الدرس 78

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أن الدليل الثالث على عدم فساد عمل الجاهل القاصر هو ما استدل به شيخنا الاستاذ «قدّس سرّه» وهو صحيح محمد بن مسلم «بال اقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله ولا يتهمون بالكذب ثم يجيء منكم خلافه قال : أن الحديث ينسخ كما ينسخ القران».

واستفاد من ذلك شيخنا الاستاذ: أن عمل الجاهل القاصر لحجة في ظرف العمل يجزيه وان انكشف له الخلاف كما أن عمل المسلم بالدليل المنسوخ يجزيه بعد ورود الدليل الناسخ فكذلك عمل الجاهل بحجة يجزيه وان انكشف له الخلاف سواء كان اخلاله بالفرائض أو بالسنن وسواء انكشف له الخلاف بوجدان بمعنى أنه قطع بالخلاف أو انكشف له الخلاف بالتعبد بمعنى أنه قامت له حجة على خلاف الحجة السابقة.

ولكن يلحظ على استدلاله «قدّس سرّه»:

اولا: أن تفسير النسخ في الرواية بمعنى التقييد والتخصيص بلا موجب فإن النسخ بمعناه العرفي ينطبق على النسخ المصطلح وهو أن يأتي دليل يوجب رفع اليد عن الدليل السابق بحسب الزمان الآتي فإن هذا نسخ عرفا فلا موجب لحمل النسخ على التخصيص أو التقييد.

وثانيا: على فرض أن المراد بالنسخ في الرواية هو النسخ بمعنى التقييد أو التخصيص فعمل المسلم بالعام قبل ورود المخصص وقبل ورود المقيد مما لا إشكال في صحته واجزائه وليس هذا محل بحث لدى الاعلام وإنما البحث لدى الاعلام في عمل المسلم بالعام مع ورود المخصص لكنه لم يصل إليه ففرق بين العمل بالعام مع عدم صدور المخصص وبين العمل بالعام مع عدم وصول المخصص إلا أنه صدر فالاستدلال بالاجزاء على الأول على الإجزاء في الثاني ليس فنيا فإن مورد الرواية ما إذا عمل بالعام ثم ورد المخصص من امام لاحق بلا إشكال عمله صحيح واما إذا افترضنا أنه صدر العام وصدر المخصص إلا أن هذا المكلف لقصوره لم يصل إلى المخصص ثم انكشف له المخصص فهل يجتزىء بعمله أم لا فهذا هو محل البحث فلا يصح فنيا الاستدلال بالإجزاء في الأول على الإجزاء في الثاني.

الدليل الرابع: التمسك بالسيرة المتشرعية بدعوى أن السيرة المتشرعية قامت على أن كل مكلف عمل بفتوى مجتهد في زمن ثم قامت لديه حجة على خلاف تلك الفتوى اما لعدول المجتهد عن رايه أو للرجوع إلى مجتهد آخر بعد فقدان الأول لبعض الشرائط مثلاً من موت أو غيره فإن السيرة المتشرعية قائمة على عدم اعادة الاعمال بمجرد الرجوع إلى الثاني.

ولكن سيدنا الخوئي «قدّس سرّه» في التنقيح في باب الاجتهاد والتقليد عندما تحدث عن الإجزاء أفاد:

بأنه اولا: لا نحرز وجود هذه السيرة المتشرعية فإن قيام حجة على خلاف الحجة السابقة مع التفات المكلف لذلك فرد نادر وليس فردا شائع الابتلاء كي يكون معقدا لسيرة متشرعية.

وثانيا: على فرض أنه فرد شائع بمعنى أن اختلاف الفقهاء في الفتوى والرجوع من فقيه إلى فقيه آخر أمر شائع الابتلاء مثلاً على فرض ذلك فلم يحرز اتصال هذه السيرة بزمان المعصوم كي تكون حجة فلعل هذه السيرة أي الاجتزاء بالعمل السابق مع قيام حجة على خلافه لعل هذه السيرة مستندة إلى بعض فتاوى الفقهاء لا انها سيرة معاصرة لزمان المعصومين واخذوها عنه كي تكون حجة.

ولكن السيد الاستاذ دام ظله في بحثه في التقليد عندما تعرض لمسالة الاجتزاء ناقش السيد الخوئي «قدّس سرّه» في عدم وجود السيرة وفي عدم إحراز اتصالها يعني ناقشه في كلا الامرين:

اما المناقشة الأولى وهي أنه هل هناك سيرة متشرعية انعقدت على عدم اعادة الاعمال مع قيام حجة على الخلاف للرجوع إلى مجتهد آخر أم لا؟ فقد أفاد بأن هذا أمر كثير جدا فإن تبين الخلاف بعد العمل بفتوى مجتهد سابق أمر كثير خصوصا في الطهارات الثلاث نظير الخلاف في أن المسح في الوضوء هل هو لقبة القدم أم للمفصل فإن هذا خلاف قديم بين الفقهاء نظير الخلاف في أن الترتيب بين الرجلين معتبر أم لا نظير الخلاف في بعض موارد التيمم هل انها مجزية أم لا فإن هذه الفتاوى المختلفة منذ نشأة الفقه لدى علماء الامامية موجودة هذه الاختلافات ومقتضى هذه الخلافات أن بعض العوام عمل بالفتوى الأولى ثم انكشف له خلافها بفتوى أخرى أو الخلاف في العقود والايقاعات وهو كثير بين الفقهاء كالخلاف في عدة المتمتع بها هل هي حيضة أم حيضتان وكالخلاف في ما يحقق الحرمة الرضاعية وهل ان المحقق للحرمة الرضاعية عشر رضعات أم خمسة عشر رضعة أم ما يشتد عليه اللحم والعظم هذا خلاف قديم أو الخلاف في أنه هل يجوز بيع المعدود بالمشاهدة أم لا وهل يجوز بيع المكيل والموزون بربح قبل قبضه أم لا وامثال ذلك من الخلافات الموجودة في كلمات فقهائنا المتقدمين فمقتضى هذه الاختلافات ورجوع العوام إلى هؤلاء الفقهاء أن هذه الحالة وهي أن يعمل المكلف بفتوى ثم تقوم فتوى على خلافها أن تكون هذه الحالة شائعة وليست حالة نادرة فإذا كان مع شيوع هذه الحالة ومع تعارفها مع ذلك جرت السيرة على عدم اعادة الاعمال إذن فهناك سيرة متشرعية على عدم الإعادة لا أن السيرة غير موجودة.

والمناقشة الثانية وهو دعوى أن هذه السيرة متصلة بزمان المعصوم أو انها سيرة حادثة فقد أفاد دام ظله بحسب التقرير المخطوط في بحث التقليد: أن تغير راي الفقيه في زمان المعصوم أو ما قاربه كثير وذلك لعدة اسباب وعوامل منها:

العامل الأول: عدم احاطة غالب الفقهاء بمجموع الاحاديث حيث إن الكتب لم تكن منتشرة ولم تكن جميع الاحاديث مدونة كما في زماننا هذا فالفقيه في تلك الازمنة قد يفتي على طبق حديث نتيجة عدم احاطته بالاحاديث الأخرى ثم يلتفت إلى الاحاديث الأخرى فيتغير رايه هذا عامل من العوامل.

العامل الثاني: عدم تنقيح المباني الاصولية حيث إن المباني الاصولية في زماننا هذا لم تكن بهذا النحو من الدقة ولم تكن بهذا النحو من العمق والتركيز في تلك الازمنة فعدم تنقيح المباني الاصولية سبب من اسباب أن يفتي برأي ثم يعدل عنه إلى غيره نتيجة نضوج علمه أو خبرته واشبه ذلك.

والعامل الثالث: اختلاف الاحاديث فإن الاحاديث الصادر عن الائمة مختلفة في حد ذاتها فربما يسمع الفقيه حديثا فيبني عليه والحال بأن له حديثا معارضا.

إذن فلأجل هذه الاسباب الثلاثة التي كانت قائمة في زمان المعصوم وفي الزمان الذي تلاه كان تغير فتاوى الفقهاء واختلافهم امرا شائعا وإذا كان امرا شائعا ومع ذلك انعقدت سيرة في زمان المعصوم على عدم الإعادة إذ لو كان هناك اعادة لوصلنا ولو بالسؤال ونحن لم نجد ولا في رواية واحدة سؤالا من قبل أحد الرواة أنه من عمل بفتوى زرارة ثم انكشف له الخلاف من عمل براي يونس ثم انكشف له الخلاف من عمل براي ابان ثم انكشف له الخلاف فما هو حكمه، فهذا شاهد على أن السيرة كانت منعقدة على عدم الإعادة وبالتالي فبما انها سيرة معاصرة للمعصوم أو تالية لزمان المعصوم بحيث لا يعقل نشأها دفعة واحدة، إذن فهذا دليل على أن هذه السيرة مستندة إلى اقرار المعصوم وامضائه.

وفي النفس تأمل فان دعوى وجود حالة متعارفة في زمن النصوص وهي التفات المتشرعة الى قيام حجة مخالفة للحجة السابقة مع تباعد الأمصار وتباعد الفقاء فيه تأمل.

واستدل السيد الاستاذ دام ظله ثانيا على الإجزاء بأن ما دل على صحة عمل المخالف بعد استبصاره مع اخلاله بالفرائض ومع عدم واجديته لشرط الايمان دال على صحة عمل المؤمن إذا استند إلى حجة ثم قامت حجة على الخلاف إذ لا يحتمل أن يكون المخالف احسن حالا من المؤمن فالمخالف الذي عمل بفتاوى مالك وابي حنيفة واحمد بن حنبل وامثالهم ثم استبصر فإن صحيح زرارة يقول: «كل عمل عمله حال نصبه وضلالته فإنه يؤجر عليه إلا الزكاة فإنه وضعها في غير مواضعها» فإذا كان عمل الناصبي والضال مجزيا مع اخلاله بالفرائض عن عمد ومع ذلك اجتزئ بعمله بعد استبصاره فكيف يقال بأن المؤمن إذا عمل بحجة كفتوى ابان ثم قامت لديه حجة أخرى كفتوى ابن أبي عمير على خلافه فإنه يعيد فان هذا يعني أن المخالف احسن حالا من المؤمن.

ويلاحظ على ما افيد أنه لعل سر القول بالإجزاء في عمل المخالف أن عمله لا يقبل التصحيح فإن الحالة - كما في بعض الروايات - التي كان عليها اعظم وأسوأ من أن يعيد عمله فلعله الحكم باجزاء عمله لأنّه لا يقبل التدارك والتصحيح بخلاف عمل الامامي فإنه واجد لملاك الإعادة والتصحيح فلذلك يعيد. ومما يؤيد اختصاص هذه النصوص بالمخالف انها فرضت القول بالاجزاء حتّى مع تقصيره وتعمده للبقاء على مذهب العامة مع ذلك إذا استبصر حكم باجزاء عمله فكيف يعمم إلى محل كلامنا، فهذا نظير قيام الدليل على أن لكل قوم نكاحا والذي على اثره صححنا نكاح الكافر فضلا عن المخالف فهل يمكن على اساس هذا الدليل أن نقول: إذا عقد الامامي عقد على طبق فتوى مجتهد ثم قامت حجة من مجتهد آخر على خلافه فإنه يصح نكاح الأول لأن لكل قوما نكاحا إذن ما دامت الخصوصية محتملة عرفا فالتعدي إلى محل الكلام مشكل جدا.

والمتحصل: أنه لو سلمنا بقيام السيرة على الاجتزاء بعمل الجاهل القاصر مع قيام حجة على الخلاف فلأن السيرة دليل لبي فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن والقدر المتيقن منها أن لا يقوم انكشاف وجداني على الخلاف وإنما انكشف الخلاف بحجة أخرى لا وجدانا كما أن القدر المتيقن منها الاخلال بالسنن لا ما يشمل الاخلال بالفرائض، بل قد يقال أن القدر المتيقن منها ما كانت الإعادة له موردا لحرج نوعي على الناس فلعل السيرة في زمان المعصومين على الاجتزاء وعدم الإعادة باعتبار أن في الإعادة حرجا نوعيا على العامة فملاك الاجتزاء هو الحرج النوعي لذلك فالقدر المتيقن من هذه السيرة هو ما يستلزم اعادته الحرج لا مطلقا فتأمل واغتنم وياتي الكلام في بقية الأدلة يوم السبت إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين