدموا على هذا الأمور بعلمهم بالأضرار والأخطار استجابة للأمر الإلهي وتفويضا للأمر إلى الله، يقول له الله عز وجل: أنت كُتِبت عليك هذه الأضرار فإذا أقدمت عليها وفوضت أمرك إلى الله متقربا إليه بما يقع عليك من بلاء، بما يقع عليك من ضرر بما يقع عليك من خطر، فهذا مقام عظيم لك عند الله ”إن لك درجة في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة“.

هذا خطر وأقدمت عليه باختيارك وإرادتك، ولكن يقابله مقام عظيم عند الله ”أن لك لدرجة في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة“، فإذا أقدموا على هذه المخاطر وهم يعلمون بخطرها تفويضا الله عز وجل ورغبة فيما أعد إليهم من الثواب العظيم والجزاء الكبير وهذا ما تحدث عنه الحسين بشكل واضح قال: ”لن تشذ عن رسول الله لحمته“، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تسر بهم نفسه وتقربهم عينه ثم قال: ”رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين“.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين