التعامل التعبدي مع الحكم الشرعي ”الجزء الثاني“

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العليّ العظيم

كان حديثنا في الأسبوع الماضي في إطار التعامل التعبّدي مع الحكم الشّرعي، واستمرارًا لهذا الموضوع نقول: الحكم الشّرعي ينقسم إلى قسمين:

1 - حكم إمضائي.

2 - وحكم تأسيسي.

والحكم التأسيسي أيضًا ينقسم إلى قسمين:

1. حكم تعبّدي.

2. وحكم معلل.

فحديثنا الآن في إطار هذه التقسيمات.

1 - الحكم الإمضائي:

الحكم الشّرعي ينقسم إلى حكم إمضائي وحكم تأسيسي، ما معنى الحكم الإمضائي؟

هناك أحكامٌ سابقة على الإسلام حكم بها العقلُ أو حكم بها المجتمعُ العقلائي والإسلام أمضى هذه الأحكام وأقرّها، مثلاً نأتي على مستوى العقل، وعلى مستوى المجتمع العقلائي.

1/ على مستوى العقل: كما ذكرنا في الأسبوع الماضي العقل يحكم بمفرده مع قطع النظر عن أيّ دين وعن أيّ ملةٍ العقل بنفسه يحكم أنّ إزهاق النفس عملٌ قبيحٌ، أنّ الإنسان يقوم بعمل يُزْهِقُ نفسه ويُتْلِفُ نفسه هذا عملٌ قبيحٌ، ظلمٌ للنفس، والظلم قبيحٌ، فإزهاق النفس وإتلافها عملٌ يحرّمه العقلُ، الإسلام أمضى هذا الحكم العقلي، لم يؤسّس حكمًا جديدًا، أقرّ بهذا الحكم العقلي وأمضاه وقال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [2] ، هذا يسمّى حكمًا إمضائيًا، يعني: أمضى حكم العقل، المهمّ أنّ العقل يحكم بقبح إزهاق النفس وبدون سببٍ، الإسلامٌ أيضًا أقرّ هذا الحكم العقلي وأمضاه، وهذا ما يسمّى بالحكم الإمضائي.

2/ نأتي الآن مثلاً إلى الأحكام العقلائيّة: المجتمع العقلائي منذ العهد اليوناني ومنذ عهد ما قبل التاريخ، المجتمع العقلائي نتيجة تطوراته الحضاريّة ونتيجة تراكماته المعرفيّة صارت له أحكامٌ وصارت له قوانين، الإسلام كثيرٌ من القوانين العقلائيّة أمضاها وأقرّها كما هي، مثلاً: تعال إلى المجال الاقتصادي، أحبّ أنْ أشير إلى هذا، الإسلام ما جاء باقتصادٍ أبدًا، الإسلام لم يأتِ باقتصادٍ، ولذلك التعبير بالاقتصاد الإسلامي تعبيرٌ خاطئٌ، ليس للإسلام اقتصادٌ، علم الاقتصاد بما هو علمٌ نتاجٌ بشريٌ، نتاج المجتمع البشري، المجتمع البشري نتيجة تراكماته المعرفيّة أسّس علم الاقتصاد كما أسّس علم الرّياضيات، كما أسّس علم الفلسفة، كما أسّس علم المنطق، كما أسّس علم الفيزياء، نحن ليس عندنا رياضيات إسلاميّة ورياضيات غير إسلاميّة، وليس عندنا فيزياء إسلاميّة وفيزياء غير إسلاميّة، هذا علمٌ بشريٌ موجودٌ قبل الإسلام وبعد الإسلام، أيضًا علم الاقتصاد كذلك، علم الاقتصاد نتاجٌ بشريٌ سابقٌ على الإسلام وبعد الإسلام، الإسلام ما أتى بعلم اقتصاد، علم الاقتصاد هو العلم الذي يبحث عن العمليتين: عملية إنتاج الثروة، وعملية توزيع الثروة، ما هي أسباب ومناشئ إنتاج الثروة، وما هي طرق توزيع الثروة بعد إنتاجها، العلم الذي يدرس العمليتين: عملية الإنتاج وعملية التوزيع يسمّى بعلم الاقتصاد، الإسلام لم يؤسّس علم اقتصاد، هو علمٌ بشريٌ موجودٌ من قبل الإسلام وبعد الإسلام.

نعم الإسلام له مذهبٌ اقتصاديٌ لا اقتصاد إسلامي، فرقٌ بين التعبيرين: بين أن نقول اقتصاد إسلامي - يعني: الإسلام أتى بعلم في الاقتصاد، لا، الإسلام ما أتى بعلم في الاقتصاد - وبين أن نقول: مذهبٌ اقتصاديٌ، مذهب اقتصادي ما معناه؟ يعني النظام المتعلق بتوزيع الثروة مبنيًا على فلسفةٍ معيّنة، دعني أشرح لك مثلاً بالمثال.

1] مثلاً: لنفترض مثلاً مالتس، هذا مالتس من علماء الاقتصاد القدامى، هذا كان يرى - عنده فلسفة معيّنة - أنّ النمو البشري أسرع من النمو الزراعي، يعني: البشر ينمو أكثر من نمو الأرض، بما أنّ النمو البشري أسرع من النمو الزراعي وأكثر سبقًا منه لذلك تنبّأ بالمستقبل، قال: لو تُرِكَ الأمرُ هكذا فسوف تكون كمية العدد البشري أكثر من كمية الحاصل الزراعي، وبالتالي تتعرّض المجتمعات البشريّة إلى مجاعاتٍ هائلةٍ، إذن لابدّ من تحديد النسل لكي يتناسب الكمّ البشري مع كمّ المحصول الزراعي، دعوته إلى تحديد النسل ليست بمنطق عقلي، بمنطق اقتصادي، هو حاسبها حسابًا اقتصاديًا، إذن مالتس عنده نظامٌ خاصٌ بتوزيع الثروة وهو النظام المبني على الموازنة بين الكمّ البشري وكمّ المحصول الزراعي، هذا نسمّيه مذهبًا اقتصاديًا، هذا ليس علم اقتصادٍ، هو ما أتى بعلم اقتصادٍ، أتى بنظام يتعلق بتوزيع الثروة مبنيًا على فلسفةٍ معيّنةٍ ورؤيةٍ معيّنةٍ.

2] نفس الشّيء الآن الرّأسماليّة مثلاً «المذهب الرّأسمالي»، المذهب الرّأسمالي ما أتى بعلم الاقتصاد، إنّما المذهب الرّأسمالي رأى أنّ الإنسان خلِقَ حرًا، بما أنّ الإنسان خلِقَ حرًا فليكن حرًا حتى في مجال الملكيّة، يتملك ما يشاء كيف يشاء وبأيّ طريق يشاء، فتح بابَ الملكيّة الفرديّة على مصراعيها بناءً على فلسفةٍ معيّنةٍ وهي فلسفة الحريّة، هذا نسمّيه مذهبًا اقتصاديًا.

3] أيضًا الإسلام له مذهبٌ اقتصاديٌ، ليس عنده علم اقتصادٍ، الإسلام أيضًا عنده فلسفة معيّنة: الإنسان خليفة الله في الأرض، بما أنّ الإنسان خليفة الله في الأرض إذن توزيع الثروة على المجتمع البشري يجب أن يكون نظام التوزيع متوازنًا مع نظريّة الخلافة، مع فلسفة الخلافة، هذا نسمّيه مذهبًا اقتصاديًا، إذن الإسلام لم يأتِ بعلم اقتصادٍ حتى نقول: اقتصاد إسلامي، الإسلام أتى بمذهبٍ اقتصادي، يعني: أتى بنظام متعلق بتوزيع الثروة مبنيًا على فلسفةٍ الخلافة مقابِل المذاهب الاقتصاديّة الأخرى، إذن ماذا صنع الإسلامُ؟

الإسلام أقرّ العلم الاقتصادي الموجود، أقرّ المعاملات العقلائيّة الموجودة، البيع: الإسلام يقول: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [3] ، الرّهان: الإسلام يقول: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [4] ، الصّلح: الإسلام يقول: الصّلح جائزٌ بين المسلمين، وهكذا... نفس هذه المعاملات العقلائيّة التي اخترعها المجتمعُ البشري أقرّها الإسلامُ، أمضاها الإسلامُ، هذه نسمّيه بحكم إمضائي، أقرّ ما عليه المجتمع العقلائي من كثير من المعاملات، هذا نسمّيه بالحكم الإمضائي.

نأتي الآن إلى القسم الثاني من أحكام الإسلام ألا وهو:

2 - الحكم التأسيسي:

الحكم التأسيسي الذي اخترعه الإسلامُ وجعله الإسلامُ ولم يكن مجعولاً قبله لا من قِبَلِ العقل ولا من قِبَلِ المجتمع البشري العقلائي، الحكم التأسيسي أيضًا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: الحكم التعبّدي، يعني: غير المعلل.

والقسم الثاني: الحكم المعلل.

دعني أوضّح لك بالمثال، نأتي إلى:

1. الحكم التعبّدي غير المعلل: صلِّ المغربَ ثلاثَ ركعات، لماذا ثلاث ركعات؟! هذا حكمٌ غير معلل، يعني: ما ذكر العلة الإسلامُ له، صلِّ الفجر ركعتين، لماذا ركعتين؟! حكمٌ غير معلل، مثلاً: ارمي جمرة العقبة يومَ العاشر من ذي الحجّة بسبع حصيات، لماذا سبع حصيات؟! لماذا ليست عشر حصيات؟! حكمٌ غير معلل، طف بالكعبة سبعة أشواط، لماذا سبعة أشواط؟! حكمٌ تعبّديٌ غير معلل.

دعني أضرب لك مثالاً حيويًا أكثر، مثالٌ حيويٌ تستفيد منه: الآن مثلاً الرّبا، الإسلام يقول: الرّبا البيعي.. عندنا ربا بيعي، وعندنا ربا قرضي، دع الرّبا القرضي «أقرضتك مئة ألف بمئة وعشرة، هذا يسمّى ربا قرضي، حرام»، عندنا ربا بيعي، الرّبا البيعي فيما يُكَال ويوزن لا ما هو أعمّ، في الأشياء التي تباع بالكيل أو تباع بالوزن يثبت الرّبا البيعي، يعني مثلاً أنا الآن أبيعك كيلو حنطة بكيلو ونصف، حرام، هذا ربا بيعي، لأنّ الحنطة ممّا يُوزَن، بيعه بأكثر منه حرامٌ، ربا، أو ممّا يكال، الأشياء التي تباع بالكيل مثلاً، أبيعك مثلاً لنفترض مساحة خمسة أمتار من الذهب بخمسة أمتار ونصف من الذهب، هذا أيضًا حرامٌ، ما يكال وما يُوزَنُ حرامٌ الرّبا البيعي فيه، لكن المعدود لا، لا يوجد مانعٌ من الرّبا فيه! الإسلام هكذا يقول: المعدود يجوز الرّبا فيه! مثلاً ما هو المعدود، افترض الأشياء التي تباع بالعدّ، لا تباع مثلاً لا بالكيل ولا بالوزن، افترض الأجهزة مثلاً، افترض مثلاً إنسان تاجر يبيع على تاجر آخر خمس مئة جهاز تلفزيون بخمس مئة وعشرين، خمس مئة جهاز تلفزيون ياباني بخمس مئة وعشرين جهاز تلفزيون مثلاً أمريكي مثلاً، لا يوجد مانعٌ! حلال! كيف يصير؟! بيع كيلو حنط بكيلو ونصف حرامٌ، ربا، بيع خمس مئة جهاز تلفزيون بخمس مئة وعشرين حلالٌ! فيما يكال ويوزن يحرم الرّبا، فيما يعدّ لا يحرم الرّبا! لذلك من هنا انطلق الفقهاءُ إلى مسألةٍ حسّاسةٍ متعلقةٍ بالبنوك، من هذا المنطلق انطلقوا، كيف؟

مثلاً: أنا عندما آتي إلى البنك، إذا آتي إلى البنك وأنا أريد قرضًا من البنك، البنك يقول لي: أنا أعطيك قرضًا مئة ألف بمئة وعشرة، حرام، لكن لو قال لي البنكُ: أبيعك مئة ألف - بيع، ليس قرضًا - أبيعك مئة ألف بمئة وعشرة، حلال! هي نفس المعاملة، قرض حرام، بيع يكون حلالاً! أقرضك مئة ألف بمئة وعشرة حرامٌ، قرضٌ ربويٌ، أمّا لو قال لي البنكُ: أبيعك، ليس قرضًا، بيع، أبعيك مئة ألف، مئة ألف ريال مثلاً من قسم خمس مئة «أبو خمس مئة» بمئة ألف وريال من قسم المئة، حلال! لماذا؟! لأنّ النقد ليس ممّا يكال وليس ممّا يوزن، بما أنّ النقد ليس ممّا يكال ولا يوزن فالمفاضلة فيه بين الثمن وبين المُثمَن جائزة، لا مانع من ذلك.

إذن فبالنتيجة: هنا حكمٌ غير معلل، لماذا يحرم الرّبا البيعي فيما يكال ويُوزَن ولا يحرم الرّبا البيعي فيما يعدّ؟! في المعدودات لا يحرم الرّبا البيعي ويحرم الرّبا البيعي فيما يكال ويوزن، حكمٌ تعبّديٌ غير معلل، هنا يأتي السّؤال: ما هي الفلسفة لجعل أحكام تعبّديّة غير معللة؟ ما هي الحكمة من ذلك؟ لماذا الإسلام وضع أحكام تعبّديّة غير معللة «صلاة المغرب ثلاث ركعات، الفجر ركعتان، الرّبا فيما يُعَدّ حلالٌ.. مثلاً من الأحكام التعبّديّة غير المعللة» لماذا؟!

هنا مقدّمتان:

المقدّمة الأولى: أنّ للمولى تبارك وتعالى حقّ الطاعة - يذكر هذا علماؤنا في كتب الأصول «أصول الفقه» - للمولى تبارك وتعالى حقّ الولاية بملاك شكر المنعم، أنت إذا أنعم إنسانٌ عليك بنعمةٍ، أبوك أنعم عليك بالتربية، مدرّسك أنعم عليك بالعلم، إنسانٌ في الخارج خدمك خدمات كثيرة، ألا يحكم عقلك بوجوب شكر من أنعم عليك وبقبح الكفران بالنعمة؟! يحكم عقلك بذلك، كما يحكم عقلك بوجوب شكر من أنعم عليك بنعمةٍ محدودةٍ فكيف لا يحكم عقلك بوجوب شكر من أنعم عليك بنعم لا تزال تتواتر وتتوافر عليك منذ كينونتك وحتى موتك؟! ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [5]  إذن شكر المنعم تعالى واجبٌ، وشكره تعالى بطاعته، فله حقّ الطاعة بملاك شكر المنعم، هذه المقدّمة الأولى.

المقدّمة الثانية: أنّ العمل بدافع شكر المنعم كمالٌ روحيٌ يسمو بالذات عن محيط الأنانيّة، كيف يعني يسمو بالذات عن محيط الأنانيّة؟

الإنسان مخلوقٌ نفعيٌ بطبعه، يتحرّك في إطار دوافعه الشّخصيّة، يتحرّك في إطار مصالحه الذاتيّة، كلّ إنسان هكذا، الإنسان بطبعه مخلوقٌ نفعيٌ، تحرّكاته في إطار دوافعه، في إطار مصالحه، ما يرضي شهوته، ما يحقّق مصلحته يتحرّك في إطاره ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [6]  الإنسان يتحرّك في إطار شهوته وإطار مصالحه، هذا طبيعيٌ، الإسلام شرّع أحكامًا عديدة لإخراج الإنسان من إطار النفعيّة إلى إطار الغيريّة، الصّدقة، لماذا شرّع الإسلامُ الصّدقة؟! ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [7]  لماذا شرّع الإسلامُ مثلاً احترامَ الآخرين؟! احترم الآخرين، ورد عن الرّسول محمّدٍ : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون“ المؤمن هو المؤمن المتواضع المتخلق بالأخلاق الفاضلة، لماذا الإسلام حثّ على الأخلاق الفاضلة؟! لماذا الإسلام حثّ على خدمة الآخرين؟! اخدم الآخرين بلا هدف ”خير الناس من نفع الناس“ لماذا؟!

كلّ هذه الأعمال تصبّ في هدفٍ واحدٍ، «الصّدقة، التواضع للآخرين، احترام الآخرين، خدمة الآخرين..» كلها تصبّ في منظار واحدٍ وهو إخراج النفس من الإطار النفعي إلى الإطار الغيري، وهذا كمالٌ روحيٌ للنفس، النفس التي تتجاوز أنانيتها، تتجاوز دوافعها الشّخصيّة إلى الغير، هذه نفسٌ متكاملة تكاملاً روحيًا، إذن الإسلام بغرض الوصول إلى الكمال الرّوحي - وهو تجاوز النفعيّة والأنانيّة - أمرنا بالصّدقة، أمرنا بالتواضع، أمرنا بخدمة الآخرين، أمرنا بشكر المنعم، شكر المنعم من هذا المنطلق، أنت إذا عملت عملاً بدافع الشّكر فقط لا بدافع مصلحةٍ شخصيّةٍ، لا بدافع مصلحةٍ ذاتيّةٍ، شكر المنعم يسمو بذاتك، يُخْرِجُهَا من الإطار الشّخصي إلى الإطار الغيري، لذلك يختلف العملُ بدافع شكر المنعم عن العمل بالدّوافع الذاتيّة، دعني أضرب لك مثالاً:

لو أنّ المدرّس مثلاً، أنت تدرس عند مدرّس، المدرّس قال لك: أنا أريدك أن تكتب هذا العشرين درس، عشرين مثلاً واجب تكتبها، أنت لا تدري ما هو السّبب، هو لا يحتاج إلى هذه العشرين، هو يحتاج إلى ثلاثةٍ، يحتاج إلى أربعةٍ، لماذا يأمرني بعشرين؟! هنا نوعان من التعامل: تارة أنت تأتي وتكتب هذا الواجب العشرين بدافع مصلحةٍ شخصيّةٍ، بدافع منفعةٍ ذاتيّةٍ، لا قيمة لهذا العمل، يبقى متأطرًا بالإطار النفعي، تارة أنت تعمل هذا العمل لأجل فقط شكر المدرّس على نعمة التدريس، عملٌ بدافع شكر المنعم ليس إلا، العمل بدافع شكر المنعم أكثر تربية للرّوح وأكثر تربية للنفس على الخروج من الإطار الشّخصي إلى الإطار الغيري.

من هنا نفهم الفلسفة في وضع الأحكام التعبّديّة، لماذا الإسلامُ وضع أحكامًا تعبّديّة؟ لماذا الإسلام يقول لك: صلِّ المغرب ثلاث ركعات، فهمت السّبب أو لم تفهمه صلِّ ثلاث ركعات، ارمي جمرة العقبة بسبع حصيات فهمت أو لم تفهم، الرّبا حرامٌ فيما يكال ويوزن دون ما يعدّ فهمت أم لم تفهم، الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها فهمت أم لم تفهم، امتثل هذه الأحكام، ماذا يريد أن يقول الإسلامُ؟

يريد أن يقول لك الإسلامُ: إذا امتثلت هذه الأحكام وأنت لا تعرف سببها ولا هدفها فقد امتثلتها بدافع شكر المنعم، أنت إذا امتثلتها بدافع شكر المنعم وشكر المنعم يُخْرِجُ النفس من الإطار النفعي إلى الإطار الغيري فسوف يسمو بك شكر المنعم ويسمو بروحك ويرتقي بها إلى قمّة الفضيلة وإلى قمّة الكمال، فإذن الإسلام وضع أحكامًا تعبّديّة ولم يبيّن سببها ولم يبيّن علتها ولم يبيّن هدفها لفلسفةٍ عامّةٍ وهي الرّفعة بالنفس البشريّة إلى مستوى الكمال، لأنّ هذه الأعمال عندما تأتي بها النفسُ البشريّة تأتي بها بدافع فقط وفقط شكر المنعم لا بدوافع شخصيّة ولا بدوافع ذاتيّة، فإذا أتت بها بدافع شكر المنعم حصلت على الكمال الرّوحي.

أنت الآن تعال إلى الجندي، الجندي الذي يدرّبه، يدرّبه الضّابط مثلاً، يمين! يسار! خلف! أمام! استعد! استرح! افعل كذا! لا تفعل كذا! الجندي يتلقى أوامر من المدرّب ولا يفهم سبب هذه الأوامر، ولا يعرف معنى هذه الأوامر، هذا الجندي عندما يطبّق أوامر المدرّب من دون أن يفهم سببها يتعلم على روح الانقياد وروح الامتثال أكثر ممّا لو عرف السّبب من هذه الأوامر، الإنسان إذا عرف ما هي الحكمة وما هي العلة يتحرّك على طبق مقدار العلة التي عرفها، يتحرّك على مقدار العلة التي فهمها، لا أكثر من ذلك.

إذن فبالنتيجة: الفلسفة من وضع الأحكام التعبّديّة تربية النفس على روح الانقياد وتربية النفس على الكمال الرّوحي الناتج عن الإتيان بالأعمال بدافع شكر المنعم.

نأتي إلى:

2. الأحكام المعللة:

هناك قسمٌ من الأحكام الشّرعيّة أحكامٌ معللة، يعني: الإسلامُ علّلها، مثلاً: صحيحة علي بن يقطين قال: عن الإمام الكاظم عليه السّلام: ”إنّ الله لم يحرّم الخمرَ لاسمها“ - ليس لأنّها خمرٌ حرّمها - ”إنّ الله لم يحرّم الخمرَ لاسمها وإنّما حرّمها لعاقبتها، فما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمرٌ“ لا يوجد فرقٌ بين الخمر وبين غيره من المسكرات، ولذلك ترى الفقهاء يستندون إلى هذه الرّواية، يقولون: كلّ مسكر نجسٌ، وكلّ مسكر حرامٌ، لماذا؟ لأنّ الإمام نزّل كلّ مسكر منزلة الخمر، فكما أنّ الخمر حرامٌ نجسٌ كذلك كلّ مسكر حرامٌ نجسٌ، ”فما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمرٌ“.

من باب المناسبة أذكر - لأنّ بعض الإخوان يقولون: كثّر من الأمثلة الفقهيّة حتى تتضّح المطالبُ الفقهيّة - نأتي مثلاً لمسألة البيرة، البيرة ليست حرامًا لأنّها مسكرٌ، لا، عندنا عنوانٌ ثانٍ، كما يحرم شربُ المسكر كالخمر والنبيذ والعصير العنبي بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه «العصير العنبي إذا غلا قبل أن يذهب ثلثاه يحرم وينجس، يصير مثله مثل الخمر، يكون في هذه الحالة مسكرًا لنوع الناس» كما يحرم شربُ الخمر عندنا عنوانٌ آخر وهو عنوان الفقّاع، عندنا عنوان الفقّاع عنوانٌ وردت به النصوص الخاصّة، ورد عن الصّادق عليه السّلام في الرّواية المعتبرة: ”الفقّاع خمرٌ استصغره الناسُ“، ما هو معنى الفقّاع؟

الفقّاع هو ماء الشّعير الذي تظهر عليه رغوة الشّعير وحموضته، الشّعير يُوضَع مع الماء، إمّا يُتْرَك لفترةٍ زمنيةٍ، دع الشّعيرَ مع الماء مثلاً خمسة أيام، بمرور الوقت يكتسب الماءُ حموضة الشّعير ورغوته، يصير فقّاعًا، حرام، أو يُغْلَى الماءُ مع الشّعير، يُغْلَى الماءُ مع الشّعير إلى أنْ يكتسب الماءُ رغوة الشّعير وحموضته فيسمّى فقّاعًا، يكون حرامًا أسكر أو لم يسكر، عنوان الفقّاع في حدّ ذاته هو محرّمٌ بذاته، عنوان الفقّاع - يعني: ماء الشّعير الذي ظهرت عليه رغوة الشّعير وحموضته - محرّمٌ في ذاته بعنوانه، بعنوان الفقّاع، من هنا أدخل بعضُ الفقهاء البيرة تحت هذا العنوان، اعتبروا البيرة من الفقّاع فحرّموها من باب أنّها فقّاع لا من باب أنّه مقاسة على المسكر حتى واحد يقول لك: أنا لا تسكرني البيرة «تمشي عادي عندي»! لا، ليس من باب عنوان المسكر وإنّما من باب عنوان الفقّاع، هذا الحكم حكمٌ معللٌ، الإسلام علّل حرمة شرب الخمر.

الإسلام علّل حرمة الغناء مثلاً، ورد في موثقة عنبسة عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال: ”استماع الغناء من اللهو الحرام لأنّ الغناء يُنْبِتُ في القلب النفاقَ كما يُنْبِتُ الماءُ الزرع“، الأحكام الشّرعيّة المعللة يجب امتثالها مطلقًا في حدود العلة أو في غير حدود العلة، لماذا؟

أشرح لك «هذا مطلبٌ عقائديٌ عندنا»: العلل على قسمين:

1. علة شخصيّة منضبطة.

2. وعلة نوعيّة غير منضبطة.

ما هو الفرق بين العلة الشّخصيّة المنضبطة والعلة النوعيّة الغير منضبطة؟

يعني الآن مثلاً أقول لك: يحرم عليك الدّخانُ إذا كان مضرًا بك، حرمة الدّخان معللة بعلةٍ شخصيّةٍ منضبطةٍ، تستطيع أنت تضبط أين يضرّك الدّخانُ وأين لا يضرّك، متى يضرّك ومتى لا يضرّك، من أحرز أنّ الدّخان يضرّه لقول طبيبٍ، لقول أهل الخبرة، يحرم عليه الدّخانُ، خلاص، من اطمئن بأنّ الدّخان يضرّه حَرُمَ عليه الدّخانُ، من لم يحرز ذلك أو أحرز في بعض الأوقات دون بعض الأوقات بكيفيّةٍ دون كيفيّةٍ أخرى لا يحرم عليه، إذن هنا علة الحكم علة شخصيّة منضبطة، يعني: يمكن تحديدها وضبط مواردها.

أمّا العلة النوعيّة الغير منضبطة، مثلاً: الإسلام يقول لك: حُرِّمَ عليك الغناء لأنّه يُنْبِتُ النفاقَ، هل تستطيع أنت أنْ تحدّد متى الغناء يُنْبِتُ النفاقَ ومتى لا يُنْبِتُ؟! لا يمكن التحديد، هذه علة نوعيّة غير منضبطة، النفاق متى يحصل من الغناء ومتى لا يحصل؟! هذا شيءٌ أنت لا تستطيع أن تحدّد موارده، لا يقدر أنْ يشهد به طبيبٌ، ولا يقدر أنْ يشهد به أهلُ خبرةٍ، ولا يقدر أنْ يشهد به عالمٌ من علماء النفس أبدًا، هذه أمورٌ تحصل وقد لا تحصل، علة نوعيّة غير منضبطة، يعني: لا يمكن ضبط مواردها وضبط مجالاتها، هنا العلة علة نوعيّة غير منضبطةٍ.

نفس الكلام في الإسكار، الإسلام يقول لك: يحرم عليك الخمرُ، إنّما حرّم الخمر لإسكاره، هل تقدر أنت أنْ تحدّد متى يُسْكِرُ الخمر ومتى لا يُسْكِرُ؟! أم تسأل شخصًا: والله ما رأيك أنت يُسْكِرُني الخمر أم لا يُسْكِرُ؟! دعني أجرّب وأرى يُسْكِرُ أم لا! لا يمكن تحديد هذه الموارد، تحديد أنّه يُسْكِرُ أو لا يُسْكِرُ، الآن في هذه الشّربة يُسْكِرُ، في تلك الشّربة لا يُسْكِرُ، في اليوم الفلاني يُسْكِرُ، في اليوم الفلاني لا يُسْكِرُ.. تحديد موارد الإسكار غير ممكن، لذلك لمّا أراد الإسلامُ أن يُبْعِدَك عن مفسدة الإسكار، أراد الإسلام أن يُبْعِدَك عن مفسدة النفاق، والمفروض أنّه لا يمكن تحديد موارد الإسكار، ليست علة شخصيّة منضبطة، ولا يمكن تحديد موارد النفاق، إذ ليست علة شخصيّة منضبطة، لذلك لمّا أراد الإسلامُ إبعادنا عن مفسدة الإسكار حرّم علينا الخمرَ بصورةٍ كليّةٍ حتى يُبْعِدَنا عن مفسدة الإسكار، باعتبار أنّ العلة علة نوعيّة غير منضبطة، لمّا أراد الإسلامُ أن يُبْعِدَنا عن مفسدة النفاق حرّم علينا الغناء بصفةٍ كليّةٍ، لماذا؟ لأنّه الغناء يُنْبِتُ النفاقَ والنفاقُ لا يمكن ضبط موارده فتجنبًا لذلك وتخلصًا من مفسدة النفاق حرّم الغناءُ بصورةٍ كليّةٍ، إذن بعضُ الأحكام الإسلاميّة وُضِعَت وشُرّعت بصورةٍ كليّةٍ، لِمَ؟

لأنّ ملاكها وعلتها علة نوعيّة غير منضبطة لا يمكن تحديدها ولا ضبطها، فاحتياطًا من الإسلام وشفقة من الإسلام بالفرد حرّم عليه بصفةٍ كليّةٍ كي يجنبه ويخلصه من هذه المفسدة، وللكلام بقايا، حيث أنّه لابدّ أنْ نتحدّث عن انقسام الحكم إلى الحكم الواقعي والحكم الظاهري، ويترتب على هذا آثار تربويّة وعقائديّة.

والحمدلله رب العالمين

[1]  آل عمران: 85.
[2]  البقرة: 195.
[3]  البقرة: 275.
[4]  البقرة: 283.
[5]  النحل: 18.
[6]  آل عمران: 14.
[7]  آل عمران: 92.