الدرس 30

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أنه على فرض ظهور حديث لا تعاد في الشمول لفرض الإخلال العمدي فهل هناك قرينة خارجية على عدم الشمول أم لا؟

فربما يقال: بأن القرينة الخارجية موجودة وهي صحيح زرارة وموثق منصور بن حازم، فصحيح لا تعاد الذي هو صحيحة زرارة الأولى حيث قال فيها: لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: القبلة والوقت والطهور والركوع والسجود، ثم قال: والتشهد سنة، والقراءة سنة، ولا تنقض السنة الفريضة، فيدعى أن مقتضى عموم ما ذكر في الذيل وهو لا تنقض السنة الفريضة، شموله لفرض الإخلال العمدي، وفي مقابل ذلك صحيحة زرارة الثانية التي قال فيها: إن الله تعالى فرض من الصلاة الركوع والسجود، والقراءة سنة، فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة، وإن نسي فلا شيء عليه، فظاهرها التفصيل بين فرض العمد وغيره، وموثق منصور بن حازم قال: إني صليت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلها، قال : أليس قد أتممت الركوع والسجود، قلت: بلى، قال: تمت صلاتك إذا كان ذلك نسيانا، ومقتضاها التفصيل أيضاً، بين فرض النسيان وغيره، فحينئذ قد يقال بحسب القاعدة الأصولية: إذا كان لسان المطلق والمقيد مثبتين فلا موجب لحمل المطلق على المقيد فإذا قال: أكرم العالم، وقال: أكرم العالم العادل، فلا موجب لحمل المطلق على المقيد؛ لأنَّ اللسانين كلاهما مثبت، ففي المقام يقال أيضاً كذلك، فإن بين قوله: لا تنقض السنة الفريضة، وقوله: تمت صلاتك إذا كان ذلك نسيانا، كلاهما مثبت فلا موجب لحمل المطلق على المقيد بأن نفصل بين فرض العمد فنقول بالإخلال، وعدمه فلا نقول به.

ولكن الصحيح هو حمل المطلق على المقيد لنكتتين:

النكتة الأولى: هي أن قوله في موثقة ابن حازم: تمت صلاتك إذا كان ذلك نسيانا، فإن مقتضى مفهوم الشرط بناء على القول به، أو مقتضى احترازية القيد، بناء على عدم القوم بمفهوم الشرط كما هو المختار، فإنه سواء بنينا على مفهوم الشرط أو لم نبن فمقتضى احترازية القيد أن يقع التهافت بين المطلق والمقيد، فإذا وقع التنافي بين المطلق والمقيد لأجل احترازية القيد؛ إذ لو لم يكن للقيد دخل لكان ذكره لغوا، فمقتضى الاحترازية وقوع التنافي بينهما، ومقتضى التنافي حمل المطلق على المقيد.

النكتة الثانية: أن ظاهر الروايتين أن الملاك واحد ففي قوله: لا تنقض السنة الفريضة، ظاهره أن الملاك في سقوط الأمر أن المتروك سنة فمتى ما كان المتروك سنة فالأمر يسقط، كما أن ظاهر التعليل في موثقة منصور أو صحيحة زرارة الثانية: والقراءة سنة، ثم قال: وإن نسي فلا شيء عليه، أو قوله: أليس قد أتممت الركوع والسجود؟ قلت: بلى، قال: قد تمت صلاتك إذا كان نسيانا، ظاهر في أن العلة والملاك في سقوط الأمر حال النسيان أن المتروك سنة، فملاك المطلق هو عين ملاك المقيد، ولا يعقل أن يكون الملاك للمطلق والمقيد واحدا؛ لأنَّ لازم ذلك لغوية القيد فما دام الملاك سببا لتحقق المطلق إذن فلا معنى لأنَّ يكون سببا لتحقق المقيد، فلأجل أنه لا يعقل أن يكون الملاك للمطلق والمقيد واحدا، فالملاك في سقوط الأمر حتى في حال العمد أن المتروك سنة، والملاك في سقوط الأمر حال النسيان بما هو نسيان أيضاً كون المتروك سنة، فأصبح الملاك للمطلق والمقيد واحدا وهو غير معقول، إذن فنتيجة ذلك يقع التنافي بين المطلق والمقيد فيحمل المطلق على المقيد، فالسر في حمل المطلق على المقيد مع أنهما مثبتان تنافيهما والسر في تنافيهما إما احترازية القيد في قوله: إذا كان ذلك نسيانا، أو وحدة الملاك للمطلق والمقيد ولا يعقل أن يكون الملاك واحدا، ومقتضى حمل المطلق على المقيد التفصيل بين فرض العمد وغيره فنقول: الإخلال بالسنة عن عمد مبطل، والإخلال بالسنة عن غير عمد ليس مبطلا.

ولكن أورد على هذا الوجه بإيرادين:

الإيراد الأول: أن لسان التعليل يأبى عن التقييد فإذا قال المولى: أن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال: الظن الخبري يغني، فإنه وإن كان قول الثاني اخص من الأول إلاّ أنهما يتعارضان عرفا ولا يحمل المطلق على المقيد لأنَّ قوله: أن الظن لا يغني من الحق شيئا، لسان يأبى التقييد عرفا، فإذا كان اللسان يأبى التقييد عرفا فليس من العرف أن يحمل على قوله الظن الخبري يغني من الحق، ففي المقام كذلك، أن ظاهر قوله: ولا تنقض السنة الفريضة هو التعليل وهو أن السنة بما هي سنة لا يوجب الإخلال بها نقض الفريضة، وهذا اللسان لا يجتمع مع أن يقال: أن الإخلال بالسنة حال العمد يوجب نقض الفريضة، فلسان التعليل يأبى التقييد وبالتالي فحمل المطلق على المقيد ليس جمعا عرفيا ما دام لسان المطلق لسان التعليل ولسان التعليل يأبى التقييد.

والجواب عن هذا الإيراد:

أولاً: لا شاهد على ظهور قوله في الذيل: لا تنقض السنة الفريضة أنه تعليل، بل هو إخبار عن عدم الارتباط بين السنن والفرائض، فكأنه يقول: إن الفرائض في حال الإخلال بالسنن لا ارتباط بينهما، بمعنى أن معنى الفرائض ليست مقيدة بشرط شيء وهو شرط لحوق السنن بها مطلقا، بل هي أي الفرائض بالنسبة إلى السنن في حال الإخلال على نحو اللابشرط، فمعنى قوله: لا تنقض السنة الفريضة، مجرد بيان لعدم الارتباط بين الفرائض والسنن في حال الإخلال وليس تعليلا فإذا كان بيانا لعدم الارتباط فلا مانع من تقييده وتخصيصه، بأن يقال: أن مفاد الحديثين الآخرين وهما صحيح زرارة الثاني وموثق منصور بن حازم أن عدم الارتباط بين الفرائض والسنن إنما هو في فرض أن يكون الإخلال لا عن عمد وإلا فالارتباط موجود.

وثانياً: على فرض أنه تعليل فما اشتهر من أن لسان التعليل يأبى عن التقييد عرفا ببيان أن المطلق تارة يكون تعليلا كما إذا قال: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، وإنما حرمها لعاقبتها. فهذا لسان تعليل أو كان اللسان لسان الحصر، بأن قال: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال، أو كان اللسان لسان السالبة الكلية، كما إذا قال: أن الظن لا يغني من الحق شيئا، فهذه الألسنة الثلاثة اشتهر في الفقه أنها تأبى التقييد عرفا، والمقصود بقولهم: أن هذا اللسان يأبى التقييد عرفا أنه إذا ورد دليل منفصل ظاهر في التقييد، فدار الأمر بين ظهور التعليل أو الحصر أو السالبة الكلية في العموم، وبين ظهور الدليل المنفصل في التقييد، فأيهما يقدم؟ فهنا يأتي الكلام أن ليس ظهور الدليل المنفصل في التقييد أقوى من ظهور التعليل أو الحصر أو السالبة الكلية في العموم، وهذا معنى أن اللسان عرفا يأبى عن التقييد، فمرجع قولهم: «إن اللسان يأبى عن التقييد»، إلى أن ظهور الدليل المنفصل في التقييد ليس أقوى من ظهور ما سبقه في العموم فلماذا يقيد به؟ ولكن لو كان الدليل المنفصل صريحا في التقييد وليس ظاهرا، فلا محال يرفع اليد عن ظهور التعليل أو الحصر أو السالبة الكلية في العموم بمقتضى قرينية النص على الظاهر، ولا يقال في المقام: بأن اللسان عرفا يأبى عن التقييد، وهذا هو محل الكلام فإننا إذا لاحظنا النسبة بين صحيحة زرارة الأولى وهي قوله: لا تنقض السنة الفريضة، فهي ظاهرة في العموم، وإذا نظرنا إلى صحيحته الثانية حيث قال: فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة وإن نسي فلا شيء عليه، فهي صريحة في بطلان الصلاة حال الإخلال العمدي، ومقتضى قرينية النص على الظاهر تقييد قوله: لا تنقض السنة الفريضة بغير حال العمد.

هذا بالنسبة للإيراد الأول وجوابه.

الإيراد الثاني: أن يقال: لا تعارض أصلاً بين قوله: لا تنقض السنة الفريضة في صحيحة زرارة الأولى، وبين قوله تمت صلاتك إذا كان ذلك نسيانا حتى يحمل المطلق على المقيد، والسر في عدم التعارض، أن الأول ناظر لسقوط الأمر والثاني ناظر لتمامية الصلاة، وفرق بين عنوان سقوط الأمر وبين عنوان تمامية الصلاة، فهو في صحيحة زرارة الأولى يقول: إن الإخلال بالسنة مسقط للأمر وفي موثق منصور بن حازم، يقول: إن الإتيان بالفرائض متمم للصلاة، فأي تعارض بينهما حتى يحمل المطلق على المقيد؟ فإن سقوط الأمر غير كون الصلاة تامة، إذ قد يسقط الأمر والعصيان أو قد يسقط الأمر بفوت الموضوع، أو قد يسقط الأمر بامتناع استيفاء الملاك، فمجرد قوله: في صحيحة زرارة الأولى: أن الإخلال بالسنة مسقط للأمر ولو لأجل ولعل الصلاة غير تامة فلعل سقوط الأمر لأجل أنه متى ما اخل بالسنة عجز عن استيفاء الملاك فيسقط الأمر، بينما قوله في موثقة بن حازم: أليس قد أتممت الركوع والسجود، قلت: بلى، قال: قد تمت صلاتك، أي متى ما أتيت بالفرائض «إذ لا خصوصية للركوع والسجود» فصلاتك تامة، بمعنى أنها واجدة لملاكها، فمفاد الأول غير مفاد الثاني فأي موجب لحمل المطلق على المقيد؟

والجواب عن ذلك أن ظاهر السؤال في موثقة منصور بن حازم حيث قال: إني صليت المكتوبة فنسيت أن أقرا في صلاتي كلها، ظاهر السؤال أنه يسال عن سقوط الأمر وعدمه إذ ما هو المهم بالنسبة للمكلف هل أن الأمر باق أم لا؟ وليس مهما له أن الصلاة واجدة لملاكها التام أم ليست واجدة، إنما المهم هل أن الأمر باق أم سقط، فمصب السؤال هو هل أن الأمر باق فلابد من الإعادة أم أن الأمر قد سقط، ومقتضى أصالة التطابق بين الجواب والسؤال فإن أصالة التطابق من الظهورات السياقية التي هي حجة فمقتضى أصالة التطابق بين الجواب والسؤال أن معنى الجواب هو سقوط الأمر فقوله: قد تمت صلاتك يعني كأنه قال: لا شيء عليك وسقط الأمر عنك، قد تمت صلاتك إذا كان ذلك نسيانا فحينئذ يكون مفاد موثقة منصور هو مفاد صحيحة زرارة في أن كليهما ناظر لسقوط الأمر، فإذا كان كلاهما ناظرا أو كلتاهما ناظرتين لسقوط الأمر فحينئذ يقع التعارض لأنّه لا يمكن أن يكون الملاك للمطلق والمقيد واحدا كما سبق بيانه.

فتحصل من ذلك أنه يحمل الإطلاق في صحيحة زرارة الأولى على التقييد في صحيحة زرارة الثانية وموثقة منصور بن حازم فلابد من التفصيل بين فرض الإخلال العمدي وغيره، هذا تمام الكلام في البحث في هذه الجهة.

الجهة الأخيرة في هذا المطلب: هل يمكن الجمع بين قول أن ترك الجزء لا يضر بالصحة، وبين استحقاق العقوبة، فيقال: أن تركت جزءا أو شرطا عمدا فصلاتك صحيحة لكن تستحق العقوبة، هل يمكن الجمع بين الأمرين، والبحث تارة يلاحظ الثبوت وتارة بلحاظ مقام الإثبات، فإن كان البحث في مقام الثبوت وهو أنه هل يعقل ثبوتا أن يكون ترك السنة غير ضائر وفي نفس الوقت موجب لاستحقاق العقوبة، فهو غير ضائر بالصحة لكنه موجب لاستحقاق العقوبة، فقد أفاد بعض الأجلة أنه لا يمكن الجمع بينهما بأن يقال: ترك الجزء غير ضائر لكنه موجب لاستحقاق العقوبة؛ والسر في ذلك أن مناط استحقاق العقوبة لا محالة إما مخالفة الأمر النفسي، أو مخالفة الأمر الضمني، وإلا كيف يستحق عقوبة، فإن كان المناط في استحقاق العقوبة مخالفة الأمر النفسي فمن الواضح أن ترك الجزء ليس متعلقا لأمر نفسي، وإنما الجزء إما متعلق لأمر غيري أو أمر ضمني وإلا الجزء ليس متعلقا للأمر النفسي الاستقلالي كي يكون تركه عصيانه لذلك الأمر النفسي الاستقلالي فيكون موجب لاستحقاق العقوبة، وإما أن يكون ترك الجزء مخالفة لأمر ضمني والأمر الضمني إما من الأكاذيب والأباطيل كما عبر وإما حكم وضعي، فإما أن يقال: بأن الأمر بالمركب الصلاتي ينحل لقطع ويتقسط أقساط فلكل جزء حصة من الأمر فهذا من الخيال إذ من الواضح أن الأمر بالمركب الصلاتي أمر واحد وإنما العرف يقولون كما يعبر السيد الأستاذ دام ظله: لما كانت علقة الأمر بالمتعلق علقة الوجود بالماهية اكتسب الأمر من متعلقه الكثرة واكتسب المتعلق من أمره الوحدة وهذا اكتساب مجرد اعتباري عرفي فالعرف يقول: هذه الصلاة التي هي مقولات متعدد واحدة لوحدة الأمر، ويقال: هذا الأمر الذي تعلق بمركب كثير، كثير بكثرة متعلقه وكلاهما اعتبار عرفي وإلا ففي الواقع لا يوجد إلاّ أمر واحد بمركب، فالأمر الضمني من الأباطيل، فإذا كان أمراً باطلا فلا يكون موجبا لاستحقاق العقوبة، وإما أن يقال: إن الأمر الضمني هو عبارة عن التقيد بالمعنى الحرفي فمعنى الأمر الضمني بالقراءة أن الركوع متقيد بكون القراءة قبله فمرجع الأمر الضمني إلى التقيد بالمعنى الحرفي والتقيد حكم وضعي وليس حكما تكليفيا والحكم الوضعي ليس منشئا لاستحقاق العقوبة.

فتحصل من ذلك أن ترك السنة جزءا أو شرطا لا يعقل من جهة غير ضائر ومن جهة موجب لاستحقاق العقوبة، هذا الأمر من الأباطيل.

ولكن يلاحظ على ما أفاده أن هناك فرقا بين قولنا: ترك السنة غير ضائر بسقوط الأمر، وقولنا: ترك السنة غير ضائر بتحقق الامتثال من هذه الجهة، فبالنسبة للأول الأمر معقول ثبوتا بأن يكون ترك السنة غير ضائر بسقوط الأمر ولكنه في نفس الوقت موجب لاستحقاق العقوبة؛ والسر في ذلك أنه قد يكون ترك السنة مانعا من استيفاء الملاك فلأجل كونه مانعا من استيفاء الملاك سقط الأمر من جهة لعدم القدرة من استيفاء ملاكه، وأوجب استحقاق العقوبة من جهة لأنّه تفويت لملاك المولى، فمن ترك السنة اسقط الأمر وفي نفس الوقت فوت الملاك على المولى فأسقط الأمر من جهة وأوجب استحقاق العقوبة من جهة أخرى، فمع المعقول ثبوتا أن يكون ترك السنة من جهة مسقطا للأمر ومن جهة أخرى موجبا لاستحقاق العقوبة لتفويته الملاك، وأما إذا قصد المقولة الثانية وهو أنه لا يمكن الجمع بين أن يكون ترك السنة امتثال وموجب لاستحقاق العقوبة فإذا كان امتثالا للأمر فكيف يكون موجبا لاستحقاق العقوبة على هذا الأمر، هذا أمر غير معقول، فهنا يتم ما أفاده، لا يعقل الجمع بين أن يكون ترك السنة جزءا أو شرطا من جهة امتثال، ومن جهة هو نفسه موجب لاستحقاق العقوبة على هذا الامتثال، هذا غير معقول بلا إشكال فلأجل عدم المعقولية بالنحو الثاني يقول: إنه يقع التهافت إثباتاً فلا يمكن في دليل واحد بيان المطلبين بأن يكون مفاد الدليل تحقق الامتثال بترك الجزء وهو نفسه مفاده استحقاقه العقوبة لترك الجزء، إذ ما داما متنافيين فلا يتكفل لهما دليل واحد، ولأجل ذلك وقع البحث إثباتاً هل أن الأدلة ظاهرة في عدم الشمول لفرض العمد، فحينئذ يكون المكلف مستحقا للعقوبة على العمد، أم بالعكس، أن الأدلة ظاهرة في الشمول لفرض العمد، فلا يكون المكلف مستحقا للعقوبة على العمد إذ لا يمكن الجمع بينهما، وهذا ما يأتي البحث عنه إن شاء الله غداً.

والحمد لله رب العالمين