الدرس 56

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

إذا أتى المكلف بالصلاة الاضطرارية ثم زال اضطراره وتمكن من الصلاة الاختيارية فشك في إجزاء صلاته السابقة أم لا، فهنا ما هو مقتضى الأصل العملي؟

ذكرنا أن للمسألة صورا:

الصورة الأولى: أنه يدور الأمر بين كون العمل وافيا بتمام الملاك فيكون مجزيا أو انه ليس وافيا إلا ببعض الملاك والبعض الباقي بعض لزومي يمكن استيفاؤه، فهذه الصورة أيضاً لها فرضان:

الفرض الأول: أن نحرز الأمر بالفرد الاضطراري ولكن نحتمل أن الشارع إنما أمره بالفرد الاضطراري لا لأجل انه واف بتمام الملاك بل لأجل وفائه ببعض الملاك فالفعل الاضطراري مأمور به لكن هل هو مجز أم ليس بمجزيا وهذا هو محل البحث، فإذا أحرزنا انه مأمور به فمعنى ذلك أننا أحرزنا أن هذا المكلف مأمور بالجامع إذ لا يتصور أن يكون المكلف مأمورا بخصوص الفرد الاضطراري مع انه قد يتمكن من الفرد الاختياري فينتظر ثم يأتي بالفرد الاختياري إذن معنى أن المكلف مأمور بالفرد الاضطراري يعني انه مأمور بالجامع بين الفرد الاضطراري والفرد الاختياري فالمكلف يحرز انه مأمور بالجامع وهو قد أتى بأحد مصداقي الجامع حيث إنه صلى الصلاة الاضطرارية إنما بعد أن زال الاضطرار وتمكن من الصلاة الاختيارية يشك هل انه مأمور - مضافا إلى الأمر بالجامع الذي امتثله - أمر تعييني بالصلاة الاختيارية أم لا؟ فهو شك في حدوث تكليف تعييني بالصلاة الاختيارية ومع الشك في ذلك الجاري هو أصل البراءة فمقتضى البراءة عن أمر تعييني بالصلاة الاختيارية هو إجزاء صلاته التي صلاها بأنها أحد مصداقي الجامع المأمور به.

الفرض الثاني: أن لا نحرز انه مأمور بالجامع أصلا - بل نحتمل انه ليس مأمور بشيء - فحينئذ ما هو مقتضى الأصل العملي؟ فهنا مسالك ثلاثة:

المسلك الأول: ما ذهب إليه السيد البروجردي «قدس سره» من أن جميع المكلفين مأمورون بأمر واحد وهو الأمر بطبيعي الصلاة وهذا الطبيعي له مصاديق متعددة منها صلاة الغريق وصلاة الخائف وصلاة المسافر وصلاة المضطر وصلاة المختار، فالمكلف لا يشك في انه مأمور بطبيعي الصلاة وإنما كل شكه متمحض في أن الصلاة الاضطرارية التي صلاها ثم زال الاضطرار هل هي مصداق لصلاة المضطر أم لا؟ فهو يدري أن المولى أمره بطبيعي الصلاة وان من مصاديق هذا الطبيعي صلاة المضطر لكن هل صلاة المضطر تختص بالاضطرار المستوعب لأخر الوقت أم أن صلاة المضطر تشمل من اضطر في بعض الوقت فهو لا يشك في الأمر ولا في متعلقه وإنما يشك في أن الصلاة التي صلاها جالسا هي هل مصداق شرعي لصلاة المضطر فيسقط الأمر لأنه أتى بطبيعي الصلاة أم لا؟

فعلى هذا المسلك الشريف أفيد بأن الجاري حينئذ أصالة الاشتغال وليس الجاري أصالة البراءة لأن هذا المكلف قاطع بأنه أمر بطبيعي الصلاة وشاك في امتثاله، فإن كانت الصلاة التي أتاها جالسا مصادقا لهذا الطبيعي سقط الأمر وإلا فالأمر ما زال باقيا. فالجاري في حقه أصالة الاشتغال فعليه أن يعيد الصلاة بالفرد الاختياري بعد زوال الاضطرار.

ولكن نفس المبنى يتضمن تهافتا في حد ذاته مع غمض النظر عن النتيجة التي توصل إليها وهي جريان أصالة الاشتغال والسر في ذلك انه عندما يشك في أن الصلاة الاضطرارية التي صلاها هل هي مصداق لطبيعي الصلاة أم لا فهذا شك في الجعل الشرعي لا محالة لأنه لا يمكن أن تكون الصلاة الاضطرارية مصداقا تكوينيا قهريا ما لم يتدخل الاعتبار الشرعي فلا يعقل كون كيفية من الصلاة مصداقا للطبيعي إلا بأمر الشارع بهذا الكيفية لا تكون حينئذ مصداقا للطبيعي فإذا توقف كونها مصداقا للطبيعي على الأمر بها أصبحت النتيجة القول بتعدد الأمر والمفروض أن هذا المسلك يصر على أن الأمر واحد، فكيف يجمع بين الأمرين بان يقال: لا يوجد إلا أمر واحد بطبيعي الصلاة وبين القول إن كون الصلاة الاضطرارية مصداقا لهذا الطبيعي محتاج إلى أمر بها إذ لو لا الأمر بها فكيف تصبح مصداقا لطبيعي الصلاة المأمور بها إذن فاحتجنا لا محالة إلى تعدد الأمر إذ لا يمكن الجمع بين الأمرين وهو أن الأمر واحد بطبيعي الصلاة وان صلاة المضطر إليها مصداق لهذا الطبيعي فهي إما مصداق قهري فالإجزاء حتمي مع انه يقول بعدم الإجزاء وإما مصداق جعلي يعني يتوقف على وجود أمر فهذا لجوء إلى تعدد الأمر وهو مناف لدعوى وحدة الأمر.

فعلى هذا المسلك النتيجة التي ذكرها صحيحة ولكن نفس المسلك فيه مشكلة.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه المشهور من أن هناك أمراً تعييني في حق المختار في الصلاة الاختيارية وأمر تعييني في حق المضطر بالصلاة الاضطرارية ولكن هذا المكلف يقول: أنا الآن صرت صورة برزخية هناك أمر تعييني بالصلاة الاختيارية لمن كان مختارا هناك أمر تعييني بالصلاة الاضطرارية لمن كان مضطرا لكني أنا الآن واجد لصورة ثالثة فانا في بعض الوقت مضطر وفي بعض الوقت مختار، فإذا شك فما هو مقتضى الأصل العملي في حقه؟ فهنا يقول هذا المكلف: إن كانت الصلاة التي أتيت بها وافية بتمام الملاك إذن فانا مأمور بالجامع بين الفرد الاختياري لو انتظرت إلى آخر الوقت أو الفرد الاضطراري لو بادرت لأنه مجزي إذن في النتيجة على فرض الإجزاء أنا مأمور بالجامع وعلى فرض عدم الإجزاء فانا مأمور أمراً تعيينيا بالفرد الاختياري ففي حقي يكون الشك من دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ لأنه إن كانت الصلاة الاضطرارية مجزية فانا كنت مخير بين الفرد الاضطراري في أول الوقت أو الفرد الاختياري آخر الوقت وإن لم تكن مجزية فقد تعين علي الفرد الاختياري في آخر الوقت فالشك في حقي دوران بين التعيين والتخيير وحيث إن المبنى الصحيح في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في التكليف هو البراءة عن التعيين وفاقا لسيدنا «قدس سره» تجري البراءة عن أمر تعييني بالصلاة الاختيارية ومقتضى هذه البراءة إجزاء ما أتى به.

لكن السيد الإمام «قدّس سرّه» هنا كما نقل عنه في تهذيب الأصول هو أن المورد من موارد العلم الإجمالي في التدريجيات فقد أفاد بأنه من علم بأنه سيزول اضطراره بعد ساعة فقد علم إجمالا بأنه إما مكلف الآن بالصلاة الاضطرارية أو مكلف بعد زوال الاضطرار بالصلاة الاختيارية فهذا من قبيل العلم الإجمالي في التدريجيات كما لو علمت المرأة بان الحمرة الموجودة عندها هي الحيض أم التي ستأتي بعد عشرة أيام فالحيض إما الدم الفعلي أو الذي سيأتي بعد عشرة أيام فهذا من العلم الإجمالي في التدريجيات مقتضى العلم الإجمالي في التدريجيات اجتناب وطئ المرأة في كلتا الحالتين، فالمقام كذلك حيث يعلم بأنه إما مكلف بالجامع الذي يشمل الفرد الاضطراري أول الوقت أو مكلف بعد زوال الاضطرار بخصوص الفرد الاختياري مقتضى منجزية العلم الإجمالي أن يأتي بالفرد الاختياري لا محالة صلى الصلاة الاضطرارية أم لم يصل.

ويلاحظ على ذلك أنه على فرض زوال الاضطرار أثناء الوقت فتكليفه بالفرد الاختياري ليس تكليفا بعد زوال الاضطرار بل هو تكليف من أول الأمر لأن المكلف منذ دخول الزوال مكلف بطبيعي الصلاة بين الحدين فما دام سيقدر على فرد من هذا الطبيعي ولو آخر الوقت يكون مكلفا به من أول الوقت فهو من أول الوقت مكلف بطبيعي الصلاة الاختيارية ما دام قادرا على فرد من هذا الطبيعي أثناء الوقت إذ يكفي في القدرة على الطبيعي أن يقدر على فرد من أفراده فيصدق على هذا المكلف منذ الزوال انه قادر على الطبيعي فبما انه قادر على الطبيعي من أول الوقت إذن هو مكلف بطبيعي الصلاة الاختياري من أول الأمر، فليست المسالة من باب التدريجيات في شيء وإنما هي من باب الدفعيات لا من باب التدريجيات، وبالتالي إذا شك المكلف في أن الصلاة الاضطرارية هل هي تجزيه أم لا تجزيه كان هذا المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير من أول الأمر حيث يكون من أول الأمر إن كانت تجزي فانا مكلف بالجامع من الآن وإن كانت لا تجزي فانا مكلف بطبيعي الصلاة الاختيارية التي سأقدر على فرد منه بعد ذلك لكنه الآن التكليف به فعلي فالمسالة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير وليست من باب العلم الإجمالي بالتدريجيات كي يقال: بناء على منجيزته فمقتضى ذلك الإتيان بالفرد الاختياري.

المسلك الثالث: ما ذهب إليه السيد الشهيد «قدس سره» من أن جميع المكلفين مخاطبون بالجامع بين الصلاة الاضطرارية لو حصل اضطرار والصلاة الاختيارية فالمكلف الآن يحرز انه مأمور بالجامع لأن هذا أمر في حق جميع المكلفين ولكن يقول: على فرض عدم إجزاء صلاتي لأنها ليست مستوفية لتمام الملاك إذن فلا محالة سوف أكون مأمورا إضافة إلى الأمر بالجامع بأمر تعييني بالصلاة الاختيارية فانا اشك في أمر تعييني بالصلاة الاختيارية بعد زوال الاضطرار ومقتضى البراءة عنه إجزاء ما أتى به من الصلاة الاضطرارية.

فتحصل أنه في هذه الصورة وهي صورة دوران الأمر بين كون الصلاة الاضطرارية مستوفية لتمام الملاك أو مستوفية لبعضه والبعض الباقي لزومي يمكن استيفاؤه إما أن يحرز المكلف أصل الأمر بالجامع فيجري البراءة عن الأمر التعييني فمقتضى عمله الإجزاء أو لا يحرز أصل الأمر وإذا لم يحرز أصل الأمر فهناك مسالك ثلاثة على مسلك منها وهو مسلك السيد البروجردي يكون مقتضى الأصل العملي هو الاشتغال وعلى مسلكين آخرين يكون مقتضى الأصل العملي هو البراءة والإجزاء، ويأتي الكلام في الصورة الثانية إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين