أصالة التخيير

الدرس 59

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ذكرنا في ما سبق أنّ سيّدنا «قده» أفاد بأنّه حتّى لو فرضنا أنّ المقام من باب التزاحم فمع ذلك لا موجب للترجيح باحتمال الأهمية؛ لأنّ الترجيح باحتمال الأهمية في باب المتزاحمين مرجعه إلى التدافع بين الاطلاقين أو إلى تفويت أحد الملاكين بتحصيل الآخر، وكلا هذين المبنيين غير منطبقين على المقام.

أمّا التدافع بين الاطلاقين، فمن الواضح أنّه في المقام لا يوجد عجز عن الجمع بين الامتثالين كي يحصل تناف بين الاطلاقين فيسقط إطلاق ما لا يُحتمل أهميته ويبقى إطلاق ما يُحتمل أهميته؛ إذ المفروض أنّ كلا الاطلاقين في المقام فعلي لعدم العجز عن امتثالهما، كما أنّه النكتة الثانية أيضا منتفية؛ وذلك لأنّ تقديم محتمل الأهمية على غيره في باب التزاحم مرجعه معذورية تفويت ملاك بتحصيل ملاك آخر، وهذا إنما يتم مع فرض العجز عن الجمع بين الملاكين، فيُقال: إذا عجز المكلف عن حفظ الملاكين وأنّه لابد له من تفويت أحدهما بتحصيل الآخر تعيّن ما يجوز تفويته في ما لا يُحتمل أهميته، وأمّا في المقام فحيث إنّ المكلف قادر على حفظ كلا الملاكين، فلا موجب لأن يُقال بتقديم محتمل الأهمية على غيره، إذاً فحيث إنّ النكتة والمبنى في تقديم محتمل الأهمية على غيره غير متوفر في المقام فالمرجع ما يحكم به العقل.

وإذا رجعنا إلى ما يحكم به العقل فالعقل يقول: بعد العلم بتكليفين فعليين لا إشكال بوجوب إطاعتهما، وهذا هو معنى تنجزهما، غاية ما في الباب هل أنّ وجوب إطاعتهما بالموافقة القطعية لأحدهما وإن استلزمت المخالفة القطعية للآخر، ام أنّ وجوب إطاعتهما بالموافقة الاحتمالية لكليهما، وإلّا فهما تكليفان فعليان منجزان، غاية ما في الباب هل أنّ وجوب الإطاعة لكل منهما يتحقق ضمن هذه الحصّة وهي وجوب الموافقة القطعية لأحدهما، أو ضمن هذه الحصة وهي وجوب الموافقة الاحتمالية لكليهما، وإلّا قد فرغنا عن وجوب إطاعتهما معا، فلذلك يقول السيّد الخوئي لا معنى لترجيح ما يُحتمل أهميته على غيره، فإنّ ترجيح ما يُحتمل أهميته إمّا لأجل التدافع بين الاطلاقين، ولا تدافع فكلا الاطلاقين فعلي، أو لأجل عجز المكلف عن كليهما فلابد أن يُفوّت احدهما وهذا ليس حاصلاً في المقام فهو قادر على حفظهما، إذاً غاية ما في الباب أنّ العقل يقول يجب عليك اطاعتهما، أمّا اطاعتهما في الموافقة القطعية وإن استلزمت مخالفة قطعية أو إطاعتهما بالموافقة الاحتمالية فلا مرجح في البين؛ لأنّ الملاك في وجوب الإطاعة وهو حق المولوية متساوي النسبة بالنسبة إلى كليهما.

ولكنّ السيّد الشهيد «قده» أورد على أستاذه: بأنّه حتّى مجال وباب حكم العقل بالإطاعة يتأثر بتفاوت الملاكين من حيث احتمال الأهمية، وتقريب كلامه أن يُقال: لا تنحصر نكتة تقديم محتمل الأهمية على غيره في باب التزاحم في ما ذكره سيّدنا «قده» وهي أنّ النكتة إمّا التمسك بالإطلاق أو جواز تفويت أحدهما بتحصيل الآخر، بل هناك نكتة ثالثة، وهي بناء المرتكز العقلائي على أنّ وظيفة العبد أن يكون أداة بيد المولى في مقام حفظ إغراضه، فإذا افترضنا أنّ العبد دار بين طريقتين في حفظ أغراض المولى، وكانت إحدى الطريقتين اقرب إلى حفظ الغرض من الأخرى، فالمرتكز العقلائي يُعيّن ما كان اقرب إلى الحفظ.

وفي محل الكلام إذا دار الأمر بين موافقة قطعية لما يُحتمل أهميته، وحرمة مخالفة قطعية لما ما لا يُحتمل أهميته، فإنّ كليهما وإن كان حصة من حصص وجوب الإطاعة والمنجزية، فوجوب الموافقة القطعية حصّة من حصص حكم العقل بالإطاعة، وحرمة المخالفة القطعية حصّة من حصص حكم العقل بالإطاعة، فإذا دار الأمر بين هاتين الحصتين والطريقتين، فحيث إنّ الموافقة القطعية لما يُحتمل أهميته اقرب إلى حفظ غرض المولى من تجنب المخالفة القطعية لما لا يُحتمل أهميته، فهي مقدمة بحسب المرتكز العقلائي، وهذا كما يأتي - بحسب تعميم السيّد - في ما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية يأتي في ما إذا كان أحدهما أقوى احتمالا في أهميته من الآخر، أو كان أحدهما معلوم الأهمية لكن بدرجة ضئيلة لا تعيّن تقديمه على الآخر فإنّ العقلاء أيضا يقدمونه في المقام، فما ذكره سيّدنا «قده» من أنّه لا مجال للترجيح باحتمال الأهمية في مقام حكم العقل بوجوب الإطاعة، وإنّما الترجيح باحتمال الأهمية في باب التزاحم غير تامّ، بل حتى في مقام حكم العقل بوجوب الإطاعة فإننا نُرجح أحدى حصص الإطاعة على الحصة الأخرى إذا كان فيها اقربية لحفظ غرض المولى، كما لو كان أحدهما محتمل الأهمية.

ولكن لم يتضّح لنا وجود ارتكاز عقلائي بعد فرض فعلية التكليفين وتنجزهما، بيان ذلك: لابد هنا أن ننبه على نقطة فإن بعض التقريرات تُوهم البحث في جهة بينما البحث في جهة أخرى.

ليس البحث الآن في تقديم الموافقة القطعية حرمة المخالفة القطعية، كما تُوهمه بعض التقريرات، إنّما البحث هنا بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعية هل يُقدم محتمل الأهمية على غيره أم لا؟ لذلك ما في تقرير البحوث وغيره من جعل المطلب في المقام امتدادا للمطلب السابق غير صناعي ولا يتطابق مع كلمات القوم، فإنّ في كلمات القوم بحثين: بحثا مضى وهو أنّه إذا علم اجمالا بوجوب النفقة على ولده في اليومين أو حرمة النفقة على ولده في اليومين، علم إجمالا إمّا تجب النفقة على ولده في اليومين أو تحرم النفقة على ولده في اليومين، فهنا لو انفق في يوم وترك في يوم لحصلت موافقة قطعية لكن معها مخالفة قطعية، ولو أنّه انفق في كلا اليومين أو ترك في كلا اليومين لتخلص من المخالفة القطعية لكن لم تحصل موافقة قطعية وإنما حصلت موافقة احتمالية، فكان البحث في أنّ أيهما يُقدّم، هل يُقدم الموافقة القطعية لكليهما على الموافقة الاحتمالية لكليهما، أم يُقدم جانب حرمة المخالفة القطعية فيتعين الموافقة الاحتمالية لكليهما؟ فيدور الأمر بين وجوب الموافقة القطعية لكليهما ِأو الموافقة الاحتمالية لكليهما، الذي يعني حرمة المخالفة القطعية لكليهما؟ وقلنا لا مرجح وهذا البحث قد مضى.

والبحث الآخر: أنّه بعد أن فرغنا عن أنّه تحرم المخالفة القطعية، يعني ليس لك أن تُنفق في يوم وتترك في يوم لأنّ هذه مخالفة قطعية لكليهما، فليس لك أن تُنفق في يوم وتترك في يوم؛ إذاً عليك الموافقة الاحتمالية، فالموافقة الاحتمالية لها صورتان: صورة أن تُنفق في كليهما وصورة أن تترك في كليهما، فلو كان متساويين يعني الإنفاق وتركه من حيث الأهمية، لا بأس أنت مخير حينئذ بين أن تُنفق في كليهما أو تترك في كليهما، ولكن لو فرضنا، هنا يأتي البحث - وليس هذا امتدادا للبحث السابق - أنّه لو كانت النفقة محتملة الأهمية على تركها، فهل يتعين الموافقة لجانب النفقة بأن تُنفق في كلا اليومين أو ما زلت مخيرا بين أن تُنفق في كلا اليومين أو تترك في كلا اليومين، فهذا هو محل البحث كما في مصباح الأصول، وليس البحث امتدادا إلى البحث هل نُقدم الموافقة القطعية لكليهما على حرمة المخالفة القطعية لكليهما أم لا؟ لا، بعد أن فرغنا عن حرمة المخالفة القطعية لكليهما ووصلت النوبة للموافقة الاحتمالية لكليهما فهل ننفق في كليهما أو نترك في كليهما، أو أننا مخيرون؟ فلو فرضنا أنّ الإنفاق أهم علما لكن بدرجة طفيفة أو احتمالا، أو كان كل منهما محتمل الأهمية ولكن احتمال الأهمية في الإنفاق أقوى منه في تركه؟ فهنا الذي يقول السيّد الخوئي لا مرجح، وهنا الذي يمكن جعل كلام السيّد الشهيد فيه، وهو أن يقول نعم إذا كان احدهما محتمل الأهمية فالمرتكز العقلائي يقول انفق في كلا اليومين لأنه محتمل الأهمية أو معلوم الأهمية أو أقوى احتمالا للأهمية، هذا محل الكلام.

فلأجل ذلك نحن مع سيّدنا «قده» في أنّه بعد فرض فعلية التكليفين، فهنا تكليفان في يومين، وكلاهما فعلي لماذا؟ للتمكن من مخالفته القطعية، فبعد أن كان كلاهما فعليا ومنجزا من حيث حرمة المخالفة القطعية لأجل القدرة عليها، إذاً أي مرجح لأن يُقال بما أنّ هذا محتمل الاهمية فتُقدم موافقته وإن استلزمت مخالفة قطعية للآخر؛ لأنّه إذا انفق في كلا اليومين، فقطعا لو كان مكلفا بالترك لكانت مخالفة قطعية له، ولو ترك في كلا اليومين، فقطعا لو كان مكلفا بالانفاق لكانت مخالفة قطعية له.

إذاً فبالنتيجة: بعد الفراغ عن فعليتهما وتنجزهما يقول العقل لا مرجح ولا يوجد ارتكاز عقلائي على أنّه ما دامت النفقة محتملة الاهمية، إذاً فتُقدم...، مع أنّه في الواقع قد لا يكون مكلفا في النفقة بل قد يكون مكلفا بالترك، فهنا لا يرى العقل ميزة لكون النفقة محتملة الاهمية على تركها، بحيث يقول عليك بالموافقة القطعية لمحتمل الأهمية وقد لا يكون هو المكلف به في الواقع، فهذا ممّا لم يقم عليه ارتكاز عقلائي ولم يقم عليه حكم عقلي في البين، فالنتيجة: أن لا مرجح، هذا تمام الكلام في هذا التنبيه.

التنبيه الثاني: ما ذكره سيّدنا «قده» أنّ دوران الامر بين المحذورين مع تعدد الواقعة قد يكون عرضيا وقد يكون طوليا، أمّا العرضي فهو كما لو علم المكلف قطعا أنّه حلف على ترك وطأ إحدى زوجتيه وعلى وطأ الأخرى، ولكن اشتبهت الزوجتان فمن هي التي حلف على ترك وطئها ومن التي حلف على وطئها، أو أنّه علم إجمالا أنّه حلف على فعل شيء وحلف على ترك شيء آخر، واشتبه ما حلف على فعله مع ما حلف على تركه، فهنا لا يوجد طولية لأنّهما في زمان واحد، فالأمر دائر بين المحذورين لكن مع تعدد الواقعة من دون طولية بينهما، فكل واحدة من زوجتيه يدور الأمر في التعامل معها بين المحذورين.

فهنا أفاد سيّدنا «قده» حيث إنّ المكلف يعلم بوجوب وطء إحداهما ويعلم بحرمة وطأ الأخرى، ولا يمكنه الموافقة القطعية لكلا هذين العلمين الإجماليين؛ إذ لا يمكنه الجمع بين الوطئين والتركين في هذا اليوم، كما لو كان حلفه في هذا اليوم، فحيث إنّ الموافقة القطعية لكلاهما مستحيلة تصل النوبة لحرمة المخالفة القطعية، المهم أن لا يرتكب المخالفة القطعية لكليهما بأن يطأهما معا أو يتركهما معا، فإنّ في ذلك مخالفة قطعية، فعليه أن يختار الموافقة الاحتمالية بأن ينوّع فيطأ إحداهما ويترك الأخرى، وقد سبق البحث في هذه النقطة وأنّه هل تُقدم حرمة المخالفة القطعية لكليهما على وجوب الموافقة القطعية لهما أيضا معا، هل تُقدم أم لا؟ هذا سبق البحث فيه وما هو المرجح.

وأمّا في دوران الأمر، يأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين