الدرس 77

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان البحث فيما سبق في بيان معنى الفريضة والسنة وذكرنا أنه ورد في كلمات الاعلام تفسيرات ومعان ثلاثة للفريضة والسنة:

المعنى الأول: ما ذكره سيدنا «قدّس سرّه» أن الفريضة ما فرض الله في الكتاب وان السنة ما جعله النبي صلى الله عليه واله.

والمعنى الثاني: الفريضة ما فرضه الله ولو في غير الكتاب بأن كان النبي مبلغا له، والسنة ما جعله النبي بمقتضى ولايته على التشريع وقلنا بأنه قد يستدل لهذا المعنى الثاني بأن ظاهر صحيح الفضيل بن يسار أن الركعتين الاوليين من الصلاة فريضة مع أن الله لم يفرضها في الكتاب وإنما فرض أصل الصلاة فهذا يشكل قرينة على أن المراد بالفريضة مطلق ما فرضه الله ولو لم يكن في الكتاب.

ولكن قد يشكل على هذا المعنى الثاني بعدة اشكالات:

الإشكال الأول: أن صحيح زرارة الذي قرانه وهو ح12 ب13 من ابواب اعداد الفرائض معارض لصحيح الفضيل حيث إن صحيح زرارة قال: «فزاد النبي في الصلاة سبعة ركعات هي سنة ليس فهن قراءة» إلى آخر ما قال بينما في صحيح الفضيل قال: «فاجاز الله له ذلك كله فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ثم سن رسول الله النوافل اربعا وثلاثين» فإن مقتضى المقابلة بين «فصارت الفريضة» وبين قوله «سن رسول الله النوافل اربعا وثلاثين» مقتضى المقابلة أن الركعتين الاخريين اللذين اضافهما رسول الله فريضة، إذن بين هذين التعبيرين يوجد تناف. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أن الصحيحين معا صحيح الفضيل وصحيح زرارة الذين جعل الركعتين الاخريين من رسول الله غاية الأمر أن احدهما عبرت عما جعله رسول الله أنه فريضة والاخرى عبرت بأنه سنة كلاهما معارضان بصحيح محمد بن مسلم وزرارة في ح2 ب22 من ابواب صلاة المسافر. «قلنا لابي جعفر : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال: أن الله عز وجل يقول: وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر - يعني التقصير وجب في القران نفسه - قلنا له: إنما قال الله عز وجل فليس عليكم جناح ولم يقل افعلوا فكيف اوجب ذلك؟ فقال اوليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي وذكره الله في كتابه.

فمفاد هذه الرواية أن التقصير في السفر فرض في الكتاب ومقتضى فرضه في الكتاب أن جعل الصلاة اربع ركعات بحيث تقصر في السفر أيضاً مما فرضه الله في الكتاب لا مما سنه النبي فعندما يكون مفاد هذه الرواية أن تقصير الصلاة يعني حذف ركعتين منها مما فرضه الله في الكتاب فهذا يعني بالمدلول الالتزامي أن ما فرضه الله بالعنوان الأولي اربع ركعات فلذلك فرض في السفر التقصير وقال وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إذن فبالنتيجة تتحقق معارضة بين مفاد صحيحة محمد بن مسلم الظاهرة في أن الصلاة التامة مما فرض في الكتاب مع صحيح زرارة والفضيل بن يسار الدالتين على أن هذا مما سنه النبي وهو الذي اسقطه في السفر، مؤيدا ذلك بموثق السكوني أيضاً ح11 ب22 من ابواب صلاة المسافر، عن جعفر عن ابائه عن رسول الله قال أن الله اهدى الي وإلى أمتي هدية لم يهدها إلى أحد من الإمم كرامة من الله لنا قالوا وما ذاك يا رسول الله قال: الافطار في السفر والتقصير في الصلاة فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله عز وجل هديته.

الاشكال الثاني: ظاهر صحيح عمر بن اذينة ج5 ح10 ب1 من ابواب افعال الصلاة عن أبي عبد الله في حديث طويل: أن الله عرج بنبيه فاذن جبرائيل وو... فظاهر الرواية أنه حتّى افعال الصلاة من الله عز وجل وانها كلها اكتسبها النبي في معراجه.

وموثق اسحاق سالت أبا الحسن موسى بن جعفر كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: «إذا سالت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم، أن أول صلاة صلاها رسول الله إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل جلاله وذلك أنه لما اسري به قال يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك وتوضأ فتوضا واسبغ وضوئه ثم استقبل العرش قائما فامره بافتتاح الصلاة ففعل ثم قال يا محمد اقرا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله... - حتّى الفاتحة أمر بها من قبل الله - ثم قال له اقرا قل هو الله أحد فقراها ثم امسك فقال كذلك الله ربي قال اركع يا محمد فركع فقال له وهو راكع قل سبحان ربي العظيم وبحمده - يعني كل افعال الصلاة مما فرضه الله وجعله ليلة الاعراج إلى آخر الرواية -. ثم علق عليها أبا الحسن وقال لذلك صارت الصلاة..»

النتيجة أن تفسير الفريضة بما فرضه الله في كتابه وهو المعنى الأول أو تفسير الفريضة بما فرضه الله ولو بغير الكتاب مقابل ما سنه النبي كلا هذين المعنيين محل تأمل نتيجة هذا التعارض.

المعنى الثالث للفريضة والسنة: ما ذهب إليه السيد الاستاذ دام ظله من أن الفريضة ما حدده الله في كتابه أو ورد على لسان المعصوم تفصيلا لما اجمله في الكتاب فإن كان مما ذكر في الكتاب فهو فريضة أو لم يذكر في الكتاب ولكن جاءتنا رواية تفسر الكتاب بذلك فنفهم أن هذا مما هو في الكتاب وإن لم نره في الكتاب، والسنة ما قام النبي بتحديده.

ويرشد لذلك قوله في صحيحة زرارة التي قراناها قال: وركعتا المغرب وركعتا العشاء لا يجوز الوهم في شيء منهن من وهم في شيء منهن استقبل الصلاة استقبالا وهي الصلاة - الإمام يقول وهي مع انها لم تذكر في الكتاب - التي فرضها الله عز وجل على المؤمنين في القران. والقران لم يذكر في الصلاة ركعتان والامام يقول الركعتان الاولييان هي الصلاة التي فرضها الله في القران فظاهر ذلك شمول عنوان الفريضة لما ورد تفصيلا لما اجمله الكتاب.

وكذلك صحيح محمد بن مسلم الذي قراناه الآن الذي ورد في آية التقصير في السفر قال: «إن الله عز وجل قال ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ فصار التقصير في السفر واجبا - القران لم يقل واجبا بل قال فليس عليكم جناح - كوجوب التمام في الحضر قال قلنا له لم يقل واجب بل قال ليس عليكم جناح فقال كذا وكذا» إذن فظاهر الرواية أن ما يرد تفسيرا للكتاب أو تفصيلا لما اجمله الكتاب فهو أيضاً من الفريضة فالسنة ما عداه هذا ما افاده.

ويلاحظ على ما ذكر:

أولا: هناك شق ثالث غير ما فرضه الله في كتابه أو ورد تفسيرا من قبل المعصوم ما فرضه الله واوكل بيانه للمعصوم ولم يرد بيان من المعصوم أنه من الكتاب، فما تقولون في هذا الشق، فهذا القسم هل تدخلونه في الفريضة أو تدخلونه في السنة فإن ادخلتموه في الفريضة كان هذا تاييدا للمعنى الثاني الذي يقول الفريضة مطلق ما فرضه الله ولا يختص بالكتاب وان ادخلتموه في السنة كان تاييدا للمعنى الأول الذي يقول الفريضة خصوص ما فرضه الله في الكتاب إذن فهذه الضابطة التي أفادها ليست مضطردة يعني يوجد شق ثالث.

ثانيا: بأن نقول بأنه ما ورد تفسيرا وتفصيلا للكتاب فهو من الفريضة وما سوى ذلك فهو سنة ففيما إذا لم يرد في الدليل اللفظي ما يدل على أنه تفسير للكتاب أو ما يدل على أنه منه مثل مفطرية الاستمناء إذا كان الدليل اللفظي لمفطرية الاستمناء لا ظهور له كما هو أيضاً بحثه في بحثه في الصوم استشكل في هذه الصورة، ما دل على مفطرية الاستمناء الذي لا ظهور له في كونه تفسيرا للكتاب ولا ظهور له في كونه منه في مثل هذا المورد يكون التمسك ب «ولا تنقض السنة الفريضة» تمسكا بالدليل في الشبة المصداقية.

فما افيد من المعاني الثلاثة لا يرفع الإشكال الذي نذكره في مقام التطبيق فنحن نؤمن أنه يمكن أن يكون قوله في ذيل صحيح زرارة «والتشهد سنة والقراءة سنة ولا تنقض السنة الفريضة» يمكن أن تكون كبرى عامة لباب الصلاة ولغير باب الصلاة إلا أن هذه الكبرى نتيجة لوجود معان ثلاث وعدم وجود شاهد واضح على تحديد أحد المعاني من بين المعاني الأخرى يوجب الإجمال في مقام التطبيق فنقتصر على خصوص ما ورد في الرواية بالتعبير عنه بأنه سنة أو فريضة.

فإن قلت: بأن لازم ذلك اللغوية إذا قلتم الإمام ذكر كبرى ولكن لا نستطيع تطبيقها لوجود الإجمال فلازم ذلك لغوية ذكر هذه الكبرى ألا وهي لا تنقض السنة الفريضة ما دام لا يمكن تطبيقها على مواردها لعدم تحديد معنى الفريضة والسنة

قلنا: لا لغوية في ذلك إذ يكفي في صحة جعلها كبرى تطبيقها في باب الصلاة نفسها فما دام يمكن تطبيقها في باب الصلاة فحينئذ جعلها كبرى لا يوجب لغويتها وليس امرا مستهجنا لدى العقلاء.

فيقتصر في تطبيق القاعدة على ما ثبت بالنص أنه سنة كما في صحيح معاوية بن عمار ح1 ب8 من ابواب السعي عن أبي عبدالله «قلت له: رجل نسي السعي بين الصفا والمروة قال: يعيد السعي قلت: فأنه خرج - يعني خرج من مكة - قال: يرجع فيعيد السعي، أن هذا - يعني السعي - ليس كرمي الجمار أن الرمي سنة والسعي بين الصفا والمروة فريضة» هذا لأنه ورد في النص، وكذلك صحيحة عبدالرحمن بن ابي نجران ب18 من ابواب التيمم ح1: «أنه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عن ثلاثة نفر كانوا في سفر: أحدهم جنب، والثاني ميت، والثالث على غير وضوء، وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء، وكيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب، ويدفن الميت بتيمم، ويتيمم الذي هو على غير وضوء لأن الغسل من الجنابة فريضة، وغسل الميت سنة، والتيمم للآخر جائز».

فظاهر الرواية أنه إنما قدم غسل الجنابة على غسل الميت بلحاظ الفريضة والسنة، إذن حيث ورد في نص التعبير عن عمل مركب أنه سنة طبقنا عليه القاعدة وإلا فلا، ومن تلك التطبيقات المستفادة من هذه الروايات فرض التزاحم أنه لو تزاحم واجبان وكان احدهما فريضة والآخر سنة قدم ما هو الفريضة.

هذا تمام الكلام في شمول لا تعاد لغير باب الصلاة وقلنا بأن الذيل شامل لغير باب الصلاة إنما المشكلة في مقام التطبيق.

وهذا تمام الكلام في الدليل اللفظي الثاني على اثبات صحة عمل الجاهل القاصر لأننا بحثنا كان من الأصل اين كان؟ لو أخل الجاهل القاصر بشيء في الصلاة من جزء أو شرط فهل نصحح صلاته؟ قلنا بعضهم تمسك لإثبات صحة صلاته بحديث الرفع ومر المناقشة فيه وبعضهم تمسك لإثبات صحة صلاته بحديث لا تعاد وقلنا هذا تام ومضى البحث فيه.

والدليل الثالث على صحة عمل الجاهل القاصر الذي أخل بشيء من جزء أو شرط في صلاته ما تفرد به شيخنا الاستاذ «قدّس سرّه» من التمسك بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ب9 من ابواب صفات القاضي ح4 «قلت له: ما بال اقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه قال : أن الحديث ينسخ كما ينسخ القران.

وذلك بمقدمتين ذكرهما:

الأولى: المراد بالنسخ هنا بالمعنى العرفي واللغوي لا النسخ الاصطلاحي والمراد بالنسخ اللغوي والعرفي التقييد والتخصيص فكأنه قال هناك آيات مطلقة وهناك آيات مقيدة أو هناك آيات مطلقة وياتي من الرسول ما يقيدها وكذلك هناك احاديث مطلقة من الرسول وياتي منا ما يقيدها.

المقدمة الثانية وهي الاهم: لماذا عبر بالنسخ؟ إذا كان يريد أنه يصدر منا ما يقيد احاديث رسول الله أو يصدر منا ما يقيد الآيات فلماذا عبر بالنسخ؟

إنما عبر بالنسخ للدلالة على الإجزاء فكأنه قال كما أنه لو ورد دليل فعمل به ثم ورد دليل ناسخ له فإن العمل على طبق الدليل المنسوخ مجزي ولا يعاد لأنّه عمل بحجة في ظرفه فكما أنه لو عمل المكلف بدليل ثم ورد ما ينسخه لكان عمله السابق مجزيا لأنّه عمل بحجة في ظرفه فكذلك لو عمل مسلم بإطلاق اية أو عمل بإطلاق حديث للنبي ثم ورد مقيد منا لهذه الآية أو لذلك الحديث الوارد عن النبي فإن عمله على طبق المطلق مجزي.

وهذا معناه أن الجاهل القاصر إذا استند إلى حجة في ظرف العمل فاخل بجزء أو شرط نتيجة استناده إلى حجة ثم قامت حجة على الخلاف كما لو قلد مجتهدا مات الأول فجاء الثاني فقال له: أن هذا العمل عندي باطل، فإن عمله صحيحه، أو تغير راي المجتهد مثلاً.

هذا هو وجه استدلاله بهذه الرواية «أن الحديث ينسخ كما ينسخ القران» وياتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين