الدرس 93

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى الصورة الرابعة وهي مورد وجود حجة إجمالية كما لو أفتى الفقيهين بالوجوب في جلسة الاستراحة وعدم الوجوب في التسبيحات الثلاث وأفتى الآخر بالعكس وهنا ذكرنا أن لهذه الصورة فرضين: الأول فرض اشتباه الحجة باللاحجة ومقتضى ذلك هو الاحتياط والفرض الآخر فرض التعارض كما لو لم يحرز أن احدهما اعلم بل احتمل تساويهما فقلنا في هذا الفرض لا يجب الاحتياط إلا في حالتين:

الحالة الأولى: أن تقوم فتوى بلزوم العمل بإحدى الفتويين إما من هذين الفقيهين أو ممن يليهما في الأعلمية.

الحالة الثانية: أن ينعقد لهذين الفتويين مدلول التزامي حجة وبيان ذلك أنه إذا أفتى الفقيه الأول بوجوب جلسة الاستراحة وعدم وجوب التسبيحات الثلاث وأفتى الفقيه الثاني بوجوب التسبيحات الثلاث وعدم وجوب جلسة الاستراحة فيقال أن الفقيهين حينئذ اتفقا على وجوب احدهما فإن الأول أفتى بوجوب الجلسة والثاني أفتى بوجوب التسبيحات الثلاث إذن فهما متفقان على وجوب احدهما فلهذين الفتويين مدلول التزامي ألا وهو وجوب احدهما فيقال قامت حجة إجمالية على وجوب احدهما فعليه الإتيان بأحدهما لكن هذا يبتن على أن المدلول الالتزامي لغير الحجة يبقى على الحجية وان سقط المدلول المطابقي باعتبار أن هذين الفتويين فتوى فقيه ألف بوجوب جلسة الاستراحة وفتوى فقيه باء بوجوب التسبيحات الثلاث حيث إن هذين الفقيهين لا يحرز أعلمية احدهما يعني لا يحرز أعلمية احدهما على الآخر وشمول دليل الحجية لهما ممتنع إذن فلا محال سقط المدلول المطابقي عن الحجية لفتوى كل منهما فإذا قلنا بأن المدلول الالتزامي يبقى على الحجية وان سقط المدلول المطابقي كما هو رأي المحقق النائيني «قدّس سرّه» فيمكن حينئذ يقال أن فتوى احدهما بوجوب جلسة الاستراحة وفتوى الآخر بوجوب التسبيحات الثلاث اتفاق على وجوب احدهما ولكن هذا المقدار لا يكفي أي لا يكفي البناء على مسك النائيني للذهاب إلى القول بأنه قامت لديه حجة إجمالية فتنجز عليه احدهما هذا غير كافي، لم؟ لأن المدلول الالتزامي بالوجوبين معارض بالمدلول الالتزامي للجوازين فكما صدر من هذين الفقيهين وجوبان صدر من هذين الفقيهان ترخيصان فالفقيه الأول الذي أفتى بوجوب جلسة الاستراحة هو أفتى بعدم وجوب التسبيحات الثلاث والفقيه الثاني الذي أفتى بوجوب التسبيحات الثلاث هو الذي أفتى بعدم وجوب جلسة الاستراحة فإذا ألّفتم من الفتويين بالوجوب جامعا وهو وجوب احدهما كان من الفتويين بعدم الوجوب عدم تنجز وجوب احدهما إذن فبالنتيجة حتّى لو بنينا على أن المدلول الالتزامي يبقى على الحجية وان سقط المدلول المطابقي عن الحجية إلا أن هذا إنما يتم لو لم يعارض هذا المدلول الالتزامي بمدلول آخر في مورده ولأجل ذلك نقول إذا لم يحرز أعلمية احدهما فلم تقم حجة إجمالية في البين فلا يجب عليه الاحتياط بتطبيق فتوى كل منهما في مورد الوجوب.

الصورة الخامسة: أن يكون المورد شبهة بدوية كما إذا افترضنا أن أحد الفقيهين أفتى بوجوب جلسة الاستراحة والآخر لم يفت ولكن يخطئه في الفتوى فالفقيه الآخر يقول أنا لا أفتي في المسالة بشيء لكن من يفتي بالوجوب فهو مخطئ فيقع التعارض بينهما لا في الفتوى بل بين فتوى الأول وتخطئة الثاني بالفتوى فهنا الأمر بالنسبة إلى المكلف سيكون وجوب جلسة الاستراحة شبهة بدوية بالنسبة إلى المكلف هل أن جلسة الاستراحة واجبة في حد نفسها أم لا؟ وجريان البراءة في الشبهة الحكمية بالنسبة إلى العامي هل تجري البراءة؟ كما لو أفتى أحد الفقيهين الذين لا يحرز أعلمية احدهما أفتى بحرمة حلق اللحية والآخر ساكت فصارت حرمة حلق اللحية بالنسبة إلى العامي شبهة بدوية وهنا في هذا الفرض هل يمكن للعامي إجراء البراءة أم لا؟

هنا رأيان:

الرأي الأول: ما ذهب إليه السيد الأستاذ دام ظله من أن العامي يمكنه إجراء البراءة في الشبهات الحكمية بعد الفحص واليأس عن وجود فتوى معتبرة في حقه والوجه في كلامه أن مقتضى إطلاق أدلة البراءة - رفع عن أمتي ما لا يعلمون - شمولها للعامي ولا مانع من شمولها للشبهة قبل الفحص إلا صارفا أو مانعا وكلاهما لا يردان بحق العامي الصارف الأول أن الفقهاء قالوا إطلاق أدلة البراءة وهو رفع عن أمتي ما لا يعلمون منصرف عن صرف وجوب أمارة في معرض الوصول بحيث لو فحص عنها لوجدها فلو كانت هناك أمارة في معرض الوصول لو فحص عنها لوجدها فإن دليل البراءة منصرف عن ذلك إذ لا يصدق عليه أنه عالم مع أنه بأدنى فحص سيحصل على الأمارة فقالوا رفع عن أمتي ما لا يعلمون منصرف عن فرض وجود أمارة لو فحص عنها لوجدها منصرف عن هذا الفرض لذلك ليس للفقيه أن يجري البراءة قبل الفحص وهذا المانع لا يرد في حق المانع لا يرد في حق العامي، لم؟ لأن هذا المانع يعني المانع من إطلاق دليل البراءة هو وجود أمارة لو فحص عنها لوجدت وحيث إن العامي غير قادر على الفحص أصلا إذن فهذا المانع لا يشمله وإذا لم يشمله هذا المانع شمله إطلاق دليل البراءة إذ لا مانع من إطلاق دليل البراءة إلا هذا وهو وجود أمارة في معرض الوصول لو فحص عنها لوجدت والعامي خارج الموضوع عن هذا الفرض لأنّه غير قادر على الفحص فهذا المانع منتف في حقه.

المانع الآخر أن يقال: إن المانع من شمول دليل البراءة للشبهة الحكمية قبل الفحص أدلة وجوب التعلم فيقال بأنه لو كانت أدلة البراءة شاملة للشبهات قبل الفحص لم يبق لأدلة وجوب التعلم موضوع فأدلة وجوب التعلم بلحاظ أن مفادها وجوب طريق يكون حاكما على دليل أصالة البراءة فلا يستطيع الفقيه حينئذ أن يجري البراءة قبل الفحص لأن أدلة التعلم تأمره بالفحص إلا أن دليل وجوب التعلم بقرينة المؤاخذة المذكورة فيه حيث قال ما عملت فقال ما علمت فقيل هلا تعلمت حتّى تعمل ولله الحجة البالغة بمقتضى هذه القرينة وهي قرينة المؤاخذة ظاهره أن دليل التعلم إنما يكون فعليا في مورد إمكان التعلم وإلا إذا لم يكن التعلم ممكنا فلا مؤاخذة على تركه إذن فبقرينة اشتمال دليل وجوب التعلم على المؤاخذة استفدنا أن موضوع فرض إمكان التعلم وحيث إن العامي لا يمكنه أن يتعلم يعني لا يمكنه الفحص عن الدليل إذن فبالنتيجة دليل وجوب التعلم لا يشمل العامي فإذا لم يشمل العامي شمله دليل البراءة غاية ما في الباب بما أن دليل البراءة منوط بعدم الحجة إذ دليل البراءة معذر من العقوبة ومقتضى معذريته من العقوبة هو فرض عدم قيام حجة وحيث إن الحجة في حق العامي فتوى الفقيه فإذا فحص العامي فلم يجد فتوى للفقيه فتوى معتبرة في حقه فحينئذ شمله دليل البراءة فبإمكانه إجراؤه.

والرأي الآخر هو رأي سيدنا الخوئي «قدّس سرّه» وشيخنا الأستاذ «قدّس سرّه» من أن دليل البراءة لا يشمل العامي فلا يمكن للعامي إجراء البراءة حتّى بعد الفحص واليأس عن فتوى معتبرة في حقه لا يستطيع أن يجري البراءة إلا إذا قامت حجة على عدم الأمارة فإذا اخبره الفقيه بأن لا يوجد عندي دليل لا يوجد عندي أمارة فإذا اخبره الفقيه أن لا أمارة في البين على الحكم الإلزامي ففي طول إخبار الفقيه بعدم وجود أمارة على الحكم الإلزامي يمكن للعامي إجراء البراءة وإلا ما لم تقم حجة على عدم الأمارة لا يكفي مجرد فحصه ويأسه عن الفتوى المعتبرة في إجراء البراءة والسر في ذلك أننا ذكرنا أن دليل البراءة بتسالم الكل منصرف عن فرض فيه أمارة معتبرة في معرض الوصول بحيث لو فحص عنها لوصل إليها دليل البراءة منصرف عن هذا الفرض، طيب، فإذا جاءت شبهة حكمية للعامي فالعامي بين حالات ثلاث:

الحالة الأولى: أنه يمكنه الفحص وان يصل إلى هذا الدليل كما لو افترضنا أنه طالب مدرك للأدلة وواصل لها يمكنه أن يقول لا يوجد دليل وإن لم يصل إلى درجة الاجتهاد فإما أن يمكنه الفحص عن الدليل فهذا لا يشمله دليل البراءة وإما أن يكون غير متمكن من الفحص لا لأجل قصور في القابل بل لأجل قصور في الفاعل يعني هو لا يستطيع أن يفحص لا أن الأمارة يتعذر الوصول إليها فالعجز في الفاعل لا في القابل وإلا فالأمارة يمكن الوصول إليها ولكنه هو لا يستطيع أن يصل لها وهذا هو الفرض المتعارف في العامي هنا لا تشمله أدلة البراءة وإن كان غير قادر على الفحص والسر في ذلك أن ظاهر سياق دليل البراءة سياق المعذرية رفع عن أمتي ما لا يعلمون ومقتضى مناسبة الحكم للموضوع هو عدم معذورية من يجري البراءة لقصور فيه وإلا فالحكم نفسه مما يمكن الوصول إليه غاية ما في الأمر هو لعجز فيه هو لا يستطيع الوصول دليل المعذرية منصرف عنه.

والفرض الثالث: أنه أصلا لا يمكن الوصول إليه بنفسه ولا بفقيه وهذا واضح حينئذ تجري دليل البراءة حتّى بالنسبة إلى الفقيه إذن فالفرض المتعارف للعامي وهو فرض عدم قدرته على الفحص لقصور فيه لا يشمله دليل البراءة لأن سياقه سياق المعذرية ومقتضى مناسبة الحكم للموضوع عدم شموله ممن هو قاصر لا لعدم قابلية الحكم المبحوث عنه للوصول.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية وهي ما إذا انكشف الخلاف بأمارة معارضة.

الصورة الثالثة: أن ينكشف الخلاف بأصالة الاشتغال كما لو أفتى الفقيه بوجوب القصر ثم بعد أن أفتى الفقيه بوجوب القصر بنى على منجزية العلم الإجمالية ومقتضى منجزية العلم الإجمالي هو الجمع بين القصر والتمام فهنا لم ينكشف لديه الخلاف لا بالقطع ولا بأمارة معارضة ولا بأصل عملي وإنما بنى فترة على تمامية رواية تدل على القصر ثم شكك فصار مقتضى منجزية العلم الإجمالي هو الجمع بين القصر والتمام فهنا أفاد سيدنا الخوئي «قدّس سرّه» أن هذا العلم الإجمالي غير منجز. قال لأنّه حصل لديه علم إجمالي إما يجب إعادة الصلوات التي صلاها فيما مضى قصرا أن يعيدها تماما أما أن يجب قضاءها تماما أو يجب الإتيان بالصلوات الآتية قصرا لأنّه إن كانت الوظيفة في الواقع هي التمام فيجب قضاء ما فات تماما وان كانت الوظيفة في الواقع هي القصر فيجب القصر للصلوات الآتية فعنده علم إجمالي إما بوجوب قضاء ما فات تماما أو وجوب أن يأت بالصلوات الآتية قصرا لكن هذا العلم الإجمالي يقول السيد الخوئي غير منجز، لم؟ لأن أحد طرفيه وهو وجوب الإتيان بالصلوات الآتية قصرا هذا متنجز بمنجز آخر وهو قاعدة الاشتغال فلو فرضنا أن شخص ليس عنده صلوات ماضية أصلا ما صلى الم يكن وجوب القصر منجزا في حقه؟ لو افترضنا أن هذا الشخص ما صلى سابقا أصلا الآن بلغ وحصل لديه علم إجمالي بأنه إما يجب عليه القصر أو التمام أليس وجوب القصر منجزا عليه بالعلم الإجمالي إذن فما دام وجوب القصر في الصلوات الآتية منجز في حد ذاته بعلم إجمالي فلا يتنجز بعلم إجمالي آخر وهو العلم الإجمالي إما بقضاء الصلوات السابقة تماما أو وجوب الصلوات الآتية قصرا فمتى ما تنجز أحد طرفي العلم الإجمالي بمنجز انحل العلم الإجمالي حكما فتجري البراءة عن قضاء الصلوات السابقة تماما تجري البراءة عنه ولا يجب عليه إلا الإتيان بالصلوات الآتية قصرا فهذا الذي أفاده المحقق السيد الخوئي أبو القاسم «قدّس سرّه» هل أن هذا كلام صناعي أو غير صناعي؟

والحمد لله رب العالمين