الدرس 83

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أن كلام سيد المنتقى «قدّس سرّه» محل تامل في عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أنه قسّم الحكومة في الجزء السادس إلى اقسام اربعة وجعل الجامع بينها هو أن الحكومة: عبارة عن تعرض دليل لحال دليل آخر، والسؤال هو هل أن المقوم للحكومة هو التعرض بحسب اللسان أو التعرض بحسب الجعل والاعتبار فهل الحكومة من شؤون عالم اللسان أم أنها من شؤون عالم الجعل والاعتبار، فإذا قلنا بأن الحكومة صفة للسان الدليل بمعنى أن يكون لسان أحد الدليلين متعرضا للدليل الاخر سواء تضمن هذا الدليل المتعرض جعلا جديدا أو اعتبارا جديا أم لم يتضمن فالمهم أن لسانه لسان التعرض للدليل الآخر كما هو المعروف في تعريف الحكومة، فبناء على ذلك سوف تدخل سائر هذه الاقسام في الحكومة حتّى الدليل الذي يكون الغرض منه مجرد جعل حكم مماثل كما إذا قال «لا صلاة إلا بطهور» وقال في دليل آخر «الطواف بالبيت صلاة» واحرزنا أن الدليل الآخر لا يتكفل إلا جعل حكم مماثل لما في الدليل الأول فما دام الدليل الثاني بحسب لسانه متعرض للدليل الأول فهو حاكم.

واما إذا قلنا بأن الحكومة من شؤون عالم الاعتبار بمعنى أن الدليل الثاني يتعرض للاول تعرضا اعتباريا بأن يتضمن الدليل الثاني توسعة في عالم الاعتبار أو تضييقا مع غمض النظر عن لسانه وصياغته فإذا اعتبرنا في الحكومة ذلك فلا محالة سوف لن يبقى تحت اقسام الحكومة إلا القسم الثالث لأن القسم الأول هو مجرد اخبار عن أن الدليل الأول شامل كما لو قال «حرمت عليكم الخمر» وقال «الفقاع خمر» فإنه لا يتضمن أي تغيير في وعاء الاعتبار بل هو مجرد اخبار كما أن القسم الثاني وهو أن يتضمن الدليل الثاني ادعاء لفرد من الافراد مع أنه ليس فردا في الحقيقة كما لو قال «لا بد للمراة من أن تحج بمحرم» وقال في دليل آخر «المؤمن محرم المؤمنة» فإذا كان مفاد قوله «المؤمن محرم المؤمنة» مجرد ادعاء ليس اعتبار إذن فبالنتيجة يخرج هذا عن باب الحكومة وكذلك القسم الرابع وهو ما إذا كان مفاد الدليل الثاني جعل حكم مماثل من دون أي تصرف اعتباري في الدليل الأول فإن مقتضى ذلك خروجه عن باب الحكومة.

الملاحظة الثانية في كلامه: أنه في الجزء السادس ص405 فرق بين الحكومة والورود - طبعا ذكرها المقرر في الحاشية ونسبها إلى السيد «قدّس سرّه» - قال عُرفَت الحكومة: بكون أحد الدليلين متصرفا في موضوع الدليل الآخر بتضييقه أو بتوسعته ولا باس بتحقيق هذه الجهة مع غمض النظر عما ذكر في المتن فنقول: اما دليل التوسعة فما يتكفل منه بيان فرد حقيقي كقوله «الفقاع خمر استصغره الناس» على احتمال قريب - يعني على احتمال أن مفاده هو بيان فرد حقيقي - فهو لا يستلزم توسعة في المدلول في قوله «حرمت عليكم الخمر» لا توسع شيء - ودلالة الدليل إذ الحكم وارد على الموضوع المقدر الوجود - وهو الأول وهو قوله الخمر نجس فالحكم هنا مرتب على موضوع مقدر الوجود - والدليل المزبور وهو قوله «الفقاع خمر» يكشف عن انطباقه على المورد الخاص وهو الفقاع وهو لا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم أصلا، موضوع الحكم كما هو، وما يتكفل منه اعتبار فرد للموضوع كما يقال في مثل «الطواف بالبيت صلاة» فإن كان - الآن ناتي إلى القسم الثاني - ظاهر الدليل الأول وهو قوله «لا صلاة إلا بطهور» كون موضوعه اعم من الفرد الحقيقي والاعتباري - يعني أن قوله «لا صلاة إلا بطهور» مع غمض النظر عن الدليل الثاني إذا القي إلى المتشرعة يفهمون أن المراد بالصلاة الاعم من الصلاة الحقيقية والصلاة الاعتبارية - فلا يكون دليل الاعتبار وهو قوله «الطواف بالبيت صلاة» موجبا لتوسعة الدلالة بل يتكلف إيجاد فرد للموضوع وتحقيقه نظير اشتغال الشخص بالتحصيل - يعني عندنا دليل يقول «اكرم كل عالم» وشخص يريد أن يصير عالم ليدخل تحت الدليل - وصيروته عالما فإن صيرورة هذا الشخص عالم لا يوسع في الدليل الأول ولا يضيقه في شيء إنما اوجد فردا له ايجادا تكوينيا، فهنا في مثل هذا الفرض يكون دليل الاعتبار وهو قوله «الطواف بالبيت صلاة» واردا لا حاكما يعني متى ما كان ظاهر الدليل الأول في نفسه اعم من الفرد الحقيقي والاعتباري إذن أي دليل جديد يتكفل اعتبارا يكون واردا لا حاكما لأنّه لا يوسع في الأول ولا يضيق وإنما يوجد فردا له ايجادا تكوينيا، وإن لم يكن ظاهر الدليل الأول ذلك - لا، نحن عندما سمعنا لا صلاة إلا بطهور انقدح في ذهننا كمتشرعة الفرد الحقيقي للصلاة وهو المؤلف من هذه الإجزاء والشرائط - فنفس دليل الاعتبار يعني الثاني الذي قال «الطواف بالبيت صلاة» يدل على توسعة في موضوع الأول وانه يشمل الفرد الاعتباري بواسطة دلالة الاقتضاء، إذن الفرق بين الحكومة والورود بحسب هذه الضابطة المذكورة في الجزء السادس ترجع إلى ظاهر الدليل الأول.

فالدليل الثاني على كل حال يتضمن اعتبار لكن إن كان ظاهر الدليل الأول أن موضوعه اعم من الفرد الحقيقي والاعتباري كان دور الدليل الثاني مجرد إيجاد فرد وليس موسعا فهو وارد، وإن كان ظاهر الدليل الأول أن موضوعه خصوص الفرد الحقيقي فالدليل الثاني عندما يعتبر فردا فهو أيضاً يوسع موضوع الدليل الأول ليشمل هذا الفرد الاعتباري فيكون حاكما بعد بيان هذه الضابطة بين الحكومة والورود نطبقها على كلام السيد في الجزء الثاني.

هل أن السيد «قدّس سرّه» اعتبر تقديم أصالة الطهارة على دليل الشرطية من باب الحكومة أم من باب الورورد فعندما دليل يقول «صل بساتر طاهر» وعندنا دليل يقول «كل شيء لك نظيف حتّى تعلم أنه قذر» تقديم أصالة الطهارة على قوله «صل بساتر طاهر» هل هو من باب الحكومة أم من باب الورود؟ فنلاحظ أن السيد «قدّس سرّه» في ص48 قال المقدمة الأولى أن الحكومة كما ذكر في محله عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر وتصرفه فيه اما في عقد الوضع أو في الحمل وهذا يتصور بانحاء ثلاثة وذكر أن تقديم أصالة الطهارة على أدلة الشرطية من القسم الأول من الحكومة.

بعد ذلك هو في ص53 من نفس الجزء قال: وبالجملة حال أصالة الطهارة بالنسبة إلى دليل الاشتراط وهو قوله «صل بثوب طاهر» حال ما يتكفل تكوين عالم حقيقة بالنسبة إلى دليل «اكرم العلماء»، ولما لم يكن للشرطية أثر مناقض مترتب على النجاسة الواقعية إلى اخره، كان ثبوت الشرطية للطهارة الظاهرية ثبوتا واقعيا فالطهارة الظاهرية شرط واقعا فيكون العمل الذي جاء به مع الطهارة الظاهرية واجدا لما هو الشرط واقعا.

وقال أيضاً في ص51: أن الدليل المتكفل لايجاد فرد ظاهري لموضوع الحكم حقيقة إذا لم يكن للأثر المترتب عليه أثر مناقض كان ثبوت ذلك الأثر للموضوع ثبوتا واقعيا إذ هو فرد من افراد موضوعه ولو في ظرف معين وهو الشك فيثبت له واقعا بمقتضى دليله الخاص ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية فإن الدليل الذي يثبت الطهارة ويكونها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعا لأن موضوعها الطهارة وهي أمر اعتباري واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك يحقق فردا تكوينيا لها فتثبت له واقعا من دون مانع.

فمقتضى هذا الكلام أن يكون تقديم دليل أصالة الطهارة على دليل الشرطية من باب الورود لا من باب الحكومة وهذا أيضاً ما ذهب إليه السيد الشهيد «قدّس سرّه» فهل هو متاثر بكلام السيد الروحاني باعتبار أنه تتلمذ على يديه فترة من الزمن أم لا فعلى اية حال ما ذكره السيد هنا بما هو من مصاديق الورود أن دليل أصالة الطهارة تتقدم على دليل الشرطية بهذا النحو الذي هو الورود ذكره السيد الشهيد أيضاً في نفسه هذا المقام واختاره.

الملاحظة الثالثة: ما نسبه السيدان العلمان قدس سرهما سيد المنتقى والسيد الشهيد إلى صاحب الكفاية من أن صاحب الكفاية يرى أن أصالة الطهارة توجد فردا من الطهارة هو فرد حقيقي للموضوع المأخوذ في دليل الشرطية وهو قوله «صل بثوب طاهر» هل هذا ينسجم مع عبارة الكفاية أم لا؟

نقرا هذه العبارة نقلها في المحاضرات ص67 ج44 من الموسوعة وإلا فهو الجزء الثاني من المحاضرات: والتحقيق أن ما كان منه يعني من الدليل الثاني يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، اي لسانه لسان تحقيق الشرط أو الشطر كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي يعني أن استصحاب الطهارة واستصحاب الحلية يقوم مقامهما ونحوهما بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزي؛ فإن دليله يعني دليل أصالة الطهارة يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانه اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية يعني دليل الشرط في نفسه ليس ظاهرا في أن موضوعه الاعم وإنما بمجيء الدليل الثاني وهو دليل أصالة الطهارة هو الذي بيّن لنا أن الأول اعم فدور الدليل الثاني دور التوسعة لا أن الدليل الأول ظاهر في نفسه في الاعم وهذا يوجد فردا له، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه يعين لو تبين أنه نجس بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه يعني ارتفاع الموضوع من حين ارتفاع الجهل وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا يعني ما كان دوره دور إحراز الشرط الواقعي كما هو لسان الامارات فلا يجزي فإن دليل حجيته إنما كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي فباندفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك بل كان بشرطه فاقدا. وأوضحه السيد الخوئي في المحاضرات بالحكومة التي ذكرناها هذه الملاحظة الثالثة.

الملاحظة الرابعة: بناء على الحكومة أي حكومة دليل أصالة الطهارة على دليل الشرطية فدليل أصالة الطهارة يكون له مدلول مطابقي وهو أن المشكوك طاهر ومدلول التزامي وهو أنه ليس بنجس فهناك ملازمة بينة بالمعنى الاخص فإذا قال دليل أصالة الطهارة «المشكوك طاهر» إذن فقد دل بدليل الالتزام على أنه ليس بنجس فإذا كان دليل أصالة الطهارة بلحاظ مدلوله المطابقي موسعا لدائرة الشرطية واقعا بحيث تشمل الشرطية الطهارة الظاهرية كان مضيقا بحسب مدلوله الالتزامي لادلة مانعية النجاسة حيث إنه وإن لم يكن في هذا المورد جعل الشارع النجاسة مانعا لكن الشارع حكم بنجاسة ملاقي المتنجس برطوبة مسرية فإذا جرت أصالة الطهارة وقالت هذا الساتر طاهر فهي بمدلولها المطابقي وسعت دائرة الشرطية وبمدلولها الالتزامي ضيقت دائرة ما دل على أن ملاقي المتنجس برطوبة مسرية متنجس، فتقديم أو الاقتصار على المدلول المطابقي في التوسعة دون المدلول الالتزامي تحكم، ويؤكد ذلك قوله في الذيل «فإذا علمت فقد قذر» فإن ظاهر مفهوم الذيل أنه ما لم تعلم بأنه قذر فليس بقذر وهذا يقتضي تضييق الأدلة التي اخذ النجس موضوعا لاثارها فانها تضيقها بما لم يكن هذا النجس مجهولا.

ودعوى أن هذا لازمه التعارض - كما في كلمات سيد المنتقى «قدّس سرّه» - بين الأدلة التي تقول ملاقي المتنجس برطوبة مسرية متنجس وبين هذا الدليل الذي يقول إذا لم تعلم أنه قذر فليس بقذر يتعارضان، قلنا: لا وجه للتعارض لأنه لو سلمنا بالتوسعة لدائرة الشرطية والتضييق لدائرة المانعية فحينئذ يكون المانع النجاسة المعلومة كما التزم به صاحب الحدائق «قدّس سرّه» حيث استفاد صاحب الحدائق من دليل أصالة الطهارة أن النجاسة الواقعية ليست مانع أصلا بل المانع هو النجاسة المعلومة بمعنى اخذ العلم بالجعل في فعلية المجعول كما التزمتم به في باب الجهر والاخفات فقلتم العلم بوجوب الجهر شرط في فعلية وجوب المجعول فقولوا هنا العلم بالنجاسة شرط في فعلية النجاسة فلا يستلزم تصويبا ولا معارضة ونلتزم بأن المدلول المطابقي لاصالة الطهارة توسعة دائرة الشرطية واقعا والمدلول الالتزامي أو مفهوم الذيل يدل على تضييق أدلة مانعية النجاسة واقعا فيكون المانع النجاسة المعلومة كما قيل به في غير ذلك من الموارد ياتي الكلام في البقية إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين