الدرس 4

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أنّه هل يُتصوّر مقوّم الفرد في الأمور الاعتبارية أم لا؟ وذكرنا الوجوه لتصوير ذلك، ولكن بقي إشكال لسيّد المنتقى «قده» ومحصله: أنّ الخصوصية الاعتبارية تارة تكون مستحبة وأخرى واجبة، فإذا كانت الخصوصية مستحبة، مثل خصوصية القنوت أو خصوصية صلاة الجماعة فهذه الخصوصية يتصوّر فيها ما مضى ذكره من أنّها جزء من الفرد وإن لم تكن جزءاً من الطبيعي، أمّا إذا كانت الخصوصية واجبة كأن نقول: يجب في صلاة الظهر أن تكون اخفاتية او يجب في صلاة المغرب أن تكون جهرية، فهذه الخصوصية لا يُعقل فيها أن تكون جزءاً من الفرد وليست جزءاً من الطبيعي، وبيان ذلك: أنّ هذه الخصوصية كخصوصية الجهرية إمّا متعلقة لنفس الامر بالصلاة كأن يقول: صلِّ صلاة الظهر اخفاتاً أو تكون متعلقة لأمر آخر، كأن يقول: صلِّ صلاة الظهر ثم يقول في أمر آخر: أخفت إذا صليت صلاة الظهر، فإن كانت متعلقة للامر الاول فهي جزء من الطبيعة؛ إذ أنّ المامور به من الاول هو الصلاة الاخفاتية، فهي بالنتيجة دخيلة في المأمور به يعني في ماهيته، وأمّا إذا كانت متعلّقة لأمر آخر كأن يقول الشارع: صلِّ صلاة الظهر ثم يقول أمر آخر: إذا أردت أن تتمثل الامر الاول، إذا اردت أن تاتي بصلاة الظهر فاوقعها اخفاتاً، إذاً بالنتيجة سوف يُصبح الاخفات واجباً في واجب لا أنه دخيل في الفرد؛ إذ ما دامت خصوصية الاخفات متعلقةً لأمر وجودي آخر إذاً فالنتيجة أنّ الاخفاتية واجبٌ في واجبٍ، فأنت مأمور بالاخفات لكن في ظرف صلاة الظهر، كما التزم به جمعٌ من الاعلام في المبيت بمنى، حيث قالوا: المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من شهر ذي الحجة بالنسبة للمحرم ليس جزءاً من الحج، ليس دخيلا في المأمور به، بل هو واجب في واجب، فإن حججت فبت في منى، والنتيجة: أنّ الخصوصية الواجبة إمّا دخيلة في المأمور به او واجبة في واجب، ولا يتصوّر فيها أنّ تكون جزءاً من الفرد الخارجي، هذا ما أفاده «قده»، ولكن بما مضى بيانه أمس حيث صوّرنا مقوم الفرد بكون المأمور به الجامع الانتزاعي، فعلى هذا التصوير لا فرق بين كون الخصوصية واجبة او كونها مستحبة، في صيرورتها جزءاً من الفرد، فلو قال الشارع: أنت مأمورٌ بصلاة الفجر، الجامع بين اتيانها اخفاتية او جهرية، فإن اتيت بها لا عن عن جهر فقد اتيت بصلاة الظهر وإن اتيت بها عن جهر فهي بما هي جهرية مصداقٌ لهذا الجامع الانتزاعي، فإذا كان المأمور به الجامع الانتزاعي بين فردين فحينئذ لا محالة اوصاف الفرد الثاني وإن كانت اوصافاً واجبة إلّا انها ليست جزءاً من المأمور به؛ لإمكان تحقق المأمور به من دون هذه الاوصاف، لكنها في نفس الوقت جزءٌ من الفرد؛ إذ لو امتثل الامر باختيار الفرد الثاني لكان الفرد الثاني امتثالاً، فلا فرق في هذه النقطة بين كون الخصوصية واجبة او مستحبة، المهم أن متعلّق الامر هو العنوان الانتزاعي الذي يتحقق بدونها، فبلحاظ أنه يتحقق بدونها ليست جزءاً من المأمور به، وبلحاظ أنه لو تحقق فيها ومعها لكانت امتثالاً، فتكون جزءاً من الفرد وليست جزءاً من المأمور به.

فتلخص بذلك: أن التقسيم الذي ذُكر في الكفاية من أنّ الخصوصية قد تكون دخيلة في المأمور به وقد تكون دخيلة في الفرد الخارجي الذي وقع امتثالاً للمامور به، قد لا تكون دخيلة لا في المأمور به ولا في الفرد بل هي اجنبية بمعنى أنها مستحب في واجب او واجب في واجب، بحيث تكون العلاقة بين الواجب والخصوصية علاقة الظرف بمظروفه.

المقام الثاني، أو الجهة الثانية من البحث: في تصوير الجزء المستحب

هل يُعقل أن يكون الشيء مستحباً وفي نفس الوقت جزءاً من الواجب أم لا؟

والمشهور المعروف انه لا يُعقل الجمع بين الجزئية والاستحباب، وهناك وجوهٌ ثلاثة لمنع ذلك:

الأوّل: ما ذكره جمعٌ من الاعلام من أنّ مقتضى الارتباطية التلازم في مقام الجعل وفي مقام الامتثال، فإذا قلنا بأنّ هناك ارتباطية بين الركوع والسجود فمعنى الارتباطية أنّه ما هو متعلّق الامر الضمني في مرحلة الجعل ليس هو الركوع لا بشرط بل الركوع المسبوق بالقراءة الملحوق بالسجود، وهو حصّة خاصّة من الركوع لا الركوع لا بشرط، وهذا هو التلازم في مقام الجعل، كما أنّ مقتضى الارتباطية التلازم في مقام الامتثال، فلا يقع الركوع امتثالاً للامر الضمني بالصلاة حتّى يكون ملحوقاً بالسجود والعكس، هذا هو مقتضى الارتباطية.

فإذا افترضنا أنّ الشارع اخذ خصوصية مستحبة فقال: «صلِّ مع القنوت» فنسأل هل أنّ الصلاة بالنسبة إلى القنوت أُخذت على نحو البشرط شيء او على نحو اللابشرط، فإن لُوحظت الصلاة بالنسبة للقنوت على نحو البشرط شيء إذاً فكلامها مترابط ومقتضى الترابط التلازم في مقام الجعل وفي مقام الامتثال، ونتيجة ذلك أن القنوت واجبٌ؛ لأنه لا يقع الامتثال إلّا به.

وإن قلتم بأنّ الصلاة أُخذت بالنسبة إلى القنوت على نحو اللابشرط فالصلاة تامّة جعلاً وامتثالا وإن لم يكن معها قنوت، فهذا يعني أنّ القنوت ليس جزءاً لا من المأمور به ولا من الفرد المحقق للامتثال، فكيف يكون المستحب مع كونه مستحباً جزءاً من المأمور به او من الامتثال.

الوجه الثاني: ما ذكره سيد المستمسك «قدّس سرّه» من أنه لا يُعقل أن تكون الخصوصية المستحبة جزءاً لا من الماهية ولا من الفرد.

أما أنها ليست جزءاً من الماهية فلصدق الماهية بدونها، حيث تصدق ماهية الصلاة المأمور بها وإن لم يكن معها قنوت، وأما أنها لست جزءا من الفرد فلأنه لو كانت جزءا من الفرد لصح الإتيان بها بقصد الوجوب الضمني، لأنَّ الوجوب يسري إلى ما ينطبق عليه. فإذا افترضنا أن الصلاة مع القنوت منطبق للواجب فمقتضى كون الصلاة مع القنوت منطبقاً للواجب سراية الوجوب إلى جميع خصوصيات هذه الصلاة، ومن خصوصياتها القنوت، فيصح الإتيان بالقنوت بقصد الوجوب الضمني.

وقامت التسالم على عدمه، أي أن لا يصح الإتيان بالخصوصية المستحبة بقصد الوجوب الضمني، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

فدعوى كون الخصوصية المستحبة جزءاً من الواجب لازمه الإتيان بهذه الخصوصية بقصد الوجوب الضمني وهو باطل إجماعاً.

هذا ما أفيد في المستمسك.

ولكنه محل تأمل. والسر في ذلك:

أنّ ما أفاده من أن الوجوب يسري لما ينطبق عليه محل منع، فإن الوجوب لا يتعدى ما تعلق به. الوجوب لا يتعدى ما تعلق به في مرحلة الجعل ولا يسري لما ينطبق عليه، ففرق بين المتعلق وبين المنطبق فالوجوب لا يتعدى ما تعلق به في مرحلة الجعل، ولا ينحل وجوبات بلحاظ خصوصيات المنطبق عليه. والسر في ذلك:

امتناع سراية الأمر لغير ما تعلق به ملاكاً وجعلاً. أما ملاكاً: فلأن المفروض أن الوجوب يعني الأمر ظل للملاك فلا يكون الامر أوسع دائرة من موطن ملاكه، فإذا كان موطن ملاكه هو الطبيعي أي طبيعي الصلاة مع القنوت أو بدونه، فلا يمكن أن يسري الوجوب لغير موطن ملاكه.

وأما جعلاً: فلأن الأمر فعل اختياري للجاعل ومقتضى كونه فعلاً اختيارياً للجاعل دورانه سعة وضيقاً مدار الجعل نفسه. فبعد أن جُعل الأمر لطبيعي الصلاة على نحو اللا بشرطية من حيث خصوصية القنوت فحيئنذ تكون سراية الأمر للقنوت بلحاظ أنه جزء من المنطبق عليه خلف كون الجعل اختيارياً دائراً مدار ما صدر ما الجاعل سعة وضيقاً. فهذه الكبرى وهي أن الأمر يسر إلى ما ينطبق عليه غير تام، بل يبقى على ما تعلق به. ولذلك: بالنسبة إلى مقدمات الأجزاء لو لم نقل بالوجوب الغيري الشرعي كما هو رأيه ومبناه «قدّس سرّه» لا يسري لها الأمر مع أنها دخيلة في المنطبق عليه. مثلاً:

السجود يتوقف على الهوي من الركوع إلى السجود فالهوي جزءا من المنطبق عليه إذ لا يمكن أن تكون صلاة في الخارج من دون هوي من الركوع إلى السجود، فالهوي مع كونه جزءا من المنطبق عليه ألا انه لا يسري إليه الوجوب، فلا يصح الإتيان بالهوي بقصد الوجوب الضمني، إذ الوجوب الضمني يختص بما تعلق به ولا يسري لما ينطبق عليه.

إذاً فدعوى هذه الكبرى أن الأمر يسري لما ينطبق عليه فلو كانت الخصوصية المستحبة جزءاً من الفرد لسرى إليها الأمر فصح الإتيان بها بقصد الأمر الوجوبي وهو باطل. نقول لا. بإمكان القائل أن الخصوصية المستحبة جزء من الفرد أن يقول هي جزء من الفرد مع ذلك لا يسري إليها الوجوب فلا يصح الإتيان بها بقصد الوجوب الضمني، فبطلان اللازم لا يعني بطلان الملزوم وهو لازم أعم.

فلازم المأمور به خارجاً هو استدبار الجدي، فهل معنى ذلك أن الأمر سرى من الاستقبال إلى الاستبدار أيضاً فكأن العراقي مأمور باستدبار الجدي لأنَّ هذا لازم للمأمور به، يقولون لا، هذا لا يسري، لا يسري الأمر من الملزوم إلى اللازم الأمر يختص بموطن ملاكه، موطن ملاكه الملزوم لا يسري إلى اللازم، وإن كان هذا اللازم لا ينفك عنه خارجاً.

لو قال لك الشارع: تزوج امرأة افريقية. فلازم ذلك أن تكون هذه المرأة سمراء اللون، لازم المأمور به هو هذا أن تكون امرأة سمراء.

الوجه الثالث: ما ذكره سيدنا «قدّس سرّه» في فقهه، من أن الجمع بين الجزئية والاستحباب جمع بين الضدين. فإنَّ مقتضى الجزئية دخلها في الواجب فلا يتحقق الواجب بدونها وهذا خلف الاستحباب، ومقتضى الاستحباب عدم دخلها في الواجب فهو تام وجدت أم لم توجد، فالجمع بين الجزئية والاستحباب جمع بين الضدين أو النقيضين، فهو دخل في الواجب وعدم الدخل. سواء قلنا بأنها جزء من الطبيعي المأمور به أو قلنا بأنها جزء من الامتثال، النكتة واحدة. فإن دعوى كونها من جزءاً من الامتثال عدم تحقق الامتثال بدونها وهذا خلف كونها مستحبة، ومعنى كونها مستحبة تمامية الامتثال بدونها، وهذا خلف كونها جزءاً دخيلاً في مقام الامتثال. فتحصل من ذلك:

أنه على هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها لا تكون الخصوصية المستحبة جزءا من الطبيعي ولا جزءاً من الفرد، بل هي إما مستحب في واجب أو متعلق لأمر بتطبيق الطبيعي على هذا الفرد، بيان ذلك:

تارة نقول: بأنَّ القنوت أو فقل: الجماعة لكون الصلاة جماعة مستحب في واجب، يجب عليك طبيعي الصلاة، ويستحب لك استحبابا نفسياً أن تأتي بالأئتمام ضمن الصلاة، فهي مستحب في واجب.

وهناك تصوير آخر أن نقول: أنت مأمور بالصلاة ومأمور بتطبيق الصلاة المأمور بها على فرد مستحب كما ذكر في الأوامر التنزيلية. مثلاً: سبق عندنا في بحث الأصول أن أغلب أعلام الأصول استشكلوا في النهي الكراهتي بالعبادة. وقالوا لا يعقل جمعاً بين أن يكون العمل عبادة وبين أن يكون العمل مكروهاً. فلا يُعقل الجمع بأن تكون الصلاة في الحمام مأموراً بها وبين أن تكون مكروهة، فإن المناط في العبادة قابلية العمل للتقرب به إلى المولى، وقابلية العمل للتقرب به فرع كونه راجحاً وتعلق النهي الكراهتي به يوجب كونه مرجوحاً والمرجوح غير قابل للمقربية. فلا يعقل أن يتعلق النهي الكراهتي بنفس العبادة، فالحل:

أن نقول هكذا: أن الأمر تعلق بالصلاة والنهي قال: لا تطبق ما أمرت به ضمن هذا الفرد ألا وهو الصلاة في الحمام، فالمتعلق للأمر هو العبادة والمتعلق للنهي ليس هو العبادة بل هو التطبيق، أي تطبيق الفرد المأمور به على هذا الفرد المنهي عنه، كذلك الأمر في المقام نقول: هناك أمران: أمر بطبيعي الصلاة وأمر بتطبيق الصلاة المأمور بها على هذه الصورة وهي الصلاة مع القنوت الصلاة مع الجماعة، فهذا أمر بالتطبيق وذاك أمر بذات الصلاة، لا أن الخصوصية المستحبة جزء من المأمور به أو جزء من الفرد، ويأتي الكلام في بقية الكلام.

والحمدلله رب العالمين