الدرس 70

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى مطلب اصولي سيال له موارد عديدة وهو: أنه لو ورد عندنا ثلاثة أدلة الف وباء وجيم وكان بين جيم وكل واحد من الف وباء تعارض ولكن ليس بين الف وباء تعارض وإنما لو لوحظ مجموعهما دليلا واحدا للزم من الأخذ به إلغاء جيم فهل مقتضى الصناعة أن تتحقق المعارضة فيقال جيم معارض بالف ومعارض بباء أو مقتضى الصناعة خروج جيم من المعارضة بأن يقال: أن هناك تعارضا بالعرض بين الف وباء فيتساقطان لأجل التعارض بالعرض ويبقى جيم بلا معارض.

وقد مثلنا له بالامس بما إذا قال «يجب إكرام العالم» هذا الف «ويكره إكرام الجاهل» هذا باء «ويحرم إكرام الفاسق» هذا جيم فهنا بين جيم وهو حرمة إكرام الفاسق وبين الف وهو وجوب إكرام العالم تعارض في العالم الفاسق وبين جيم وهو حرمة إكرام الفاسق وبين باء وهو كراهة إكرام الجاهل تعارض في الجاهل الفاسق فبين جيم وبين الف وباء تعارض لكن بين الف وبين باء لا يوجد تعارض فإن الف يقول يجب إكرام العالم وباء يقول يكره إكرام الجاهل فلا تعارض بينهما ولكن لو جعلناهما دليلا واحد واخذنا به بمعنى اننا نكرم كل عالم وكل جاهل لم يبق تحت قوله يحرم إكرام الفاسق مورد فيلزم من العمل بالاولين إلغاء الثالث، والسؤال الرئيس الذي هو محط نظر الاصوليين هو: هل في مثل هذا الفرض يكون جيم وهو حرمة إكرام الفاسق موردا للمعارضة فلا يستطيع الفقيه أن يفتي باي دليل لأن التعارض مستحكم أو أن يقول الفقيه: حصل تعارض بين الف وباء لا بالذات لانهما بالذات ليسا متعارضين الف يقول يجب إكرام العالم وباء يقول يكره إكرام الجاهل ولكن يوجد تعارض بينهما بالعرض وهو أنه لما علمنا بحجية مدلول جيم، أصل مدلول جيم حجة إذن معناه الفاسق خارج اما خارج عن الأول وهو قوله «يجب إكرام العالم» أو خارج عن الثاني وهو قوله «يكره إكرام الجاهل» فعلمنا بحجية مدلول جيم يلازم أن أصالة العموم في واحد من الدليلين الف أو باء ساقطة لأن الفاسق خارج اما خارج عن الأول أو عن الثاني فهنا لدينا حجة إجمالية وهو قوله «يحرم إكرام الفاسق» هذه حجة إجمالية على أن أصالة العموم في الف أو باء ساقطة وبعد أن علمنا بأن أصالة العموم في احداهما ساقطة وقع بينهما تعارض بالعرض يعني التكاذب في المدلول الالتزامي لأن أصالة العموم في «يجب إكرام العالم» تقول الساقط هو باء وهو «يكره إكرام الجاهل» والمدلول الالتزامي في «يكره ا كرام الجاهل» يقول الساقط هو الف فيتكاذبان في المدلول الالتزامي فيقع بينهما بالعرض فهل نقول يسقط الف وباء لتعارضهما بالعرض أي تكاذبهما في المدلول الالتزامي ويبقى جيم بلا معارض فيؤخذ به أو أن جيم طرف في المعارضة هذا هو محل النزاع وهو لب البحث.

فان قلت: بأن تعارض ألف وباء بالعرض فرع حجية اطلاق جيم، فلولا حجية اطلاق حرمة اكرام الفاسق لما حصل تعارض بالعرض بين وجوب اكرام العالم وبين كراهة اكرام الجاهل، فاذا كانت حجية جيم بعد تعارضهما بالعرض لزم الدور، أي: تعارضهما بالعرض انما يتحقق اذا كان اطلاق جيم حجة، وانما يكون اطلاق جيم حجة اذا سقطا بالتعارض بالعرض فيلزم من ذلك الدور.

قلت: التعارض بالعرض بين الف وباء فرع حجية جيم في أصل مدلوله لا فرع حجية جيم في إطلاقه، لأنّه بمجرد أن يقول «يحرم إكرام الفاسق» علمنا بأن الفاسق في الجملة خرج فاذن هذا الفاسق الذي خرج في الجملة اما خرج عن الجاهل أو خرج عن العالم فحصل التعارض بالعرض بين إطلاق قوله «يجب إكرام العالم» وبين إطلاق قوله «يكره إكرام الجاهل» فالتعارض بين الاطلاقين بين الف وباء بالعرض فرع حجية جيم في أصل مدلوله وحجيته في أصل مدلوله ليست محل الكلام إنما الكلام في حجية إطلاقه وبعد تعارضهما بالعرض وتساقطهما يكون إطلاق جيم لا أصل مدلوله - على هذا المبنى - بلا معارض.

بعد بيان محل النزاع نقول هنا اتجاهان:

الاتجاه الأول اتجاه السيد الشهيد «قدّس سرّه» الذي يقول بأن جيم لا معارض له.

والاتجاه الثاني الذي يقول إن المعارضة مستقرة بين الجميع.

وناتي إلى الاتجاه الأول الذي طرحه السيد الشهيد وسابحثه بحثا مفصلا لأنّ هناك عدة فروع وعدة موارد ترتبط بهذه الكبرى الاصولية.

فنقول: إن السيد الشهيد «قدّس سرّه» تعرض لهذه الكبرى الاصولية متناثرا في اصوله موارد ثلاثة:

المورد الأول في بحث لا ضرر ج5 ص506 قال في نسبة القاعدة إلى الاحكام الأولية يعني ما هي نسبة لا ضرر إلى الأدلة الأولية، فقد يقال: بأن لا ضرر مقدم على الأدلة الأولية وذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول - لا يرتبط ببحثنا ولكن يرتبط ببحث امس - أن دليل القاعدة يعني قاعدة لا ضرر إذا قيس إلى مجموع أدلة الاحكام واطلاقاتها كانت لا ضرر اخص منها إذا لاحظنا مجموع أدلة الاحكام دليلا واحدا ولا ضرر طرف صار دليل لا ضرر اخص فتقدم عليها وان كانت النسبة بين لا ضرر وكل واحد من الأدلة نسبة العموم من وجه إذا نلاحظ النسبة بين لا ضرر وبين قوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم عموم من وجه إذ قد يجب الوضوء ولا ضرر وقد يكون ضرر بغير الوضوء فالنسبة بينهما عموم من وجه ولكن إذا لاحظنا لا ضرر مع كل الاحكام واعتبرنا الاحكام كلها دليلا واحدا كانت لا ضرر اخص وليست اعم من وجه فتقدم عليها بالتخصيص.

واعترض عليه السيد الاستاذ الخوئي «قدّس سرّه» بأن المعارضة إنما تكون بين القاعدة وبين كل واحد من تلك الأدلة وليس تلحظ بين القاعدة وبين مجموع الأدلة لأنّه لا يوجد عندنا دليل يسمى بمجموع الأدلة حتّى تلحظ النسبة بينه وبينها هذا الذي يشير إليه المطلب الذي ذكرناه امس، حيث قلنا بأن هناك فرقا بين أثر الظهور واثر الدليل أثر الظهور كاشفيته عن المراد الجدي وهذا يتحقق بالظهور المجموعي كما يتحقق بالظهور الانفرادي فإن المجموع بما هو مجموع يقرن بعضه على بعض ويدل بعضه على بعض فيتشكل ظهور مجموعي يكون كاشفا عن المراد الجدي هذا أثر الظهور، وبين أثر الدليل إذا قيل ما هي النسبة بين هذا الدليل وذاك الدليل فإن هذا من أثر ما يعد دليلا بنظر العرف واعتبار مجموع الروايات دليلا يحتاج إلى مؤونة وهذه المؤونة مما لا نحرز بناء العرف عليها إذن فهذا الكلام غير تام.

لكن السيد الشهيد لم يقبل هذا الاعتراض من قبل السيد الخوئي وهذا الاعتراض من قبل السيد الخوئي إنما يتم لو كان ملاك التخصيص الاظهرية أو القرينية بأن يقال يقدم الخاص على العام لأنّه قرينة، أو يقدم الخاص على العام لأنّه اظهر، فيقدم الاظهر على الدليل إذا كانا دليلين، ويقدم القرينة على ذي القرينة إذا كانا دليلين، ونحن لا نحرز أن مجموع الأدلة دليل فهنا كلامه يتم، واما إذا افترضنا أن ملاك التخصيص معاملة الأدلة المنفصلة كأدلة متصلة هذا مطلب النائيني أن تلاحظ المنفصلات متصلات فإذا رايتها منسجمة مع بعضها قمت بالتخصيص هذا هو الملاك، هنا أيضاً لو جمعنا الأدلة المنفصلة عن الباقر والصادق والرضا جمعناها واعتبرناها دليلا واحدا حينئذ سنرى أن المخصص منسجم معها، لا ضرر مخصص لها، قال: لزوم معاملة الأدلة المنفصلة كادلة متصلة لو كان هذا الملاك في التخصيص لصح ذلك يعني أن تعتبر الأدلة كلها كدليل واحد لأن الشارع بنفسه نصب قرينة عامة على أنه يتدرج في بيان احكامه ومقتضى هذا التدرج أن يقول الشارع لنا: لا تعتبروا كلامي أدلة منفصلة بل اعتبروها دليلا واحدا، قال: أنه يتدرج في بيان احكامه وانه في مقام اقتناص المفاد النهائي من كلامه لابد من التجميع فيما بين الأدلة فإذا قال الشارع هكذا فنحن إذن مضطرون إلى أن نعتبر كل أدلة الاحكام من يوم الرسول إلى يوم المهدي كدليل واحد ونرى النسبة بينها وبين لا ضرر فتكون مخصصة وينتهي البحث. هذا الذي ذكره السيد الشهيد في مناقشة هذا الوجه.

ولكن يلاحظ عليه: أنه لما كان اقتناص المفاد النهائي من الأدلة لا يحتاج إلى مؤونة بالنتيجة متى ما عرضت هذه الأدلة على العرف قرن بعضها إلى بعض فاقتناص المفاد النهائي من مجموع هذه الأدلة لا يحتاج إلى مؤونة عرفا بل هذا مقتضى قرينية بعضها على البعض الآخر فلذلك قلنا بحجية الظهور المجموعي، واما إذا كان الأمر يحتاج إلى مؤونة عرفية وهو أن تعتبر الأدلة كلها دليلا واحدا، أي: صحيح أن الشارع تدرج في بيان احكامه إلا أن مقتضى تدرجه في بيان احكامه تقرين بعضها على بعض لا أن مقتضى تدرجه في بيان احكامه أن تعتبر الأدلة كلها دليلا واحدا، فغاية ما يستفاد من تدرج الشارع في بيان احكامه أنه لا يصح أن تعتمد على دليل دون النظر إلى الأدلة الاخرى فلا بد من تقرين بعضها إلى بالبعض الآخر هذا صحيح لكن هذا لا يعني أن جميع الأدلة بمثابة دليل واحد في مقام ملاحظة النسبة فإن هذا يحتاج إلى مؤونة وهو اعتبار الأدلة دليلا واحدا. فهل يمكن أن يقال مقتضى تدرج الشارع في بيان احكامه أن نرتب على المقيد المنفصل آثار المقيد المتصل من أنه هادم لاصل الظهور وليس هادم للحجية فهذا لا يمكن أن يقال، إذن فمجرد تدرج الشارع في بيان احكامه شيء واعتبار الأدلة دليلا واحدا هذا شيء آخر وبالتالي فحيث لا نحرز أن العرف يقوم بهذه المؤونة فاذن إشكال السيد الخوئي لازال واردا وهو أنه لا معنى لتقديم لا ضرر على الأدلة الأولية من باب تقديم الخاص على العام.

نأتي إلى الوجه الآخر الذي يرتبط بمحل كلامنا قال: أن تقديم كل الاطلاقات الأولية الوضوء والصوم وو... على دليل القاعدة وهي لا ضرر يوجب سقوطها بخلاف العكس وهو اننا لو أخذنا بالقاعدة غايته اننا لا نعمل باصالة العموم في دليل من هذه الأدلة وتقديم بعضها دون بعض بأن نعمل باصالة العموم في بعض الأدلة دون بعض ترجيح بلا مرجح فيقع التعارض بين الأدلة ولكن تعارض بالعرض. يعني لما علمنا بأن الموضوع الضرري خارج اما عن باب الوضوء أو عن باب الصوم حصل بينهما التعارض بالعرض يعني التكاذب بحسب المدلول الالتزامي.

لا يقال: بأن الاطلاقات الأولية تتعارض مثلاً قوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يتعارض مع قوله «الخمس في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير» تعارض بالعرض هذه الأدلة تتعارض بينها هذا من ناحية، وتتعارض مع إطلاق دليل القاعدة من ناحية أخرى لأن بين كل دليل وبين دليل القاعدة عموم من وجه فيسقط الجميع في عرض واحد.

فإن هناك معارضتان معارضة الاطلاقات فيما بينها ومعارضة كل إطلاق مع دليل القاعدة فتسقط الجميع في عرض واحد ولا وجه لملاحظة المعارضة الأولى اولا والحكم بسقوط طرفيها يعني سقطت الاطلاقات ثم الرجوع إلى إطلاق القاعدة بلا معارض بل الجميع في عرض واحد.

فإنه يقال: إن سر المعارضة هو الترجيح بلا مرجح فمتى يحصل التعارض بين الأدلة؟ إذا كان تقديم بعضها على الآخر يكون ترجيح بلا مرجح وببيان آخر أن يقال: أن شمول دليل الحجية للدليلين معا غير معقول لانهما متعارضان وشمولهما لاحدهما المعين ترجيح بلا مرجح فلا يشمل شيئا منهما، فالنكتة في التعارض هو الترجيح بلا مرجح فلو كان في أحد الدليلين ميزة على الآخر بحيث يكون شمول دليل الحجية له ليس من باب بالترجيح بلا مرجح ارتفعت المعارضة. فإذا كانت هذه النكتة هي السر قلنا: متى ما في أحد الدليلين مشكلتين وليس مشكلة واحد وكان في الدليل الآخر مشكلة واحدة كان هذا مرجحا لشمول الدليل لذي المشكلة الواحد على ذي المشكلتين، بيان ذلك في محل الكلام: عندنا الأدلة الأولية وعندنا دليل لا ضرر، كل دليل من الأدلة الأولية كقوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ كل دليل من هذه الأدلة مبتلى بمحذورين المحذور الأول معارضته مع لا ضرر والمحذور الثاني معارضته في نفسه مع الدليل الآخر بالعرض بالمدلول الالتزامي فهو مبتلى بمعارضتين لا بمعارضة واحدة، بينما لا ضرر مبتلى بمعارضة واحدة وهو المعارضة مع كل دليل في مورد الاجتماع لا اكثر، إذن فبالنتيجة لو قدمنا دليل لا ضرر على معارضه في مورد الاجتماع وهو ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لم يلزم إلا محذور واحد من هذا التقديم وهو الترجيح بلا مرجح لانهم كلهم في مورد الاجتماع على حد سواء بينما إذا قدمنا الأول وهو قوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم على لا ضرر في مورد الاجماع فإن هذا التقديم مبتلى بمشكلتين: محذور الترجيح بلا مرجح على لا ضرر ومحذور أنه معارض بدليل آخر من الأدلة الأولية فيلزم من تقديم لا ضرر على أي دليل يعارضه في مورد الاجتماع محذور واحد بينما يلزم من تقديم معارضه عليه في مورد الاجتماع محذوران فحيث أن في هذا التقديم محذور وفي هذا التقديم محذورين كان ذلك موجبا عرفا لانصراف دليل الحجية إلى ذي المحذور الواحد فافهم واغتنم.

قال: فإنه يقال قد مضى في بعض البحوث السابقة أنه إذا كانت هناك معارضتان ولم يمكن تقديم أحد المتعارضين بعينه في إحدى المعارضتين للزوم محذور الترجيح بلا مرجح بخلاف المعارضة الأخرى فإنه يلزم من تقديم طرفها محذور آخر، ففي المقام تقديم الإطلاقات على إطلاق القاعدة مبتلى بمحذور آخر وهو ترجيحها على الإطلاقات الأخرى بلا مرجح فلأجل ذلك يتعين شمول الدليل للقاعدة بلا معارض هذه نكتة كلامه زيد في علو مقامه.

والحمد لله رب العالمين