الدرس 58

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أن من صلى الصلاة الاضطرارية في أول الوقت كما لو صلى المريض جالسا في أول الوقت ثم زال اضطراره ومرضه وأصبح قادرا على الصلاة قائما فهل مقتضى الأصل العملي صحة صلاته التي صلاها وإجزائها فلا يجب عليه الإعادة أم أن مقتضى الأصل العملي هو الإعادة؟

وذكرنا أن لهذه المسالة صورا:

الصورة الأولى: أن يدور الأمر بين وفاء الصلاة التي صلاها بتمام الملاك وعدم وفائها، بمعنى أنه إن كانت صلاته مسقطة للأمر فقد وفت بتمام الملاك وإن لم تف بتمام الملاك فالأمر ما زال باقيا، وقد سبق بيان الحكم في هذه الصورة.

الصورة الثانية: أن العمل الذي أتى به ليس وافيا بتمام الملاك جزما، إنما يشك هل انه مسقط للأمر من باب الامتناع أم لا؟ أي أن صلاته التي صلاها جالسا ليست وافية بتمام الملاك هذا أمر مقطوع به، لكن هل الأمر سقط بها من باب التعدد أي انه بعد أن صلاها فلا يمكنه الآن استيفاء باقي الملاك فسقوط الأمر لا لأجل أن الصلاة التي صلاها وفت بتمام الملاك وإنما سقوط الأمر لو حصل - هو يشك في سقوط الأمر - فهو من باب تعذر استيفاء الملاك التام بعد الإتيان بهذه الصلاة جالسا نظير من شرب الماء ساخنا والملاك التام في أن يشرب الماء باردا لكنه بعد أن شرب الماء ساخنا ارتفع العطش فلا يمكنه استيفاء الملاك التام بالماء البارد، وهنا في مثل هذه الصورة التي يجزم المكلف فيها بأن صلاته الاضطرارية لم تف بتمام الملاك لكنه يحتمل أن الأمر قد سقط لأجل تعذر استيفاء الملاك، فهنا يقال: بأنه الصلاة الاضطرارية التي صلاها يحتمل الأمر بها، إما من باب أنها وافية ببعض الملاك فكونها وافية ببعض الملاك مصحح للأمر بها فهي مأمور بها أو أنها مأمور بها بالأمر الترتبي بمعنى أن ما هو المأمور به بالأمر الأول هو الصلاة الوافية بتمام الملاك إلا وهي الصلاة الاختيارية فإن لم يأت بهذه الصلاة الاختيارية ولو لاعتقاده أنه سيبقى مريضا إلى آخر الوقت فهو مأمور أمرا ترتبيا بالصلاة الاضطرارية فهو يحتمل انه مأمور بالصلاة الاضطرارية إما بأمر ترتبي أو لأن الصلاة وافية ببعض الملاك ومع ذلك يشك في انه هل سقط الأمر عنه لتعذر استيفاء الملاك بعد أن أتى بالصلاة الاضطرارية أم لا؟

فهنا اتفق الأعلام على أن مقتضى الأصل العملي هو الإعادة لكنهم اختلفوا في التوجيه والتخريج، فهنا توجيهان:

التوجيه الأول: ما ذكره المحقق العراقي «قدّس سرّه» في نهاية الأفكار وتبعه سيدنا الخوئي «قدّس سرّه» من أن المورد من موارد الشك في القدرة والشك في القدرة مجرى لقاعدة الاشتغال لا لأصالة البراءة، بيان ذلك:

أنه لا شك أن المكلف مأمور باستيفاء الملاك التام ولكنه لا يدري انه بعد أن صلى الصلاة الاضطرارية هل تعذر عليه استيفاء الملاك التام فهو عاجز الآن عن استيفاء الملاك التام ولأجل عجزه سقط الأمر أم انه ما زال قادرا على استيفاء الملاك فمع شك في انه عاجز عن الاستيفاء أو قادر على الاستيفاء فالمورد من موارد الشك في القدرة، ومورد الشك في القدرة مجرى لأصالة الاشتغال مثلاً إذا كان لدى المكلف ميت وقد انحصر الدفن به ولكن نتيجة نزول الثلج وتحول الأرض إلى ارض مثلجة يشك انه قادر على الحفر ودفن الميت أم ليس بقادر؟ فبما انه يشك في قدرته على دفن الميت وعدمه فلا يمكنه أن يتوسل بأصالة البراءة ويقول الأصل البراءة عن التكليف بدفن الميت لأنني اشك في قدرتي وعدمه بل يجري في حقه أصالة الاشتغال فعليه أن يتصدى لدفن الميت إلى أن يعجز ويحرز انه عاجز فاحتمال عدم القدرة ليس معذرا له بل لابد له أن يتصدى.

وهذا البحث وهو أن مورد الشك في القدرة مجرى الصلاة الاشتغال يبحثه العلماء في خاتمة بحث البراءة في شرائط جريان البراءة هل تجري البراءة في مورد العسر والحرج مثلا وهل تجري البراءة في مورد الشك في القدرة وهكذا.

فهناك فصلوا بين القدرة الشرعية والقدرة العقلية فتارة تكون القدرة دخيلة في الملاك بحيث لا ملا بدونها وتارة تكون القدرة في استيفاء الملاك لا في أصل الملاك فمثلا إذا قال: صم إذا كنت قادرا وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فالنصوص دلت على أن الصوم مشروط شرعا بالقدرة عليه فالقدرة على الصوم دخيلة في ملاك الصوم بحيث أصلا لا ملاك للصوم في حال المرض أصلا صوم المريض ليس محبوبا لأنه فاقد للملاك فالقدرة على الصوم دخيلة في ملاك الصوم فلا ملاك للصوم في فرض المرض والعجز، فهنا في هذا القسم من القدرة وهو القدرة الشرعية القدرة الدخيلة في الملاك ولذلك أخذها المولى في خطابه، هنا إذا شك المكلف في القدرة قال أنا لا ادري هل أنني قادر على صوم رمضان أم لا بمجرد أن يشك في القدرة يجري البراءة؛ لأن المفروض أن القدرة دخيلة في أصل الملاك فشكه في القدرة مساوق لشكه في أن الصوم ذو ملاك أو ليس ذو ملاك فيجري البراءة عن التكلف بالصوم ولا إشكال في ذلك.

إنما الكلام كل الكلام في القسم الثاني وهو القدرة العقلية يعني ما كانت دخيلة في التكليف عقلا، بمعنى أن الملاك لا يرتبط بالقدرة، كون الفعل ذا ملاك شامل حتى لفرض العجز إنما القدرة دخيلة في استيفاء الملاك، كالقدرة على دفن الميت كالقدرة على الصلاة قائما وأمثال ذلك، فهنا إذا شك في القدرة فهل هو مجرى للبراءة أم هو مجرى للاشتغال كما إذا شك المكلف هل يقدر على الصلاة قائما أم لا يقدر؟ شك المكلف هل يقدر على دفن الميت أم غير قادر؟ فعلى مسلك السيد الإمام «قدّس سرّه» الذي أصلا لا يرى شرطية القدرة لا شرعا ولا عقلا بل يقول أن التكاليف القانونية - كقوله تجب الصلاة على كل بالغ عاقل - مطلقة ولا تختص بالقادر فالقدرة ليست شرطا في التكليف أصلا لا شرعا ولا عقلا إنما إحراز العجز معذر يعني إذا أحرز انه عاجز كان إحراز العجز معذرا وإلا فالتكليف لم يتقيد بالقدرة، فبناء على مسلكه جريان قاعد الاشتغال، أساسا القدرة ليست شرطا في التكليف كي يقال الشك في القدرة مساوق للشك في التكليف أصلا هي ليست شرط حتى يكون الشك فيها شك في التكليف، إحراز العجز معذر لا أن القدرة شرط، فهو يرى أن التكاليف القانونية مطلقة مثلا إذا قال المشرع ينبغي للمكلف أن يستهل هذا يشمل الأعمى - على مبناه - فعلى مبناه التكاليف القانونية لا تختص بالقادر فالأمر بالاستهلال إذا كان أمرا قانونيا يشمل الأعمى غاية ما في الباب انه إذا أحرز المكلف انه أعمى كان إحرازه للعمى معذرا له أمام الله وإلا فالتكليف بإطلاقه وعمومه شامل للأعمى وأما هذه الآيات لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يقول هذه إرشاد إلى المعذرية ليس إلا هذه لا تدل على أن القدرة شرط في التكليف وكذا قوله تعالى لا يكلف إلا نفسا إلا ما آتاها فهو مجرد إرشاد إلى انه لو أحرز العجز كان الإحراز معذرا.

وأما على مبنى سيدنا «قدّس سرّه» الذي يرى أن القدرة شرط في التكليف عقلا فالتكليف مقيد عقلا بالقدرة بلحاظ أن تكليف العاجز لغو لا اثر له إذن فالتكليف متقيد عقلا بالقدرة فإذا شك في القدرة فهو شك في التكليف فيكون الشك في القدرة مساوق للشك في التكليف وقد صرح في المحاضرات في الجزء الثاني ص246 بجريان البراءة عند الشك في القدرة ولم يفصل بين القدرة العقلية والقدرة الشرعية قال بما أن الشك في القدرة شك في التكليف فهو مجرى للبراءة.

ولكن الأعلام ذهبوا إلى عدم جريان البراءة؛ والسر في ذلك قيام المرتكز العقلائي على أن احتمال العجز ليس معذرا فيمكن أن تجري البراءة في حال الجهل أما في حال الشك في القدرة فلا، احتمال العجز ليس معذرا، واحتمال المرتكز العقلائي على أن احتمال العجز ليس معذرا بلحاظ أن القدرة عادة لا تكون دخيلة في الملاك وإنما هي دخيلة في استيفاء الملاك فهذا المرتكز العقلائي بمثابة القرينة المتصلة بأدلة البراءة الموجبة لانصرافها عن موارد الشك في القدرة.

فلو كنا نحن وأدلة البراءة وغمضنا النظر عن المرتكز العقلائي لقلنا بجريان البراءة لأن الشك في القدرة شك في التكليف باعتبار أن القدرة شرط في التكليف عقلا فمقتضى القاعدة أن تجري البراءة لكن قيام المرتكز العقلائي على أن احتمال العجز ليس معذرا لأن القدرة عادة دخيلة في الاستيفاء لا في أصل الملاك أصبح هذا المرتكز العقلائي بمثابة القرينة المتصلة بأدلة البراءة الموجب لانصرافها عن موارد الشك في القدرة.

فبناء على هذا في محل كلامنا إذا شك المكلف انه قادر على دفن الميت أم لا؟ فمقتضى قاعدة الاشتغال أن يتصدى لدفن الميت، إذا شك انه قادر على الصلاة قائما أم لا؟ فمقتضى قاعدة الاشتغال أن يتصدى للصلاة قائما، إذا صلى المريض الصلاة جالسا ثم زال مرضه وتجددت قدرته وشك في أن الأمر بالصلاة الاختيارية وهو الصلاة قائما هل سقط لأنه أصبح عاجز عن استيفاء الملاك التام أم لم يسقط وهو ما زال قادرا على استيفائه فمقتضى قاعدة الاشتغال أن يأت بالصلاة قائما واحتمال العجز عن استيفاء الملاك التام ليس معذرا هذا كلام العراقي وسيدنا الخوئي في مثل هذا المقام.

فنقول بناء على ما قُرّر في المحاضرات من أن الشك في القدرة مجرى للبراءة لا معنى هنا لإجراء قاعدة الاشتغال لأن هذا المورد من موارد الشك في القدرة.

التوجيه الثاني الذي يقول: بأن المقام ليس من موارد الشك في القدرة وذلك لأن موارد الشك في القدرة ما إذا علم المأمور به وشك في القدرة عليه كما إذا علم انه مأمور بالدفن وشك في قدرته عليه، أما إذا شك في أصل المأمور به أن المأمور به هل هو هذا هم هو هذا فإن كان المأمور به الأول كان قادرا عليه وإن كان المأمور به الثاني فليس قادرا عليه فهذا ليس من موارد الشك في القدرة بيان ذلك: أن هذا المكلف قبل أن يصل الصلاة الاضطرارية فقد دخل عليه الوقت وهو مريض ولكنه في علم الله سوف يزول مرضه وسوف يصبح قادرا على الصلاة الاختيارية في آخر الوقت إذن في النتيجة هذا المكلف في علم الله خوطب بالصلاة الاختيارية لأنه قادر عليها فما دام قادرا على صرف الوجود وهو صرف وجود الصلاة الاختيارية بين الحدين فهو مخاطب بها، إنما يشك هل انه خوطب بالصلاة الاختيارية بشرط عدم سبق الاختيارية أو لا بشرط، فإنه إن كانت الصلاة الاضطرارية مانعية ومعجزة عن الصلاة الاختيارية إذن هو خوطب بالصلاة الاختيارية بشرط عدم السبق، وان لم تكن الصلاة الاضطرارية مانعا إذن فهو خوطب بالصلاة الاختيارية على نحو لا بشرط فهو قد أمر بالصلاة الاختيارية جزما لأنه قادر عليها إذ ما دام قادر على صرف الوجود فهو قادر على الصلاة الاختيارية بين الحدين لكن لا يدري خوطب بها بشرط لا يعني بشرط أن لا يصلي الصلاة الاضطرارية قبلها لأنه متى ما صلى الصلاة الاضطرارية قبلها تعذر عليه الإتيان بها أو خوطب بها لا بشرط لأنه لا اثر لها، هل هذا من موارد الشك في القدرة؟ إنما هو من موارد الشك في حدود ما هو المأمور به هل أن المأمور به الصلاة الاختيارية بشرط لا عن السبق الاضطرارية أو لا بشرط عن سبقها إن كانت بشرط لا إذن هو غير قادر إن كانت لا بشرط فهو الآن قادر فالمأمور به مردد بين ما هو مقطوع القدرة وبين ما هو مقطوع عدم القدرة لا أن المأمور به معلوم ويشك محضا بالقدرة عليه إذن مورد الشك في القدرة الذي جرى المرتكز العقلائي على عدم معذرية احتمال العجز ما إذا علمت حدود المأمور به وكان الشك متمحضا بالقدرة عليه أما إذا كان أصل المأمور به معلوم الحدود بل دار الأمر بين كونه بشرط لا أو لا بشرط فهذا ليس من موارد الشك في القدرة حتى يأت فيه هذا البحث ومع ذلك في المقام لا تجري أصالة البراءة؛ والسر في ذلك انه من موارد الشك في الامتثال لأنه يقطع بأنه خوطب بالصلاة الاختيارية قطعا إن كانت الصلاة الاختيارية مشروطا بشرط لا يعني بشرط عدم سبق الاضطرارية فهي ليست صحيحة في حقه وإن كانت لا بشرط فالصلاة صحيحة في حقه إذن الأمر بالصلاة الاختيارية معلوم والشك إنما هو في امتثاله وإجراء البراءة عن الشرطية لا يفيده إلا في المبادرة لا في الإجزاء فلو قال قائل بما انه يشك هل أن المأمور به لا بشرط أو بشرط لا فليجري البراءة نقول جريان البراءة عن البشرط لا أثره جواز المبادرة للصلاة الاضطرارية لا أن أثره إجزاء الصلاة الاضطرارية عن الصلاة الاختيارية.

إذن فنتيجة البحث عدم جريان البراءة في المقام لأن المورد من موارد الشك في الامتثال وجريان البراءة عن الشرطية لا يثبت تحقق الامتثال لا انه من موارد الشك في القدرة.

الصورة الثالثة والأخيرة: إذا احتمل الأمرين احتمل أن صلاته الاضطرارية وفت بتمام الملاك واحتمل بأن صلاته الاضطرارية عجزت عن استيفاء الملاك فهو يحتمل الأمرين ويحتمل عدمهما ففي مثل هذه الصورة يكون حكمه حكم الصورة الأولى وهو يقول: إن كانت صلاتي الاضطرارية وافية بتمام الملاك فانا لم أكن مكلفا بالصلاة الاختيارية بل مكلف بالجامع بين الصلاة الاضطرارية أو انتظر واصلي الصلاة الاختيارية لأن كلا منهما واف بتمام الملاك وان لم تكن صلاتي الاضطرارية وافية بتمام الملاك فانا مكلف بالصلاة الاختيارية إذن يدور الأمر في حقي بين التخيير والتعيين إن كانت صلاتي الاضطرارية وافية بتمام الملاك في علم الله فانا في علم الله مخاطب بالجامع بين الاختياري والاضطراري يعني مخير بينهما وإن كانت صلاتي الاضطرارية في علم الله لا تفي بالملاك فانا مكلف ابتداء وتعيينا بالصلاة الاختيارية ففي حقي يدور الأمر بين التعيين والتخيير ومقتضى البراءة عن التعيين في التكليف هو إجزاء صلاته الاضطرارية.

تم الكلام في هذا البحث.

والحمد لله رب العالمين