الدرس 7

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام سابقاً في تصوير الجزء المستحب، وأنه هل يُعقل الجمع بين كون القنوت في الصلاة مستحباً يجوز تركه وبين كونه جزءاً من الواجب؟

وذكرنا تصويرات متعددة للجمع بين الجزئية والاستحباب، وقبلنا بعضها، ثم وقع الكلام في الثمرة العملية لكون المستحب جزءاً، وذكرنا أنّ سيّد المنتقى «قده» في المنتقى في بحث الصحيح والأعم أفاد أنّ هناك ثمرات تترتب على هذا البحث، وهو أنّ المستحب مع كونه يجوز تركه فإنّه جزءٌ من الواجب، وكان الكلام في الثمرة الأولى، وهي جريان قاعدة التجاوز عند التلبس بالمستحب والشك في الواجب، فلو شكّ في السورة بعدما دخل في القنوت فهل أنّه أتى بالسورة قبل القنوت أم لا؟ فهنا هل يشمل دليل قاعدة التجاوز هذا المورد؟ وذكرنا أنّ هنا تصويرات لشمول دليل قاعدة التجاوز لهذا المورد.

التصوير الثاني: أن يقال إن المناط في جريان قاعدة التجاوز الدخول في الجزء، فإذا دخل في جزء لاحقٍ وشكّ في جزء سابق أجرى قاعدة التجاوز، والمراد بالجزئية هنا الجزئية العرفية، بمعنى: ما يكون مسمى في المركب الأوسع، أي الأعم من الواجب أو المستحب، مثلاً: عندنا صنفان من المركب، الصلاة الواجبة بما هي واجبة فهذا مركب له أمر، والصلاة بما هي مشتملة على أمور مستحبة فهذا مركب آخر، ومتعلّقٌ لأمر آخر وهو أمر ندبي، فعندما نقول بأنّ القنوت جزءٌ فالمقصود به أنّه جزء من المركب الأوسع ألا وهو الثاني، وجزئيته من المركب الأوسع كافية في جريان قاعدة التجاوز عند الدخول في القنوت والشك في السورة.

والوجه في ذلك: أنّ صحيحة زرارة التي هي العمدة كدليل على قاعدة التجاوز دلّت على جريان القاعدة حتّى مع الشك في المستحبات، قال: «رجلٌ شكّ في الأذن وقد أقام - أي دخل في الإقامة -؟ قال: يمضي، رجلٌ شك في الإقامة وقد كبّر؟ قال: يمضي، رجلٌ شك في التكبير وقد قرأ؟ قال: يمضي، يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» فالمستفاد بقرينة التطبيق على ما إذا شك في الأذن وقد دخل في الإقامة أنّ مقصوده إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره أنّ المناط أن يدخل في الغير الذي يُعدّ جزءاً ولو كان جزءاً من المركب الأوسع، كالصلاة المركبة من الأذان والإقامة، فإنّها مركب أوسع من الصلاة الواجبة بما هي واجبة.

ولكن يُلاحظ على هذا الوجه: أنّه ما هو المراد بالجزئية العرفية؟ حيث أُفيد أنّ المناط في جريان قاعدة التجاوز الجزئية العرفية، فما هو المقصود بالجزئية العرفية؟

فهنا عدّة محتملات:

المحتمل الأوّل: أن يُراد بالجزئية العرفية أن يكون الثاني مترتباً على الأوّل ترتباً شرعياً، بمعنى أن سبق الأول دخيل في صحة الثاني وإن لم يكن لحوق الثاني دخيلاً في صحّة الأوّل.

نظير أن نقول: بأن التسليم دخيلٌ في صحّة التعقيب، فلا يقع التعقيب صحيحا وامتثالاً لأمره إلا إذا سبقه التسليم، وإن لم يكن العكس حيث إن التسليم ليس مقيداً بلحوق التعقيب، فسواء أتى بالتعقيب أم لم، فإن التسليم صحيحٌ، فالمراد بالجزئية أن يكون العمل متوقفاً في صحته على سبق شيءٍ، وبناءً على ذلك فمتى دخل في عمل يُعتبر في صحته سبق عملٍ آخر وشك في العمل الأوّل أنّه أتى به أم لا؟ أجرى قاعدة التجاوز، فالمناط في جريانها الجزئية بهذا المعنى: دخل السابق في صحة اللاحق، هذا محتمل.

فإذا سلّمنا بهذا المحتمل، أي قلنا إنّ مفاد قاعدة التجاوز في قوله: «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره» يعني ثم دخلت في عمل يُعتبر في صحته سبق العمل الأوّل، فحينئذ لا تظهر ثمرة للبحث، أي سوف تجري قاعدة التجاوز قلنا بأن القنوت مستحبٌ في واجب أو قلنا أن القنوت جزءٌ مستحب.

فإن قلنا: أنّ القنوت جزءٌ، فيعتبر في صحته سبق القراءة، وإن قلنا بأن القنوت ليس بجزء بل هو أمر مستحب باستقلاله لكن ظرفه الصلاة، أيضاً يُعتبر في صحته سبق القراءة، فعلى أية حال بناءً على هذا المبنى وهو أنّ المراد بالجزئية دخل السابق في صحّة اللاحق لا تظهر ثمرة للبحث في أنّ المستحب جزء او مجرد مظروف، على أية حال الشارع سمّى له مكاناً، فبما أنّ الشارع سمّى له مكاناً فمقتضى ذلك أنّ السابق دخيلٌ في صحته، هذا المحتمل الأوّل للجزئية العرفية.

المحتمل الثاني: أنّ المراد بالجزئية العرفية أن يترتب السابق على اللاحق ولو بلحاظ الزمن، وإن لم يكن بينهما تقيّدٌ شرعي، مثلاً: أن يُقال بأن المبيت ليلة الثاني عشر في منى مترتبٌ على رمي الجمرة في اليوم الحادي عشر، مع أنه لا يوجد تقيّد شرعي لا أنّ المبيت يُشترط في صحته سبق رمي الجمرة، ولا أنّ رمي الجمرة يُشترط في صحتها لحوق المبيت، على أية حال كلٌ منهما صحيح وإن لم يحصل الآخر، لكن يكفي في جريان قاعدة التجاوز لو شك في الرمي ودخل في المبيت هو هذا المقدار من الترتب.

ولازم ذلك جريان قاعدة التجاوز حتّى في غير الواجبات الارتباطية، يعني حتّى في غير المركبات، فإذا شكّ في واجب وقد دخل واجباً آخر أجرى قاعدة التجاوز.

والمحتمل الثالث: أنّ المراد بالجزئية العرفية الترتب الطبعي، كما احتمله بعض اساتذتنا، والمقصود بالترتب الطبعي، أنّ من طبع المكلف أن لا يدخل في العمل الثاني إلا بعد الفراغ من الأوّل، وإلّا ليس بينهما أي ترتب شرعي ولا ترتب زمني، وإنّما من طبعه أن لا يدخل في الثاني إلّا إذا فرغ من الاول.

فمثلاً: من طبع المكلف أن لا يدخل في مذاكرة دروسه إلا بعد الفراغ من صلاة الفجر مثلاً، فلو رأى نفسه مثلا يُذاكر ولا يدري هو سلّم في صلاة الفجر ام لم يسّلم؟ تشهد أم لم يتشهد؟ يُجري قاعدة التجاوز، حيث إنّ من طبعه لا ينتقل للمذاكرة إلا بعد الفراغ فإذا شك في التسليم أجرى القاعدة.

ويُلاحظ على جميع هذه المحتملات التي ذكرناها:

أنّ ظاهر الروايات كصحيحة زرارة «إذا خرجت من شيءٍِ ثم دخلت في غيره» أنّ المناط في جريان القاعدة الخروج عن الشيء، والخروج عن الشيء إمّا أن يُراد به الخروج الحقيقي أو الخروج الادعائي، حيث لا يُعقل أن يُفسّر بالخروج الحقيقي إذ لا يجتمع الخروج عن الشيء مع الشك فيه، إذاً لا محالة المراد بالخروج الخروج الادعائي، والخروج الادعائي هل المراد به الخروج إلى أمر مترتب بالطبع على الأوّل - الذي هو المحتمل الثالث - أو الخروج إلى أمر مترتب ولو زمنا على الأوّل - الذي هو المحتمل الثاني - أو الخروج إلى أمر مترتب شرعاً، بمعنى: أن السابق دخيل في صحته؟ كل ذلك محتمل للخروج الادعائي، أم الخروج إلى ما سمّاه الشارع ضمن المركب الأوسع؟ وكل هذه المحتملات ممّا لا قرينة عليها، فإنّه لا يُراد الخروج الحقيقي ويُراد الخروج الادعائي، لكن الخروج الادعائي بأي معنى؟ له محتملات، لا توجد قرينة تعيين واحد منها، فمقتضى الإجمال الاقتصار على القدر المتيقن وهو تجاوز المحل الشرعي، ومعنى تجاوز المحل الشرعي يعني أنّ يدخل في أمر يكون هذا الأمر دخيلاً في صحة السابق، فالقدر المتيقن من الترتب أن يكون التقيد من الطرفين، فكما أنّ السابق دخيل في صحة اللاحق فاللاحق أيضا دخيلٌ في صحة السابق، فإنّ هذا هو القدر المتيقن من ممّا إذا خرج منه قيل خرج عن المحل الشرعي.

فإذاً: تحديد أنّ المراد بالجزئية هي الجزئية العرفية بأي معنىً من المعاني طُرح ممّا لا قرينة عليه.

وثانياً: لا يصح الاستشهاد بصحيحة زرارة على أنّ المراد بالجزئية الجزئية من المركب الأوسع، والسرّ في ذلك: أنّ الإمام إنّما أجرى قاعدة التجاوز عن الشك في الأذان وقد دخل في الإقامة - لا أقل من احتمال ذلك - لا من باب أنّ الإقامة جزءٌ من المركب الأوسع ألّا وهو المركب المشتمل على الخصوصيات المستحبة، بل من باب أنّه يُعتبر في صحّة الأذان لحوق الإقامة ويُعتبر في صحّة الإقامة سبق الأذان، فبينهما ترتبٌ شرعيٌ من الجهتين، فكما لا تقع الإقامة امتثالاً لأمرها إلا مع سبق الأذن، كذلك لا يقع الأذان امتثالاً لأمره إلّا إذا لحقته الإقامة.

فحينئذ لعلّ الإمام إنّما أجرى قاعدة التجاوز إذا شك في الأذان وقد دخل في الإقامة بلحاظ أن بينهما ترتباً شرعياً، وبالتالي - بناء على هذا - فالمناط في جريان القاعدة أن يدخل في المترتب الشرعي - هذا هو المناط في القاعدة - سواء كان جزءاً من الواجب أم لم يكن جزءاً، فإن المناط في جريانها الدخول في المترتب.

وعليه: فسواءٌ قلتم بأنّ القنوت مستحبٌ ومظروف أو قلتم بأن القنوت جزءٌ من الواجب أو جزءٌ من المركب الأوسع، فلا يخلو الحال على كلا الفرضين، إمّا أن يكون بينه وبين السابق ترتب شرعي فتجري القاعدة؛ لأنه مترتب لا لأنه جزء، أو لا يوجد ترتب شرعي فلا تجري القاعدة وإن قلتم بأنه جزء من المركب الأوسع، فلا يصح الاستشهاد بصحيحة زرارة، فإنّ مفاد صحيحة زرارة أنّه لو شك في مستحبٍ وقد تلبس بمستحب آخر تجري القاعدة، هذا صحيح، لكن ما هو مناط جريانها؟ هل أنّ مناط جريانها في الأذان عند الدخول في الإقامة أنّهما جزءان من المركب الأوسع حتّى يدور الجريان مدار الجزئية من المركب الأوسع؟ أمّ أنّ مناط الجريان هو الترتب، أنّ هذا شرعاً مترتبٌ على هذا سواء كان جزءاً أو كان مظروفاً أو كان خصوصية من الخصوصيات، بالنتيجة الجزئية لا دخل لها.

وعلى كلا المبنيين لا يصح التفصيل بين كون القنوت جزءاً أو كون القنوت مظروفاً، إمّا أن تجري في كليهما، وإمّا أن لا تجري في كليهما.

نقول: هذا الكلام يُلاحظ عليه نقضاً وحلّاً:

أمّا نقضاً؛ فأن لازمه جريان قاعدة التجاوز عند الشك في السلام وقد دخل في التعقيب، متى ما دخل في التعقيب وشك أنّه سلّم او لم يُسلّم، يُجري القاعدة؛ لأن التعقيب جزءٌ من المركب الأوسع؛ إذ لا فرق بين المقدمات وبين المعقبات، وهذا لا يقول به أحد.

وأمّا حلّا؛ فالصحيحة كما تحتمل أن مناط الجريان هو الدخول في جزء المركب الأوسع تحتمل أن المناط في الجريان هو الترتب الشرعي، فإذاً بالنتيجة سوف ندور مدار الترتب الشرعي، لماذا؟ لأنه بالنتيجة لا إشكال في أنّه يُعتبر في صحّة الأذان لحوق الإقامة بالإجماع، فلا يقع أذانه امتثالاً للأمر، نقصد أذان الصلاة وليس أذان الأعلام، أذان الصلاة يُعتبر في صحته لحوق الإقامة، هذا بلا إشكال، فلعلّ الإمام إنما أجرى القاعدة إذا دخل في الإقامة وشك في الأذان؛ لأنه يُعتبر في صحّة السابق لحوق اللاحق، أليس هذا محتمل؟

ما دام هذا الاحتمال موجوداً بناء على هذا الاحتمال قلتم بأنّ القنوت ظرف او قلتم بأنه جزء النتيجة واحدة، لماذا؟ إمّا انه اعتبر في صحّة السورة لحوق القنوت أو لا؟ إذا اُعتبر في صحة السورة لحوق القنوت جرت القاعدة سميناه جزءاً سميناه مظروفا، إذا لا يُعتبر في صحّة السورة لحوق القنوت كما هو الصحيح، لا تجري القاعدة وإن سمينا القنوت جزءاً من المركب الأوسع لأن المناط هو الترتب، والمقصود بالترتب أنّه يُعتبر في صحة السابق لحوق اللاحق، وهذا غير متوفر.

صحيحة زرارة تحتمل الأمرين، تحتمل أنّه إنما أجرى بملاك الجزئية من المركب الأوسع، تحتمل أنّه إنما أجرى بمناط الترتب الشرعي، والمقصود بالترتب دخل اللاحق في صحة السابق، على هذا المعنى الثاني لا يصح التفصيل بين كون القنوت مستحباً في ظرف الصلاة أو كون القنوت جزءاً، لا يصح التفصيل.

فهذه الثمرة التي عُقدت لبيان أنّه لو قلنا: أنّ المستحب جزءٌ لجرت القاعدة هذه ثمرة غير تامّة، حتّى على التصوير الذي اخترناه؛ لأننا سابقا اخترنا أنه يمكن تصوير الجزء المستحب بأن يكون المستحب جزءاً من الفرد لا جزءاً من الطبيعة المأمور بها، سبق بيان ذلك، حتّى على هذا المبنى الصحيح في تصوير الجزئية لا تجري القاعدة، لِمَ؟ لأنه بالنتيجة المناط أن يكون لحوق اللاحق دخيلاً في صحّة السابق والمفروض أنّه بناء على كون القنوت جزءاً من الفرد وليس جزءاً من الطبيعة، فلا يُشترط في صحة السابق لحوقه.

والحمد لله رب العالمين