الدرس 94

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان كل ما مضى من البحوث متعلق بالمقدمات، والآن فعلاً ندخل في مباحث الخلل، فنتعرض للخلل في كل أمر صلاتي سواء كان شرطا او جزءا، وبحسب ترتيب السيّد الإمام «قده» بدء البحث في الخلل بالبحث عن الخلل في النية، إذاً فالمقام الأوّل من مقامات بحث الخلل في الصلاة «البحث في الخلل في النية».

«البحث في الخلل في النية».

وقد أفاد «قده» في كتاب الخلل: بأنّ البحث عن الخلل في النية يبتني على البحث في حقيقة النية، فإننا إذا عرّفنا وحددنا ما هي النية المعتبرة في الصلاة امكننا أن نحدد هل يمكن الخلل فيها أم لا؟ وما هي موارد الخلل في النية؟

ولذلك افاد «قده» أنّ في تعريف النية، اتجاهين:

الاتجاه الأوّل: أنّ النية بمعنى الخطور بالبال او الاخطار بالبال، وهذا التعريف للنية نُسب إلى القدماء، فالسيّد «قده» أفاد بأنّ مقصود القدماء من هذا التعريف يحتمل بدوا معاني ثلاثة:

المعنى الأول: أنّ مقصودهم أنّ قوام الفعل الاختياري بالارادة إلّا في العبادة فإنّ قوام الفعل الاختياري فيها بالاخطار بالبال، فكل فعل اختياري سواء كان فعلاً تكوينيا كالمشي او اعتباريا كالبيع متقوم بالارادة؛ إذ لا يُتصور فعل اختياري من دون ارادة، إلّا في العبادة كالصلاة والصوم، فإنّ قوام العبادة الاختيارية فيها بالنية، والنية بمعنى الاخطار بالبال، فلابد لكي تكون صلاته اختيارية ومتعلّقة للأمر أن يُخطر الصلاة بباله عند الشروع فيها.

ثم أشكّل على هذا المعنى الذي احتمله: بأنّ هذا مقطوع الفساد؛ لأنّه يرجع الى استثناء القاعدة العقلية؛ حيث إنّ اختيارية الفعل عقلاً بالارادة، وهذه قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص والاستثناء كي يُقال: إنّ اختيارية الفعل بالارادة إلّا في العبادة، فإنّ اختيارية العبادة لا تفترق عن اختيارية غيرها من الافعال كي تقوم النية في باب العبادات مقام الارادة في غير العبادة، هذا أمر لا معنى له.

المعنى الثاني: قال: إنّ مقصودهم من الاخطار بالبال الذي يكون معتبرا في صحة العبادة هو ما كان من مقدمات الارادة، حيث إنّ الارادة تعتمد على مقدمات: تصوّر الشيء والتصديق بفائدته، ودفع العوائق عنه، والرغبة إليه، ثم يأتي دور الارادة وهي الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات، فمن مقدمات الارادة تصور الشيء، فهذا التصور الذي هو من مقدمات الارادة شرطٌ معتبرٌ في صحة العبادة.

وعقّب ذلك بقوله: فإنّ هذا فاسد؛ إذ لا يُحتمل أنّ الشارع المقدّس يشترط في صحة العبادة ما هو مقدماتها تكوينا، فسواء اشترط الشارع أو لم يشترط، فإنّ العبادة فعل مسبوق بالارادة تكوينا لا محالة، ومن مقدمات الإرادة التصور، فدائما العبادة مسبوقة بالتصور، فإذا كانت العبادة لا تتحقق خارجا إلا مسبوقة بالتصور، فلا معنى أن يشترط الشارع في صحة العبادة سبق هذا التصور الذي لابد منه تكوينا، هذا ممّا لا معنى له.

المعنى الثالث: أنّ المراد بالنية أمر زائد على مقدمات الارادة، ألا وهو الإضمار، ومعنى ذلك أنّه بعد تصور الصلاة والتصديق بفائدتها الشوق إليها، والشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات فهناك امر زائد وراء هذه الأمور وهو أن يُضمر في نفسه أنّه مصلٍّ فاعل للصلاة، وهذا الاضمار شرط في صحة الصلاة، والشاهد على ذلك: قال: أنّه ورد في باب نية الاحرام روايات دالة على التخيير بين القول والاضمار في النية، كصحيحة حماد بن عثمان: «عن ابي عبد الله باب 17 عشر من ابواب الاحرام حديث «1»، قلت له: إني اريد أن اتمتع بالعمرة إلى الحج فكيف أقول؟ قال: تقول اللهم اني اريد أن اتمتع بالعمرة إلى الحج على كتابك وسنة نبيك وإن شئت اضمرت الذي تريد» وفي بعض الروايات قال: «الاضمار إلي» نفس الباب حديث «5».

فيقول السيّد «قده»: هذا الامر الذي يتصور لفظه ويتصور اضماره هو النية، فمقصودهم بالاخطار بالبال هو هذا الامر الذي اشارت إليه الروايات الذي هو مقسم للقول والاضمار.

والشاهد على دخل هذا المعنى في صحّة العبادة، مجموع أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ قوله «لا عمل إلّا بنية» دال على اشتراط صحة الصلاة بالنية.

الأمر الثاني: ما هي النية؟ هذه الروايات التي دلّت على أنّ التمتع بالعمرة إلى الحج مشروط بأن تُخطر عزمك على التمتع بالعمرة إلى الحج سواء تلفظت به أم اضمرته، فبضميمة هذه الروايات ِإلى قوله «لا عمل إلى بنية» نستفيد أن المقصود بالنية هو هذا المعنى إذ نقطع بعدم الخصوصية لباب الحج وأنّ النية المعتبرة في جميع العبادات بسنخ واحد. او فقل: بعد الفراغ عن اشتراط النية في صحّة العبادة بقوله «لا عمل إلا بنية» نقول: لو كان المقصود بالنية ظاهر الرواية وهو القصد للزم من ذلك توضيح الواضحات، «لا عمل إلا بنية» كل احد يعلم لا يكون عمل إلا بنية، فلو كان المراد بالنية اصل القصد لكان اشتراط العمل به من قبيل اشتراط الانسان بأن يكون ناطقا، وهذا مما لا معنى له فإنّ هذا من توضيح الواضحات، وحيث إنّه لا معنى لأن يتصدى الشارع لتوضيح الواضحات، فهذه قرينة على أنّ المراد بالنية معنى آخر ألا وهو اخطار العزم على العمل عند الشروع فيه القابل للتلفظ والاضمار.

ثم قال: وكيف كان انه بناء على هذا الاتجاه في تعريف النية وهي أنّها الاخطار بالبال فيتصور الخلل في النية؛ إذ يمكن للمكلف أن يوجد الفعل كالصلاة مثلا من دون اخطار بالبال، جهلاً نسياناً، فيكون نقيصة للنية، أو يُخطر الصلاة بالبال مرتين فيكون زيادة في النية، فالخلل في النية نقيصة او زيادة يُتصور بناء على هذا التفسير والتحديد للنية أنّها بمعنى الاخطار بالبال.

فيما ذُكر بعض الملاحظات:

منها: أنّ تحديد معنى النية بضميمة ما ورد في باب الحج غير صناعي، والسرّ في ذلك أنّ مجرد أن تفسير النية بالقصد يجعل قوله «لا عمل إلّا بنية» من قبيل توضيح الواضحات، لا يوجب المصير إلى أنّ معنى النية هو ما ورد في باب الحج؛ إذ لا شاهد على أنّ ما ورد في باب الحج تفسير للنية، فلعل هذا بيان لأمر يُعتبر في صحة العمل مضافا إلى النية، أمّا أنّ هذا تفسير للنيبة بحيث يكون قرينة على قوله «لا عمل إلا بنية» هذا أوّل الكلام، والمهم هو الاتجاه الآخر.

الاتجاه الثاني: أنّ المراد بالنية «الإرادة»، وقد أفاد السيّد «قده» أنّه بناء على هذا التفسير الذي يرى أنّ النية بمعنى الإرادة، لأجل أن نتصور الخلل في النية لابد أن نتصور علاقة الارادة بالعمل؛ إذ لا اشكال أنّ من التفت إلى الامر بالصلاة وكان في مقام الانقياد لأمر مولاه فقد أراد الصلاة، فإرادة الصلاة ما هو وجه الربط بينها وبين كل جزء من اجزاء الصلاة كالركوع والسجود والقيام وما اشبه ذلك؟

فهنا ذكر السيّد «قده» في تحديد العلقة والربط بين إرادة الصلاة والإتيان بأجزاء الصلاة، ذكر وجوها خمسة.

الوجه الأوّل: قال: قد يُقال إنّه ليس هناك إلّا ارادة واحدة وهي ارادة الصلاة المأمور بها، وهذه الإرادة الواحدة لطبيعي الصلاة المأمور بها، هي العلّة لايجاد الاجزاء.

وهذا الوجه أُشكل عليه: بأنّ من الواضح أنّ كل جزء من هذه الأجزاء فعل اختياري في نفسه، فالركوع فعل اختياري في نفسه، والسجود فعل اختياري في نفسه، ومقتضى كون كل جزء فعلا اختياريا في نفسه، هو تقومه بارادة بازائه، وحينئذ: فلا يعقل أن تكون الارادة لطبيعي الصلاة هي الارادة لكل جزء جزء، هذا كلام غير صحيح، هذا المعنى الأوّل.

الوجه الثاني: ان يقال: إنّ هناك ارادة واحدة غاية ما في الباب لها مرتبتان، مرتبة التفصيل ومرتبة الاجمال، فهذه الارادة في اول الشروع في العمل تفصيلية وهي باقية مع كل جزء على نحو الاجمال والارتكاز، ثم اشكل على ذلك: فقال: بأنّ فيه خلطا؛ لأنّ الارادة أمر بسيط يدور امره بين الوجود والعدم ولا يعقل فيها التشكيك بان تكون تارة مفصّلة وأخرى مجملة، نعم قد تكون موردا للالتفات ولا تكون موردا للالتفات، أي قد يلتفت الانسان إلى انه مريد وقد لا يلتفت إلى أنّه مريد، لا أنّ الارادة تخضع للتشكيك التفصيلي والاجمالي، بل الارادة كسائر الامور الواقعية قد تكون ملتفتا إليها وقد لا تكون ملتفتا إليها، فقد يلتفت الانسان إلى أنّه مريد للصلاة في اول الصلاة، وقد لا يلتفت إلى أنه مريد لها اثناء العمل، وهذا أمر آخر غير كون الارادة نفسها تارة تكون مفصلة وأخرى مجملة. الوجه الثالث يأتي الكلام عنه.

والحمد لله رب العالمين