علامات الظهور وطرق إثباتها

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴿- الأنفال، آية 42 - صدق الله العلي العظيم.

البينة في القرآن الكريم أطلقت ويراد منها الحجة الواضحة التي لا مجال للبس فيها، ولا مجال للريب والخلط، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴿- هود، آية 28 -؛ أي إن كنتُ على حجةٍ واضحة، لا تحتمل الريب، ولا تحتمل الشك، ولا تحتمل الالتباس. وقال تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴿- محمد، آية 14 - فالأول يعيش وضوحاً في طريقه، يعيش وضوحاً في مبدئه ومنتهاه، والثاني يعيش على الأوهام التي تصطنعها النفس، ويعيش على الشكوك والخيالات التي تخترعها النفس، أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴿. وقال تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴿- هود، آية 17 -، فالبينة التي قصدتها الآية المباركة في قوله - عز وجل -: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴿؛ أيّ الحجة الواضحة القاطعة لكل سؤالٍ، ولكلِّ عذرٍ، فالمطلوب من الإنسان في أموره كلها، وفي طريقه - وبالذات في عقيدته -؛ أن يتبع ”البينة“؛ أي الحجة الواضحة، القاطعة للعذر، التي لا تحتمل سؤالاً أو التباساً أو شكّاً، لأنه إذا اتبع البينة؛ أي الحجة الواضحة؛ فسوف يكون موته عن بينة، فيقابل الله وهو معذور، وسوف تكون حياته حياةً عن بينة. وأما الإنسان الذي يستعين أو يتَّكئ على الأدلة الواهية، أو على البراهين الضعيفة، فإنه ليس معذوراً، يموت وهو على غير بينة، ويحيى وهو على غير بينة، لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴿، فالمطلوب هو ”البينة“.

وانطلاقاً من هذا المنطلق القرآني أتحدَّثُ هذه الليلة في عدة أمورٍ، وفي عدة محاور، أرجو التركيز عليها.

المحور الأول: في تقسيم المعتقدات.

علماؤنا الأبرار قسموا المعتقدات إلى قسمين:

1» قسمٌ يجب معرفته ابتداءً.

2» وقسمٌ إنما يجب معرفتُه والتدينُ به؛ إذا قام الدليل عليه.

فما هو الفرق بين هذين القسمين؟

عندنا ثلاث مراحلٍ يمرّ بها الإنسان في الطريق العقائدي:

المرحلة الأولى: هي المعرفة الفطرية، والمقصود ب ”المعرفة الفطرية“ ما تفرضه النظرة البشرية على الإنسان، أرادَ أم لم يُرِد، فإنَّ الفطرة تفرض عليه نوعاً من المعرفة، ألا وهي معرفة الخالق - عز وجلّ -، فإن الفطرة البشرية تُقرِّر: أنَّ لكلِّ معلولٍ، ولكلِّ مُسَبَّبٍ؛ سبب. وهذا الكونُ كلّه مُسبَّبٌ، فلا بُدَّ له من سببٍ غيرِ مُسبَّب، وإلا للزم الدور، أو التسلسل - كما يقول علماء الكلام -. هذه المعرفة الفطرية ”أنَّ لكلِّ مُسبَّبٍ سبب“ تقودُ الإنسان إلى الإيمان بأنَّ لهذا الكون خالقاً وموجداً.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة المعرفة العقلية، أي ما يجب معرفته عقلاً، ألا وهي سلسلة الأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة وما يرتبط بها كالعصمة والولاية، والمعاد. وهذه السلسلة من الأصول التي هي قِوام الدين، يجب معرفتها عقلاً. لماذا يجب معرفتها عقلاً؟ يجب على الإنسان أن يبادر إلى معرفتها لوجهين: -

الوجه الأول: الوجوب النظري بمعنى إدراك العقل إياها على نحو التلازم، وبيان ذلك أن: -

هذه الأصول الخمسة، أصول متلازمة في المعرفة، بمعنى أنه لا يمكن للإنسان أن يؤمن بواحد ما لم يؤمن بالثاني، فهي متلازمة، ومترابطة، ولا يمكن التفكيك بينها، من حيث المعرفة، أو من حيث الإيمان، بل هي متلازمة، مثلاً: إذا آمن الإنسان بأنّ لهذا الكون خالقاً غير مخلوق، أي آمن بأنَّ هناك موجوداً، وواجبَ وجود - أي أنَّ وجودَه منه، وليس مكتسباً من غيره، آمن بأنَّه واحد، لأنَّ واجب الوجود لا يمكن أن يكون متعدداً. علماء الكلام يقولون: بين الواجبية والوَحدة مساوقة، لا يعقل أن يكون واجب الوجود متعدِّداً، وإلا احتاج إلى غيره، وواجبُ الوجود - وهو ما كان وجوده عين ذاته - غنيٌّ مطلق، لا يحدُّه غيره، ولا يحتاج إلى غيره، فواجبُ الوجود يعني الوحدة، فمتى ما آمن الإنسان بواجب الوجود آمن بالوحدة.

وإذا آمن الإنسان بأنَّ لهذا الكون خالقاً؛ آمن أنه كامل، وأنَّ هذا الكمال الموجود في الكون - حيث نرى في الكون نظاماً كاملاً دقيقاً، ينظم حياة الإنسان، حياة النبات، مسيرة الكواكب، مسيرة الوجود، هناك نظامٌ كاملٌ متقن - لا بدَّ له من مصدر، ولا يعقل ألا يكون مصدر الكمال غير كامل، لأنَّ فاقدَ الشيء لا يعطيه. إذن بما أن الكون فيه كمال، فمصدر هذا الكمال يجب أن يكون كاملاً، فالله كامل، ومقتضى كماله: العدالة، والحكمة. فلا بُدّ أن يكون عادلاً وحكيماً، وإلا فلم يكن كاملاً.

إذن الإيمان بالخالق اقتضى الإيمان بالأصل الثاني من أصول الدين ألا وهو ”العدل“؛ أي أنَّ الله عادلٌ حكيم.

ثم نأتي لأمرٍ ثالث: مقتضى أنه عادلٌ حكيمٌ بعثُ الأنبياء، لأنَّ المجتمع البشري يحتاج إلى نظام، فالله - تبارك وتعالى - إما أن يجهل حاجة المجتمع البشري إلى نظام، وهذا جهلٌ، والله منزهٌ عن الجهل؛ وإما أنه يعلم، ولكنه عاجزٌ عن إيصال النظام إلى المجتمع البشري، وهذا عجزٌ، والله قادرٌ على كل شيء، وإما أنه يعلم بحاجة المجتمع البشري، وقادرٌ على تلبية الحاجة، ولكنه بخيل، وهذا يتنافى مع الغنى المطلق والجود المطلق. إذن مقتضى علمِه، وقدرتِه، وَجودِه؛ أن يوصل النظام إلى المجتمع البشري، وهذا النظام هو بعثُ الأنبياء والرسل، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ﴿يعني الحجج الواضحة القاطعة وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴿يعني النظام وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴿- الحديد، آية 25 -. إذن من آمن أن الله عادلٌ حكيمٌ آمن بأنَّ هناك أنبياء، إذ يستحيل أن تؤمن بأن الله عادلٌ حكيم وأن لا تؤمن بأن هناك أنبياء! فإن مقتضى عدله وحكمته: النبوة.

ثم نأتي لأصلٍ رابعٍ، فنقول: مقتضى عدله وحكمته بعث الأنبياء، ومقتضى عدله وحكمته نَصْبُ الأوصياء، فالإمامة كالنبوة تماماً، فإن الأصل العقلي الذي اقتضى النبوة هو الأصل العقلي الذي اقتضى الإمامة تماماً، والوجه في ذلك: أنَّ الهدفَ من بعثة النبي - أيَّ نبيٍّ كان، وخصوصاً خاتم الأنبياء محمداً - هو نظام العدالة، تشريعاً وتطبيقاً. فالهدف من بعثة النبي هو إيصال نظام العدالة إلى المجتمع البشري تشريعاً وتطبيقاً، ولكن لا يمكن لهذا النبي أن يبلغ هذا النظام ما لم يكن بعده أوصياء، لماذا؟ لأن القرآن الكريم - وهو يتكلم عن حقيقةٍ طبيعية، حتى لو لم تذكر في القرآن الكريم فإن عقولنا ستصل إليها - يقول القرآن الكريم:قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴿- الكهف، آية 110 -، أي إن النبي مؤلف من عنصرين: عنصرٌ سماوي «يُوحى إليّ»، وعنصرٌ أرضي «بشرٌ مثلكم». وما معنى أنه بشرٌ مثلنا؟ هل يعني هذا أنه غير معصوم؟ كلا هو معصوم، إذن ما معنى أنه بشرٌ مثلنا؟ يعني أنه محدود، محدودٌ بالزمن، محدودٌ بالمكان، محدودٌ بالآليات الطبيعية المتوفرة في زمانه، النبي عاش 63 سنةً، فصار محدوداً بهذه الفترة من الزمن، وعاش في الجزيرة العربية، فصار محدوداً بهذا المكان، عاش بآليات تنسجم مع المستوى المادي لزمانه، وهذا ليس قصوراً فيه، وإنما القصور في الظروف المحيطة به، فمعنى أنه بشرٌ: أي أنه محدود، من حيث الزمن، من حيث المكان، من حيث الأدوات والآليات، فما دام محدوداً، إذن هذا المحدود لا تسعفه الظروف أن يبلغ النظام الإلهي تشريعاً وتطبيقاً بأكمله، فلا بد له من امتدادٍ يستمرّ في هذه الرسالة، ألا وهو تبليغ النظام العادل تشريعاً وتطبيقاً، فلذلك معنى الإكمال في قوله تعالى:الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴿- المائدة، آية 3 - ليس بالتبليغ، فهو لم يبلغ الدين كله، بل بقيت فراغاتٌ لم يبلغها النبي، لأن الزمن والمكان والأدوات الطبيعية تحول دون ذلك، فبقيت فراغاتٌ كثيرة، وكل المسلمين يعترفون بذلك، إذن معنىأَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴿الإكمال بنصب من يقوم مقامي في أداء هذه الرسالة، «ألا فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه أينما دار».

فمقتضى حكمته - تعالى - وعدله، أن يبعث أنبياء، وينصب أوصياء، وهذا معنى الإمامة.

كما أن مقتضى حكمته وعدالته أن يجعل يوماً للجزاء، وهو يوم المعاد، وإلا لمات المظلوم في هذه الحياة من دون عِوَض، وعاش الناس آلاماً وأحزاناً دون عِوَض، ولازم ذلك: أن يكون خلق الحياة لهواً وعبثاً، ما لم يكن هناك يومٌ يقتصُّ منه من الظالم، ويعوض فيه المظلوم، ويُجازى فيه المطيع، ويعاقب فيه العاصي، فما لم يكن ذلك اليوم، لكانت الحياة لهواً وعبثاً، وهذا يتنافى مع حكمته وعدالته، فمقتضى حكمته وعدالته بعث الأنبياء، ومقتضى حكمته وعدالته نصب الأوصياء، ومقتضى حكمته وعدالته جعل يومٍ للمعاد، فالأصول الخمسة مترابطة ومتلازمة، ولا يمكن التفكيك بينها، لا في الإيمان، ولا في المعرفة، ولذلك نحن نقرأ هذا الدعاء الوارد عن الإمام : «اللهم عرِّفني نفسَك، فإنك إن لم تعرفني نفسك» وهو أنه حكيمٌ عادلٌ «لم أعرف رسولك، اللهم عرِّفني رسولَك، فإنك إن لم تعرفني رسولَك لم أعرف حجتَك، اللهم عرِّفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللتُ عن ديني»، فهذا الدعاء معناه أن الأصول مترابطة في المعرفة، ومتلازمة في المعرفة، ولا يمكن التفكيك بينها.

فإن علماء الكلام يقولون: هذه الأصول يجب معرفتها عقلاً، أي أنَّ العقل بمجرد أن يلتفت إليها، يراها متلازمة مترابطة، فمعنى أنه يجب معرفتها عقلاً: أي أن معرفتها مما يفرضه العقل، لأنها مترابطة متلازمة من حيث الإيمان والمعرفة.

الوجه الثاني: الوجود العملي:

بمعنى أن العقل العملي يحكم بضرورة التعرف عليها والإيمان بها، لأن الإنسان لو لم يؤمن بهذه الأصول - والإيمان بها يتوقف على معرفتها -، فالمعرفة واجبة لأجل الإيمان، والإيمان بها واجب، إذ لولا الإيمان بهذه الأصول لكان وجود الحياة عبثاً، لا معنى له، ووجود العبث قبيح، والقبيح لا يصدر من الكامل - تبارك وتعالى -، أو لأن الإيمان بها شكر للمنعم وشكر المنعم واجب، أو لأن الإيمان بها دفع للضرر المحتمل، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلاً.

المرحلة الثالثة: وهي مرحلة العقائد الخاصة، مثلا: أسماء الأئمة، أعداد الأئمة، صفات الأئمة، تفاصيل البرزخ، تفاصيل يوم القيامة. هذه تسمى ب ”العقائد الخاصة“. هذه العقائد لا يجب معرفتها ابتداءً عقلاً، بل يجب معرفتها شرعاً لقيام الدليل عليها وهو التواتر، والتسالم المحقق للضرورة، وأما ما لم يقم الدليل القطعي عليه كأفضلية القائم «عج» على التسعة فالاعتقاد به منوط بقيام الدليل الظني المعتبر عليه،، فإذا قام الدليل وجب على الإنسان أن يتدين بما قام به الدليل، وإذا لم يقم عنده الدليل فيتدين بالواقع على ما هو عليه، وهذا ما يسمى ب ”المعرفة الإجمالية“، إن لم يستطع الوصول إلى المعرفة التفصيلية، إذن عندنا مراحل ثلاث لابد أن يمر بها الانسان.

المحور الثاني: لا تقليد في العقائد

إن علماء الكلام والفقهاء يقولون: يحرم على كل مكلف أن يكون مقلِّدا في العقائد والتقليد فقط في الفروع، وفي الأحكام الشرعية، لا في العقائد. لماذا؟ ليس المقصود بذلك أنه يجب على كل مكلف أن يكون مجتهدا، لا، وليس معنى قولهم «يحرم عليه أن يكون مقلدا» لأنه يجب عليه أن يكون مجتهدا، ليس الأمر كذلك، ولا ملازمة بين الأمرين، بل يحرم عليه أن يكون مقلِّدا في الأمور العقائدية؛ لأن الأمور العقائدية يجب معرفتها، والتقليد ليس معرفةً، ولكن يكفي للمكلف أن يحصل على اطمئنان ويقين بهذه المعتقدات، بحيث يكون هذا الاطمئنان واليقين ناشئاً عن منشأ عقلائي، كأن يرى العلماء مجمعين على هذه المعتقدات ومبرهنين عليها فيحصل له من إجماعهم الاطمئنان واليقين بهذه المعتقدات، وهذا الاطمئنان حجة لأنه ناشئٌ عن منشأ عقلائي، فهو يحرم عليه التقليد ولا يجب عليه الاجتهاد، وإنما يكفيه أن يعتمد على الاطمئنان أو اليقين الناشئ عن منشأ عقلائي، فإن هذا الاطمئنان أو اليقين يعدّ معرفة عقلية كافية في تحقيق عنوان شكر المنعم، ودفع الضرر المحتمل.

المحور الثالث: الظن في المعتقدات

هل يجوز للإنسان أن يعمل بالظن في القضايا العقائدية، فيعتمد على الأدلة الظنية أم لا؟ نحن ذكرنا في بداية المحاضرة أن الإنسان لابد له من بينةٍ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴿فلا بُدَّ من البينة، والبينة هي الحجة القاطعة، التي لا مجال للبس فيها، فما يجب أن يتكئ عليه الإنسان هو البينة، وهذا لا يحتاج أن يقوله القرآن، بل العقل يفرضه، ويقول بما أنك إنسانٌ عاقلٌ فعليك أن لا تعتقد بشيءٍ إلا ببينة، يعني بحجة واضحة والظن ليس حجة واضحة، ولذلك القرآن الكريم يقول: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴿- الأنعام، آية 116 -، أي يعيشون تخريصات وتخمينات. ويقول القرآن الكريم: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴿- الإسراء، آية 36 -، أي ستسأل عن أي دليل ظني تعتمد عليه، فلا بُدَّ لك من دليلٍ قطعيٍّ، ويقول القرآن الكريم: إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴿- يونس، آية 36 -، إن الظن ليس بينة.

ولكن علماءنا يقولون إن الظن على قسمين:

1 - ظن غير معتبر، يعني لم يقم دليل على حجيته.

2 - وظن معتبر، قام الدليل على حجيته مثل خبر الثقة. أي خبر الثقة ظن، لكن خبر الثقة ظنٌّ قام الدليل على حجيته والقرآن الكريم يقول: إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴿- الحجرات، آية 6 - ومقتضى مفهوم الشرط في الآية المباركة: إن جاءكم عادل فخذوا بخبره. إذن خبر الثقة حجة، فالعمل بخبر الثقة ليس عملا بالظن في الواقع، بل هو عمل بالعلم، لأن العلم قام على حجية خبر الثقة، لأن الدليل القطعي القرآني قام على حجية خبر الثقة، فالعمل بخبر الثقة عمل بعلم، وبدليل قطعي، وإن كان مفاد خبر الثقة مفاداً ظنياً.

أين نعمل بخبر الثقة؟ لا نعمل به في القسم الأول من العقائد، فنحن قسمنا العقائد إلى قسمين: قسم يجب معرفته عقلاً، وقسم إذا قام الدليل عليه وجب التدين به، وهو ما لا يصل العقل إلى معرفته، لأن هذا القسم يجب معرفته معرفة عقلية والظن ليس معرفة عقلية، خبر الثقة يكون حجة في القسم الثاني من المعتقدات.

مثلا: جاءتنا أخبار صحيحة عن النبي محمد تدل على تفاصيل القبر، تفاصيل العذاب، نأخذ بهذه الروايات في القسم الثاني من المعتقدات، المعتقدات التي لا يهتدي إليها العقل وحده، بل يحتاج إلى دليل لفظي يأتي من قِبل الشرع المقدس، أو ضرورة تقوم عليها، فيجب الاعتقاد بها لقيام الضرورة عليها، إذن خبر الثقة أو الظن الخاص مقابل الظن الإنسدادي كما ذكر في علم الأصول، إنما يؤخذ به في القسم الثاني من المعتقدات، لا في القسم الأول.

وأما الإجماع، فإن علماءنا يقولون: قام الإجماع على أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، الإجماع ليس دليلاً ظنياً، الإجماع الكاشف عن نظر المعصوم بشرائطه المذكورة في علم الأصول دليل قطعي، لأن الإجماع - كما ذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر «قدس سره» - يرجع إلى دليل حساب الاحتمالات، ودليل حساب الاحتمالات في علم الرياضيات دليلٌ قطعيٌّ يؤدي إلى اليقين الرياضي بالمعلومة، وليس دليلاً ظنياً.

المحور الرابع: هل الرؤية حجة؟

هل نعتمد على الأحلام والرؤى في الأدلة والبراهين، لو رأى إنسان النبي في المنام أو أحد الأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين» وقال له شيء في المنام هل هذه الرؤية تكون حجة شرعية؟ ربما يقول إنسان: نعم؛ لأنه ورد عن النبي محمد أنه قال: [من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي ولا بصورة أحد من أوليائي] «1»، إذن من رأى النبي أو الإمام وسمع منه حكماَ فقد سمع حكماً من النبي أو الإمام فكيف لا يكون حجة؟ ربما يقول قائل هكذا.

الجواب: علماؤنا يقولون: التمسك بالإطلاق - إطلاق الكلام - فرع كون المتكلم في مقام البيان، كيف ذلك؟ أنا أضرب لك أمثلة، مثلا: عندما يرد عن النبي الأعظم يقول: [العلماء ورثة الأنبياء] «2»، فهل نستطيع أن نأخذ بإطلاق هذا الحديث، ونقول أن العلماء معصومون لأن الأنبياء معصومون؟ هل نأخذ بإطلاق هذا الحديث فنقول: العلماء لهم الولاية التكوينية لأن الأنبياء لهم الولاية التكوينية؟

الجواب: لا، لماذا؟ لأن هذا الحديث ليس في مقام البيان لهذه الجهة وليس ناظراً لهذه الجهة، هذا الحديث يريد أن ينزل العلماء منزلة الأنبياء في وجوب العمل والإتباع فقط، فهو ناظر لهذه الجهة، [العلماء ورثة الأنبياء] يعني في الحجية ووجوب العمل، لا أن العلماء ورثة الأنبياء كما ورث الحسين نوحا وآدم وإسماعيل وإبراهيم، يعني في العصمة والولاية وسائر الكمالات، فإن الحديث ليس ناظرا لذلك، هنا أيضا عندما يرد عن النبي [من رآني فقد رآني] لا يتكلم عن الرؤية بتمام الخصائص، يتكلم عن شرف اللقاء، فإن لقاء المعصوم نعمة وشرف كبير، وربما هذا اللقاء الذي تراه في النوم يصير باباً من أبواب الشفاعة في الآخرة، لقاؤك بالنبي، لقاؤك بالإمام، ربما يكون باباً من أبواب الشفاعة لك في الآخرة، فهذا شرف كبير، النبي في هذا الحديث يريد أن ينزل الرؤية منزلة اليقظة ليس في تمام الآثار، بل يريد أن يقول: من لم يلتقِ بي في اليقظة والتقى بي في المنام فقد حصل على شرف اللقاء، وهذا الحديث ناظر لتنزيل الرؤية منزلة اليقظة في شرف اللقاء، فمن رآني في المنام فقد حظي بشرف اللقاء كمن رآني في اليقظة، لا أن المنام مُنزلٌ منزلةَ اليقظة في كل الآثار والأحكام، يعني إذا سمع مني في المنام شيئاً فهذا حكم الله، هذا هو الحكم الشرعي، افترض مثلا: شخص رأى النبي في المنام وقال له: لا تقرأ القرآن أصلاً، فهل يرتب الأثر ولا يقرأ القرآن.

إذن بالنتيجة هذه الأحاديث تنزل الرؤية منزلة اليقظة في ناحية معينة، في شرف اللقاء لا أنها تنزل الرؤية منزلة اليقظة في تمام الآثار والأحكام؛ لأن الحديث ليس في مقام البيان لهذه الجهة كي يتمسك بإطلاقه. إذن الرؤية لو صححنا هذا الحديث - السيد المرتضى «علم الهدى» «رحمه الله» يشكك في صحة هذا الحديث [من رآني فقد رآني] لكن إذا سلمنا بصحته - فلا يستفاد منه حجية الرؤية، غاية ما يستفاد من هذا الحديث شرف اللقاء.

المحور الخامس: الغيبة نسبية لا حقيقية.

المهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف» الذي غاب عن أعيننا غيبة نسبية لا حقيقية؛ بمعنى أن غيبته ليست غيبة مادية، وإنما غيبة عنوانية لا أكثر، فهو يعيش بين الناس، ويأكل، ويشرب، ويمرض، ويتعب، ويشفى، ويتألم، ويفرح، ويحزن، يعيش كما يعيش البشر، يعيش آلامهم وأحزانهم، ولكن لا يعرفه الناس، فغيبته غيبة عنوانية، لا غيبة حقيقية، بمعنى أن الناس لا تعرف أن هذا هو المهدي، لا أنه غائب بحيث لا يرى، لا يرى بعنوانه لكن يرى بجسده، وجسده أينما حلّ فهو مصدر البركة، كما ورد في القرآن على لسان عيسى ابن مريم وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ﴿مصدر للبركة وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴿- مريم، آية 31 - جسمه مصدر بركة، لكن لا يشعر أو لا يلتفت الناس إلى عنوانه، وإلا فهو يعيش بينهم بجسمه، فغيبته غيبة عنوانية لا حقيقية، ولذلك بما أن غيبته غيبة عنوانية، لا غيبة حقيقية، فالظهور والغيبة نسبيان بمعنى أنه ظاهر لقسم وغائب عن قسم آخر، غائب بعنوانه عن قسم من البشرية، وظاهر بعنوانه لقسم آخر من البشرية، والأمر بيده متى ما شاء أن يظهر نفسه بعنوانه لأحد من البشر - إذا اقتضت المصلحة العامة أن يظهر نفسه - أظهر نفسه، وقد ورد عنه «عجل الله فرجه الشريف» وهذا المضمون: [ولولا ذنوب شيعتنا لرأونا رأي العين] «3»، إذن فالغيبة والظهور نسبيان لا حقيقيان، ولكن فيما يتعلق بالإمام المنتظر «عج» نحن نعرف أن الروايات الشريفة ذكرت له علامات معتبرة وردت في الروايات الصحيحة «4»: خروج السفياني، خروج اليماني، خروج الخراساني، الصيحة بين السماء والأرض، الخسف بالبيداء، خروج الشمس من المغرب بدل بزوغها من المشرق، قتل النفس الزكية، هذه العلامات كيف نصل إليها؟ هل نصل لهذه العلامات عن طريق الظنون؟! هل نصل لهذه العلامات عن طريق التخمينات؟! هل نصل لهذه العلامات عن طريق الروئ والأحلام؟! أو عن طريق الاستخارة؟! لا يمكن ذلك، لمَ؟ في هذه الأمور الخطيرة؛ لا يكتفى بالظن حتى لو كان الظن ظناً خاصاً، حتى لو كان خبرَ ثقةٍ، حتى لو قام عليه دليل، لا يكتفى بذلك، في هذه الأمور الخطيرة لا يُكتفى بالأدلة الظنية، حتى لو كانت من الظنون الخاصة كخبر الثقة مثلا، لماذا؟

لأن الهدف من نصب الأئمة الهداة «صلوات الله عليهم أجمعين» ما هو؟ الهدف من نصب الأئمة الهداة وصول النظام السماوي عبرهم إلى المجتمع البشري، ومن أجل أن يصل النظام السماوي عبر الأئمة إلى المجتمع البشري لابد أن تكون لدى الأئمة حجج قاطعة واضحة، وإلا لن يؤمن المجتمع البشري بهم، لا يمكن لله - سبحانه وتعالى - أن يرسل نبياً أو ينصب إماماً ما لم يدعمه بالبينة التي ذكرناها في الأول - أي بالحجة القاطعة والواضحة -، لم؟ لأنه لو لم يدعمه بالبينة والحجة القاطعة لزم نقض الغرض، ويقول علماء الكلام: نقض الغرض قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم - تعالى -، فإن الغرض من بعثة النبي أو نصب الوصي؛ وصول النظام، وهذا الغرض لا يمكن أن يتحقق ما لم يؤمن به المجتمع، ولا يمكن أن يؤمن به المجتمع ما لم تكن عنده حجج قاطعة، بحيث لا يبقى لأحد عذر، لا يبقى لأحد لبس، لا يبقى لأحد شك، حجج قاطعة واضحة، فما لم يدعم الله نبيه أو وصيه بحجج قاطعة فإن جعله نبياً أو وصياً نقضٌ للغرض، ونقض الغرض قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم - تعالى -، إذن في هذه الأمور الخطيرة حتى لو كانت هي من معتقدات القسم الثاني - المعتقدات الخاصة - لكن بما أنها أمور مصيرية، يتوقف عليها مسيرة العالم كله، يتوقف عليها مسيرة الدين بأكمله، لا يكتفى فيها بالظنون، حتى لو كانت من الظنون الخاصة، إذن علامات ظهور الإمام المهدي كعلامات آبائه تماماً، لا يمكن معرفة علي بالظنون الخاصة، ولا يمكن معرفة الحسين أو الصادق أو الكاظم أو غيره من الأئمة بالظنون الخاصة، هذه أمور مصيرية يقوم عليها الدين، لو أن المشرع الأقدس اكتفى في معرفة الإمام أمير المؤمنين أو في معرفة الصادق أو في معرفة الرضا بالظنون الخاصة للزم الهرج والمرج.

إذن بالنتيجة: كما أن ثبوت إمامة الأئمة السابقين كانت تحتاج إلى أدلة قطعية قاطعةٍ للعذر، كذلك ثبوت ظهور الإمام، وثبوت علاماته، تحتاج إلى أدلة قاطعة، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴿يعني هذه أمور مصيرية، يقوم عليها مسيرة الدين بأكمله، لذلك لو جاءنا شخص وقال أنا الخراساني، أو عندي رواية تؤيد أني الخراساني، أو عندي رؤية تقول: أنا الخراساني، نقول له: هذا لا يفيدنا، لا بد لنا من بينة، يعني من دليل قاطع لا لبس فيه، لأن هذه أمور يتوقف عليها مسيرة الدين، وكذلك إذا جاءنا شخص وقال: أنا اليماني الذي من أصحاب الإمام، أو الذي أكون علامة على الإمام، هنا اختلفت المسألة، إذا كنت تدعي أنك علامة على ظهور الإمام، إذن أنت من علامات الإمامة، وعلامات الإمامة من الأمور المصيرية التي يجب وجود حجة قاطعة ودليل قاطع عليها، فما هو الدليل القاطع؟ وإلا لزم نقض الغرض، ونقض الغرض قبيح، فلو قال: الدليل القاطع عندي رواية الوصية «5»، ورواية الوصية تقول أن صاحب الأمر «عجل الله تعالى فرجه» يسلم العهد والميثاق والوصية من بعده لولده المسمى بأحمد، وأن بعده اثنا عشر مهدياً، كلهم أئمة.

والكلام ليس في الوصية فإن تداول الوصية من قبل النبي والأئمة واحداً بعد الآخر لاشك فيه بل هو أمر متواتر بالروايات الكثيرة، وإنما الكلام ينصب على الذيل المذكور في هذه الرواية وهو تسليم الراية لأحمد ابن المهدي فإن ذلك محل التأمل.

أولا: هذه الرواية عدة من رواتها مجاهيل لا يُعْلَمون، ولا يعرف لهم تاريخ، وهذا المذهب العظيم - مذهب أهل البيت الذي ثبت بالأدلة والبراهين، وقدم التضحيات على مدى هذه القرون - يرتكز على رواية ضعيفة؟! هذا باب خطير على مسيرة المذهب.

ثانيا: لنفترض أن هذه الرواية صحيحة، هذه الرواية معارضة لروايات الرجعة وهي روايات كثيرة، وروايات الرجعة بلغت أكثر من ثلاثمائة رواية، خصوصا ما دل على رجعة الإمام الحسين «6» وأنه هو الذي يتولى الحكم بعد الإمام القائم «عجل الله فرجه الشريف»، وأنت تقرأ في الزيارة الجامعة [مقر برجعتكم] «7» فكيف نأخذ بهذه الرواية الواحدة، ونعرض عن روايات كثيرة تحدثت عمن يحكم بعد الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

ثالثا: ما الذي يثبت لنا أن هذا الوصي - الذي يسلمه الإمام الوصية والميثاق من بعده - هو أنت الذي تقول أنت اليماني؟! ربما يقول: لأنه ما ادعى أحد غيري، أنا الذي ادعيت وقلت: أنا صاحب الوصية، لم يدعِ أحدٌ غيري. الجواب: مجرد الدعوى، مجرد انحصار الدعوة هل يصبح دليلا عند العقلاء؟ هل ترى عاقلاً يرى الدعوى دليلاً؟ لو قال شخصٌ لنا مثلا: أنا عيسى ابن مريم - طبعا عيسى ابن مريم لم يمت ما زال باقيا -، فنسأله: كيف أنت عيسى ابن مريم؟ يقول: لم يدع أحد غيري، أنا الذي ادعيت أني عيسى ابن مريم، فأنا عيسى ابن مريم لأنه لم يدع أحد غيري أنه عيسى ابن مريم، فأنا عيسى ابن مريم.

هل هذا دليل عقلائي؟ مجرد الدعوى ليست دليلا، الإمام الرضا - كما في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي «8» - عندما صارت بينه وبين الجاثليق وبعض علماء الكتاب مناقشة، الإمام الرضا احتج عليه بأن في كتابكم الإنجيل والتوراة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴿- الصف، آية 6 - وأحمد هو هذا جدي رسول الله ، قال له الجاثليق: هذه الكتب قالت برسول يأتي اسمه أحمد، ما هو الدليل على أن أحمد الذي تحدثت عنه الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل هو هذا جدك؟ قال: لأنه ادعى ذلك ولم يدعه غيره، مالمقصود بهذه الجملة؟ صحيحٌ أن النبي ادعى ولم يدع غيره، لكن ما الذي ادعاه النبي؟ ادعى نفس ما ورد في الكتب، وما ورد في الكتب السماوية أن نبيا يظهر في آخر الزمان اسمه أحمد، يأتي بكتاب من السماء، ويأتي بالمعاجز التي تدل على نبوته، لم يقل: يخرج من اسمه أحمد فقط، بل قال: يأتي من اسمه أحمد بكتاب من السماء ويأتي بالمعجزات التي تدل على نبوته، النبي قال أنا ذاك أحمد وعندي كتاب من السماء وهو القرآن، وعندي معاجز تدل على نبوتي.

إذن القضية ليست مجرد دعوى، ما ادعاه النبي: ادعى ما ورد في الكتب، وما ورد في الكتب: نبي يأتي بكتاب من السماء ومعه المعاجز التي تدل على نبوته. إذن الدعوى ليس دليلاً، ولم يدعه عاقل حتى نعتمد على هذا الدليل.

وربما يقول الإنسان بأنه: أنا قاطع، عندي قطعٌ مائة بالمائة أن فلان هو الخراساني، أن فلان هو اليماني، أن فلان هو السفياني، والقطع حجة كما يقول العلماء.

الجواب: لاحظوا السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر «قدس سره الشريف» يقول: القطع الحجة الذي يكون مُعذِّراً أمام الله، القطع الناشئ عن منشأ عقلائي باليقين الموضوعي - لا اليقين الذاتي -، هناك أناس عندهم قطع، لكن القطع عندهم يحصل من وسواس، يحصل من أوهام، هذا قطع ليس بحجة لأنه قطع ذاتي، القطع الحجة هو القطع الموضوعي، والقطع الموضوعي: ما نشأ عن منشأ عقلائي. أو يأتينا شخص أيام الحرب يقول: أنا عندي قطع بأن هذه المدينة كلها كفار، ورمى عليها قنبلة وأفناها عن آخرها، هل هذا القطع حجة؟ يقول: أنا قطعت بأن هؤلاء كلهم كفار، وألقيت عليهم قنبلة وأفنيتهم عن آخرهم، عملاً بقطعي، والقطع حجة، هل يعذره المجتمع العقلائي؟ لا؛ يقولون: ليس كل قطع حجة، القطع الحجة: الذي ينشأ عن منشأ عقلائي، وأنت لم تستند في قطعك هذا إلا إلى أوهام أو تخريصات، لم تستند على منشأ عقلائي. أو يقطع الإنسان بشيء نتيجة الرؤية، أو نتيجة الاستخارة، أو نتيجة بعض الروايات الضعيفة، هذا القطع ليس حجةً مُعَذِّرة، القطع الحجة هو: القطع الموضوعي الناشئ عن منشأ عقلائي، والاعتماد على الرؤية، والاستخارة، وروايات ضعيفة، وروايات مظنونة، ليس منشأً عقلائياً للقطع. إذن كما لا تثبت إمامة الأئمة بالظنون، ولا حتى بالظن الخاص المقابل للظن الإنسدادي؛ لأن هذه أمور خطيرة يتوقف عليها هدف السماء وغرض السماء، كذلك لا تثبت علامات المهدي بالظنون، ولا بالروايات الخاصة، لابد أن تكون مدعومة بأدلة عقلائية، إذا عرضت على العقلاء آمنوا بها، وأذعنوا لها، ولذلك عندنا رواية «9»، يُسأل الإمام الصادق عن آخر الزمان والإمام الصادق يقول للراوي: يخرج اثنا عشر كذاباً يدعون أنهم المهدي، فلما رأى ما دخلني - وصرت أنا حزيناً لهذا الكلام - قال لي: ما بالك؟ قلت: إذن غمت علينا الحجة؟ - اثنا عشر كذاباً، وكلهم يدعون أنهم المهدي، كيف نعرف الصادق من الكاذب إذن، كيف نعرف الإمام إذا خرج؟ - قال لي: إن أمرنا أوضح من الشمس وأبين من الأمس.

إذا ظهر قائمنا أذعن له جميع بني هاشم في الأرض كلها، يعني تخرج معه دلائل حسية، بمجرد أن يبرزها يذعن له جميع بني هاشم على الأرض كلها أنه هو فعلا محمد بن الحسن، فكما يثبت ذاته بأدلة قطعية، أيضا علاماته لا بد أن تكون علامات قطعية وواضحة، لا مجال للبس والخدش والاختلاف.

هل يعقل أن ديناً بهذا المستوى يقول عنه الله - عز وجل - وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴿- آل عمران، آية 85 - وهل يعقل أن هذا المذهب الذي يقول عنه النبي : [إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي] «10»، هل يعقل أن ديناً بهذا المستوى، ومذهبا بهذا المستوى ضحى من أجله الملايين لأجل هذا الدين ولأجل هذا المذهب، هل يعقل أن يعتمد ثبوته على الرؤى، والأحلام، والظنون؟ والاختلافات في بعض الروايات؟! أو الاختلافات في بعض الأدلة؟! غير معقول. كما أن هذا الدين عند قيامه استند لأدلة قطعية، وهذا المذهب عند قيامه استند لأدلة قطعية، فيجب أن يستند في بقائه، واستمراره، وظهور أئمته، وعلامات ظهورهم؛ إلى أدلة قطعية واضحة، قاطعة للعذر والشك والريب.

ونحن لا ننكر أن الإمام له ذرية، يمكن أن يكون للإمام ذرية في بعض الأحاديث «11»: السلام عليه وعلى ذريته، ولكن ذريته شيء وأنهم أئمة معصومون شيء آخر، علي الأكبر أيضاً كان من الذرية، علي الأكبر سلالة طيبة طاهرة، علي الأكبر إنسان معصوم، الإمام الحسين طبق عليه آية العصمة لما خرج علي الأكبر إلى المعركة قال الحسين «12»:إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴿- آل عمران، آية 33، 34 -، علي الأكبر إنسان عظيم، ولذلك في أي زيارة للحسين ترى زيارة خاصة لعلي الأكبر، أغلب الزيارات ليس بها زيارة للعباس ، لكن فيها زيارة لعلي الأكبر، علي الأكبر إنسان عظيم له زيارة خاصة مع كل زيارة للحسين، لكنه ليس إماما، مسألة أن للإمام المهدي ذرية.. ربما يكونوا طاهرين، ربما يكونوا مبرئين من العيوب، ولكن الإمامة شيء، والذرية الطاهرة شيء آخر، والروايات قالت: أن له ذرية، ولم تقل أن ذريته أئمة إلا هذه - رواية الوصية - التي لا تصح بلحاظ ذيلها أن تكون دليلاً عقلائياً.

نسأل الله - تبارك وتعالى - لنا ولكم في هذه الليلة المباركة أن يجعلنا من الثابتين على إمامة الأئمة الطاهرين [اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني] «13»، يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، اللهم اجعلنا من الثابتين على ديننا وعلى مذهبنا وعلى قيمنا وعلى مبادئنا، مهما تعرضنا لتشكيكاتٍ وأعاصير، ومهما تعرضنا لضغوط ومخاوف، ومهما تعرضنا لمواجهاتٍ ومداهمات، أن نبقى ثابتين على ديننا وعلى مذهبنا وعلى ولايتنا للأئمة الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين»، اللهم ارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم واجعلنا معهم أحياءً وأمواتاً واجعلنا من المرضيين عندهم.

 

«1» ورد عن الرسول : «من رآني فقد رآني فإني لا يتمثل بي شيطان»، كما في: رسائل المرتضى: 2 / 12، سنن ابن ماجة: 2 / 1284 حديث: 3901، كنز الفوائد: 2 / 63، مسند أحمد: 5 / 306. وجاء كذلك عنه : «ومن رأى أحدا من أوصيائي فقد رآه فإنه لا يتمثل بهم شيطان»، كما في: كتاب سليم: 821 حديث: السابع والثلاثون، إرشاد القلوب: 2 / 393 خبر وفاة أبي بكر ومعاذ، روضة الواعظين: 1 / 233 في ذكر وفاته، الصراط المستقيم: 3 / 155.
«2» عن رسول الله : [من سلك طريقاً يطلب فيه علما سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر]. وهي صحيحة القداح، وضعيفة أبي البختري، أو مصححته عن أبي عبد الله قال: [إن العلماء ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين]، الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 32، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 1 - ص 164، الوسائل - كتاب القضاء - الباب 8 - من أبواب صفات القاضي - الرواية 2 - والمستدرك - الرواية 45.
«3» راجع توقيع الناحية المقدسة إلى الشيخ المفيد في كتابه «المزار» ص 11 ولفظه: [ولو أن أشياعنا - وفقهم الله لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا. ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل]. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 53 - ص 177.
«4» الغيبة - الشيخ الطوسي - ص 435.
«5» الشيخ الطوسي «ره» في كتابه «الغيبة» ص 150 - 151:
«6» مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 48 - 49، ونقله المجلسي عن المختصر في البحار 53: 103 / 130، والحر العاملي في الايقاظ من الهجعة: 367 / 123، قائلا: ما رواه الحسن بن سليمان في باب الكرات وحالاتها.
«7» الحر العاملي «ره» في كتابه «الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة» ص 282 - 283.
«8» الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 199 - 214.
«9» الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 336.
«10» بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 23 - ص 147 - 148، وروي حديث الثقلين بطرق عديدة جدا وبصيغ مختلفة، راجع مسند أحمد بن حنبل: ج 3 / 14 و17 و26 و59، وصحيح مسلم: ج 4 / 1874 ح 37، وسنن الترمذي ج 5 / 662 و663 ح 3786، وكنز العمال: ج 13 / 104 ح 36340.
«11» مصباح المتهجد - الشيخ الطوسي - ص 411.
«12» الإمام الحسين - الشيخ عبد الله البحراني - ص 285 - 286.
«13» الكافي - الشيخ الكليني - ج1 ص337.