الدرس 89

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصلنا في المطلب الثالث إلى أن المستفاد من نصوص وجوب القضاء أن موضوع القضاء هو الفوت وقلنا أن الظاهر من عنوان الفوت أنه أمر وجودي منتزع من عدم الإتيان بالصلاة ممن هو مكلف بالصلاة والسر في ذلك هو الفهم العرفي حيث يقال عرفا: قصد السوق ولكن فاتته ولم يدركها أو قصد الربح ولكن فات من كيسه ولم يحصل عليه فيعطفون عدم الحصول على الفوت مما يكشف عن أن الفوت ليس هو عبارة عن عدم الحصول وإنما هو منتزع عن عدم الحصول في فرض شأنية تحصيله ولأجل ذلك إذا شك المكلف أنه صلى أم لم يصل أو صلى صلاة صحيحة أم لا فإن استصحاب عدم الامتثال لا يثبت عنوان الفوت فإن جريان الأصل في منشأ الانتزاع لا يثبت العنوان الانتزاعي إلا من باب الأصل المثبت ببركة الملازمة العقلية بين منشأ الانتزاع والعنوان الانتزاعي.

الأمر الرابع: أشكل المحقق الايرواني «قدّس سرّه» في نهاية النهاية حاشيته على الكفاية أنه دعوى أن عنوان الفوت لا يثبت باستصحاب عدم الإتيان بالصلاة محل لنقض لا يلتزم به الفقهاء وهو أنه لو فرضنا أن المكلف أثناء الوقت وقبل خروجه شك هل أنه صلى أم لم يصل فلا ريب أنه يجري في حقه استصحاب عدم الإتيان ويترتب على الاستصحاب لزوم الأداء فلو أن المكلف عمدا - مع أن مقتضى الاستصحاب أن يصلي - لم يصل حتّى خرج الوقت فلازم هذا المبنى وهو أن استصحاب عدم الامتثال لا يثبت عنوان الفوت أنه لأنّه لا يجب عليه القضاء لأن موضوع القضاء الفوت ولا يثبت الفوت باستصحاب العدم فكيف يمكن التفكيك بأن يقال: إن هذا المكلف كانت وضيفته في الوقت الإتيان بالصلاة بناء على الاستصحاب لكن وضيفته خارج الوقت المعذرية عن الصلاة لأن الاستصحاب لا يثبت الفوت هذا مما لا يمكن الالتزام به فهو شاهد على لزوم رفع اليد عن أحد المبنيين فإما أن نقول: إن الفوت هو عنوان عدمي فهو عبارة عن عدم الإتيان بالصلاة أو نقول بأن جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع يثبت العنوان الانتزاعي وإلا مع التحفظ على المبنيين فلا يجتمع ذلك مع هذا النقض الذي ذكرناه.

وأجيب عن هذا النقض بوجوه:

الوجه الأول أن يقال: إن لزوم الإتيان بالصلاة في الوقت لا لأجل الاستصحاب ولا لأجل الاشتغال ولا لأجل الوجدان بل لأجل روايات وردت في ذلك ومفاد هذه الروايات أن من شك أنه صلى أم لم يصل فليصل صحيح الفضيل عن أبي جعفر باب 61 من أبواب المواقيت ح1 قال: «متى شككت في وقت فريضة انك لم تصلها فصلها» فالبناء على أن من شك في أداء الصلاة أن وضيفته الصلاة ليس لأجل الاستصحاب بل لأجل الروايات فلا معنى لإشكال المحقق الايرواني أن مقتضى استصحاب عدم الإتيان بالصلاة وجوب الصلاة في الوقت وعدم وجوب القضاء خارج الوقت فإننا لم نستند في الإتيان بالصلاة إلى الاستصحاب كي يرد هذا الإشكال، وهذ الكلام متين.

الوجه الثاني - وهو مهم - أن يقال: بأنه فرق بين الاستصحابين فهناك في الأصول في بحث الأصل المثبت وقع الكلام أنه هناك فرق بين لازم الاستصحاب ولازم المستصحب فما هو مورد للأصل المثبت لازم المستصحب لا لازم الاستصحاب، بيان ذلك بتطبيقه على المقام: أنه إذا كان للاستصحاب أثر شرعي وكان للعنوان الملازم له أيضاً أثر شرعي والتفكيك بين الأثرين مستهجن عرفا ففي مثل هذا المورد يرى العرف أن عدم ترتيب الأثر الثاني على الاستصحاب نقض لليقين بالشك فمقتضى ذلك أن يكون ترتب الأثر الثاني لازما بينا بالمعنى الأخص لدليل الاستصحاب والمداليل الالتزامي لدليل الاستصحاب حجة فهنا مقدمتان:

المقدمة الأولى: أن نفترض استهجان العرف التفكيك بين الأثرين وإن كان احدهما أثرا لنفس المستصحب والآخر أثر لعنوان ملازم للمستصحب مثلاً في محل كلامنا إذا شك المكلف أنه صلى او لم يصل والوقت باق فمقتضى الاستصحاب أن يأتي بالصلاة وهذا الأثر وهو لزوم الإتيان بالصلاة أثر لنفس المستصحب يعني عدم الإتيان فيستصحب عدم الإتيان فيترتب عليه أثر شرعي مباشر ألا وهو لزوم الإتيان بالصلاة وهناك أثر شرعي آخر لكن ليس أثرا للمستصحب وهو أنه لو خرج الوقت والمكلف معرض عن أن يصلي فإنه يجب عليه القضاء لكن هذا الأثر ليس أثرا لعدم الإتيان كالأثر الأول بل هو أثر للفوت إلا أن الفوت ملازم لعدم الإتيان فهنا الاستصحاب أمامه أثران: أثر لنفس المستصحب وهو لزوم الإتيان بالصلاة في الوقت واثر لعنوان ملازم المستصحب ألا وهو وجوب القضاء فإن موضوعه الفوت والفوت ملازم لعدم الإتيان لكن لو فككنا بينهما فقلنا يجري الاستصحاب ويترتب عليه خصوص الأثر الأول وهو وجوب الإتيان بالصلاة في الوقت ولا يترتب عليه الأثر الثاني فإن التفكيك بين الأثرين مستهجن عرفا إذ كيف يجب عليه الأداء في الوقت لكن إذا عصى ولم يؤد وخرج الوقت فلا يجب عليه القضاء؟ فلأجل استهجان التفكيك بينهما وكونهما متلازمين عرفا لأجل ذلك يقول العرف: لو لم ترتب الأثر الثاني وتركت القضاء اعتمادا على محذور الاصل المثبت فإن هذا نقض لليقين بالشك ولا تنقض اليقين بالشك.

وبيان ذلك بذكر المقدمة الثانية: وهو أن يقال: إن الاستصحاب أصل ليس حجة لمثبتاته ولوازمه لكن دليل الاستصحاب وهو قوله «لا تنقض اليقين بالشك» أمارة وهو قوله «لا تنقض اليقين بالشك» وليس أصلا عمليا ومداليله الالتزامية حجة وحيث إن شمول دليل الاستصحاب للأثر الأول لازمها البين بالمعنى الأخص ترتب الأثر الثاني لأن العرف يستهجن التفكيك بينهما فمتى ما شمل الاستصحاب الأثر الأول ترتب عليه الأثر الثاني لأن هذا ملازم له عرفا لاستهجان التفكيك بينهما فالعرف يقول: إن كان دليل الاستصحاب شاملا للأثر الأول لازمه الأثر الثاني فيرى العرف أن الأثر الثاني وهو وجوب القضاء مدلول ثاني لشمول دليل الاستصحاب للأثر الأول وبما أن الأمارة حجة في مثبتتاتها ولوازمها إذن يترتب الأثر الثاني على جريان الاستصحاب.

أو بعبارة أخرى أن العرف يقول: حيث إن الأثر الثاني ملازم للأثر الأول فكما أن عدم ترتيب الأثر الأول على الاستصحاب نقض لليقين بالشك فكذلك عدم ترتيب الأثر الثاني نقض لليقين بالشك وهذا هو معنى قولهم أن هناك فرقا بين لوازم المستصحب ولوازم الاستصحاب. فهنا الأثر الثاني ألا وهو وجوب القضاء من لوازم دليل الاستصحاب لا أنه لازم للمستصحب فالمستصحب لا يثبت لوازمه العقلية كما لو استصحبنا حياة زيد لإثبات نبات لحيته ولا يثبت اللوازم الشرعية المترتبة على واسطة عقلية ولكن يثبت لوازم الاستصحاب بنفس دليل «لا تنقض اليقين بالشك» فهذا خارج موضوعا عن مسألة الأصل المثبت، بخلاف من شك في الصلاة بعد خروج الوقت هو لم يشك أثناء الوقت، بخلاف من كان طول الوقت لا يدري غافلا وبعد أن خرج الوقت شك هل أنه صلى أم لم يصل فهنا لا يجري الاستصحاب ولا يثبت به وجوب القضاء والسر في ذلك أن المرتكز العرفي هنا يقول: لم يكن للاستصحاب أثر شرعي ثابت كي نقول بأن الأثر الثاني وهو وجوب القضاء ملازم له ويستقبح ويستهجن التفكيك بينهما ويكون ذلك منشأ لانعقاد دلالة التزامية لدليل الاستصحاب فيثبت الأثر الثاني ببركة.. لا يوجد هكذا كلام. لأنه إذا شك بعد خروج الوقت لا يوجد أثر بعد خروج الوقت إلا وجوب القضاء ووجوب القضاء موضوعه الفوت والفوت عنوان وجودي فلا يجب بالاستصحاب العدمي وهو استصحاب عدم الإتيان بالصلاة.

ودعوى أن العرف لا يرى فرقا بينهما فالعرف يقول: إن كان الاستصحاب في الفرض الأول جاريا ومثبتا لوجوب القضاء فهو كذلك في الفرض الثاني، فهذا رجوع إلى التسامح العرفي والمرجع في مثل هذه الأمور ليس إلى العرف المتسامح كالبقال والنجار، وإنما المرجع العرف الدقيق والعرف الدقيق يفرق بينهما بلا إشكال.

ولكن الصحيح كما مثل الفقهاء وهو بأنه إذا كان لدينا ماء متنجس قليل فتممناه كرّا بطاهر فهنا يقولون: يجري استصحاب نجاسة المتمَم لإثبات نجاسة المتمِم ويجري استصحاب طهارة المتمِم لإثبات طهارة المتمَم فيتعارضان فيقال بأنه لا وجه لتعارضهما، فنقول: المتمَم باق على نجاسته من دون أن تثبت نجاسة المتمِم والمتمِم باقي على طهارته من دون أن تثبت طهارة المتمَم فيقول: العرف يستهجن التفكيك بينهما ويقول: الماء الواحد لا تتبعض أحكامه بأن يكون بعضه طاهرا وبعضه نجسا فلأجل أن العرف يستهجن التفكيك في أحكام الماء الواحد بأن يكون بعضه طاهرا وبعضه نجسا إذن لا محالة مقتضى استصحاب نجاسة المتمَّم نجاسة المتمِّم حتى لا يصير تفكيك ومقتضى استصحاب طهارة المتمِم طهارة المتمَم حتى لا يصير تفكيك فتعارض الاستصحابان فنرجع إلى قاعدة الطهارة، فتعارض الاستصحابين إنما هو فرع استهجان العرف في التفكيك بين أحكام الماء الواحد فكذلك الأمر في المقام.

ولكن قد يقال: بأنه لو كان هذا الأثر الثاني لازما لدليل الاستصحاب نفسه فهذا كلام جيد أما إذا كان لازما لإطلاق دليل الاستصحاب لا لنفس دليل الاستصحاب فهذا اول الكلام، فمثلا إذا جاء دليل خاص على جريان الاستصحاب في مورد معين فإذا جاءنا دليل خاص فقال لنا: يجري الاستصحاب في هذا الظرف المعين ووجدنا أن هناك أثر لنفس المستصحب وأثر للازمه فنقول: إذا قال الشارع: اجر دليل الاستصحاب في هذا المورد وهو ملتفت إلى وجود أثر للازمه ينعقد لإجراء دليل الاستصحاب في هذا المورد مدلول التزامي وهو ثبوت الأثر الثاني فهذا الكلام تام.

وأما إذا لم يقل الشرع اجر الاستصحاب بل نحن نتمسك بإطلاق دليل الاستصحاب فنقول: مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب أن من شك في الوقت أنه صلى أم لم يصل مقتضى الإطلاق لأن الشارع لم يقل اجر الاستصحاب في هذا المورد مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب أنه من شك في الوقت فليصل فلازم إطلاق دليل الاستصحاب ترتب الأثر الثاني فربما قائل يقول: إذا كان ترتب الأثر الثاني من باب الأصل المثبت فلا يجري الاستصحاب من الأساس فلماذا تجروه وترتبون عليه الأثر الثاني من باب التمسك بالمدلول الالتزامي إذ المفروض أن هذا المدلول الالتزامي فرع الإطلاق وليس لازما لنفس دليل الاستصحاب فإذا كان لازما للإطلاق فلا إطلاق فيكون إثباته بالاستصحاب فرع تمامية الإطلاق ولا إطلاق، لأن إطلاق دليل الاستصحاب في هذا المورد من باب الأصل المثبت.

وببيان آخر: أنه إذا قال الشارع: لا إطلاق لدليل الاستصحاب لهذا المورد، لماذا؟ لأنه لا يترتب على إطلاقه أثر إلا بنحو الأصل المثبت فإذا كان لا يترتب على إطلاقه أثر إلا بنحو الأصل المثبت إذن لا إطلاق له لأنه يعتبر في جريان الاستصحاب وجود أثر شرعي فإذا لم يكن للاستصحاب أثر شرعي وإنما الأثر الشرعي للازمه إذن فلا إطلاق له، فلو جاءنا في المقابل شخص وقال: نتمسك بالإطلاق ولازم الإطلاق ترتب الأثر الثاني لأن التفكيك بين الأثرين مستهجن قلنا: هذه تكون مصادرة لأن مدعى الأول أن لا إطلاق لدليل الاستصحاب إذ لا أثر لإطلاقه إلا هذا الأثر وهذا الأثر من باب الأصل المثبت فلا إطلاق له وأنت تقول: لا، نتمسك بإطلاقه ويثبت به الأثر الثاني لأنه مدلول التزامي للإطلاق، فهذه مصادرة، فافهم وتأمل.

والحمد لله رب العالمين