التعامل التعبدي مع الحكم الشرعي ”الجزء الأول“

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

استمرارًا للموضوعات السّابقة التي تحدّثنا عنها في الأسابيع الماضية نتكلم عن نظرة التعامل التعبّدي مع الحكم الشّرعي، كثيرٌ من الإخوة قد يرفض التعامل التعبّدي مع الحكم الشّرعي، مثلاً: عندما يقال بأنّ الغناء محرّمٌ أو عندما يقال مثلاً: الكلب نجسٌ، أو عندما يقال مثلاً: الكافر غير الكتابي نجسٌ، هنا يأتي السّؤال: لماذا؟ أنا لا أستوعب بعقلي أن تكون هذه الأحكام ملزمة لأنّ عقلي لا يقبل مثل هذه الأحكام! لماذا يكون الغناء محرّمًا والحال بأنّ الغناء يريح النفس ويخفف عن الأعصاب عناءها وتعبها؟! لماذا مثلاً يُحْكَمُ بنجاسة الكلب مع أنّ الكلب حيوانٌ وفيٌ لصاحبه؟! هذه الأحكام لا يستوعبها عقلي! أو هذه الأحكام لا يرى عقلي لها ملاكًا ولا يرى عقلي لها مناطًا! لذلك أنا لا أتعبّد بها ولا ألزم نفسي بالتديّن بها!

هذه نظرة موجودة عند كثير من الإخوة، وهي نظرة التعامل العقلي مع الحكم الشّرعي لا التعامل التعبّدي مع الحكم الشّرعي، هنا نتحدّث في هذا اليوم حول نقطتين:

النقطة الأولى: ما هو البرهان على ضرورة التعامل التعبّدي مع الحكم الشّرعي؟

والنقطة الثانية: هل يمكن إيكال الأحكام الشّرعيّة إلى مدركات العقول أم لا؟

نأتي الآن إلى النقطة الأولى:

ما هو البرهان على ضرورة أن نتعامل مع الحكم الشّرعي معاملة تعبّديّة لا معاملة حسابيّة «لا معاملة عقليّة»؟

البرهان يتألف من ثلاث مقدّمات:

المقدّمة الأولى: أنّ الإنسان محتاجٌ إلى النظام.

المقدّمة الثانية: أنّ العقل البشري وحده لا يمكن أن يصل إلى النظام.

المقدّمة الثالثة: أنّ حكمة الله في مجال التكوين دليل حكمته في مجال التشريع.

نأتي إلى المقدّمات الثلاث:

أمّا المقدّمة الأولى:

الإنسان له ثلاث علاقات:

1. علاقة مع ما هو خارج الطبيعة «وهو الغيب المطلق».

2. علاقة مع الطبيعة «مع الأرض، مع الكون».

3. علاقة مع أخيه الإنسان.

الإنسان له ثلاث علاقات تحدّث عنها القرآنُ الكريمُ:

1. علاقة الإنسان مع المبدأ «مع الغيب المطلق»:

قال عنها القرآن الكريم:

1/ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [2] .

2/ ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [3] .

2. علاقة الإنسان مع الطبيعة «مع الأرض»:

تحدّث عنها القرآن الكريم وقال:

1/ ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [4] .

2/ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [5] .

3. علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان:

تحدّث عنها القرآن الكريم:

1/ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [6] .

2/ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [7] .

للإنسان علاقات ثلاث، هذه العلاقات الثلاث تحتاج إلى نظام يهذبها ويقوّمها حسب ما تقتضيه المصالح العامّة للإنسان، إذن الإنسان محتاجٌ إلى نظام ينظم علاقاته الثلاث ويهذب علاقاته الثلاث، فمن أين يأتي الإنسانُ بالنظام؟ ومن أين يخترع هذا النظام؟ محتاجٌ إلى نظام ينظم علاقته مع أخيه الإنسان، محتاجٌ إلى نظام ينظم علاقته مع الأرض، مع الثروات، مع الطاقات، محتاجٌ إلى نظام ينظم علاقته مع الغيب المطلق، من أين يأتي بالنظام؟

انتهينا من المقدّمة الأولى وصلنا إلى المقدّمة الثانية:

لو اعتمد الإنسانُ على عقله وحده هل من الممكن أن يصل إلى النظام؟ لو أنّ الإنسان اعتمد على عقله وتفكيره هل سيصل إلى النظام الصّالح لجميع البشر، لجميع الأزمنة، لجميع الحضارات، لجميع الأمزجة، لجميع الأنفس، هل من الممكن؟! هل يستطيع الإنسان أن يدرك نظامًا أبديًا سرمديًا صالحًا لجميع طبقات البشر ولجميع أصناف البشر؟! أنت تجد أنّ الإنسان يتعثر كلّ يوم، اخترع النظامَ الشّيوعي، اخترع النظامَ الرأسمالي، اخترع النظامَ الاشتراكي كوسطٍ بين النظامين في المجال الاقتصادي، ترى أنّ هذا الإنسان في القوانين المدنيّة والدّساتير يوميًا يتوصّل إلى أمر جديدٍ لم يكن يعرفه سابقًا، العالم كله يسير في حال تغيّر من حيث الأنظمة السّياسيّة أو الأنظمة الاقتصاديّة أو الأنظمة الاجتماعيّة، حتى في المجالات التربويّة في كلّ يوم يجد الإنسانُ أخطاءً في قوانينه التربويّة في مجال التعليم والتربية التي كان يتبعها ويسير عليها، إذن الإنسان تبيّن الأخطاء يوميًا في أنظمته السّياسيّة، التربويّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة.. اكتشاف الأخطاء دليلٌ على أنّ عقل الإنسان قاصرٌ، عقل الإنسان محدودٌ، عقل الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى نظام عام يصلح لكلّ زمن، يصلح لكلّ شعبٍ، يصلح لكلّ مزاج، يصلح لكلّ طبقةٍ من طبقات المجتمع، لا يستطيع الإنسانُ أن يدرك النظامَ الصّالحَ لكلّ أحدٍ، حتى في زمن واحدٍ، حتى في مجتمع واحدٍ، حتى في مكان واحدٍ، وهذا ما عبّرت عنه الرّوايات الشّريفة: ”إنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وليس أبعد عن دين الله من عقول الرّجال“ عقول الرّجال لا تصل إلى النظام الصّالح لكلّ مجتمع ولكلّ حضارةٍ ولكلّ صنفٍ وطبقةٍ من طبقات المجتمع البشري، إذن من أين نأخذ النظامَ؟ لابدّ أنْ نأخذ النظامَ من خالق العقل، العقل محدودٌ، فلابدّ أن نستقي النظامَ من اللامحدود، مِنَ الذي خلق العقل وعرف قصورَه وعرف طاقته وعرف أبعادَه، لابدّ أنْ نأخذ النظامَ ممّن خلق الوجود وعرف مصالحَ الوجود، ممّن خلق المجتمعَ البشري وعرف المصالح العامّة والمصالح الخاصّة ومتى تحكّم المصالح العامّة على المصالح الخاصّة، خلق الإنسان وعرف مسيرة الإنسان وأمزجة الإنسان وأبعاد الإنسان، لابدّ أنْ نأخذ النظامَ من خالق العقل الذي يستطيع أن يهيّئ لنا نظامًا عامًا صالحًا لجميع البشريّة في مختلف الأزمنة والحضارات.

نأتي إلى المقدّمة الثالثة:

ربّما يقول الإنسانٌ: ما هو العلة أو ما هي العلة أو ما هي الحكمة وراء هذه الأنظمة؟

حكمة الله في مجال التكوين دليلٌ على حكمته في مجال التشريع، تعال وانظر بنفسك: بين الأرض وبين الفضاء غلافٌ جويٌ، غلافٌ محيط بالأرض، ثمانين ميل غلافٌ محيط بالأرض، الغلاف لو كان أقلّ من ذلك لربّما الإنسان تعرّض إلى الاختناق على الأرض، لو كان أكثر من ذلك لربّما الإنسان تعرّض إلى الخلل في مسيرته وحركته على الأرض، غلافٌ بنسبةٍ معيّنةٍ من المسافة لا يزيد ولا ينقص، هذه النسبة الدّقيقة المعيّنة من المسافة ضروريّة لحياة الإنسان ولحركته على الأرض، هذا الكون بمجموعاته الشّمسيّة، بمداراته الفلكيّة، بنظامه الدّقيق الذي عبّر عنه القرآنُ الكريمُ: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ - كلٌ له مسارٌ - وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [8]  دقة في النظام تنبئ وتكشف عن كون المنظم حكيمًا، عن كون المنظم دقيقًا، هذا الحكيم في مجال التكوين أليس حكيمًا في مجال التشريع؟! إذا كان عنده هذه القدرة من الدّقة والضّبط، إذا كان عنده هذه القدرة من الدّقة والحكمة، أنْ ينظم وجودًا بأكمله من دون أن يصطدم كوكبٌ بآخر، من دون أن يحدث خللٌ كونيٌ، ينظم مسيرة وجودٍ بأكمله من دون أيّ خلل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [9] ، هذه الدّقة اللامتناهية في مسيرة الوجود وإذا أتانا بنظام وقال: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ وهذا واجبٌ وهذا مستحبٌ، قلنا: لا! ليس واضحًا!

لماذا؟! من كان حكيمًا في خلقه ألا يكون حكيمًا في تشريعه؟! من كان حكيمًا في ضبط مسيرة الوجود من ألفها إلى يائها ألا يكون حكيمًا في نظام كتبه من خلال القرآن الكريم أو على لسان النبي محمّدٍ ؟! إذن حكمته في مجال التكوين كشفت عن حكمته في مجال التشريع، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [10]  ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [11] .

فبالنتيجة: بعد أنْ يؤمن الإنسانُ بهذه المقدّمات الثلاث:

1. محتاجٌ إلى النظام.

2. يأخذ النظام من السّماء.

3. نظام السّماء نظامٌ محكمٌ. «يعني: مبنيٌ على الحكمة ومبنيٌ على المصالح العامّة لأنّ حكمته في مجال التكوين كشفت عن حكمته في مجال التشريع»

بعد أنْ يؤمن الإنسانُ بهذه المقدّمات الثلاث لا معنى لِأنْ يقول: هذا الحكم لا يقبله عقلي!

قبله عقلك القاصر أو لم يقبله عقلك، ألم تؤمن بأنّك محتاجٌ إلى النظام؟! ألم تؤمن بأنّ عقلك لن يصل إلى النظام وتحتاج إلى نظام السّماء؟! ألم تؤمن بأنّ نظام السّماء مبنيٌ على الحكمة «يعني: لا يشرّع حكمًا إلا وهو موافقٌ للمصالح العامّة المتحكمة في مسيرة الوجود»؟! إذا آمنت بهذه المقدّمات الثلاث لم يكن معنى لقولك: ما يقبله عقلي نعم أمتثله وما لا يقبله عقلي أنا لا أمتثله وأرفضه! لا معنى لتحكيم عقلك في الموضوع.

إذن فبالنتيجة: لابدّ وأن تتعامل مع الحكم الشّرعي الصّادر عن المشرّع الأقدس تعاملاً تعبّديًا، حكمٌ صدر من عارف النظام وحكمٌ صدر على طبق الحكمة، عرفتُ الحكمة أم لم أعرفها لابدّ أنْ أتديّن به وأنْ أتعبّد به.

نأتي إلى النقطة الثانية:

هذه المسألة وهي عرض الأحكام الشّرعيّة على منطق العقل فإنْ رأى العقلُ لها مدركًا مقبولاً عنده أقرّها وإلا رفضها وصاغها على طبق المدرك العقلي المرضي في نظر العقل نفسه، هذه الشّبهة قديمة جدًا قويت حتى أصبحت مدرسة تسمّى بمدرسة الرّأي في مقابل مدرسة النّصّ والحديث، ونحن في معالجتنا لهذه الشّبهة وهذه المسألة - وهي عرض الأحكام على العقل - في معالجتنا لهذه الشّبهة لابدّ أنْ نؤكّد أنّ الإسلام لا يلغي منطقَ العقل من الأساس، بل هناك حدودٌ، الشّريعة المقدّسة لا يصحّ لنا أن نقول: الشّريعة المقدّسة تلغي العقلَ وتقول له: صه! اسكت! أنت لازم تسمع الكلام وتسير على طبق النظام ولا يجوز لك أن تقول «لا» أو «نعم»!

لا، الشّريعة المقدّسة لم تلغ العقلَ، لماذا لم تلغ العقلَ؟

قسّم علماؤنا وفقهاؤنا الحكمَ العقلي:

1 - إلى حكم قطعي.

2 - وإلى حكم ظني.

1 - الحكم العقلي القطعي نأخذ به، لو حكم العقلُ حكمًا قطعيًا لأخذنا به، وعندنا كثير من الأحكام الشّرعيّة مبنيّة على الأحكام العقليّة، وهذا ما يعبّر عنه فقهاؤنا إذا تراجع كتب الفقه يقولون: كلّ ما حكم به العقلُ حكم به الشّرع، يسمّوها قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشّرع، إذا كان الحكمُ العقليُ حكمًا قطعيًا بديهيًا نأخذ به في مجال التشريع، الآن أضرب لك أمثلة:

1/ مثلاً: العقلُ يحكم بحرمة الظلم، الظلم حرامٌ، الإسلام أيضًا يحكم على طبق العقل: الظلم حرامٌ، لأنّ هذا حكمٌ عقليٌ بديهيٌ لا يختلف فيه اثنان.

2/ العقل يحكم بلزوم الرّفق باليتيم مثلاً، الإسلام أيضًا يحكم على طبق ما يحكم به العقلُ ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [12]  لابدّ أنْ تعامله بالرّفق.

3/ نأتي الآن مثلاً أضرب لك مثالاً أوضح: الإضرار بالنفس، ماذا يقول العقلُ؟ يقول العقلُ: لا يجوز للإنسان أن يُتْلِفَ نفسه، ليس من حقّ الإنسان أن يُتْلِفَ نفسه أو أن يُتْلِفَ عضوًا من أعضائه، لابدّ للإنسان أنْ يحافظ على سلامة نفسه وسلامة بدنه، أليس هذا حكمًا عقليًا؟! حتى لو لم توجد شريعة ولم يوجد دينٌ أليس هذا حكمًا عقليًا؟! الإسلام يقرّ هذا الحكمَ العقلي ويمضيه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [13] ، التهلكة ما معناها؟ أنْ تعمل عملاً يُوجِبُ تلفَ النفس أو تعمل عملاً يُوجِبُ تلفَ العضو، تقطع إصبعًا، تقطع أذنًا، تقطع عينًا، تقطع مثلاً قلبًا أو كبدًا أو أيّ عمل، أيّ عمل يُوجِبُ تلفَ النفس أو يٌوجِبُ تلفَ العضو فهو تهلكة، لذلك مسألة التدخين مثلاً، مسألة التدخين يقول الفقهاءُ عنها: إذا أحرز الإنسانُ - يعني: صار عنده اطمئنانٌ - أنّ التدخين سببٌ لتلف نفسه أو سببٌ لتلف عضو من أعضاء بدنه يحرم عليه التدخينُ، كلّ الفقهاء يقولون هكذا: مَنْ اطمأن أو أحرز أنّ التدخينَ سببٌ لتلف النفس أو سببٌ لتلف عضوٍ من الأعضاء يحرم عليه التدخين، لا فرق بين الفقهاءُ في هذه الناحية، كلّ ما يوجب التهلكة فهو محرّمٌ، هذا حكمٌ عقليٌ أقرّه الإسلامُ وبنى عليه حكمًا شرعيًا.

ولذلك إذا تقرأ في كتب الأصول - كتب أصول الفقه - يقولون: الأحكام العقليّة على قسمين:

1. أحكام مستقلة.

2. أحكام غير مستقلة.

والشّرع يرى حجيّة هذا الحكم العقلي سواءً كان حكمًا مستقلاً - كحكم العقل بحرمة الظلم - أو حكمًا غير مستقل، مثلاً عندنا ممّا يُذْكَرُ في علم الأصول: إذا وجب الشّيء وجبت مقدّمته، مثلاً: الإسلام يقول لك: يجب عليك الحجّ، هل من المعقول يقول لك الإسلام: يجب عليك الحجّ لكنْ لا تسافر إلى الحجّ؟! إذن كيف يجب عليّ الحجّ؟! إذا وجب شيءٌ وجبت مقدّمته، لا يحتاج أنْ يقوله الإسلامُ، إذا وجب شيءٌ وجبت مقدّمته، إذا وجب عليّ الحجّ وجب عليّ السّفرُ إلى الحجّ، هذا حكمٌ عقليٌ بديهيٌ يقرّه الإسلامُ ويمضيه الإسلامُ، فالأحكام العقليّة مستقلة أو غير مستقلة إذا كانت أحكامًا بديهيّة قطعيّة يقرّها الإسلامُ ويبني عليها وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشّرع، وهذا شيءٌ مقرّرٌ وليس ملغىً عندنا.

ولكن نأتي للأحكام العقليّة الظنيّة «القسم الثاني»:

ليس قطعيًا، ظنيٌ، مثلاً: ما يعبّر عنه الفقهاءُ ب «القياس»، القياس الذي استخدمه أبو حنيفة، ما هو القياس؟

أن تقيس فرعًا على آخر لعلةٍ ظنيّةٍ، أذكر مثالاً وإنْ كان محرجًا ولكن اسمحوا لي، اقبلوا مني أنا أخوكم! مثلاً: أنْ يأتي الإنسانُ ويقول: بما أنّ حلق شعر الرّأس جائزٌ فحلق شعر اللحية جائزٌ! صح لو لا؟! هذا شعرٌ وهذا شعرٌ، ما الفرق؟! أليس شعرًا؟! طبعًا شعر، هذا نظافة، هذا أيضًا نظافة، كما أنّ حلق شعر الرّأس زينة وجائزٌ لأنّه نظافة أيضًا حلق شعر اللحية جائزٌ لأنّه زينة ونظافة! صح لو لا؟! فقسنا مسألة على مسألةٍ لعلةٍ ظنيّةٍ لا علة قطعيّة، يعني: لو سُئِلَ هذا الإنسان أنت الذي قست مسألة شعر اللحية على شعر الرّأس هل تقطع بأنّهما سواءٌ في جميع الأمور أم تظنّ بذلك؟! غاية ما تستطيع قوله: أنا أظن، أنا أظن 70% أنّه لا فرق بين شعر اللحية وشعر الرّأس أصلاً، أنت لا تصل إلى حكم عقلي بديهي، لو وصلت إلى حكم عقلي قطعي بديهي لاعتبرنا به ولأخذنا به، لكن غاية ما تصل إليه هو الظنّ بوحدة العلة وبوحدة المناط، هذا كهذا، هذا كهذا قطعًا «بداهة»؟! جميع العقول تقرّ ما يقرّ به عقلك؟! أو لا، مسألة ظنيّة؟! تقول: مسألة ظنيّة، إذا مسألة ظنيّة لا يجوز أخذ الأحكام الشّرعيّة عن طريق الظنون العقليّة ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [14]  ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [15]  هذا تخريصٌ وظنٌ، والتخريص والظنّ ليس بحجّةٍ، لا يجوز الاعتماد عليه، إذن هذا يرفضه الإسلامُ، الإسلام يقول: أنا أقبل الأحكامَ العقليّة البديهيّة القطعيّة، لكنّ الأحكام العقليّة الظنيّة لا يجوز استخراج أحكام الله بها، ولهذا ردع الأئمة عن الأخذ بالقياس.

أذكر لك هذه القصّة التي ينقلها صاحبُ البحار الشّيخ المجلسي أعلى الله مقامه في المناظرة بين الإمام الصّادق وأبي حنيفة: دخل أبو حنيفة على الإمام الصّادق عليه السّلام.

قال: يا أبا حنيفة! أنت تفتي أهلَ العراق؟!

«أنت متصدٍ للفتيا لأهل العراق؟»

قال: نعم.

قال: بِمَ تفتيهم؟!

قال: أفتيهم بكتاب الله.

قال: هل تعرف كتاب الله ناسخه ومنسوخه وعامّه وخاصّه ومحكمه ومتشابهه؟!

قال: نعم.

قال: فما قولك في قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [16] ؟!

«ما هي هذه الأرض التي يسير فيها الإنسانُ ليالي وأيامًا وهو آمنٌ على نفسه؟! ما هي؟!»

قال: ما بين مكّة والمدينة.

قال: يا سبحان الله! أفمن سار ما بين مكّة والمدينة من دون رقيبٍ يكون آمنًا على نفسه؟!

قالوا: لا.

قال: إذن فكيف فسّرتها بهذا؟! ما قولك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [17]  أين هو؟!

قال: البيت الحرام.

قال: أنشدكم بالله ألم يلجأ عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير إلى البيت الحرام وقُتِلا فكيف أمِنا على أنفسهما؟!

«إذا من دخله كان آمنًا كيف سعيد بن جبير دخل وقُتِلَ؟! وكيف عبد الله بن الزبير التجأ وقُتِلَ؟!»

قال: أنا صاحب قياس.

«أنا لستُ صاحب تفسير، أنت تدخلني في غير مجال اختصاص! أنا أتكلم معك في القياس»

قال: أيّهما أعظم: القتل أم الزنا؟!

قال: القتل يا ابن رسول الله.

قال: فلِمَ الشّرعُ يقبل في القتل شاهدين ولا يقبل في الزنا إلا أربعة شهود؟!

«إذا القتل أعظم فمن المفروض أنْ يكون القتل أربعة شهود، كيف يكتفي الإسلامُ في القتل بشاهدين ولا يكتفي في الزنا إلا بأربعة شهود؟!»

أيّهما أقذر: البول أم المني؟!

قال: البول يا ابن رسول الله.

قال: فلِمَ المني يُغْتَسَلُ منه والبول لا يُغْتَسَلُ منه؟!

«هذا خارجٌ من البدن وهذا خارجٌ من البدن، هذا إذا خرج تغتسل، هذا إذا خرج لا تغتسل بل تتوضأ، فما هو الفرق؟!»

أيّهما أعظم: الصّوم أم الصّلاة؟!

قال: الصّلاة يا ابن رسول الله عمود الدّين.

قال: فلِمَ الحائضُ تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟!

«الحائض إذا انتهت الدّورة الشهريّة لا يجب عليها قضاءُ الصّلاة لكنْ يجب عليها قضاءُ الصّيام، إذا الصّلاة أعظم فمن المفترض أنْ تقضي الصّلاة»

قال: يا ابن رسول الله أنا صاحب فرائض.

«يعني: عندي معرفة بالفرائض، الفرائض يعني المواريث»

قال: ما تقول في رجلين سيد وعبده - مولى وعنده عبدٌ - تزوجا في ليلةٍ واحدةٍ ودخلا بزوجتيهما ثم فارقاها وسافرا فبقيت زوجة السّيّد وزوجة العبد في دارٍ واحدةٍ وأنجبا غلامين، وبعد أنْ أنجبا غلامين سقط السّقفُ عليهما فماتت زوجة السّيّد وماتت زوجة العبدُ وبقي الغلامان، من السّيّد منهما ومن العبد؟! ومن الوارث ومن الموروث؟!

«افترضوا شكلهم واحد، من السّيّد؟! من العبد؟! من الوارث؟! من الموروث؟!»

قال: أنا صاحب حدودٍ.

قال: ما رأيك في رجل أقطع قطعَ يدَ رجل؟!

«هو ليس عنده يدٌ، لكنّه قطع يد شخص، كيف يُقْتَصُ منه؟! لو كانت لديه يدٌ لقُطِعَت يده لقطعه يدَ الشّخص الأخرى، اليّد باليّد والعين بالعين، لكنْ ليس فيه يدٌ وقطع يدَ إنسان آخر فكيف يُقْتَصُ منه؟!»

وما تقول في رجل أعمى فقع عين صحيح؟!

«هو أعمى لكنه انقضّ على واحدٍ بسكروب أو بأيّ شيءٍ وأخرج عينه! هذا كيف يُقْتَصُ منه؟! لازم جواب»

ثم قال له: ”إنّ دين الله لا يصاب بالعقول، وليس أبعد من دين الله من عقول الرّجال، يا أبا الحنيفة لا تقس الدّينَ برأيك، إنّ أوّل من قاس إبليس، قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [18] “.

أوّل من استعمل العقل في الدّين هو إبليس، يعني: استعمل العقل الظني، الله تبارك وتعالى قال له: اسجد، ما هو شغلك؟! أنت تؤمن بوجود عالم حكيم لا يشرّع إلا نظامًا حكيمًا، خلاص صدر النظام الحكيم، اسجد لآدم، قال له: لا، كيف أسجد؟! هذه عقلي لا يقبلها! أنا خلقتني من نار وهو خلقته من طين!

والنار مشرقة والأرض مظلمة= والنار معبودة مذ كانت النارُ

النار أفضل من الطين ومن التراب، ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، ”إنّ أوّل من قاس إبليس“ يعني: أوّل من أعمل العقلَ مقابِلَ التشريع الصّادر من السّماء إبليس، قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

إذن فبالنتيجة: نستفيد من موقف التشريع الإسلامي من مدرسة القياس ومن مدرسة الرّأي أنّ الأحكام الشّرعيّة مبنيّة على المصالح والمفاسد العامّة لا يخترقها الإنسانُ بعقله الظني وبما يتوصّل إليه من تخريصات وظنون، بل عليه أن يتعامل مع الأحكام الشّرعيّة معاملة التعبّد إذا كان مؤمنًا بالسّماء ومؤمنًا بحكمة السّماء، طبعًا الموضوع يحتاج إلى مواصلةٍ، إن شاء الله في الأسبوع القادم نتحدّث عن نقاطٍ أخرى لها علاقة بهذا الموضوع إن شاء الله.

والحمدلله رب العالمين

 

[1]  فصلت: 46.
[2]  الذاريات: 56.
[3]  يس: 22.
[4]  هود: 61.
[5]  الملك: 15.
[6]  النساء: 1.
[7]  الحجرات: 13.
[8]  يس: 38 - 40.
[9]  الأنبياء: 16 - 17.
[10]  آل عمران: 19.
[11]  آل عمران: 85.
[12]  الضحى: 9.
[13]  البقرة: 195.
[14]  الإسراء: 36.
[15]  يونس: 66.
[16]  سبأ: 18.
[17]  آل عمران: 97.
[18]  ص: 76.