الدرس 69

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام فيما ادعي أن النسبة بين صحيح لا تعاد وبين الأدلة الأولية التي عبرت بالإعادة نسبة التباين فمن جهة يقول: «من رأى بثوبه دما فصلى أعاد الصلاة» وهذا يدل على مانعية نجاسة الدم من صحة الصلاة ومن جهة أخرى يقول «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة» فيدعى أن النسبة بين «أعاد» و«لا تعاد» نسبة التباين فإذا كانت النسبة بينهما نسبة التباين يتساقطان في محل البحث وهو الجاهل القاصر أي من صلى مع وجود دم في ثوبه جاهلا قاصرا فإن صلاته صحيحة بمقتضى صحيح لا تعاد وفاسدة بمقتضى الدليل الأولي القائل «من رأى بثوبه دما فصلى أعاد الصلاة» وبعد تساقطهما فالمرجع الأوامر التي لم يعبر فيها بلسان الإعادة فإن مقتضى الأوامر التي لم يعبر فيها بعبارة الإعادة هو عدم صحة صلاته فلابد أن يعيدها.

وذكرنا أن هذا الإشكال أجيب عنه بوجوه: ووصل الكلام إلى الوجه الثالث:

ومحصل هذا الوجه: أن النسبة بين «لا تعاد» وبين كل دليل من هذه الأدلة وان كانت نسبة العموم من وجه ولكن النسبة بين صحيح «لا تعاد» ومجموع الأدلة نسبة الخاص للعام فإذا لاحظنا دليل جزئية السورة على حدة، دليل مانعية الدم على حدة، دليل مانعية ما لا يؤكل لحمه، فلا محالة سوف تكون النسبة عموما من وجه فدليل «لا تعاد» مع دليل مانعية الدم أو مع دليل جزئية السورة النسبة عموما من وجه ولكننا نلحظ مجموع الأدلة الواردة في بيان الأجزاء والشرائط والموانع كدليل واحد فإذا لاحظنا مجموع الأدلة كدليل واحد صارت النسبة بين صحيح «لا تعاد» وبين هذا المجموع نسبة الخاص للعام ارتفعت نسبة التباين لأن المجموع عام يشمل العالم والناسي والجاهل والفرائض والسنن بينما صحيح «لا تعاد» ناظر للناسي والجاهل القاصر إذا اخل بسنة من السنن لا ما إذا أخل بالفريضة فإن السنة لا تنقض الفريضة فإن «لا تعاد» اخص.

ولكن هذا البحث وإن لم يحرر في الأصول في بحث حجية الظواهر ولكن اشرنا إليه هناك بأنه: هل الظهور المجموعي تترتب عليه سائر آثار الدليل الظاهر لدى المرتكز العرفي أم لا فهناك مثلاً أثران:

الأثر الأول: كاشفية الظهور عن المراد الجدي فإن هذا من آثار الظهور فهل هذا الأثر يترتب على الظهور المجموعي مثلاً إذا راجعنا أخبار تحليل الخمس للأمامية فنجد أن بعض أخبار التحليل ناظر لزمن الحضور وبعض أخبار التحليل ناظر لزمن الغيبة وبعضها ناظر لسهم الإمام وبعضها مطلق وبعضها ناظر لمطلق الخمس وبعضها ناظر للخمس المنتقل ممن لا يخمس لمن يخمس وأمثال ذلك فيقال حينئذ فلتلاحظ أخبار التحليل بما هي مجموع فما هو الظهور الذي يتشكل نتيجة ضم بعضها للبعض الآخر بحيث تصبح بمثابة الدليل الواحد فيقال: إذا لوحظ مجموع أخبار التحليل بتقرين - يعني بجعل بعضها قرينة على البعض الآخر وضم بعضها للبعض الآخر - كان مفاد الظهور المجموعي أن موضوع التحليل الخمس المنتقل ممن لم يخمس لمن يخمس فكاشفية الظهور عن المراد الجدي نقول: نعم هذا الأثر يترتب على الظهور وإن كان ظهورا مجموعيا.

الأثر الثاني: وهو ملاحظة النسبة بين الأدلة، لأنّ ملاحظة النسبة بين الأدلة فرع ظهورها يعني إذا تحقق الظهور لدليل لوحظت النسبة بينه - بناء على ظهوره - ودليل آخر فهل النسبة تباين، عموم من وجه، عموم وخصوص مطلق، نسبة الحاكم للمحكوم نسبة الوارد للمورود هذه كلها فرع الظهور فهل هذا الأثر أيضاً يترتب على الظهور المجموعي بمعنى أن مجموع الأدلة يعتبر طرفا للنسبة فتلاحظ النسبة بينه وبين دليل آخر هل النسبة تباين أم نسبة العموم والخصوص وأشباه ذلك.

نقول: لا نحرز ذلك فإن كون الظهور طرفا للنسبة عرفا إنما يكون فرع رؤية العرف له دليلا مستقلا فيقول العرف هذا الدليل المستقل وهذا الدليل المستقل ما هي النسبة بينهما؟ نحن لا ندعي العدم بل نقول لا نحرز، فما لم يرَ العرف أن هذا دليل مستقل ظاهر في معنى فإنه لا نحرز أن بناءه على ملاحظة النسبة بينه وبين دليل آخر، فمجرد أن الظهور المجموعي يعتد به في مقام الكاشفية عن المراد الجدي هذا شيء، وان العرف يرتب عليه جميع الآثار ومنها أثر الدليل الظاهر لا أثر الظهور فإن ترتيب أثر الدليل الظاهر على الظهور المجموعي غير محرز بملاحظة المرتكز العرفي وبالتالي: ملاحظة النسبة بين صحيح «لا تعاد» ومجموع الأدلة الواردة في الأجزاء والشرائط لم يحرز عرفيته.

الوجه الرابع: هذا كذلك يبتني على قاعدة أصولية لم تنقح في الأصول: أن يقال أنه هناك مقدمتان:

المقدمة الأولى: إذا وجد عندنا دليلان وكان تقديم احدهما على الآخر يوجب إلغاءه من أصله بينما لو قدم الثاني على الأول للزم تخصيص عمومه لا إلغائه من أصله فمثلا لو كان عندنا ألف وباء فلو أخذنا بألف للزم إلغاء باء ولكن لو أخذنا بباء لا يلزم إلغاء ألف وإنما يلزم تخصيصه فمقتضى الجمع العرفي بينهما أن نقدم باء على ألف وهذه احدى النكات لتقديم الخاص على العام فإنه ما هو السر في تقديم الخاص على العام؟ بعضهم قال: السر هو القرينية، وبعضهم قال: السر هو الأظهرية، وبعضهم قال: السر لو قدم العام عليه للزم إلغائه، بينما لو قدم هو على العام لم يلزم إلا التخصيص، وحيث إن الضرورات تقدر بقدرها بنظر العرف فالمتعين هو التخصيص هذه المقدمة الأولى مسلمة لا نقاش فيها.

والكلام في المقدمة الثانية: عندنا في المقام مجموعة من الخطابات في جهة وصحيح «لا تعاد» في جهة أخرى ففي الجهة الأولى عندنا من «صلى بالدم أعاد صلاته» هذا دليل «من صلى فيما لا يؤكل لحمه أعاد صلاته» هذا دليل آخر «من قهقه في صلاته أعاد الصلاة» هذه مجموعة من الأدلة وبإزاء هذه المجموعة يوجد عندنا صحيح «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة.. والسنة لا تنقض الفريضة» فحينئذ يقال بأنه أمامنا عدة طرق للجمع بين الجهة الأولى وهي مجموع الأدلة وبين صحيح لا تعاد:

الطريق الأول: أن نأخذ بمجموع الأدلة ولازم ذلك طرح «لا تعاد» لأنك إذا أخذت بهذه العمومات على إطلاقها أن «من قهقه في الصلاة أعاد» يعني عالما جاهلا ناسيا بالنتيجة لزم طرح «لا تعاد» فلو أخذنا بعموم هذه الأدلة لزم من ذلك طرح «لا تعاد».

الطريق الثاني: أن نخصص عموم هذه الأدلة بلا تعاد بمعنى أن نلحظ هذه الأدلة دليلا واحدا بمثابة العام ويكون «لا تعاد» بالنسبة إليه بمثابة الخاص وهذا ما أشكلنا عليه فيما مضى من الوجه بأننا لا نحرز بناء العرف على ملاحظة النسبة بين مجموع الأدلة ودليل فنأتي إلى

الطريق الثالث: فنقول حيث نعلم بأنه لا يمكن طرح لا تعاد إذن فعموم الأدلة الأولية مخدوش ولو في بعضها فيحصل لنا علم إجمالي بسقوط أصالة العموم في بعض هذه الأدلة إذ أنه ما دمنا نعلم أن لا تعاد لا تسقط ومفاد لا تعاد أن من صلى مع الخلل بالسنة جاهلا قاصرا أو ناسيا فصلاته صحيحة ما دام لا تعاد لا تسقط إذن أصالة العموم في بعض هذه الأدلة - لا أقل - ساقط، والعلم الاجمالي بسقوط أصالة العموم في بعض الأدلة يوجب التعارض بينهما يسمى تعارض داخلي تعارض بالعرض والسر في ذلك ما ذكر في بحث التعرض، حيث ذكرنا في أول بحث في بحوث تعارض الأدلة أن المناط في التعارض العلم الإجمالي بالكذب، فيتحقق التعارض بين الأدلة متى ما علمنا إجمالا بكذب واحد منها، حيث إن كل دليل بمقتضى ظاهره يكون أنا الصادق وذاك الكاذب فيقع التعارض بينها وحيث علمنا هنا إجمالا أن أصالة العموم في بعض الأدلة الأولية ساقط وقع التعارض بين هذه الأدلة الأولية تعارضا داخليا فإذا تعارضت فيما بينها تساقطت فإذا تساقطت بقي لا تعاد بلا معارض فيؤخذ بما لا تعاد لا من باب أنه مخصص للعمومات بل يؤخذ به من باب انه بلا معارض لأن هذه العمومات تعارضت فيما بينها بسبب العلم الإجمالي بسقوط أصالة العموم في بعضها. فهل هذه النكتة تامة أم لا؟

فالكلام فعلا في بحث هذه النكتة، ومن اجل بيان ذلك نذكر مثالا: لو ورد عندنا ثلاثة أدلة: دليل يقول «يجب اكرام كل عالم» ودليل يقول «يكره اكرام كل جاهل» ودليل يقول «يحرم اكرام كل فاسق» فهنا اذا لاحظنا النسبة بين الدليل الثالث مع كلٍ من الدليلين الاولين كانت النسبة عموما من وجه ولذلك يقع التعارض بين الدليل الثالث وبين كل واحد من الدليلين الاولين في مورد الاجتماع، فيتعارض الدليل الثالث مع الاول في العالم الفاسق، ويتعارض الثالث مع الثاني في الجاهل الفاسق، فبهذا اللحاظ يكون الثالث متعارضا مع كلٍ من الاول والثاني بنحو العموم من وجه، ولكن لو لوحظ الثالث مع مجموع الدليلين الاولين - وهما غير متعارضين في انفسهما اذ لا منافاة بين وجوب اكرام كل عالم وبين كراهة اكرام كل جاهل - واعتبرناهما دليلا واحدا، فحينئذ لو قدمنا هذا الدليل الواحد على الدليل الثالث للزم لغويته اذ لا يبقى تحته مورد، لأن كل فرد اما هو عالم فيجب اكرامه بمقتضى الاول، واما جاهل فيكره اكرامه بمقتضى الثاني، فلم يبقَ مورد لحرمة اكرام الفاسق، فاذا لزم لغويته هل نخصص به مجموع الدليلين الاولين؟ ولكننا قلنا ان هذا غير عرفي، فما العمل؟

هنا أفاد السيد الشهيد «قدّس سرّه» بأنه الصحيح ما ورد في الاستدلال وهو بعد أن علمنا أن الأخذ بمجموع الدليلين الأولين يلزم منه إلغاء الدليل الثالث وطرحه إذن قامت لدينا حجة إجمالية على أن أصالة العموم في بعض من الدليلين الأولين ساقطة فإما أصالة العموم في قوله «يجب إكرام كل عالم» ساقطة أو أصالة العموم في قوله «يكره إكرام كل جاهل» ساقطة، فبعد علمنا ولو بمقتضى الجمع العرفي أن الدليل الثالث لا يطرح إذن الدليل الثالث يشكل حجة إجمالية فإذا كان يشكل حجة إجمالية على التخصيص إذن أصالة العموم في واحد من الدليلين ساقطة فإذا كانت أصالة العموم في واحد من الدليلين ساقطة وقع التعارض الداخلي بينهما فإذا وقع التعارض الداخلي بينهما تساقطا وبقي الدليل الثالث بلا معارض وهو قوله «يحرم إكرام أي فاسق».

واستدل السيد الشهيد «قدّس سرّه» على هذا الوجه وهو رفع المعارض للدليل الثالث، استدل على ذلك بأن نكتة التعارض بين الأدلة دائما هي الترجيح بلا مرجح وهذه النكتة غير شاملة للمقام والسر في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين