دور المعجزة في عملية التبليغ

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

هناك بحثٌ عقائديٌ طُرِحَ منذ بداية علم الكلام، منذ أن أسّس علم الكلام - أي: العلم الباحث عن إثبات العقائد بالأدلة العقليّة - طُرِحَ هذا البحث، وهو أنّ الدليل على صدق النبي في نبوته هو إقامة المعجزة، أيّ نبي من أجل إثبات صدق نبوته ومن أجل إثبات أنه متصلٌ بالسّماء ومتصلٌ بعالم الوحي يحتاج إلى إقامة المعجزة، فصدق النبوة يتوقف على إقامة المعجزة، هنا في هذه النقطة نحن نطرح ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: نقطة فلسفيّة.

«وربّما تكون غامضة على بعض الأذهان ولكننا نطرحها ومن لم يستوضحها نوضحها له بعض ذلك»

هنا خلافٌ بين علماء الكلام وعلماء الفلسفة، علماء الكلام يقولون: الدّليل على صدق نبوّة النبي إقامة المعجزة، إذا أقام شخصٌ.. لو وُجِدَ شخصان كلٌ يقول: «أنا نبيٌ» كيف نميّز الصادق من الكاذب؟!

مثلاً: محمد بن عبد الله ومسيلمة الكذّاب كلٌ قال: «أنا نبيٌ»، هذا قال: «أنا نبيٌ»، وهذا قال: «أنا نبيٌ»، كيف نميّز الصادق من الكاذب؟ من هو النبي حقًا ومن هو المدّعي كذبًا؟

التمييز إنّما هو بإقامة المعجزة، من أقام منهما المعجزة فهو نبيٌ حقًا ومن لم يقم المعجزة فلا نبوّة له، لماذا؟! يقول علماء الكلام: لأنّ الله حيث يعلم أنّ هذا يدّعي النبوة وهو صادقٌ وهذا يدّعي النبوّة ولكنه كاذبٌ، لو أنّ الله أعطى المعجزة بيد الشخص الكاذب لكان إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب إغراءً بالجهل وتشجيعًا على الكذب؛ لأنّ الله يعلم بأنّ هذا الشخص كاذبٌ فإذا أعطاه المعجزة شجّعه على الكذب وأغرى الأمّة بالجهل، والإغراء بالجهل والتشجيع على الكذب قبيحٌ، والقبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى، أيّ إنسان حكيم لا يصدر منه القبيح فكيف بالله عزّ وجلّ؟! القبيح لا يصدر منه تبارك وتعالى، بما أنّ القبيح لا يصدر منه إذن يستحيل أن يصدر من الله إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب، فإذا أعطى المعجزة بيد شخص عرفنا أنّه صادقٌ في نبوّته وأنّه متصلٌ بالسماء، إذ لو كان كاذبًا لما أعطاه الله المعجزة، هذا دليل المتكلمين على أنّ المعجزة هي البرهان على صدق نبوّة النبي.

الفلاسفة يقولون: لا، هذا الاستدلال خطأ، لِمَ؟

يقولون: هذا الاستدلال يستلزم الدّور، كيف يستلزم الدّور؟! أنت تقول أنّ الدّليل على أنّ المعجزة برهانٌ على صدق النبوّة هو أنّها لو أعطيت بيد الكاذب لكان إعطاؤها بيد الكاذب إغراءً بالجهل، إنّما تكون المعجزة على يد الكاذب إغراءً بالجهل إذا كانت المعجزة دليلاً على النبوّة، يعني لو أنّ البشر يعرفون مسبقًا من قبل أن يبعث الله أيّ نبي منذ مثلاً يوم آدم، منذ يوم آدم البشر علموا أنّ المعجزة تعطى بيد النبي ولا تعطى بيد غيره، إذا علم البشرُ ذلك فإعطاء المعجزة بيد الكاذب يكون إغراءً بالجهل، وأمّا إذا كان البشر لا يعلمون بذلك، يعني: يحتملون أنّ المعجزة تعطى لأيّ شخص كرامة من الله وتفضّلاً من الله سواءً كان الشخص صادقًا أو كان الشخص كاذبًا من الممكن أن تُعْطَى المعجزة بيد أيّ شخص، حينئذٍ لا يكون إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب إغراءً بالجهل، إذن هذا الاستدلال استدلالٌ دوريٌ، إعطاء المعجزة، كون المعجزة دليلاً على صدق نبوّة النبي متوقفٌ على قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب، قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب متوقفٌ على أن تكون المعجزة دليلاً على النبوّة، إذ لو لم تكن دليلاً على النبوّة لما كان إعطاؤها بيد الكاذب قبيحًا، فتوقّف الاستدلال بأنّ المعجزة دليلٌ على صدق النبوّة على إثبات أنّ المعجزة دليلٌ على صدق النبوّة في رتبةٍ سابقةٍ، وهذا استدلالٌ دوريٌ، والاستدلال الدوري باطلٌ، ومن أراد أن يستوضح هذا منّا في مكانٍ آخر يستوضحه إن شاء الله، فحينئذٍ مقرّر الفلاسفة أنّ المعجزة ليست هي الدّليل، اجتماع القرائن دليلٌ، كيف يعني اجتماع القرائن دليلٌ؟!

مثلاً: نأتي للنبي محمدٍ ، بالنسبة إلى النبي الله تبارك وتعالى جمع القرائن فيه على الصدق «صدق نبوّته»، أولاً: خلقه صادقًا أمينًا معروفًا بين قومه بأنّه لا يكذب ولا يتعمّد الفعل الخاطئ أو الفعل الخبيث، هذه قرينة، القرينة الثانية: أنّ الله جعله أمّيًا لا يقرأ ولا يكتب، القرينة الثالثة: أنّ الله أبعده عن حلبات الشعر وعن محافل الأدب وعن الحضور عند أيّ معلم وعن الاستفادة من أيّ مدرّسٍ كما أبعده عن أيّ علاقةٍ مع علماء اليهود أو علماء النصارى، يعني أبعده الله عن أجواء الثقافة والأدب في ذلك الزمن إبعادًا كليًا، هذه قرينة ثانية، القرينة الثالثة: أنّ هذا الرّجل بضميمة القرينتين الأوليين رجلٌ لا يكذب كما هو معروفٌ بين قومه، رجلٌ لا يحمل علمًا، ليس لا يحمل علمًا واقعًا، يعني بين الناس غير معروفٍ بهذا، وإلا هو يحمل العلوم واقعًا، رجلٌ لم يُعْرَف بين النّاس بعلم ولا بثقافةٍ ولا بأدبٍ ولا بتضلع بلاغي.. كلّ هذا لم يُعْرَف بين الناس به، القرينة الثالثة: أنّ الله وضع على يديه معجزة بلاغيّة غريبة ألا وهي القرآن الكريم، «إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّه يعلو ولا يعلى عليه».

لمّا اجتمعت هذه القرائن: شخصٌ لا يكذب، شخصٌ لا يعرف «بين الناس طبعًا»، شخصٌ لا يعرف ثقافة ولا علمًا ولا أدبًا، إذن كيف استطاع أن يأتي بقرآنٍ مثل هذا القرآن وهو لم يتصل لا بعلماء اليهود كي يستفيد منهم ولا بعلماء النصارى كي يأخذ منهم ولم يتصل بمعلم كي يتعلم منه ولم يكن يعرف القراءة والكتابة كي من خلال القراءة والكتابة يتضمن بعض المعلومات ولم يسافر سفرات علميّة كي يستفيد من هذه السفرات العلميّة ولم يشارك في أدبٍ ولا شعرٍ ولا محفلٍ كي تكون له خبرة لغويّة أو خبرة أدبيّة.. إذن الشخص مع كلّ هذا كيف أتى بهذا القرآن الذي قال فيه تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [2] ؟! ضم هذه القرائن لبعضها يثبت لنا ماذا؟! أنّه صادقٌ في نبوّته، وأنّ هذا القرآن لم يصدر منه وإنّما صدر من اليد الإلهيّة الغيبيّة، هذا معنى الآية التي قرآنها: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ أنت قبل نزول القرآن لم تكن تقرأ أيّ كتاب آخر ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ولم تكن تكتب المعلومات أو تنسخها، إذن لو كنت تقرأ أو تكتب لحصل الرّيب في شخصيتك، لو كنت قبل البعثة إنسانًا معروفًا بالثقافة أو معروفًا بالعلم أو معروفًا بملكة القراءة والكتابة لارتاب الناس في شخصيتك ولطعنوا فيك، لكن شاءت الحكمة الإلهيّة أن تُبْعَدَ عن كلّ هذا، يتيم لا أب ولا أم، أمّي لا تقرأ ولا تكتب، لم تُعْرَف بثقافة ولا بعلم ولا بأدب ولا بثقافةٍ لغويّةٍ بارعةٍ أبْعِدّت عن هذا تمامًا كي لا يحصل شكٌ في صدقك وفي صحّة نبوتك، ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا - يعني: لو كنتَ كذلك - لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، إذن فحينئذٍ الدّليل على صدق النبوّة: اجتماع القرائن، وليس الدّليل على صدق النبوّة: إقامة المعجزة، هذا بحسب مبنى الفلاسفة.

نأتي إلى النقطة الثانية:

لماذا أقام الأنبياء والأئمة المعاجز والكرامات «يعني: الأمور الخارقة للعادة»؟! تجد أنّ موسى عنده العصا التي إذا وُضِعَت تلقف ما يأفكون، تجد أنّ عيسى بن مريم كان يبرئ الأكمه والأبرص بل ويحيي الموتى بإذن الله، تجد أنّ النبي تسبّح الحصا في كفه وتترجل له الشجرة وينشق له القمر.

فما الكليم ما العصا وما الحجرْ فهو بسبابته شقّ القمرْ

لماذا الأنبياء إذا كانت المعجزة ليست دليلاً، المعجزة ليست دليلاً على النبوّة كما ذكرنا في مبنى الفلاسفة إذن لماذا الأنبياء توسّلوا بالأمور الخارقة للعادة؟ لماذا؟

هنا نقطة يركّز عليها علماء النفس وعلماء الاجتماع، يقولون: الإنسان مخلوقٌ إحساسيٌ، والعامّة من البشر يجرون وراء التأثير الإحساسي أكثر من جريهم وراء التأثير العقلي، مثلاً: لو نحن الآن عندنا في القطيف أو في أيّ مكان آخر شخصان من علماء الدّين، اثنان أحدهما يعمل أحراز ويشفي المرضى ويقرأ على الماء فيشفى به المريض ويمسح على المرضى بيده فيشفون مثلاً من المرض، صح لو لا؟! شخصٌ عنده هذه المظاهر «يعمل أحراز لشفاء المرضى، يقرأ على المياه فيشفى بها المرضى مثلاً، يدعو للناس والله تبارك وتعالى يستجيب دعاءه..»، وشخصٌ آخر ليست عنده هذه المظاهر، طبعًا ليس كلّ شخص لا يعمل هذه المظاهر فهو لا يستطيع، بل حسب الأمر الإلهي وحسب المصالح العامّة، شخصٌ لا يعمل بهذه الأعمال ولكنه شخصٌ أقوى بحسب المنطق العقلي، وأقوى بحسب الحقائق العلميّة التي يطرحها، الناس تميل لمن؟! طبيعي للأول! لماذا؟! للتأثير الإحساسي، الأول تأثيره إحساسيٌ، الثاني تأثيره عقليٌ، الأول يتعامل مع الناس عبر الطرق الإحساسيّة، الناس تتأثر بهذه الأمور الخارقة للعادة، تندهش لهذه الأمور الغريبة، حتى لو يأتي ساحرٌ، افترض شخص ساحر يمرّ على الناس فإذا بالجماهير والألوف تجتمع لمشاهدة ذلك الساحر والاستغراب بعمله، الناس طبيعتها تنجرّ وراء التأثيرات الإحساسيّة، الإنسان بطبعه مخلوقٌ إحساسيٌ، إذا رأى شخصًا يتعامل بالطرق الإحساسيّة ينجذب له أكثر من الشخص الذي يتعامل بالطرق العقليّة، منطق الإحساسي أقوى تأثيرًا من منطق العقل.

لذلك الأنبياء لا يحتاجون إلى الكرامات ولا يحتاجون إلى المعاجز، يكفي في صدق نبوّة النبي أنّ المضامين التي يطرحها ممّا يؤيّدها العقلُ والبرهانُ، لا يحتاج إلى كرامات ومعاجز، لو كانت الناس تعلم وتمشي على الطرق العقليّة لما احتاجت إلى كرامات ولا معاجز، لو كانت الناس تعتمد على التأثير العقلي ما احتاج النبيُ لا إلى كرامة ولا إلى معجزة؛ لأنّ الناس ستسمع كلامه، ستسمع الحقائق العلميّة التي يلقيها، ستسمع الأدلّة العقليّة التي يطرحها، ستسمع البراهين العقليّة التي يلقيها، فإذا رأت الناسُ كلامه متطابقًا مع العقل ومتطابقًا مع الحجج ومتطابقًا مع البراهين آمنت بنوّته من دون حاجة إلى إقامة معجزة، ومن دون حاجة إلى إقامة كرامة، إذن الأنبياء إنّما يتوسلون بالكرامات والمعاجز والأمور الخارقة للعادة لماذا؟!

لجذب الناس الذي لا يتأثرون إلا عبر الطرق الإحساسيّة، لجذب سواد الناس وعامّة الناس الذين لا يصدقون إلا عبر الطرق الإحساسيّة، وإلا ففي الواقع النبي لا يحتاج إلى التوسّل بهذه الطرق الإحساسيّة لجذب الناس أو لتصديق الناس أو لإذعان الناس، لذلك الآن حتى نحن الشيعة مثلاً إذا يُسْأل واحدٌ منا: أنت لماذا تعتقد بعظمة الإمام علي؟! يقول: «لأنه قلع باب خيبر»! ما هذا التفكير؟! تفكير دائمًا تفكيرٌ إحساسيٌ، «لأنه اقتلع باب خيبر، لأنه قتل عمرو بن ود، لأنه خاض الحروب الطاحنة وانتصر ولم ينتصر عليه أحد»! إذن دائمًا الناس تجري وراء ماذا؟! وراء التأثير الإحساسي، قليل من الناس الذي إذا قلت له: لِمَ أنت معجبٌ بعلي ؟ لِمَ أنت معجبٌ بعظمة علي؟! يقول: لأني قرأتُ نهج البلاغة فوجدتُ علومًا جمّة ووجدتُ حقائق علميّة وحقائق عقليّة باهرة فآمنتُ بعلي لما وجدتُ من المنطق العقلي الذي يتدفق على لسانه ويتدفق بين شفتيه، قليل من الناس يقول ذلك، أغلب الناس: لماذا أنتم معجبون بمحمدٍ ؟! لأنّه كان مظهرًا للمعاجز ومظهرًا للكرامات ومظهرًا للأمور الخارق للعادة! وهكذا الناس تجري وراء التأثير الإحساسي.

نأتي الآن إلى النقطة الثالثة:

النقطة الثالثة أنّ هناك خطأ وأركّز على أنّه خطأ في الكتابات والأقلام إلى يومنا هذا، ألا وهو حصر إعجاز النبي والأئمة في الأمور الخارقة للعادة، يعني أنت الآن عندما تأخذ مثلاً كتاب «مناقب آل أبي طالب» لابن شهرآشوب هذا من الكتب العريقة القديمة عندنا نحن الشيعة الإماميّة، تقرأ فيه حياة الرسول، حياة الإمام علي، حياة الحسن، حياة الحسين.. إلى الإمام المهدي، تجد أغلب الكتاب يركز على الكرامات، بمجرّد أن يتعرّض لإمام يركّز على جانب الكرامات منه أكثر من التركيز على الجوانب الأخرى، عندما يتحدث عن الإمام علي مثلاً، قد هذا الكتاب مثلاً يقطع عشرين ورقة في الحديث عن كرامات الإمام علي وورقة واحدة أو ورقتين في الحديث عن بعض فضائل علي وبعض خصال علي ! هذا التركيز التاريخي على جانب الكرامات وإهمال الجوانب الأخرى من قِبَلِ المؤرخين هو الذي أحدث في الذهنيّة الإسلاميّة وأحدث في الذهنيّة الشيعيّة أنّ إعجاز الإمام هو في الأمور الخارقة للعادة، الخطأ الذي حدث نتيجة هذه الكتابة أنّ هذه الأقلام زرعت في الذهنيّة الشيعيّة العامّة أنّ عظمة علي في كراماته وخوارقه للعادة، عظمة الحسين في كراماته وخوارقه للعادة، عظمة النبي في كراماته وخوارقه للعادة...

بينما إعجاز علي في صبره أكثر من إعجاز في قلع باب خيبر، قلعه باب خيبر لا يساوي بحسب القيمة المعنويّة صبر علي وتحدّي الإمام علي للأعاصير التي واجهها وللعواصف التي قابلها، بحسب القيمة المعنويّة الأمور الخارقة للعادة صحيحٌ أنّها تكشف عن عظمة الشخص، شخصٌ يقتلع الباب، شخصٌ ينتصر على أبطال الجيش، شخصٌ مثلاً يقاوم الآلاف، هذا شيءٌ يكشف عن العظمة، لكن هناك أدلة تكشف عن عظمة علي أكثر من ذلك، نفس زهد علي، نفس الزهد، شخصٌ تقبل عليه الدنيا بأسرها، شخصٌ خليفة المسلمين وبيده خراج الأراضي الزراعيّة وبيده ثروة بيت باب المسلمين ومع ذلك هذا الشخص أمام كلّ المغريات وأمام كل الإثارات يبقى كما كان قبل الخلافة يلبس الثوب المرقع ويأكل الخبز اليابس يرشّ عليه الملح والخل ويقول: ”لو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعلّ في اليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!“ هنا عظمة علي، هنا عظمة علي، الإنسان الذي يتحدّى المغريات، يتحدّى الإثارات، يتحدّى الأعاصير، يتحدّى العواصف، هنا تبرز عظمة علي ، ولذلك هو الإمام علي عبّر عن هذه النقطة بأنّها نقطة إعجازيّة في شخصيته وليست نقطة طبيعيّة: ”ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه“ أنا ليس عندي غير هذا الإزار والرداء! ليس عندي شيءٌ آخر! ”ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك“ هذه نقطة الإعجاز، يعني إعجازي في زهدي ووقوفي أمام المغريات، ”ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن“ هذا لا يمنعكم من الاقتداء، لا يمنعكم من التأسي، لا يمنعكم من السير على خطي، ”ولكن أعينونا بورع واجتهادٍ وعفةٍ وسدادٍ“.

إذن فبالنتيجة: لابدّ أن نركّز أنّ عظمة النبي وأهل البيت هي في عطائهم، هي في صفاتهم أكثر ممّا هي في كراماتهم ومعاجزهم، إعجاز النبي في قوّة إرادته، كان يملك إرادة حديديّة، لا يتنازل ولا يتراجع ولا يتخوّف ولا يتقاعس، قوّة إرادته دليل إعجازه، دليل عظمته، وليست عظمته في تسبيح الحصا أو شق القمر نصفين فقط، بل عظمته في قوّة إرادته، وقوّة الإرادة أصبغت عليه جانبًا من الشجاعة ومن الصمود ما لم يكن لغيره، كثيرٌ منا من الشيعة مثلاً يعتقد أنّ الإمام علي أشجع من النبي! واحد سألته قال: وينك وين! أشجع منه!

قوّة القلب وقوّة الإرادة هي منشأ الشجاعة، منشأ الشجاعة القوّة النفسيّة التي يحملها الشخص بين جنبيه، لذلك عليٌ يعترف بهذا الفضل للنبي : ”كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله “ وكان يتقدّم الجيوش بنفسه ،.

أنا النبيُ لا كذبْ أنا ابن عبد المطلبْ

قوّة النبي في هذه الشجاعة القلبيّة، قوّة النبي في عدم التأثر بإيذاء الآخرين، آذاه قومه، أخرجوه من مكّة، حاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، ربط حزام المجاعة على بطنه، كان كلما خرج إلى الطريق رموه بالأوساخ والأشواك، أهانوه، اتهموه بالكذب، بالجنون، بالشعر، حاربوه محاربة ضروس، ومع كلّ ذلك ومع قوله: ”ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت“ كان يقول: ”اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون“، هنا إعجاز النبي، إعجاز النبي هنا في أنّه شخصٌ يملك طاقة من الرّحمة وطاقة من الرّأفة لا يملكه غيره أبدًا، بعدما صار أعداؤه تحت يديه الذين قاتلوه.. تصوّر أنت يوم أحد، يوم أحد لمّا هجموا على النبي وفي مقدمتهم بعض الذين أصبحوا بعد ذلك في نظر المسلمين من الأبطال، هو كان في مقدّمتهم، هجموا على النبي يوم أحد وصار الضرب بالسيوف على يديه وعلى وجهه حتى كُسِرَت رباعتيه «يعني أسنانه الأماميّة» وسالت الدّماء الكثيرة على شيبته وعلى صدره وكاد أن يغمى عليه ممّا حصل، نفس هؤلاء، نفس هؤلاء الذين واجهوه بأعينهم، بأشخاصهم، لا أريد أن أذكر الأسماء، لمّا بصر بهم النبيُ وأعلنوا أنهم أسلموا «خلاص!»، قبِلَ النبيُ إسلامَهم وأرفق بهم ولم يعاتبهم ولم يحاسبهم، ولمّا بصر بأعدائه من قريش قال: ”ما ترون أنّي فاعلٌ بكم؟“ قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم، قال: ”اذهبوا فأنتم الطلقاء“.

إذن فبالنتيجة: أريد أن أؤكد في هذا البحث وفي هذه المحاضرة أنّنا يجب أن نستجلي عظمة النبي، يجب أن نستجلي عظمة النبي وأهل بيته ، يجب أن نستجلي عظمتهم من خلال أعمالهم، من خلال سيرتهم، من خلال خطهم، من خلال ما كان يصدر منهم من زهد، من تقوى، من صبر، من قوّة إرادة، من قوّة قلب، هذا موطن عظمتهم، وليس موطن عظمتهم فقط إبداء المعاجز والكرامات.

والحمدلله رب العالمين

[1]  سورة العنكبوت: الآية 48.
[2]  سورة الإسراء: الآية 88.