الأئمة (عليهم السلام) وطرق الاستفادة من القرآن الكريم

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا فعلًا في جهتين:

الجهة الأولى: أقسام فهم القرآن الكريم.

نيل القرآن الكريم وفهم معانيه له عدة درجات وأقسام:

الدرجة الأولى: درجة الاستظهار.

الإنسان بما هو من أهل العرف العربي، إذا سمع اللفظ القرآني، يتبادر لذهنه معنى معين عند سماع اللفظ، وما يتبادر إلى ذهنه عند سماع اللفظ فهو عبارة عن الاستظهار، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، أي أن اللفظ القرآني لفظٌ إذا أطلق لدى العرف العربي تبادر منه إلى معنى معين، وهذا التبادر هو ما نعبّر عنه بالاستظهار. كأن يسمع الإنسان قوله عز وجل: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ فيفهم من هذه الآية أن المناط في حلية المعاوضة وأكل المال هو التراضي بين الطرفين، هذا استظهارٌ.

الدرجة الثانية: درجة التدبر.

المقصود بالتدبر: الاتعاظ القلبي، فإن عملية التدبر ليست عملية عقلية، وليست عملية استظهارية، إنما عملية التدبر شأنٌ من شؤون القلب، وشأنٌ من قلوب الروح، التدبر هو عبارة عن استلهام الموعظة واستلهام العبرة من خلال قراءة الآيات القرآنية، ولذلك نرى القرآن الكريم بالقلب، قال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فالتدبر مفتاحٌ يفتح القلب؛ لأن التدبر طريقٌ لاستلهام الموعظة والعبرة من الآيات القرآنية.

الدرجة الثالثة: درجة التعقل.

بمعنى الإحاطة بمعنى الآية، فالإحاطة بمعنى الآية المعبر عنه بالتعقل يحتاج إلى العلم، لا يمكن للإنسان لو خُلِّي من العلم أن يحيط بمعنى الآية، من الممكن أن يستظهر المعنى العربي والعرف من الآية المباركة، لكنه هذا لا يعني الإحاطة بالمعنى، فإن الإحاطة بالمعنى تحتاج إلى عنصر العلم، ولذلك نرى القرآن الكريم ربط التعقل بالعلم، قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، فتعقل المعنى غير استظهاره، فإن تعقل المعنى عبارة عن الإحاطة به، وإدراكه من تمام جهاته، وهذا مما يتوقف على عنصر العلم في رتبة سابقة.

الدرجة الرابعة: درجة الاستحقاق.

درجة استحقاق القرآن كما يعبر عنها بعض علمائنا، واستحقاق القرآ، بمعنى تحول القرآن إلى حقيقة قائمة بنفس الإنسان. القرآن الكريم كتابٌ، لكن هذا الكتاب حتى يتحول إلى حقيقة قائمة وراسخة في عقل الإنسان، بحيث يصبح الإنسان حاملًا لحقيقة القرآن، حاملًا لحقائق القرآن، تحول القرآن إلى حقيقة المعبر عنه بالاستحقاق، هذا لا يتم لأي شخص، إنما يتم لمن أوتي العلم، لا لمن أوتي من العلم، ولذلك نرى الآيات القرآنية تختلف في لسانها.

مثلًا: قوله عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، لكنه عندما تكلم عن درجة الاستحقاق - أي: تحول القرآن إلى حقيقة - عبّر بأوتوا العلم لا أوتوا من العلم، قال: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، القرآن بالنسبة إلى هؤلاء تحول إلى حقائق قائمة في أرواحهم، قائمة في نفوسهم، حيث أوتوا العلم لا أنهم أوتوا من العلم، بمعنى أن هذا العلم اللدني الخاص الذي منه القرآن الكريم، والذي عبّرت عنه الآية المباركة بقوله عز وجل: ﴿قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ، فإن هؤلاء أوتوا العلم نفسه، لا أنهم أوتوا درجة أو شيئًا من العلم، فلذلك هؤلاء هم أهل استحقاق القرآن.

الدرجة الخامسة: درجة الاستبطان.

التي عبّرت عنها الآية المباركة بالمس، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وإنما عبّر بالمس هنا مع أن مراده من المس هو النيل، لا يمسه يعني لا يناله، كما ذكر القرآن الكريم عن أيوب : ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ أي: نالني، مع أن مراده من المس النيل لكن عبّر بالمس ولم يعبر بالنيل، ما قال: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يناله، بل قال: لا يمسه.

وهذا الاختلاف في التعبير باعتبار ما يقوله العلماء من أن المس ينقلك من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين، فالإنسان إذا رأى النار أمامه حصل له علم اليقين بالنار، أما إذا مسها نقله المس من درجة من اليقين إلى درجة أخرى، فالتعبير بالمس مع أن المراد به النيل للإشارة إلى أن هؤلاء بلغوا من اليقين بالقرآن الكريم ما يتصوره الذهن عندما يستمع إلى لفظة المس.

وهنا تتحقق درجة المس بمعرفة بطون القرآن، لأن الإنسان إذا نال ظواهر القرآن لم يمس القرآن، إنما يصدق أنه مس القرآن إذا نال جوهر الآية وكنه الآية، فمن وصل إلى مرحلة الاستبطان - أي: أحاط ببطون الآيات، لا أنه تلقى ظواهرها فقط - فقد وصل إلى مرحلة المس.

الدرجة الأخيرة: درجة التأويل.

ربط المتشابه بالمحكم، فإن في القرآن محكمًا ومتشابهًا، ربط المتشابه بالمحكم بحيث يتشكل من القرآن منظومة معرفية متكاملة، لم يستطع أحد من علمائنا ولا من علماء الإسلام من أول يوم إلى الآن أن يشكّل من القرآن منظومة معرفية متكاملة يرتبط بعضها بالبعض الآخر، هذه عملية التأويل العامة، فإن عملية التأويل العامة هي جعل هذا القرآن منظومة معرفية مترابطة ومتكاملة، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، هذه العملية تختص بفئة معينة عبّر عنها القرآن الكريم: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، ما قال: أوتوا العلم فقط، بل قال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، مرحلة استحقاق القرآن كانت لمن أوتي العلم، وأما مرحلة تأويل القرآن فهي أشد من ذلك، هي لما كان راسخًا في العلم لا أنه أوتي العلم فقط.

ولذلك، كما أن لدينا تفسيرًا تجزيئيًا للقرآن، وهو تفسير كل آية آية، وتفسير موضوعي للقرآن، وهو تفسير الآيات من خلال ما تجتمع في موضوعات معينة، هناك أيضًا قسم ثالث، وهو تأويل القرآن بحيث يتحول إلى منظومة معرفية مترابطة، وهذا القسم الثالث ما لا نصل إليه إلا من خلال أهله الراسخين في العلم، ألا وهم أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

الجهة الثانية: ما يستفاد من طرقٍ في الاستنارة من القرآن الكريم في الأحاديث الشريفة.

إننا نلاحظ أن كثيرًا من كتب التفسير - ولا نقول جميعها - لا تعنى بالرواية، مع أن الرواية هي الدليل على الكتاب. نعم، يمكن أن تكون الرواية ضعيفة سندًا، لكن هناك الصحاح، أو يمكن تشكيل تواتر من خلال مجموعة من الروايات ولو كانت ضعيفة، أو يمكن جمع قرائن الوثوق بصدور هذه الرواية من خلال ملاحظة سائر روايات الباب، والمهم أن العناية بالرواية في فهم القرآن طريقٌ ضروريٌ لا بد منه. لذلك نقول: إذا رجعنا لروايات أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وكيف تعاملت هذه الروايات مع القرآن الكريم نجد أن هناك طرقًا تعرضت لها الروايات وتضمنتها.

القسم الأول: الجمع بين الآيات.

كما ورد في الرواية عن الإمام أمير المؤمنين عندما قال للخليفة الثاني بأن أقل الحمل ستة، فقال: من أين عرفت ذلك؟ قال: من كتاب الله، جمع الإمام بين آيتين، بين قوله: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وقوله عز وجل: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، هذا طريق أرشدت إليه الروايات، وهو الجمع بين الآيات القرآنية، وهو ما عبّر عنه بعض علمائنا - كالسيد الطباطبائي قدس سره - بتفسير القرآن بالقرآن.

القسم الثاني: الإرشاد إلى القاعدة.

قد يغفل الذهن أحيانًا عن اقتناص القاعدة، والرواية ترشده إلى القاعدة. في رواية عبد الأعلى مولى آل سام عندما سأل الصادق : عثرت فوضعت على إصبعي مرارة، كيف أصنع؟ قال: ”هذا وأشباهه يُعْرَف من كتاب الله، ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح عليه“، هناك قاعدة أنت لم تلتفت إليها.

القسم الثالث: الإرشاد إلى نكتة أو قرينة الاستظهار.

في نفس الآيات القرآنية توجد قرائن لا يلتفت إليها الذهن لو خُلِّي وحده، يحتاج إلى الرواية، ودور الرواية إرشاده إلى القرينة، أن هنا قرينة تحتاج إلى أن تلتفت إليها، مثلًا: عندما سأل الإمام الصادق : من أين عرفت أن المسح ببعض الرأس؟ قال: من كتاب الله، قال: من أين؟ قال: من الباء حيث قال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، هذا إرشاد إلى القرينة، أي أن هنا قرينة لفظية لا يلتفت إليها الذهن الأولي، والرواية ترشده إلى ذلك.

مثلًا: في تفسير قوله عز وجل: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، الرواية فسّرت بقية الله بقائم آل محمد، وبيّنت ذلك، قال: ”لقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ“، أي أن هذا اللفظ قرينة، نفس هذا اللفظ قرينةٌ على أن المراد ببقية الله ليس هو الربح المادي؛ فإن الربح المادي يحصل للمؤمنين ولغير المؤمنين، هذه قرينة على أن المراد إليه والمقصود هو الإمام «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

القسم الرابع: أن يكون ذلك من التفسير المفهومي.

إذا جاءت الرواية - وهي دليل الكتاب - عيّنت لنا ما هو المفهوم من اللفظ الوارد في القرآن الكريم، وهكذا أكثر الروايات الواردة في التفسير هي من باب تفسير المفهوم، ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ قال: ”هو الحبوب“، لو كنا نحن من دون الرواية لربما قلنا بأن المراد من الطعام كل ما يطعمه الإنسان، ولو كان من قبيل اللحوم، ولكن عندما تقول الرواية أن الطعام هو الحبوب، إذن قامت الرواية بتحديد مفهوم اللفظ في الآية المباركة.

القسم الخامس: ما كان من التفسير المصداقي.

بمعنى أن الرواية تذكر أكمل المصاديق وأوضحها، كما ورد في الرواية عن الصادق في قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً قال: ”ذلك جدي الحسين“، فإن هذا ليس تفسيرًا لعنوان أو مفهوم النفس المطمئنة، وإنما هو إشارة إلى أكمل المصاديق وأبرزها، ألا وهو الحسين بن علي .

القسم الأخير: ما ورد من الروايات في مقام بيان بطون القرآن.

وهذا هو المهم الذي علينا تنقيحه وتحقيقه. ذكرنا أن معرفة بطون القرآن ومعرفة تأويل القرآن يتوقف عليها معرفة القرآن كمنظومة مترابطة، وبالتالي فإن هذا القسم من الروايات يحتاج من العلماء إلى بذل مزيد في تحقيقه وترتيبه، بحيث يكون هذا العلم علمًا مستفادًا منه، علم بطون القرآن.

من الروايات الشريفة الواردة عن الإمام الصادق في تفسير قوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قال: ”ليلة القدر أمي فاطمة“، وهذا من بيان بطن الآية، أي أن هذه الآية لها معنيان في عرض واحد، حيث إن القرآن الكريم له مرتبتان: مرتبة التنزيل، ومرتبة التأويل. مرتبة التنزيل تلقاها قلب النبي ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، مرتبة التأويل تلقاها قلب فاطمة الزهراء، وبالتالي أصبحت وعاءً للقرآن، كما كان قلب أبيها وعاءً لتنزيله، فقلبها وعاء لتأويله، وكما أن ليلة القدر - هذا الظرف الزمني - وعاء لنزول هذا النور من السماء، فإن قلبها «صلوات الله وسلامه عليها» وعاءٌ لنور تأويل القرآن الكريم، فلذلك كان المعنى الآخر للآية المباركة أن المراد بليلة القدر فاطمة الزهراء .

والنتيجة من هذه الكلمة كلها: أننا نريد أن نصل إلى هذه النقطة، وهي: ينبغي من أهل العلم والفضل المزيد من البحث والتأمل، وجمع الروايات المتعلقة بالبطون، وربطها بعضها بالبعض الآخر، لكي يستفاد من بحرٍ من بحار علوم أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، ألا وهو علم بطون القرآن الكريم.