حقيقة العلم الإجمالي

الدرس 14

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين

لازال الكلام في مسلك المحقق العراقي الذي يرى ان حقيقة العلم الاجمالي بكون المنكشف بالعلم الاجمالي الواقع، وذكرنا ان كلامه متضمن لعناصر ثلاثة وصل الكلام الى العنصر الثالث: حيث افاد في نهاية الافكار ص 299 أنّ متعلق العلم الاجمالي شبيه بمفاد النكرة..

وبيان ذلك ان النكرة تارة تكون في مقام الاخبار كما اذا قلت جاءني رجل فالمخبر عنه معين خارجاً وان كان مبهما بالنسبة الى المخاطب، وتارة تكون في مقام الانشاء كما اذا قلت جئني برجل فاذا كانت في مقام الانشاء فهناك فرق بين مفادها ومفاد الواحد أي ان هناك فرقا بين ان تقول جئني برجل لحمل المتاع او تقول ”واحد من الرجال يكفي لحمل المتاع“، فاذا قلت 1 من الرجال يكفي لحمل المتاع فان عنوان الواحد لا يحكي الا عن حيثية مشتركة، وهي صرف وجود الرجل فكانه قال صرف وجود رجل كاف في تحقيق الغرض، بينما في قولك جئني برجل فان النكرة هنا تحكي عن رجل متخصص بخصوصية خارجية، فليس منظورك صرف الوجود بل منظورك الرجل الخارجي المتخصص بخصوصية وهذا المفاد هو مفاد متعلق العلم الإجمالي كما اذا قلت علمت ان رجلاً بين هؤلاء الوقوف فما علمت به رجل متخصص بخصوصية واقعية او خارجية غاية الأمر ان الفرق بين مفاد النكرة ومتعلق العلم الاجمالي ان مفاد النكرة ما كان متخصصا بخصوصية غير معينة حتّى واقعا، فانك ان قلت جئني برجل فانت تريد من كان موجودا خارجا ذا صفة معينة من حيث طوله او عرضه او قدرته الا ان المنظور اليه ليس متعينا حتّى في علم الله، لأنك لست في مقام الاخبار والحكاية حتّى يكون المخبر عنه معينا، بل في مقام الانشاء، فبما انك في مقام الانشاء فالمطلوب ان تأتيني برجل ذي خصوصية خارجية يقدر على حمل المتاع واما ذلك المتخصص فهل هو معين؟ نقول ليس معينا ولذلك ينطبق على اي فرد له خصوصية.

بينما متعلق العلم الاجمالي كقولك علمت ان هنا رجلا بين هؤلاء الوقوف فان المعلوم هنا رجل متخصص بخصوصية معينة واقعاً لا غير معينة كما في مفاد النكرة فمتعلق العلم الاجمالي شبيه بمفاد النكرة الا ان مفاد النكرة غير معين ومتعلق العلم الاجمالي معين، فتحصل ان مطلب العراقي «قده» ان متعلق العلم الاجمالي الجامع الكاشف عن واقع متعين وان لم يمكن تمييز ذلك الواقع لأجل الجهل والابهام.

وهذا المبنى وقع موردا للإشكال..

الاشكال الأول: ما تعرض له نفس العراقي في نهاية الافكار واجاب عنه، ومحصله ان صورة الواقع عند حصول العلم الاجمالي اما ان تنكشف بها خصوصية ذلك الواقع فهو علم تفصيلي واما ان لا تنكشف خصوصية ذلك الواقع اذا فالمعلوم مازال جامعا يصدق على عدة وقائع لا واقعا، فاذا تصورت اناءً نجسا بين انية فالإناء النجس اما انكشفت خصوصيته فاصبح علما تفصيليا او لم تنكشف فمازال الاناء النجس لا يحكي الا عن جامع لا عن خصوصية واقعية متعينة في نفسها.

وبعبارة اخرى اذا كان متعلق العلم الاجمالي والمنكشف به هو الواقع، فكيف يعقل تعلق اليقين والشك به؟ فهو متيقن وفي نفس الوقت هو مشكوك فان مآل ذلك الى اجتماع الضدين في مورد واحد هو محال.

فأجاب «قده» عن ذلك بمجموع امرين، الامر الأول: ان الصفات النفسية كالحب والكراهة والعلم والشك امور تعلقية ومقتضى كونها تعلقية تقومها بالصور والعناوين الموجودة في افق الذهن، فالعلم كما اذا علمت بزيد وجود ذهني متقوم بصورة زيد، والحب كما لو احببت زيدا فانه وجود نفسي متقوم بصورة زيد، ولا يسري الى الخارج، فهذه الامور الذهنية لا تمتد الى الخارج بل تقف على الصور، اذ قد لا يكون هناك خارج اصلا فقد يحب الانسان شيئا فيتبين عدم وجوده او يعتقد بشيء فيتبين عدمه فلو كانت الصفات النفسية تسري الى الخارج لما علم تحققها في مورد ليس فيه خارج، وهذا معنى ان العروض ذهني والاتصاف خارجي، ففي مرحلة عروض الوجوب مثلاً على صلاة الجمعة اذ الوجوب عارض ذهني والمعروض صورة ذهنية وهي صلاة الجمعة فاذا وجدت الصلاة خارجا يقال هذه الصلاة واجبة، فالعروض ذهني والاتصاف خارجي ولا يعقل ان يكون العروض ذهنيا اذ ما في الذهن لا يعقل ان يكون موضوعه ما في الخارج.

الامر الثاني بما ان هذه الامور الذهنية والنفسية متقومه بالصور والعناوين ولا تسري الى الخارج وان كان متعلقها الصورة بما هي حاكية عن الخارج ولكنها لا تسري نفس الصفة الى الخارج فبناءً على ذلك يعقل ان تتعلق الصفات المتضادة بشيء واحد خارجا، لأنها انما تتعلق بالصور لا بنفس الخارج فقد يكون الخارج واحدا والصور متعددة فتتعدد بذلك الصفات، مثلاً قد يكون عنوان زيد العالم الفقيه محبوبا عندك ولكن عنوان الرجل المسرع مبغوض عندك وانت لا تعلم انهما شخص واحد فتقول زيد الفقيه العالم محبوب عندي ولكن الرجل المسرع مبغوض عندي فيقال انهما 1 فتقول بما ان هذا الواحد انكشف لي بصورة محببة تعلق به الحب، وانكشف بصورة منفرة تعلق به البغض فكذلك قد يتعلق العلم والشك بواحد لان صوّره متعددة، فالإناء النجس الخارجي من حيث صورة اناء نجس معلوم ومن حيث صورة ابيض او ازرق مرقم بباء او جيم مشكوك فاجتمع اليقين أو لشك على 1 خارجي لاختلاف صوره فلم يجتمعا في صور واحدة كي يكونا موردا لاجتماع الضدين، كما ان الواقع هو الواقع وهو معلوم بصورة، ومبهم بصورة اخرى.

الاشكال الثاني وهو المهم حاول بعض الاجلة ارجاع مسلك العراقي الى مسلك المحققين النائيني والاصفهاني بان يقال مسلك العراقي هو عبارة عن ان متعلق العلم الاجمالي الجامع وقول العراقي الجامع الكاشف عن الواقع لا يقصد به واقعا معينا وانما يقصد به الجامع مقابل الجامع الذي لا كاشفية له، اذ بينّا فيما سبق ان الجامع قد يلحظ بما هو وجود ذهني وهذا ليس متعلقا للعلم الاجمالي وقد يلحظ بما هو مشير لمنشا الانتزاع اي صرف الوجود وهذا أيضاً ليس متعلقا للعلم الاجمالي وان كان متعلقا للوجوب التخييري وقد يلحظ الجامع مشيرا كاشفا عن الواقع في الجملة، فتعبير العراقي بالجامع الكاشف عن الواقع لا يزيد على مسلك القول بالجامع لأنّه يريد الكاشف في الجملة لا الكاشف عن واقع متعين في نفسه.

ولكن اذا رجعنا عبارات المحقق العراقي نجد ان ما فهمه الاعلام الثلاث سيدنا الخوئي وسيد المنتقى والسيد الصدر هو الصحيح المطابق لكلامه وهو ان مدعاه الجامع الكاشف عن واقع متعين لا عن واقع في الجملة قال ”لكن لا بما انه في حيال ذاته ولا بما انه حاك عن منشائه كما في الطبيعي المأخوذ في حيز التكاليف، بل بما انه مرأة إجمالية عن الخصوصية الواقعية المرددة في نظره بين إحداهما بنحو تكون نسبته إليها نسبة الإجمال والتفصيل بحيث لو كشف الغطاء كان المعلوم بالإجمال عين المعلوم التفصيلي“ فاذا علمت بنجاسة احد الإناءين ثم زال اللبس ورأيت النجاسة في الاناء الابيض لقلت هذا ما علمته من اول الامر وهذا يعني ان ما تعلق به العلم الاجمالي هو واقع متعين.

وقال أيضاً ”فيكون المقام من هذه الجهة أشبه شيء بمدلول النكرة الذي هو عبارة عن إحدى الخصوصيات قبال عنوان الواحد الحاكي عن صرف منشئه من دون ان يكون مرآتا إجماليا للخصوصية وان كان بين المقامين فرق من حيث ان النكرة يراد بها الخصوصية المبهمة بنحو لا تعين لها في الواقع أيضا، بخلاف المقام «اي في العلم الإجمالي» حيث ان للعنوان المعلوم بالإجمال واقعا محفوظا بنظر القاطع، ولكنه مجهول عنده «اي لا منشأ لتردده الا الجهل والا فهو واقع محفوظ» فلم يدر انه هذا أو ذاك“.

وقال ص 300 ”فانه عبارة عن الجامع المنطبق بوصف موجوديته وتعينه في الخارج وكان الترديد في ان المنطق عليه هو هذا أو ذاك“ فواضح من ?لامه ان الواقع يزيد عن الجامع، وبعد هذا البيان يرد على العراقي ان بعض صور العلم الاجمالي ليس المنكشف به واقعا متعينا، وقد تقدم موردين:

المورد الأول ما اذا علمت بنجاسة احد الإناءين وفي نفس الوقت احتمل نجاسة الآخر ففي هذا الفرض هل يقال لي ما علمته اناء متعين ام ما علمته صرف وجود اناء نجس ويحتمل الزيادة فأقول، لم اعلم بنجاسة اناء متعين وانما علمت بصرف وجود نجاسة قد تنطبق على 1 وقد تزيد فليس لمعلومي واقع متعين، اذ لا يجتمع تعين الواقع مع احتمال ان جميع ما اراه هو نجس اذ كيف يكون النجس متعنيا مع اني احتمل ان جميع ما هو امامي نجس.

والمورد الثاني ما اذا علم بكذب احد الخبرين لا لأجل اخبار المعصوم ان احدهما كاذب بل لأجل المضادة فقط فاذا ورد خبر يدل على ان الفريضة في يوم الجمعة تعيينا وورد اخر على ان الفريضة الظهر تعييناً فحينئذٍ نقول لعل كلا الخبرين كاذب والواقع هو التخيير بين الظهر والجمعة ولكن مع ذلك اقطع ان القدر المتيقن كذب احدهما فقطعي ان القدر المتيقن كذب احدهما ليس ناشئا عن اخبار المعصوم بل لأجل التضاد فقط حيث ان الضدين لا يصدقان معا فحتما احدهما هو الكاذب اما ما هو هذا الأحد فان المحكي بهذا الأحد ليس له تعين حتّى اقعا اذ قد يكون كلاهما كاذب فتحصل من ذلك ان دعوى كشف العلم الاجمالي عبر الصورة الجامع عن واقع متعين كما هو ظاهر كلمات العراقي غير مضطرد في سائر موارد.

والحمد الله رب العالمين