التعامل التعبدي مع الحكم الشرعي ”الجزء الثالث“

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [1] 

امتدادًا لحديثنا في الأسابيع الماضية نتكلم هذا اليوم عن انقسام الخطاب الشّرعي إلى:

1 - خطاب قطعي.

2 - وخطاب ظني.

الخطاب الشّرعي ينقسم إلى قسمين: خطاب قطعي، وخطاب ظني.

والخطاب الظني أيضًا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1. الحكم.

2. والفتوى.

3. والاحتياط الوجوبي.

نتكلم في دائرة هذه التقسيمات.

نأتي أوّلاً إلى التقسيم الأوّل:

تقسيم الخطاب الشّرعي إلى:

1 - خطاب قطعي.

2 - وخطاب ظني.

هذان الخطابان يختلفان من حيث الحقيقة ومن حيث الأثر.

1/ أمّا اختلافهما من حيث الحقيقة:

الخطاب القطعي هو الحكم الذي نجزم به ونعلم به، مثلاً: كلّ المسلمين يجزمون بحرمة شرب الخمر، كلّ المسلمين يجزمون بحرمة الرّبا، كلّ المسلمين يقطعون بأنّ الصّلاة في السّفر صلاة قصر والصّلاة في الحضر صلاة تمام، هذه تسمّى أحكامًا قطعيّة لأنّ الجميع يعلم بها على نحو القطع وعلى نحو الجزم، تسمّى أحكامًا قطعيّة، الخطاب الظني هو عبارة عمّا يستنبطه الفقهاءُ من الفتاوى، الفقيه يقول: من شكّ بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وأتى بركعة احتياطٍ قائمًا وسجد سجدتي السّهو، هذا خطابٌ ظنيٌ، يعني: الفقيه لا يجزم بأنّ هذا هو حكم الله، الفقيه لا يقطع بأنّ هذا هو حكم الله، الفقيه يقول: أنا نتيجة التأمّل في النصوص وفي الرّوايات توصّلتُ إلى هذه النتيجة: أنّ من شكّ بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وأتى بركعة احتياطٍ قائمًا «وسجد سجدتي السّهو في بعض الموارد»، أنا نتيجة التأمّل توصّلتُ إلى هذه النتيجة، أمّا هذه النتيجة ليست نتيجة قطعيّة، أنا لا أقول بأنّ هذا هو حكم الله المذكور في اللوح المحفوظ، ولكنّني أقول: هذا غاية جهدي وغاية تأمّلي وغاية تركيزي على مفاد الأدلة، هذا نسمّيه بحكم ظني، فعندنا حكمٌ قطعيٌ، وهو ما يعلم به المسلمون، وعندنا حكمٌ ظنيٌ، وهو ما يستنتجه الفقيهُ بعد استنباطه وبعد تأمّله في مفاد الأدلة.

ما الفرق بين الخطابين من حيث الأثر؟ ما هو الأثر الذي يترتب على ذلك؟

2/ الفرق بين الخطابين من حيث الأثر:

هناك أثران:

الأثر الأوّل: أنّ الأحكام القطعيّة لا يجوز التقليد فيها، بما أنّي أعلم بحرمة شرب الخمر لا معنى لِأنْ أقلد في ذلك؛ لأنّني أعلم بهذا الحكم، بما أنّني أعلم بحرمة الرّبا، بما أنّني أعلم بحرمة القمار، بما أنّني أعلم بحرمة الزنا، هذه الأحكام لأنّني أعلم بها لا يجوز لي التقليدُ فيها، دائرة التقليد في الأحكام الظنيّة لا في الأحكام القطعيّة، الأحكام التي لا أعلم بها هي موضوع التقليد، أمّا الأحكام التي أعلم بها وأقطع بها التقليد فيها لغوٌ ولا معنى للتقليد، هذا الأثر الأوّل.

الأثر الثاني «وهو المهمّ»: مسألة الارتداد، فقهاؤنا يقولون: مَنْ يُنْكِرُ حكمًا قطعيًا ملتفتًا للملازمة بين إنكاره وبين تكذيب النبي فهو مرتدٌ، بخلاف الحكم الظني، يعني مثلاً: إنسانٌ يُنْكِرُ حرمة الرّبا، يقول: «لا، الرّبا ليس محرّمًا» أو إنسانٌ مثلاً يقول: «شرب الخمر غير حرام»، أو إنسانٌ مثلاً يقول: «لا، القمار غير حرام».. إذا أنكر هذا الحكم القطعي وهو ملتفتٌ إلى أنّ إنكاره هذا يستلزم تكذيبَ النبي باعتبار أنّ هذه الأحكام وردت على لسانه فإنكار هذه الأحكام تكذيبٌ له ، مَنْ أنكر الحكمَ القطعي ملتفتًا للملازمة - بهذا القيد يذكر الفقهاءُ، بقيد الالتفات للملازمة - مَنْ أنكر الحكمَ القطعي ملتفتًا للملازمة بين إنكاره وبين تكذيب النبي فهو مرتدٌ، تبين منه زوجته، تقسّم أمواله، إلى آخر أحكام الارتداد، يجب قتله إذا كان الحاكم الشّرعي مبسوط اليد بعد أنْ يستتيبه.

إذن فبالنتيجة: إنكار الحكم القطعي يؤدّي إلى الارتداد، بينما إنكار الحكم الظني، الفقيه قال مثلاً: يحرم شرب العصير العنبي بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه، العصير العنبي إذا غلا وقبل أن يذهب ثلثاه بعضُ الفقهاء يحرّمه، يقول: هذا حرامٌ، هذا حكمٌ ظنيٌ، هذا الحكم الظني لو أنّ إنسانًا قال: لا، أنا لا أؤمن بهذا! العصير العنبي ممتازٌ ولا شيء فيه وانتهت القضيّة! إنكار الحكم الظني لا يوجب الارتداد لأنّه لا ملازمة بين إنكار الحكم الظني وبين تكذيب النبي ، لم يثبت صدور هذا الحكم عن النبي حتى إذا أنكرته فقد كذبت النبيَ، في الأحكام القطعيّة المعلومة بالضّرورة نعم إنكارها يستلزم تكذيب النبي، أمّا الأحكام الظنيّة التي هي جاءت نتيجة اجتهاد الفقهاء واستنباط الفقهاء إنكارها لا يستلزم الارتداد إذ لا ملازمة بين الإنكار وبين تكذيب النبي ، فهذا هو الفرق في الأثر بين الحكم القطعي وبين الحكم الظني.

نأتي إلى التقسيم الثاني:

الحكم الظني نفسه، الحكم الظني ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - حكم.

2 - فتوى.

3 - احتياط وجوبي.

هذه أشياء تتكرّر علينا عندما نسمعها من العلماء «هذه فتوى، هذا حكم، هذا احتياط وجوبي..» ما معنى هذه الأمور؟ ما هو الفرق بينها بحسب الحقيقة وبحسب الأثر؟

ما هو الفرق بين الحكم وبين الفتوى بحسب الحقيقة وبحسب الأثر؟

1/ أمّا اختلافهما بحسب الحقيقة:

الحكم هو الخطاب المتعلق بالموضوعات الخارجيّة، وأمّا الفتوى فهي الخطاب المتعلق بالقضايا الكليّة، دعني أضرب لك مثالاً: الآن مثلاً الفقيه عندما يترافع عنده شخصان مدّعيان مختلفان على أرض مثلاً «واحد يقول: الأرض لي، الثاني يقول: الأرض لي» يترافعان عند الفقيه، الفقيه ماذا يقول؟ الفقيه يقول: هذه الأرض لفلان، هذا يسمّى حكمًا، ليس فتوى، لماذا؟ لأنّه خطابٌ متعلقٌ بموضوع خارجي وهو أرضٌ خارجيّة موجودة في الخارج، الخطاب المتعلق بهذا الموضوع الخارجي وهو الأرض نسمّيه ماذا؟ حكم، هذه الأرض لفلان وليست لفلان، الفقيه مثلاً يقول: اليوم يوم العيد وليس من رمضان، هذا يسمّوه ماذا؟ حكم، وليس بفتوى، لأنّه خطابٌ متعلقٌ بموضوع خارجي وهو يوم العيد أو آخر يوم من أيام رمضان مثلاً، مثلاً الفقيه لنفترض يقول كما كان السّيّد قدّس سرّه - السّيّد الصّدر رحمة الله عليه - كان يحرّم جبن الكرافت، جبن الكرافت هذا كان يمنع منه السّيّدُ الصّدرُ قدّس سرّه، هذا حكمٌ كان، فقيهٌ مثلاً يقول: جبن الكرافت يُقَاطَع، لا يجوز شراؤه ولا الأكل منه، جبن الكرافت يُقَاطَع، هذا حكمٌ، لماذا؟ لأنّه خطابٌ يتعلق بموضوع خارجي، شركة معيّنة تورّد هذا النوع من الإنتاج، الفقيه حكم بمقاطعة هذه الشّركة من خلال البيع أو من خلال الشّراء أو من خلال الاستخدام، هذا حكمٌ متعلقٌ بموضوع خارجي، إذن ما يصدر من الفقيه كخطابٍ متعلق بالموضوع الخارجي نسمّيه حكمًا.

أمّا ما يصدر من الفقيه كخطابٍ متعلق بقضيّةٍ كليّةٍ - لا ربط له بالموضوع الخارجي - الفقيه يقول: أدوات القمار يحرم شراؤها وبيعها واستخدامها، هذا ليست له علاقة بالموضوع الخارجي، هذا مطلقًا، يتحدّث عن قضيّةٍ كليّةٍ، أدوات القمار «كالشطرنج، كالنرد مثلاً، كالزاتة، كما أشبه ذلك من أدوات القمار» الفقيه عندما يقول: أدوات القمار بصفةٍ كليّةٍ - قضيّة كليّة في هذا الزمن أو في الزمن الآتي أو في الزمن السّابق - أدوات القمار يحرم بيعها وشراؤها واستخدامها، هذه تسمّى ماذا؟ فتوى؛ لأنّ الفتوى هي الخطاب المتعلق بقضيّةٍ كليّةٍ، فعندنا فتوى وعندنا حكمٌ، هذا هو الاختلاف بينهما بحسب الحقيقة.

2/ أمّا الاختلاف بينهما بحسب الأثر:

ما هو الأثر؟ ما هو الفرق في الأثر بين الحكم وبين الفتوى؟

الحكم لا يجوز نقضه حتى لمجتهدٍ آخر، إذا لاحظنا وقرأنا الرّواية مقبولة عمر بن حنظلة وهي المقبولة التي تلقاها علماؤنا وفقهاؤنا بالقبول وبنوا على الاعتماد عليها، في مقبولة عمر بن حنظلة الإمام الصّادق ماذا يقول؟ ”فإذا حكم بحكمنا فلم يُقْبَل منه فإنّما بحكم الله اُسْتُخِفّ وعلينا رِدّ والرّاد علينا رادٌ على الله وعلى رسوله وهو على حدّ الشّرك بالله“ نقض الحكم لا يجوز، إذا حكم المجتهد قال: تُقَاطَع الشّركة الفلانيّة، حكمٌ، أو قال: هذا الوقف لبني فلان دون بني فلان، أو قال مثلاً: هذا اليوم يوم الهلال وليس يوم رمضان، إذا صدر الحكمُ من الفقيه في الموضوعات الخارجيّة لم يجز نقض حكمه حتى لفقيهٍ آخر، حتى فقيه آخر لا يجوز أنْ يناقض حكمه، ”فإنّما بحكم الله اُسْتُخِفّ وعلينا رِدّ والرّاد علينا رادٌ على الله وعلى رسوله وهو على حدّ الشّرك بالله“ هذا حكمٌ من الشّارع المقدّس احتفاظًا بهيبة زعامة الشّرع وزعامة المذهب، بما أنّ الفقيه يمثّل زعامة الدّين وزعامة المذهب حفاظًا على قدسية هذه الزّعامة إذا صدر منه حكمٌ في الموضوعات الخارجيّة لا يقبل الشّرعُ نقضَ هذا الحكم ولو من قِبَلِ فقيهٍ آخر، إلا إذا - يقول علماؤنا - إلا إذا تبيّن خطؤه أو خطأ مستنده، ما معنى «خطؤه أو خطأ مستنده»؟ أنت تقرأ هذا في منهاج الصّالحين، هذه العبارة ما معناها؟ تبيّن خطأ الاستناد وخطأ المستند، فرقٌ بين خطأ الاستناد وخطأ المستند، ما هو الفرق بينهما؟

يعني الآن مثلاً: الفقيه يقوم عنده شاهدان خبيران يقولان للفقيه: شركة كرافت شركة يهوديّة، شركة ترجع ميزانيتها ورأسمالها إلى جماعة يهوديّةٍ معاديةٍ ومحاربةٍ للإسلام والمسلمين، إذا شهد عادلان خبيران بذلك عند الفقيه رأى أنّ الشّراء من هذه الشّركة والتداول من هذه الشّركة ترويجٌ لهؤلاء وتقوية لهم وهم جماعة معادية أو محاربة، الفقيه يقول: تُقَاطَعُ هذه الشّركة، يحرم الشّراء منها، يحرم التداول معها، فلتُقَاطَع، هذا حكمٌ، لو تبيّن للإنسان خطأ الاستناد أو خطأ المستند، يعني: إنسانٌ آخر عرف أنّ هؤلاء الذين اعتمد عليهم الفقيهُ أصلاً جماعة ليس لديهم خبرة، لو أنا أعرفهم مثلاً، أنا أعرف أنّ هؤلاء الذين شهدوا عند الفقيه بأنّ هذه الشّركة مثلاً شركة يهوديّة هؤلاء ليس لهم خبرة أو ليسوا عدولاً، هذا يسمّوه خطأ في الاستناد، يعني: الفقيه استند إلى أمر هو في حدّ ذاته محلّ خطأ، هذا يسمّى خطأ في الاستناد، هذا معنى «تبيّن خطأ استناده»، أو لا، لا يوجد خطأ في الاستناد، هم جماعة عدول، جماعة خبيرين، لكن هم الغلطانون لا أنّ الفقيه هو الغلطان، هذا يسمّوه خطأ في المستند لا خطأ في الاستناد، يعني: هم قاسوا شركة على شركةٍ أخرى، ظنوا أنّ الشّركة اليهوديّة هي شركة كرافت والحال بأنّ الشّركة اليهوديّة هي شركة أخرى وليست هذه الشّركة، فالخطأ في المستند وليس الخطأ في الاستناد، إذا تبيّن للإنسان خطأ المستند عند الفقيه أو خطأ الاستناد لا ينفذ عليه حكم الفقيه مادام قد تبيّن له خطأ الاستناد أو خطأ المستند.

نأتي إلى الفتوى: الفتوى لا، لو أنّ إنسانًا قال: أنا لا أريد أن أعمل بهذه الفتوى! الفتوى هذه لا تعجبني! القضيّة ليست غصبًا! الفقيه يقول مثلاً: يحرم شرب العصير العنبي، أنا هذه الفتوى لا أقبلها ولا تعجبني! لا يُعَدّ ارتكب محرّمًا مثل الحكم، نقض الحكم يُعَدّ عملاً محرّمًا، أمّا نقض الفتوى لا يُعَدّ عملاً محرّمًا، صحيحٌ لا أثر، لا جدوى فيه - سأشرحه هذا فيما يأتي - ولكن ليس عملاً محرّمًا، الفقيه مثلاً يقول: يحرم غناء النساء في الأعراس، كما عند السّيّد السّيستاني مثلاً دام ظله، يقول: الغناء كله حرامٌ، حتى غناء النساء في الأعراس يستشكل فيه، ربّما يقول قائل: هذا لا يعجبني! متى يغني هؤلاء؟! حتى في الأعراس! متى يغنوا؟! والمرأة لابدّ لها أن تغني يومًا من الأيام! أنا هذا الحكم لا يعجبني ولا أسلّم به ولا أعمل به! هذا ليس النقض عملاً محرّمًا كما هو نقض الحكم الصّادر المتعلّق بالموضوعات الخارجيّة، نقض الفتوى يختلف عن نقض الحكم، نقض الحكم عملٌ محرّمٌ، ولكنّ الإنسان لو نقض الفتوى بأنْ قال مثلاً أنّ فتوى السّيّد السّيستاني بأنّ الغناء مطلقًا محرّمٌ أو فيه إشكالٌ حتى غناء النساء في الأعراس، لو قال إنسانٌ: هذه الفتوى أنا لا أحبّ أنْ أعمل بها أو أنّ هذه الفتوى لا أتديّن بها ولا أتعبّد بها هذا لا يعدّ عملاً محرّمًا ولا يُعَدّ معصية، ليس كنقض الحكم، نقض الحكم في حدّ ذاته معصية، نقض الفتوى ليس عملاً محرّمًا ولا معصية، ولكن إذا نقض الإنسانُ الفتوى لن يتخلّص من المشكلة لأنّه يجب عليه عقلاً بينه وبين ربّه إمّا أنْ يكون مجتهدًا أو مقلّدًا أو محتاطًا، فإذا لم يعمل بهذه الطرق الثلاثة - نَقَضَ الفتوى ولم يكن مجتهدًا ولا مقلّدًا ولا محتاطًا - وصادف أنّه خالفَ الحكمَ الشّرعي الواقعي الذي وضعه اللهُ في حقّه حينئذٍ يكون مستحقًا للعقوبة، مستحقٌ للعقوبة لا لأنّه نقض الفتوى بل لأنّه لم يجتهد ولم يقلّد ولم يحتط وصادف أنّ عمله والذي فعله كان مخالفًا للحكم الشّرعي الواقعي الإلهي.

التقسيم الثالث:

هو الفرق بين الفتوى وبين الاحتياط الوجوبي، ما هو الفرق بين الفتوى وبين الاحتياط الوجوبي؟

الفتوى هي عبارة عن خطابٍ شرعي، بينما الاحتياط الوجوبي وظيفة عقليّة وليست وظيفة شرعيّة، كيف؟ الفتوى وظيفة شرعيّة والاحتياط الوجوبي وظيفة عقليّة، ما معنى ذلك؟

«الفتوى» شيءٌ يستخرجه الفقيهُ من النصوص ومن الرّوايات، الفقيه قرأ النصوصَ، صحّح سندَها، استظهر دلالتها، وصل الفقيهُ إلى هذه الفتوى أنّ العصير العنبي يحرم شربه، أنّ العصير العنبي بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه ينجس مثلاً، الفقيه توصّل إلى هذه الفتوى، هذه نسمّيها وظيفة شرعيّة، لأنّها مستخرجة من كلام الشّارع، مستخرجة من النصوص «الآيات أو الرّوايات».

وأمّا «الاحتياط الوجوبي» ليس شيئًا مُسْتَخْرَجًا، شيءٌ حكم به عقلُ الفقيه عند عدم الدّليل على الفتوى، دعني أضرب لك مثالاً، مثال حي، الآن مثلاً: أنا مثلاً أعمل في الرّياض، أو أنا عملي في الجبيل، إنسانٌ عمله في الرّياض أو عمله في الجبيل، أنا لا أرجع يوميًا إلى وطني القطيف، لا، أرجع في الأسبوع مرّة أو في الأسبوعين مرّة مثلاً، لمّا رجعتُ يومًا من الأيام أردتُ أنْ أصلي في الطريق، لمّا أردتُ أنْ أصلي في الطريق النقطة التي أردتُ أنْ أصلي فيها بينها وبين وطني 22 كيلو أو أكثر، وقفتُ أنا بين الجبيل وبين القطيف حتى أصلي، أو وقفتُ بين الرّياض وبين القطيف حتى أصلي والمسافة بينهما - يعني: بين نقطة الصّلاة وبين بلادي ووطني - أكثر من 22 كيلو «مسافة»، هنا هل أصلي قصرًا أم أصلي تمامًا؟ الفقيه هنا يقول لك: أنا ما عندي دليلٌ، ما عندي دليل، لا عندي دليلٌ يعيّن القصر، ما عندي دليلٌ - أيضًا - يعيّن التمام، بما أنّ ما عندي دليلٌ يعيّن القصر ولا عندي دليلٌ يعيّن التمام وأنا أشكّ هل أنّ رجوعك الآن.. افترض أنت راجعٌ لعلاج مرض، أنت لست راجعًا إلى عملٍ، راجعٌ لعلاج مرض، راجع لأنّ فاتحة صائرة وأنت تريد أن تحضر الفاتحة، وأشباه ذلك.. رجوعك لا أدري هل هو من شؤون عملك فتصلي تمامًا أو ليس من شؤون عملك فتصلي قصرًا، بما أنّي شاكٌ - أنا الفقيه - في أنّ رجوعك هل هو من شؤون عملك فتصلي تمامًا أو ليس من شؤون عملك فتصلي قصرًا وليس عندي دليلٌ يعيّن أحد الشّقين فأنا أقول: العقل يحكم هنا بلزوم الجمع بين القصر والتمام، تصلي قصرًا وتمامًا، هذا يسمّوه احتياط وجوبي، الاحتياط الوجوبي من أين أتى؟ لم يأتِ من نص، لا من آية، ولا من رواية، ولا من دليل، جاء من العقل، وظيفة عقليّة، الفقيه يقول: عند عدم الدّليل على الحكم بما أنّه لا يوجد عندي دليلٌ على الحكم وأنا أشكّ بين شقين فأنا أقول - كما يعبّر عنه الفقهاءُ - مقتضى منجزيّة العلم الإجمالي، يعني: أنا أعلم إجمالاً بأنّي مطلوبٌ إمّا بالقصر أو مطلوبٌ بالتمام، بما أنّي أعلم إجمالاً أنّي مطلوبٌ بالقصر أو مطلوبٌ بالتمام لا يحصل لي اليقين بفراغ ذمّتي إلا إذا صليتُ قصرًا وتمامًا، لو صليتُ قصرًا أحتمل الذمّة ما فرغت، لو صليتُ تمامًا فقط أحتمل الذمّة ما فرغت، فلا يحصل لي يقينٌ بفراغ ذمّتي من الصّلاة إلا إذا جمعتُ بين القصر والتمام، هذه تسمّى وظيفة عقليّة، وهي ما يعبّر عنه بالاحتياط الوجوبي.

مثلاً: بلد، افترض مثلاً بلد الدّمام مثلاً، الدّمام لها طريقان: طريقٌ مستقيمٌ، طريقٌ دائريٌ، إذا تذهب لها من الطريق المستقيم لا تصل إلى 22 كيلو، لكن إذا تذهب إليها من الطريق الدّائري تصل إلى 22 كيلو، فلو أنت ذهبت من الطريق الدّائري، لم تذهب من الطريق المستقيم، ذهبت من الطريق الدّائري، تصلي قصرًا أم تمامًا؟ أنت لم تذهب من الطريق المستقيم، الطريق المستقيم لا يصل مسافة، أقل من 22 كيلو، لكن الطريق الدّائري يبلغ مسافة 22 كيلو مثلاً وأكثر، لو أنّك سلكت الطريقَ الدّائري تصلي قصرًا أم تمامًا؟ هنا كثيرٌ من الفقهاء يقول: تحتاط بالجمع بين القصر والتمام، لماذا؟ يقول: أنا ليس عندي دليلٌ على الحكم، بما أنّه ليس عندي دليلٌ على الحكم أشكّ: هل أنّ العبرة في القصر بالمسافة الفعليّة أو بالمسافة الواقعيّة؟ إنْ كان العبرة بالمسافة الفعليّة التي قطعته بالفعل هو 22 كيلو، وإذا كان العبرة بالمسافة الواقعيّة لا توجد مسافة واقعيّة بين بلدك وبين الدّمام، لا توجد مسافة، أقل من 22 كيلو، فبما أنّي أشكّ: هل العبرة بالمسافة الواقعيّة أو بالمسافة الفعليّة أقول: بعدما تعلق بذمّتك الأمرُ بالصّلاة لا يحصل لك يقينٌ بفراغ ذمّتك عن هذا الأمر إلا إذا جمعتَ بين القصر والتمام، فتجمع بين القصر والتمام.

إذن هذا يسمّوه احتياطًا وجوبيًا، وظيفة عقليّة وليست وظيفة شرعيّة، الوظيفة الشّرعيّة - وهي الفتوى - يُرْجَع فيها إلى الفقيه، تراجع الرّسالة العمليّة حتى تعرف الوظيفة الشّرعيّة، أمّا الوظيفة العقليّة - وهي الاحتياط الوجوبي - لا، الفقيه يقول لك: أنت حرٌ، أنا لو كنتُ مكانك، أنا لو كنتُ مكانك وقطعتُ مسافة دائريّة لصليتُ قصرًا وتمامًا، أنت أيضًا حرٌ: تريد أنْ تعمل بما أعمل به أنا، هذا ليس فتوى، هذا ليس وظيفة شرعيّة، وظيفة عقليّة، إنْ شئت أنْ تعمل كما أعمل أنا فتجمع بين القصر والتمام فاعمل، إذا لم ترد أنْ تعمل بذلك فارجع إلى فقيهٍ آخر يفتيك بأنّ عليك إمّا القصر وإمّا التمام، أنا ليس عندي فتوى، إذن الاحتياط الوجوبي وظيفة عقليّة بينما الفتوى وظيفة شرعيّة.

بعد هذه التقسيمات التي ذكرناها «حكم، فتوى، احتياط وجوبي» هنا تثار شبهة، شبهة أذكرها لكنْ لا أجيب عنها حتى يصير تشويقٌ إلى الأسبوع القادم نجيب عن الشّبهة، نذكر هذه الشّبهة، الشّبهة شبهة علمانيّة، يعني: يذكرها العلمانيّون، محمد أركون مثلاً في كتبه وغيره من الكتّاب العلمانيّين يطرحون هذه الشّبهة، يقولون: بعدما تبيّن لنا الفرق بين الحكم والفتوى والاحتياط الوجوبي فهنا نذكر شبهة ترتكز على أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه لماذا نسحب صفة القداسة من الحكم القطعي إلى الحكم الظني؟! لماذا نوسّع دائرة القداسة من الخطاب الواقعي إلى الخطاب الظاهري وإلى الخطاب الظني؟! كيف؟

الخطاب الذي ينزل على النبي.. نحن لا ننكر الإسلام، هؤلاء العلمانيّون يقولون: نحن لا ننكر الإسلام! لا! نحن نقول: صح الإسلام هو ديننا ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ! نحن نقبل الإسلام ولكن ما هو الإسلام؟! أين الإسلام؟! ليس الإسلام هو فتاوى الفقهاء، الإسلام هو الخطاب الذي نزل من الله على النبي ، الخطاب الذي نزل من الله للنبي هذا هو الإسلام، وهذا مقدّسٌ، لماذا مقدّسٌ؟ لأنّه كلام الله، كلامٌ إلهيٌ، بما أنّه كلام الله خطاب السّماء يتّصف بصفة القداسة، ونحن نقبله ونتديّن به، أمّا الخطاب الذي يصدر من الفقيه ليس هذا هو الإسلام، هذا عقل الفقيه، هذا ليس الإسلام، مثلاً: نأتي لمنهاج الصّالحين، منهاج الصّالحين رسالة السّيّد الخوئي، هذا المنهاج.. أو رسالة السّيّد الحكيم قدّس سرّه، منهاج الصّالحين هذا هو الإسلام أو هذا عقل السّيّد الخوئي؟! هذا عقل السّيّد الخوئي، هذا فكرٌ بشريٌ وليس خطابًا إلهيًا، الذي يتصف بصفة القداسة هو الخطاب الإلهي، الخطاب السّماوي، وهو الخطاب الذي نزل على النبي، أمّا هذا منهاج الصّالحين من باب التقليد إلى باب الحدود والدّيات هذا عصارة مخ بشري، السّيّد الخوئي نتيجة ثقافته الفقهيّة وثقافته الأصوليّة وثقافته الرجاليّة وموروثاته البيئيّة وموروثاته الاجتماعيّة ودرجة الثقافة عنده.. كلّ هذه العوامل تحكّمت وأوجبت أن يستخرج لنا هذه الأفكار، هذه أفكار بشر وليست خطابًا سماويًا، فكيف نوسّع دائرة القداسة فنقول: هذا الكتاب مقدّسٌ كما أنّ الخطاب الإلهي مقدّسٌ؟! لا، نفرّق بين الأمرين، خطاب الله للنبي هو الإسلام وهو شيءٌ مقدّسٌ نتديّن به، أمّا أفكار الفقيه التي يصنعها بحكم ثقافته ويتوصّل إليها بمقتضى خبرته هذا فكرٌ بشريٌ، والفكر البشري ليس فكرًا مقدّسًا، فلا يجب علينا التديّن به ولا التعبّد به، هذا الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: الرّجوع للفقيه بمناط الخبرويّة، نحن لماذا نرجع للفقيه غيرَ لأنّه خبيرٌ؟! الآن نحن لماذا نرجع للطبيب غيرَ لأنّه خبيرٌ؟! إذا أصْبِنا بمرض أو بآفةٍ رجعنا للطبيب لتشخيص علاج هذا المرض وعلاج هذه الآفة، الرّجوع للطبيب لأنّه خبيرٌ في هذا المجال «مجال علاج الأمراض وتشخيص دوائه»، أيضًا الرّجوع للفقيه لأنّه خبيرٌ، نحن أصِبْنَا بمشكلةٍ دينيّةٍ، لا ندري صارت عندنا اختلافٌ في الميراث، صار عندنا اختلافٌ مثلاً في الخمس، صار عندنا شكٌ في الصّلاة.. هذه مشكلة دينيّة، نرجع إلى الفقيه لأنّه خبيرٌ في هذا المجال، فنرجع للخبير في مجال اختصاصه، إذا كان الرّجوع للفقيه بمناط الخبرة فلماذا نحصر أنفسنا في فقيهٍ واحدٍ؟! والله نحن جماعة الخوئي! خلاص! غيره لا! ألئك يقولون: نحن جماعة الكلبيكاني! غيره لا! لماذا نحصر أنفسنا في فقيهٍ واحدٍ؟! مادام الرّجوع للفقيه بمناط الخبرة إذن لا فرق بين الفقيه والطبيب، ألا أرجع إلى أطبّاء متعدّدين؟! في مرض أرجع للطبيب الفلاني، في مرض آخر أرجع لطبيب ثانٍ، في مرض ثالثٍ أرجع لطبيب ثالثٍ، في مرض رابع أرجع لطبيبٍ رابع.. كما أنّي أرجع لأطباء متعدّدين في أمراض متعدّدة فلماذا نحصر أنفسنا في فقيهٍ واحدٍ؟! مادام الفقيه كالطبيب خبيرٌ في مجال اختصاصه لماذا لا نرجع لفقهاء متعدّدين في قضايانا الدّينيّة؟! وهو ما يسمّى بمسألة «التبعيض في التقليد»، أقلّد فقهاءَ متعدّدين كلٌ في مجال وكلٌ في عمل وكلٌ في مسألةٍ.

الشّبهة المتركزة على هذين الأمرين أجيب عنها إن شاء الله في الأسبوع القادم.

من باب التنبيه فقط:

طبعًا أنا عندما أتعرّض للفتاوى والمسائل الفقهيّة أنا لا أعلّم فتاوى، لا، أنا لا أعلّم فتاوى السّيّد الخوئي ولا فتاوى السّيّد السّيستاني ولا فتاوى الشّيخ التبريزي ولا غيره من الفقهاء، ليس منهجي هنا في المسجد أنْ أعلّم الناسَ الفتاوى، وإنّما منهجي ثقافة فقهيّة عامّة، ليس منهجي تعليم فتاوى فقيهٍ معيّن أو مرجع معيّن، وإنّما منهجنا هنا بيان ثقافة فقهيّة عامّة قد أذكر فيها بعضَ الآراء وقد لا أذكر فيها بعضَ الآراء، وإنّما أريد للشّاب المُسْتَمِع أنْ يحصل على ثقافةٍ فقهيّةٍ مع قطع النظر عن آراء المجتهدين المعاصرين أو غيرهم.

لذلك في المسألة التي طرحناها في الأسبوع الماضي وهي تبديل القرض بالبيع، بدل أنْ أقترض من البنك مئة ألف بمئة وعشرة أحوّل القرض إلى بيع، أقول للبنك: حوّل المسألة إلى بيع، فيقول لي البنكُ: بعتك مئة ألف ريال بمئة وعشرة، بدل أنْ يقول: أقرضتك مئة ألف بمئة وعشرة، يحوّل القرض إلى بيع، يقول: بعتك مئة ألف بمئة وعشرة، تحويل القرض إلى بيع اختلف فيه الفقهاء على ثلاثة آراء، بعض الجماعة سمع مني وقال: هذا معناه رأي السّيّد الخوئي! لا، أنا لا أطرح فتاوى فقيهٍ معيّن، أنا أذكر ثقافة فقهيّة، الفقهاء اختلفوا فيه على ثلاثة آراء:

الرّأي الأوّل: رأي السّيّد الخوئي قدّس سرّه، وهو رأي السّيّد الصّدر قدّس سرّه، ورأي شيخنا الأستاذ الشّيخ التبريزي دام ظله، يقولون بأنّ هذا لا، ما يصير، جعلتَه بيعًا أو جعلتَه قرضًا حرامٌ، «قرضٌ ألْبِسَ ثوبَ البيع» هكذا يعبّرون عنه، يعني: إذا قال لك البنكُ: بعتك مئة ألف بمئة وعشرة، حتى لو صاغ بصياغة البيع هو قرضٌ في الحقيقة وليس ببيع، قرضٌ ألْبِسَ ثوبَ البيع، فلذلك يكون محرّمًا كحرمة القبض الرّبوي، ولا فرق بينه وبين القرض الرّبوي في شيءٍ، قرضٌ ألْبِسَ ثوبَ البيع، لذلك لا يجوز عندهم.

الرّأي الثاني: رأي السّيّد السّيستاني دام ظله، السّيّد الأستاذ السّيّد السّيستاني دام ظله، السّيّد السّيستاني يقول: هذا ليس بقرض لكنْ ليس ببيع، لا هو قرضٌ ولا هو بيعٌ، لا هو قرضٌ لأنّهم لم يقصدوا القرضَ، القرض له حقيقة، البيع له حقيقة، هم لم يقصدوا حقيقة القرض، قصدوا حقيقة البيع، فكيف يقع قرضًا؟! الشّيء لا يقع مصداقًا لمغايِره ومبايِنه، هم قصدوا البيع كيف أنت تقول لهم: لا، هذا قرض؟! نقول: ما قصدنا القرضَ، قصدنا البيعَ، إذن فبالنتيجة: هذا ليس بقرض، لأنّه لم يُقْصَد عنوانُ القرض، لكنّه ليس ببيع أيضًا، لماذا؟ لأنّ البيع يُعْتَبَرُ فيه المغايرة بين الثمن وبين المثمن، أنا أعطيك ساعة، بعتك ساعة بمئتي ريال، هنا الثمن مئتا ريال، المثمن السّاعة، فالثمن مغايرٌ للمثمن، أمّا إذا قلتُ: «بعتك مئة ألف بمئة وعشرة» لا توجد مغايرة بين الثمن والمثمن، والدّليل على ذلك: أنت تستطيع أنْ تأخذ المئة ألف - وهي المثمن - وتُرْجِعُها كثمن، فصار الثمن عين المثمن، لا توجد مغايرة بين الثمن والمثمن، بعتك مئة بمئة وعشرة، أستلم المئة من عندك كمثمن ثم أرجعها لك كثمن، فانطباق الثمن على المثمن في مقام الوفاء منبّهٌ على عدم المغايرة بين الثمن وبين المثمن.

لذلك هذا ليس بقرض؛ لأنّه لم يقصد القرض، ولا بيع؛ لأنّ البيع يُعْتَبَرُ فيه المغايرة بين الثمن والمثمن، هذا ليس فيه مغايرة بين الثمن والمثمن، لذلك السّيّد السّيستاني يقول: يمكن أنْ تصحّحه كبيع إذا أوجدت عنصرَ المغايرة، كيف؟ بأنْ تغيّر العملة أو تغيّر طبعات العملة إذا كان لها أثرٌ، مثلاً تقول: «بعتك مئة ألف ريال بأربعين ألف دولار» باعتبار أنّه فيما بعد عندما يسدّد الأربعين ألف دولار يسدّدها بالرّيال فتكون هناك مفاضلة بين الثمن والمثمن، إذا غيّرت العملة صار بيعًا، لماذا؟ لأنّ المغايرة بين الثمن والمثمن حصلت، النتيجة هي واحدة، «بعتك مئة ألف ريال بمئة وعشرة» هي نتيجة «بعتك مئة ألف بأربعين ألف دولار»، النتيجة واحدة، غاية ما في الأمر للمغايرة بين الثمن والمثمن تصحّ الصّورة الثانية ولا تصحّ الصّورة الأولى، أو لا، مثل مثلاً ما في إيران «هنا لا أدري، لا أظن»، إيران يفرّقون بين دولار 1990 ودولار 1994 ودولار 1999 كلّ واحدٍ له قيمة، إذا تبيع دولار 1990 له قيمة لكنْ إذا تبيع دولار 1994 له قيمة أكثر، إذا تبيع دولار 1999 لا، قيمته أكثر، فإذن طبعات الدّولار تختلف قيمتها، باختلاف القيمة يصحّ المغايرة، أنْ تقول: بعتك مئة ألف دولار من طبعة 1990 بمئة وخمسة من طبعة 1999، إذا تغيّرت الطبعة وكان تغيّر الطبعة موجبًا لاختلاف القيمة صحّ البيعُ، إذن المهمّ أنْ تحصل مغايرة بين الثمن وبين المثمن فيصحّ بيعًا.

الرّأي الثالث: وهو ما ذهب إليه بعضُ الفقهاء، ومنهم أيضًا بعض الفقهاء المعاصرين أمثال آية الله الشّيخ محمّد إسحاق الفيّاض من علماء النجف الموجودين الآن، هذا من علماء النجف يرى أنّ هذا البيع صحيحٌ ولا إشكال فيه، «بعتك مئة ألف ريال بمئة وعشرة» بيعٌ صحيحٌ ولا نحتاج لا إلى كلام السّيّد الخوئي ولا إلى كلام السّيّد السّيستاني، بيعٌ صحيحٌ لا إشكال فيه، يقول لك: هذا ليس بقرض - لأنّه لم يُقْصَد عنوانُ القرض - وهو بيعٌ أيضًا لأنّ المغايرة بين الجزئي والكلي كافية في المغايرة، أنا أبيعك مئة ألف جزئيّة، هذه المئة ألف، مئة ألف معيّنة، أخْرِجُهَا لك وأقول لك: هذه المئة ألف، هذه مئة ألف جزئيّة معيّنة مشخّصة، أبيعك المئة الألف المشخّصة بمئة ألف في الذمّة غير مشخّصة، هذا الفرق: الثمن شيءٌ مشخّصٌ والمثمن شيءٌ غير مشخّص، هذا الفرق بين المثمن المشخّص والثمن غير المشخّص كافٍ في المغايرة بين الثمن وبين المثمن فيقع بيعًا، فهو ليس بقرض بل هو بيعٌ صحيحٌ.

إذن هذه مسألة خلافيّة بين الفقهاء قصدنا من إثارتها في الأسبوع الماضي مجرّد الثقافة الفقهيّة ولم نقصد تعليم الفتوى.

والحمدلله رب العالمين

 

[1]  آل عمران: 85.