حقيقة العلم الإجمالي

الدرس 8

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

اختلف بيان المحقق الاصفهاني عن النائيني في بيان المراد من الجامع، فقد افاد في صفحة 237 من ج 4 بقوله: ”وحيث عرفت «أي ضمن مناقشته لأستاذه الآخوند» أن تعلق الاجمالي بالمردد غير معقول، وبالواقع بخصوصه غير معقول؛ إذ لا معنى لتعلقه به إلا كونه معلوما به «فلو تعلق العلم الاجمالي بالواقع بخصوصه لكان الواقع بخصوصه معلوما، وهذه عبارة عن العلم التفصيلي»، وهو خلف «أي خلف كونه اجماليا»، فلا محالة «أي اذا لم يتعلق بالمردد ولا بالواقع بخصوصه فلا محالة» ليس المعلوم إلا الجامع بين الخاصين المحتملين «أي وجوب الظهر والجمعة مثلاً في يوم الجمعة»، فهو مركب من علم واحتمالين، بل من علم تفصيلي «فمن علم بوجوب فريضة يوم الجمعة اما الظهر تعيينا او الجمعة تعيينا فقد علم تفصيلا بالوجوب» فالوجوب الواقعي وان كان في الواقع متعينا بتعلقه بالظهر مثلا، إلا أنه بما هو معلوم «أي من زاوية تعلق العلم به لا من زاوية الواقع» متعين علما بما لا يخرج عن الظهر والجمعة «و اثباتا بصفة وهي ما لا يخرج عن الظهر والجمعة فما هو متعلق العلم الاجمالي في افق النفس معين ولكنه معين بصفة سلبية وهي انه ما لا يخرج عن الطرفين الظهر والجمعة»، وإلا فلا يعقل تعلق العلم أيضا بأن طرف الوجوب أحد الأمرين «اشارة الى مطلب النائيني الذي رأى ان متعلق العلم الاجمالي هو الجامع وان الجامع هو احد الامرين من ظهر او جمعة فهو يناقش النائيني ضمنا»، لرجوعه إلى العلم بطرفية أحد الأمرين، وهو من تعلق العلم بالمردد“.

من هنا ذكرنا سابقا ان في كلام المحقق تأملات ثلاثة:

التأمل الاول: دعوى ان متعلق العلم الإجمالي ينحل الى علم تفصيلي بالوجوب، وقلنا بان المحقق العراقي اشكل على ذلك انه مع تباين العلمين فكيف يكون احدهما مستبطنا لمباينه؟

والتأمل الثاني: ان المحقق جعل من اجزاء العلم الإجمالي ومقوماته الشك التفصيلي في ان الواجب هو الظهر ام لا او ان الواجب هو الجمعة ام لا وقلنا بان الشك ليس داخلا في حقيقة العلم الاجمالي بل ما هو من حقيقته وقوامه هي ”الاشارة“، وهذه الاشارة الذهنية حيث انها متوجهة لمتعلق ما، فذلك المتعلق بنظر العالم بالإجمال ليس له مصداق معين، وهذا  أي التردد  في متعلق الاشارة بانه ليس له مصداق معين هو من قوام الاشارة نفسها لا ان وراء التردد في متعلق الاشارة يوجد شك تفصيلي نعم من اثار ولوازم التردد في متعلق الاشارة وجود الشك لا ان الشك من قوام العلم الاجمالي.

ولكن قلنا يمكن الدفاع عنه بان مقصوده التحليل العقلي لا ان مقصوده ان الصورة المنتقشة في الذهن للعلم الاجمالي مركبة والا فمن الواضح  كما يقول المحقق العراقي  ان العلم الاجمالي عبارة عن صورة وحدانية بسيطة لا تركب فيها، وهي اشارة الذهن لما ليس له مصداق معين لا اكثر من ذلك الا ان الذهن يقوم بتحليل هذه الاشارة الى علم تفصيلي بالوجوب وعلم تفصيلي بعدم خروج طرف الوجوب عن هذين الامرين وشكين تفصيليين، فهذا تحليل لا تركيب وان كان ظاهر عبارة المحقق التركيب الا انه حيث ان من الواضح ان الصورة بسيطة فيحمل كلامه ان مقصوده التحليل.

الا ان الكلام في التأمل الثالث، حيث ان المحقق الاصفهاني جعل من قوام العلم  حتّى بعد التحليل  العنصر السلبي وهو ان لا يخرج طرف الوجوب عن هذه الدائرة وهي الظهر والجمعة وقلنا بان المقوم للعلم العنصر الايجابي لا السلبي وعدم خروج المعلوم عن الدائرة لازم للعنصر الايجابي، فما انصب عليه العلم ابتداءً احد الامرين ولازمه عدم خروج المعلوم عن هذه الدائرة، اذا فما المبرر لان يذكر المحقق الاصفهاني هذا العنصر السلبي؟

هنا توجيهان:

الاول: ما افاده سيد المنتقى وهو ظاهر العبارة أيضاً بان مغزى المحقق الاصفهاني من هذه العبارة انه لو قلنا بان مصب العلم الإجمالي هو احد الامرين لا ان مصبه ما لا يخرج عن الامرين، لرجعنا لما فررنا منه لان تصور المحقق الاصفهاني ان الأحد يعني الترديد فلو كان مصب العلم الاجمالي مباشرة الأحد والأحد مساوق للتردد لكان طرف العلم الاجمالي هو المردد، وهذا رجوع عما اشكل به هو على شيخه صاحب الكفاية ولا يعقل ان يكون طرف العلم المردد اذ لابد في تحقق العلم في افق النفس ان يكون طرفه مشخصا في نفس هذا الافق فلو كان طرفه المردد لم يعقل انقداحه في افق النفس لذلك قال بان طرف العلم الاجمالي معين لا مردد، وما هو المعين له هو العنصر السلبي انه لا يخرج عن هذين الامرين، ولذلك قال والا فلا يعقل تعلق العلم أيضاً بان طرف الوجوب احد الامرين أي بان يكون متعلقه احد الامرين لرجوعه الى العلم بطرفية احد الامرين وهو أي تعلق العلم بطرفية احد الامرين من تعلق العلم بالمردد.

وقد قلنا فيما سبق اذا كان هذا هو المنظور فهذا غير وارد باعتبار انه يكفي في طرفية العلم الاجمالي المحقق لانقداحه في افق النفس ان الصورة متعينة وان كان المشار اليه بهذه الصورة مما لا تعين لمصداقه بنظر العالم الا ان هذا لا ينفي ان الصورة متعينه فكون طرفه متعينا لا يحتاج الى ان نزيح تعلقه بالأحد فان صورة الأحد متعينة بل يكفي في ذلك ان نقول ما تعلق به العلم الاجمالي عنوان الأحد ومفهومه ولكن لا على نحو الموضوعية بل المشيرية والأحد على نحو المشيرية معين لا مردد انما المشار اليه بهذا العنوان لا تعين لمصداقه بنظر العالم وهذا لا يوجب التردد في طرفية العلم الاجمالي.

والتبرير الآخر ما في بعض الكلمات من ان مقصود المحقق الاصفهاني التفريق بين المعلوم الإجمالي المبهم والعلم الاجمالي باصطلاح الاصوليين، بيان ذلك مثلاً من يعلم ان في داره اناء وفراش وغذاء ولكنه لا يميز خصوصيات كل واحد منها فهل يعتبر هذا من العلم الاجمالي المبحوث عنه؟ نقول لا لان محل ومحط بحث الاصوليين ما كان قابلا للمنجزية والعلم الإجمالي القابل للمنجزية ما كان مقيسا لدائرة معينة مثلاً ان اعلم بإناء نجس من بين هذه الانية لا بإناء نجس فقط، وان اعلم بوجوب فريضة من هاتين الفريضتين فهناك فرق بين العلم بوجوب فريضة في الشريعة وان لم اعلم خصائصها فهذا ليس من العلم الاجمالي الاصولي وان كان كذلك لغة وعرفا، وتارة اعلم بوجوب فريضة في يوم الجمعة من هاتين الفريضتين او اعلم تارة بوجود حيوان، وتارة اعلم بوجود حيوان بين هذه المخلوقات.

فمتى قيس المعلوم بالإجمال الى دائرة معينة كان هو العلم الاجمالي باصطلاح الاصوليين لأنّه هو القابل للمنجزية اذ ان منجزية العلم الاجمالي تعني حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وانما تتصور المخالفة القطعية والموافقة القطعية مع وجود دائرة معينة، فلأجل ان المحقق الاصفهاني يريد ان يشير الى ذلك قال بان المعلوم بالإجمال ما لا يخرج عن احد الامرين فقوله ان المعلوم بالإجمال ما لا يخرج عن احد الامرين اشارة الى ان المقوم للمعلوم بالإجمال ان يكون مقيسا لدائرة معينة والا فليس من العلم الاجمالي الاصولي، فهذا غرض المحقق.

ولكن اذا كان هذا هو الغرض من بيان العنصر السلبي فيكفي في تحقيق هذا الغرض العنصر الايجابي أيضاً فانه اذا قال ان متعلق العلم الاجمالي احد امرين حقق ما هو العنصر المأخوذ فيه وهو ان يكون مقيسا لدائرة معينة.

فالنتيجة ان هذه العبارة من المحقق وهي ان طرف العلم الاجمالي ما لا يخرج عن الطرفين محل اشكال سواء كان منظور المحقق ما قبل تحليل العلم الإجمالي او ما بعده. هذا كله ما يتعلق بالبيان الاول للجامع المتعلق للعلم الاجمالي.

البيان الثاني ما افاده المحقق النائيني ان متعلق العلم الاجمالي ”جامعٌ انتزاعيٌ“ وهو عنوان الأحد، او ما يرادفه لا ان متعلقه جامع متأصل كالإنسان مثلاً او الحيوان، بل لابد ان يكون متعلقه الجامع الانتزاعي وهو عنوان الأحد او ما يرادفه كفرد من الفردين وشيء من الشيئين وهذا ما اوجب البحث بين الاعلام في انه ما هي الضرورة الموجيبة لجعل متعلق العلم الاجمالي جامعا انتزاعيا فلم لا يكون متأصلا. وحيث بنى السيد السيستاني على نفس مبنى المحقق النائيني حاول ان يثبت ان متعلق العلم الاجمالي لابد وان يكون جامعا انتزاعيا وقد افاد عدة وجوه لإثبات ذلك.

الوجه الأول: لاشك ولا ريب ان العلم الإجمالي والتفصيلي سنخان متغايران من العلم، ولا شك أيضاً ان التغاير ليس في نفس العلم اذ العلم هو عبارة عن الانكشاف فلا وجه للتغاير في نفس العلم اذا لا محالة ما هو المائز بين العلمين في المتعلق لا في نفس العلم فاذا رجعنا الى العلم التفصيلي وجدنا ان متعلقه جامع متأصل، كما لو علم بوجوب الجمعة، تعيينا فان متعلق العلم التفصيلي جامع متأصل. فاذا كان متعلق العلم التفصيلي هو الجامع المتأصل فلا محالة لن يمتاز عنه العلم الاجمالي الا اذا كان متعلقه الجامع الانتزاعي، كعنوان الأحد وما يرادفه.

ولكن هذا الوجه فيه انه يمكن الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي في نفس درجة الانكشاف كما ذهب اليه المحقق العراقي فادعى انهما وان كانا من مقولة الانكشاف الا انه ذو دجات فلا يتعين الفرد في المتعلق وعلى فرض ان الفرق في المتعلق فيمكن ان يلتزم بما ذهب اليه صاحب الكفاية في شرح التبصرة في كتاب الوقف حيث افاد في هذه الموارد انن متعلق العلم الاجمالي يختلف عن التفصيلي في انه الفرد المردد والمقصود بالفرد المردد ما يرى بنظر العالم ليس له مصداق معين بحيث يكون انطباقه عليه دون الآخر ترجيحا بلا مرجح، وعليه لا يكون هذا الوجه كافيا في اثبات ضرورة ان يكون متعلق العلم الاجمالي الجامع الانتزاعي.

والحمد الله رب العالمين