وجوب الخمس في أرباح المكاسب

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

أفتى أغلبُ علماء الشّيعة بوجوب الخمس فيما يستفيده الإنسانُ زائدًا على مؤونة السّنة، الأرباح والفوائد التي يحصل عليها الإنسانُ وتزيد على مؤونة سنته يجب عليه فيها الخمس، المشكلة التي اعترضت فقهاءَ الشّيعة وهم يفتون بهذه الفتوى ثلاث مشكلات لابدّ من التعرّض لها وفهمها:

المشكلة الأولى التي اعترضت فقهاءَ الشّيعة هي الآية المباركة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى حيث أنّ الآية واردة في سياق آيات الجهاد، فهي من الآيات التي تتحدّث عن الجهاد وتتحدّث عن القتال، بما أنّ الآية واردة في سياق آيات الجهاد وفي سياق آيات الحرب لذلك اُعْتُبِرَت القرينة السّياقيّة - كما يعبّرون - دليلاً على أنّ المنظور في الآية المباركة هو خمس غنائم الحرب لا خمس كلّ ما يستفيده الإنسان، لذلك فقهاء المذاهب الأخرى لم يفتوا بوجوب الخمس في جميع الأرباح وفي جميع الفوائد الزائدة على مؤونة السّنة، قالوا: الآية واردة في سياق آيات الحرب والجهاد، فالمنظور في الآية المباركة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ المنظور في الآية المباركة خمس غنيمة الحرب، خمس غنيمة الجهاد، لا خمس كلّ فائدة ولا خمس كلّ ربح، هكذا نظر فقهاءُ المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فقهاء الشّيعة كيف يدفعون هذه المشكلة والآية فعلاً واردة في سياق آيات الحرب «واردة في سياق الجهاد»؟

فقهاء الشّيعة قالوا بأنّ الغنيمة بحسب معناها اللغوي ومعناها العرفي كلّ ما يستفيده الإنسان، عندما يقال: غَنِمَ فلانٌ المال، «غَنِمَ» يعني: استفاد وربح، الغنيمة هي الرّبح والفائدة، من أين هذا؟ قالوا: هذا من كتب اللغة، راجع الفيروزبادي في كتاب القاموس، وراجع الأزهري في كتاب التهذيب، وراجع ابن فارس وابن منظور وابن الأثير، وراجع الأصفهاني في كتاب المفردات في اللغة، كلّ كتب اللغة التي ذكرنا أسماءها تنصّ على أنّ الغنيمة هي الفائدة والرّبح لا خصوص غنيمة الحرب، يعني: غنيمة الحرب من مصاديق الغنيمة، غنيمة الحرب لأنّها فائدة فهي من مصاديق ومن أفراد الغنيمة، وإلا فالغنيمة بحسب معناها ومفهومها اللغوي والعرفي هي الفائدة سواءً كانت غنيمة حرب أو هديّة أو جائزة أو ربح تجارة أو أيّ شيءٍ آخر، كلّ ما يصدق عليه عنوان الفائدة فهو غنيمة.

القرآن الكريم والسّنة النبويّة استعملت الغنيمة بالمعنى الذي نذكره، وهو: كلّ فائدةٍ، مثلاً:

1/ القرآن الكريم يقول: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [2] ، ما معنى ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ؟ يعني: عند الله فوائد كثيرة ومنافع كثيرة، المراد بالمغنم هنا الفائدة والمنفعة، ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ يعني: فوائد.

2/ أو مثلاً: ما ورد عن الرّسول محمّدٍ كما نقله أحمد بن حنبل في مسنده أنّه قال: ”غنيمة مجالس الذكر الجنة“ كلّ مجلس يّذكَر فيه اسم الله فغنيمته الجنة، «غنيمته» يعني ماذا؟ فائدته، الغنيمة هنا بمعنى الفائدة.

3/ ابن ماجة يروي في سننه عن النبي أنّه قال: ”من دفع الزكاة فليقل وهو يدفع الزكاة: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا“، «اجعلها مغنمًا» يعني: اجعلها فائدة ومنفعة في الآخرة ولا تجعلها خسارة.

إذن الغنيمة بمعنى المنفعة والفائدة، وإنّما ذكِرَت الآية في سياق آيات القتال من باب التطبيق لا من باب الحصر، يعني: القانون العام يقول: يجب الخمس في الغنيمة، والغنيمة هي الفائدة، وبما أنّ غنيمة الحرب من مصاديق الفائدة طبق القانونُ العامُ على غنيمة الحرب، هذا من باب التطبيق لا من باب الحصر، كما يقول علماؤنا: «خصوص المورد لا يخصّص الوارد»، هذه هي المشكلة الأولى وانحلت.

المشكلة الثانية: أنّه لو كان الخمس واجبًا في الأرباح لتصدّى النبيُ إلى قبض الأخماس بينما لم يُنْقَل هذا أبدًا، لا النبي ولا الإمام علي ولا الإمام الحسن ولا الإمام الحسين ولا علي بن الحسين ولا محمد بن علي الباقر ولا جعفر الصّادق إلى زمان الإمام الكاظم لا يوجد أحدٌ من هؤلاء تصدّى لقبض الأخماس أبدًا، إذن كيف يكون الخمس واجبًا ولم يتصدَ هؤلاء لقبضه؟! الزكاة تصدّوا لقبضها، الرّسول جعل عمّالاً لجباية الزكوات، بينما الرّسول لم يجعل عمّالاً لجباية الأخماس، الإمام علي كذلك، الإمام الحسن والحسين وزين العابدين والباقر والصّادق، لم ينقل التاريخ عن أحدٍ من الأئمة من هؤلاء أنّه تصدّى لقبض الأخماس، أو نصب عمّالاً لقبض الأخماس كما نصبوا عمّالاً لقبض الزكاة، فلو كان الخمس واجبًا شرعًا لتصدّى هؤلاء لقبضه ولجبايته كما تصدّوا لقبض الزكوات، فهذا دليلٌ وكاشِفٌ عن عدم وجوب الخمس وإلا لتصدّى هؤلاء لقبضه وجبايته، هذه هي المشكلة الثانية.

الفقهاء كيف يجيبون عن هذه المشكلة؟

سيّدنا الخوئي قدّس سرّه في كتابه «المستند في شرح العروة الوثقى» تقرير تلميذه أستاذنا المرحوم الشّهيد آية الله الشّيخ مرتضى البروجردي قدّس سرّه، في تقريره لكلام أستاذه السّيّد الخوئي يذكر جوابين عن هذه الشّبهة:

الجواب الأوّل: أنّه لا مانع من ذلك، الخمس ما بُلغ وجوبُه إلى زمن الإمام الكاظم، فيما بعد بُلغ الناس وجوبَه، أيّ مانع من ذلك؟! يعني: الأحكام الشّرعيّة ما بلغت دفعة واحدة، وإنّما بلغت على نحو التدريج، أنتم لاحظوا زمن النبي ، هل أنّ النبي بلغ الأحكام الشّرعيّة كلها دفعة واحدة؟! النبي لم يبّلغ وجوبَ الصّلاة - وجوب الصّلاة الذي هو عمود الدّين - إلا في السّنة الثالثة من البعثة، النبي لم يبلغ أكثرَ أحكام الحجّ إلا في السّنة الأخيرة من حياته وهي سنة حجّة الوداع، النبي كثير من الأحكام الشّرعيّة لم يبلغها إلا بعد سنين، لأنّ المصلحة كانت تقتضي التدرّج في تبليغ الأحكام، لو بلغ الناسُ الأحكامَ دفعة واحدة لارتدوا عن الدّين، إنّما بلغ الناسُ الأحكامَ على نحو التدريج.

لاحظوا القرآن الكريم، القرآن الكريم يتدرّج في تحريم الخمر، الخمر كان شرابًا محبوبًا عند الناس، لم يكن بالإمكان تبليغ حرمته دفعة واحدة، بلغ الناسُ حرمة شرب الخمر على نحو التدريج:

1/ تارة يقال لهم مثلاً: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [3]  لا تصلوا وأنتم سكارى، هذا تدرّجٌ.

2/ فيما بعد يقال لهم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [4] .

3/ ثم يتدرّج إلى أن يقول: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [5] .

إذن التدرّج في تبليغ الأحكام كان سيرة القرآن وكان سيرة النبي فلا مانع من أن يكون وجوب الخمس في الأرباح وفي الفوائد التي يستفيدها الإنسانُ من تجارةٍ أو من هديّةٍ أو من جائزةٍ أخّرَ تبليغه إلى زمن الإمام الكاظم عليه السّلام وإلى زمن الإمام الصّادق، لأنّ الناس لو قالوا لهم: «أيّها الناس يجب عليكم الزكاة ويجب عليكم الخمس» يُعَدّ هذا صدمة للناس، سيقولون: لو دفعنا زكاة ودفعنا خمسًا أيضًا فماذا بقي لنا؟! لو أنّ الناس وُوجِهُوا بهذا الأمر - أنّه عليكم دفع الخمس وعليكم دفع الزكاة كضريبتين ماليتين - من أوّل الأمر لأوجب ذلك ردّة فعلٍ عند قسم كبير من الناس، ففُرِضَت الزكاة أوّلاً في زمان النبي ، ووُضِعَت العمّال لجبايتها، ولم يبلغ الناسُ وجوبَ الخمس إلا في زمن الإمام الكاظم أو في زمن الإمام الصّادق عليهما السّلام، إذن لا مانع من التدرّج.

يعني الآن مثلاً إذا نرجع إلى روايات أهل البيت عليهم السّلام:

1/ مثلاً: الإمام الصّادق عليه السّلام يقول في روايةٍ معتبرةٍ: ”لو كنا نفتي الناسَ برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، إنّما هي أصول علم نتوارثها كابرًا عن كابر“ يعني: مواريث علم ورثناها من النبي واحدًا بعد الآخر يبلغها حسب الظروف المناسِبة، ”إنّما هي أصول علم نتوارثها كابرًا عن كابر“.

2/ رواية أيضًا معتبرة: زرارة بن أعين، زرارة بن أعين كان أحد أصحاب الإمام الباقر والصّادق، زرارة بن أعين كان سنيًا ثم تشيّع وصار من فقهاء الشّيعة، زرارة بن أعين في أوّل أيام تشيّعه دخل على الإمام الباقر عليه السّلام يسأله عن مسألةٍ، ذلك الوقت كان وقت الظهر، يعني: بعد الغذاء، الإمام كان يريد أن ينام، تعبان وكان يريد أن ينام بعد الغذاء، الإمام الباقر عليه السّلام، فقام وقال لولده جعفر «يعني: الإمام الصّادق عليه السّلام»: ”أخرج له الجّامعة واقرأها عليه فأنا ذاهبٌ“ ذهب الإمام الباقر إلى النوم، جلس الإمام الصّادق مع زرارة، يقول: أخرج لي كتابًا من كتب القدماء «يعني: يبدو عليه أنّه قديمٌ» ثم فتحه، قال: يا زرارة انظر، يقول: نظرتُ، قال: ”يا زرارة هذه هي الجّامعة صفيحة جدّي أمير المؤمنين عليه السّلام هي بإملاء رسول الله وخط علي - يعني: الرّسول كان يملي، الإمام علي كان يكتب - هي بإملاء رسول الله وخط علي، إنّ رسول الله علم عليًا كلّ ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“، فالإمام علي اُسْتُوْدِعَ الأحكامَ كلها، وهو بلغ قسمًا منها، أهل بيته وأولاده بلغوا قسمًا منها، فصار تبليغ الأحكام على شكل تدريجي وحسب الظروف وحسب المناسبات، هذا الجواب الأوّل.

الجواب الثاني: أنّه الخمس لم يكن واجب الجباية، واجب الدّفع لا واجب الجباية، يعني كيف؟

الزكاة كما يجب على الناس دفع الزكاة يجب على الحاكم الشّرعي أن ينصب العمّال لجباية الزكاة، فهناك وجوبان: يجب الدّفع، وتجب الجباية، للآية المباركة، ما هي الآية؟ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً - يعني: أنت يجب عليك أن تتصدّى لقبض الزكوات ولقبض الصّدقات - خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [6] ، كان يجب على النبي جباية الزكوات، فامتثل الواجبَ ونصب العمّال لجباية الزكوات، أمّا الخمس يجب على الناس دفعه لكن لا يجب على الحاكم الشّرعي أن ينصب عمّالاً يقبضون الخمسَ، ليس واجبًا على الحاكم الشّرعي، يجب على الناس دفع الخمس، أمّا الحاكم الشّرعي لا يجب عليه أن يجبي وأن ينصب عمّالاً لجابية الخمس، الآية المباركة لم تقل: يا أيها النبي خذ من أموالهم خمسًا، قالت: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، فيجب على الناس دفع الخمس لا أنّه يجب على النبي أنْ يتصدّى للجباية، لذلك النبي لم يتصدَ للجباية ولم يضع عمّالاً يجبون الأخماس، وكذلك الأئمة من بعده، إلى أن جاء زمن الإمام الكاظم عليه السّلام، أوّل إمام تصدّى لقبض الأخماس ولجبايتها هو الإمام الكاظم عليه السّلام، حيث نصب الوكلاء في مختلف بلاد الشّيعة لقبض الأخماس ولجبايتها.

نأتي الآن إلى المشكلة الثالثة وهي المشكلة العويصة والأهم من المشكلتين الأوليين:

المشكلة الثالثة: أنّ عندنا روايات معتبرة وصحيحة تدلّ على إباحة الخمس، أنّ الخمس مباحٌ لا يجب دفعه:

1/ مثلاً: من تلك الرّوايات ما يسمّى عند الفقهاء بصحيحة الفضلاء، يعني: رووها عدّة رواة فضلاء، عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين «النسبة إلى الإمام علي»: ”هلك الناسُ في بطونهم لأنّهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا وإنّ شيعتنا وأبناءهم في ذلك من حل“ يعني أحلّ دفع الحقّ للشّيعة، قال: هؤلاء معفوون، ”ألا وإنّ شيعتنا وأبناءهم من ذلك في حل“، هذه رواية.

2/ الرّواية الأخرى يرويها سالم بن مكرّم الجمّال، كان أحد الأصحاب الثقاة، يقول: كنتُ عند الإمام الصّادق عليه السّلام فدخل عليه رجلٌ «لاحظ الأئمة كيف كانوا يتفاعلون مع العبارات التي يسمعونها، اسمع الرّواية» فدخل عليه رجلٌ، قال: يا أبا عبد الله - يعني: الإمام الصّادق - حلل ليَ الفروجَ «حلل لي الفروج؟!» ففزع الإمامُ الصّادقُ - الرّواية تقول - ففزع الإمام الصّادق «كيف يقول هذا: فحلل لي الفروج؟! فسالم بن مكرّم جالسٌ، صحّح السّؤال، السؤال ليس صحيحًا، صحّحه» قال: ليس يسألك أن يعترض الطريق «لا يسألك أنّه يقف على الطريق وينكح أيّ امرأةٍ يريدها! لا» ليس يسألك أن يعترض الطريق وإنّما يسألك خادمًا يشتريها «امرأة جارية يشتريها من مالكها، لعلّ هذه الجارية فيها خمس، ماذا يفعل؟!» أو امرأة يتزوجها «ويدفع لها مهرًا والمهر غير مخمّس» أو تجارة «تصل له أموال من طريق التجارة وفيها الخمس» أو ميرثًا يصيبه «ميراث ينتقل له من أبيه وفيه الخمس» أو شيئًا أعْطِيه «هديّة وصلت له وفيها الخمس، هذا الذي يسألك، كلّ هذه الأمور يسألك، ماذا يفعل فيها؟!» قال: ”هذا لشيعتنا حلالٌ، الشاهد منهم والغائب، والميّت منهم والحي، ومن يولد منهم إلى يوم القيامة، أما والله لا يحلّ إلا لمن أحللنا له“ هذا حلال، لا يجب عليه شيءٌ، لا يدفع إليّ شيئًا.

طيّب هذه الرّوايات معناها أنّ الخمس ليس واجبًا ولا يجب دفعه وأنّ الأئمة حللوه لشيعتهم فلماذا إذن يفتي الفقهاءُ - أغلب الفقهاء يفتون - بوجوب دفع الخمس في أرباح المكاسب وأرباح التجارات والفوائد؟

هنا الفقهاء قالوا: هذه الرّوايات معارَضة برواياتٍ أخر تدلّ على ثبوت الخمس:

1/ موثقة سماعة عن الإمام الكاظم عليه السّلام: ”الخمس في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير“، يعني: الإمام الكاظم كان متشدّدًا في أمر الخمس، ”الخمس في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير“، هذه رواية، ماذا تقولون فيها؟!

2/ رواية أخرى عن الإمام الهادي معتبرة: ”من اشترى شيئًا من الخمس لم يعذره الله، اشترى ما لا يحلّ له“، ماذا تقولون في هذه الرّواية؟!

3/ صحيحة علي بن مهزيار عن الإمام الجواد عليه السّلام: ”فأمّا الغنائم والفوائد يرحمك الله فهي واجبة عليهم في كلّ عام، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى“، ماذا تصنعون بهذه الرّوايات؟!

لذلك فقهاؤنا اختلفوا في توجيه هذه الرّوايات المختلفة:

بعض فقهائنا مثل صاحب الحدائق الشّيخ يوسف البحراني الذي يُقَلَّد في بلاد البحرين، متوفى قبل عدّة قرون من السّنين، الشّيخ يوسف البحراني ذهب إلى التفصيل، قال: حقّ الإمام.. الخمس ينقسم قسمين: نصف حقٌ للإمام عليه السّلام، ونصف حقٌ للفقراء من ذرّيّة رسول الله ، قال: أمّا النصف الأوّل «نصف الخمس» وهو حقّ الإمام فهو مباحٌ للشّيعة لا يجب عليهم دفعه أبدًا لهذه الرّوايات التي قرأناها، وأمّا النصف الآخر وهو ما يعبّر عنه بسهم السّادة - يعني: سهم الفقراء من ذرّيّة رسول الله - فيجب دفعه؛ لأنّ هذه الرّوايات تتكلم عن حقّ الإمام «حقك، حقنا» فهي ناظرة للقسم الأوّل وهو سهم الإمام عليه السّلام، هذا رأيٌ مثلاً.

الرّأي الآخر: ما نقله السّيّد الحكيم قدّس سرّه عن بعض الفقهاء قال: الخمس ليس واجبًا شرعيًا، الخمس حكمٌ ولايتيٌ، يعني: الإمام بما هو وليّ الأمر يستطيع أن يفرض ضريبة ماليّة، وليّ الأمر، النبي كان وليّ الأمر، الإمام علي عليه السّلام من بعده كان وليّ الأمر، مثلاً: نلاحِظ الإمامَ عليًا فرض الزكاة في الخيل العتاق، الزكاة ليست واجبة في الخيل، الزكاة ليست واجبة شرعًا في الخيل، الزكاة واجبة في الأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، لكنّ الإمام علي لمصلحةٍ فرض في زمانه الزكاة في الخيل العتاق، هذا يسمّوه «حكم ولايتي»، يعني: حكمٌ صدر من وليّ الأمر في زمانه لمصلحةٍ تقتضي ذلك، إذن الأئمة الذين لم يأخذوا الخمس قالوا: الخمس ليس واجبًا، فنحن لا نأخذ الخمس، من الإمام علي إلى الإمام الكاظم، الأئمة الذين فرضوا الخمس - مثل: الإمام الكاظم، مثل: الإمام الهادي، مثل: الإمام العسكري - لم يفرضوه كواجبٍ شرعي وإنّما كحكم ولايتي، يعني: فرضوه ضريبة ماليّة في أزمنتهم لأنّ المصلحة العامّة وهي ازدياد وكثرة حالات الفقر عند المسلمين اقتضت منهم هذه الحالة، أن يفرضوا الخمس كضريبةٍ ماليّةٍ وحكم ولايتي في أزمنتهم، فليس الخمس واجبًا شرعًا وإنّما هو حكمٌ ولايتيٌ فرضته بعضُ الرّوايات في بعض الأزمنة، أسقطته بعضُ الرّوايات في بعض الأزمنة الأخرى، حكمٌ ولايتيٌ صادرٌ عن ولي الأمر بما هو ولي الأمر، هذا مثلاً رأيٌ آخر.

الرّأي الثالث: وهو ما يذهب إليه المشهور من علمائنا وذهب إليه سيّدنا الخوئي قدّس سرّه أنّه لا، هذه روايات التحليل «الخمس أبيح لشيعتنا، مثلاً: هذا لشيعتنا حلالٌ الشّاهد منهم والغائب..» ناظرة لمورد معيّن فقط، المورد المعيّن هو أن ينتقل المال المتعلق بالخمس من شخص لآخر، فهل يجب على الثاني دفعه؟ لا، لا يجب على الثاني دفعه، أضرب لك أمثلة:

1/ الآن مثلاً إنسان لا يخمّس، تعرفه أنت لا يخمّس عصيانًا أو لأنّه مثلاً ليس شيعيًا، لا يخمّس، هذا الإنسان الذي لا يخمّس أعطاك هديّة، وأنت تعلم أنّ هذه الهديّة فيها خمسٌ، هل يجب عليك أنت أوّلاً أن تخرج الخمس ثم تستخدم الهديّة أو لا؟ روايات التحليل ناظرة إلى هذا، تقول: لا يجب عليك دفع الخمس «لك المهنا وعليه الوزر»، هو يتحمّل وزر الخمس، أنت لا يجب عليك دفع الخمس.

2/ أعطاك سيّارة مثلاً، هل يوجد شخصٌ يعطي سيّارة هديّة؟! مثلاً يعني، من باب المثال، أعطاك سيّارة هديّة مثلاً، مرسيدس مثلاً، أعطاك سيّارة هديّة وأنت تدري أنّ هذه السيّارة زائدة على مؤونته، يعني: فيها الخمس، وأعطاك هذه السّيارة، هل يجب عليك أن تدفع خمسها أوّلاً ثم تستعملها؟! روايات التحليل ناظرة إلى هذا، تقول: لا، «لك المهنا وعليه الوزر»، لا تدفع خمسها، استخدمها واستعملها وهي لك حلال.

3/ أو لا، مثلاً ميراث، لاحظوا الميراث يحتاج إلى تنبّه، مثلاً: أبٌ لم يكن يخمّس عصيانًا، عنده أموال طائلة لكنه لا يخمّس، مات الأب، انتقل الميراث للابن، الآن الابن ماذا يفعل بهذا الميراث؟ تارة الابن يعلم أنّ هذه الأموال فيها خمس، يعني: يعلم أنّ هذه الأموال موجودة ومكدّسة في البنك سنينًا، فهي زائدة على مؤونة الأب، وبالنتيجة: فيها الخمس، وانتقلت إليه بالميراث وفيها خمس، هنا يقول السّيّد الخوئي: لا يجب دفع الخمس، هذا مورد التحليل، روايات التحليل - تحليل الخمس - ناظرة إلى هذا، أن ينتقل إليك مالٌ بالميراث وهذا المال فيه الخمس فلا يجب عليك أنت دفع الخمس، تصير أموالك هذه، إنْ زادت على مؤنتة سنتك بعد ذلك وجب عليك خمسها لأنّها ازدادت على مؤونة السّنة، إنْ لم تزدد على مؤونة الناس «صرفتها، شريت بها بيتًا، سيّارة.. إلخ» فلا يجب عليك فيها الخمس، فهو ناظرٌ لهذا المورد، أمّا لو كان الأب الذي توفي خمسه ليس في الأموال بل خمسه في الذمّة، كيف خمسه في الذمّة لا في الأموال؟

أضرب لك مثالاً: مثلاً الأب ربح مئة ألف ريال، ربح مئة ألف ريال وبقت عنده سنة كاملة، بعدما بقت عنده سنة كاملة وجب فيها الخمس، قام الأب بعدما وجب فيها الخمس «سنة كاملة» قام بعثرها، أهداها ناسًا، أيّ شيءٍ، المهم أتلفها، أتلف المئة ألف، هنا ماذا يقول الفقهاء؟ يقولون: انتقل الخمسُ من المال إلى الذمّة، كان الخمس في المئة ألف، هو المئة ألف صرّفها، فانتقل الخمسُ من المئة ألف إلى ذمّته، صار الخمسُ واجبًا على ذمّته، بعدما انتقل الخمس إلى ذمّته مات الأبُ، هنا هل يجب دفع الخمس من الميراث أو لا؟ هنا يجب، لماذا؟

لأنّ الخمس هنا ليس في الميراث، الخمس هنا أين؟ في الذمّة، والذمّة دينٌ، ويجب إخراج ديون الميّت من تركته قبل توزيع التركة، كما قالت الآية: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [7] ، يجب إخراج ديون الميّت من أصل التركة، قبل أن توزع التركة لا يجوز لأيّ وارثٍ أن يتصرّف في التركة، قبل أن توزع التركة تُخْرَج ديونُ الميّت من أصل التركة، ومن ديونه الخمس الذي كان على ذمّته، فيجب إخراج الخمس من الميراث لأنّه كسائر ديونه.

إذن فرقٌ في الميراث، لا تسمع أنّ الميراث لا يجب فيه الخمس وتخلط بين الصّورتين أو تسمع أنّ الميراث فيه الخمس وتخلط بين الصّورتين، لا، تارة يموت الميّت ونحن نعلم أنّ في أمواله خمسًا، هنا لا يجب دفع الخمس، تارة يموت الميّت ونعلم أنّ الخمس في ذمّته، كان مطالبًا به، هنا يجب دفعه كسائر ديونه من أصل التركة.

إذن روايات التحليل ناظرة لهذه الموارد، يعني: المال الذي ينتقل إليك من شخص لا يخمّس، إذا انتقل إليك المالُ من شخص لا يخمّس وهذا المال فيه الخمس أنت لا يجب عليك دفع الخمس، الخمس على من انتقل عنه لا على من انتقل إليه، «لك المهنا وعليه الوزر»، اعتمادًا على معتبرة يونس بن يعقوب قال: دخل على الإمام الصّادق رجلٌ من القمّاطين وقال له: مولاي تقع في أيدينا «يعني: تنتقل إلينا» تقع في أيدينا أموال وأرباح وتجارات نعلم أنّ حقك فيها ثابتٌ «يعني: نعلم أنّ فيها خمسًا» وإنّا عن ذلك مقصّرون «ما ندفع الخمس لك، نغضّ النظر»، قال: ”ما أنصفناكم إنْ كلفناكم“.

إذن فبالنتيجة: الإمام أحلّ الخمسَ في المال الذي ينتقل إليك ممّن لا يخمّس وفيه الخمس، هذا مباحٌ، لا أنّ كل فائدةٍ وكلّ ربح فهو مباحٌ ولا يجب فيه الخمس، هذا ما أردنا بيانه من مسألة وجوب الخمس في أرباح المكاسب.

والحمدلله رب العالمين

[1]  الأنفال: 41.
[2]  النساء: 94.
[3]  النساء: 43.
[4]  البقرة: 219.
[5]  المائدة: 90.
[6]  التوبة: 103.
[7]  النساء: 12.