الأعراف والعادات والتقاليد وعلاقتها بالحكم الشرعي

تحرير المحاضرات

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ

صدق الله العليّ العظيم

حديثنا هذا اليوم عن العرف: مفهوم العرف، تأثير العرف في الحكم الشّرعي، موقف الإسلام من العرف، هنا عندنا ثلاث نقاط نتحدّث عنها:

  • النقطة الأولى: ما هو مفهوم العرف؟ ما معنى العرف؟
  • النقطة الثانية: ما هو وجه الرّبط وكيفيّة الرّبط بين العرف وبين الحكم الشّرعي؟
  • النقطة الثالثة: في بيان موقف الإسلام والدّين من الأعراف والعادات والتقاليد.

النقطة الأولى:

علماء الاجتماع إذا تراجعون كتاب المعجم النقدي لعلم الاجتماع، وتراجعون كتاب المدخل إلى علم القانون إلى الدكتور حسن كيرة، يتحدّثون على مستوى علم الاجتماع ومستوى علم القانون أنّ هناك فرقًا بين العرف والعادة والتقاليد، هناك أعراف، هناك عادات، هناك تقاليد، فرقٌ بين هذه المفاهيم الثلاثة، ولكلّ مفهوم حكمه ووضعه، الأعراف هي السّيرة الاجتماعيّة المبتنية على هدفٍ والمبتنية على تخطيطٍ واع، كثيرٌ من السّير الاجتماعيّة، المجتمع له سيرٌ متعدّدة، السّيرة المبتنية على مخططٍ وعلى هدفٍ تسمّى بالعرف، ولذلك المجتمع يلزم بإتّباع هذه السّيرة ويعاقب على من يتخلف عن هذه السّيرة باعتبار أنّها سيرة مبتنية على تخطيطٍ هادفٍ، تخطيطٍ واع، مثلاً: نفترض قامت سيرة مجتمعاتنا الخليجيّة على أنّ الإنسان إذا توفي يعقد له مجلس الفاتحة ثلاثة أيام، سيرة، هذا عرفٌ من الأعراف، هذا ربّما غير موجود في إيران مثلاً أو في العراق، قد يكتفون بجلسةٍ واحدةٍ ولا يقيمون ثلاثة أيام للمتوفى، سيرة مجتمعاتنا الخليجيّة على إقامة مجلس الفاتحة ثلاثة أيام، هذا ليس عرفًا اعتباطيًا، يعني: ليس سيرة اعتباطيّة، لا، سيرة مبنية على تخطيطٍ ومبنية على هدفٍ ومبنية على وعي، يعني: المجتمع لم يتفق على هذه السّيرة إلا لأجل إكرام الميت واحترام الميت وإهداء الثواب الجزيل لروح الميّت، إذن فهذه السّيرة سيرة إقامة مجلس الفاتحة ثلاثة أيام نسمّيها بالعرف، لأنّها مبنية على هدفٍ ومبنية على عمليةٍ واعيةٍ عقلانيّةٍ، بينما مثلاً نأتي إلى العادات والتقاليد، السّير العمليّة التي لا تبتني على هدفٍ واضح، ليس لها هدفٌ واضحٌ، مجرّد أنّ المجتمع اتفق أبناؤه على أنْ يجروا وراءَ هذه السّيرة، اتّفق أبناؤه على أنْ يمشوا وراءَ هذه السّيرة من دون أنْ يكون لها هدفٌ واضحٌ، هذه تنقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: هو السّيرة الرّاسخة التي لا تتغيّر إلا بصعوبةٍ شديدةٍ، سيرة راسخة لا تتغيّر، والمجتمع جيلاً بعد جيل كلّ جيل يوصي جيله الذي بعده بأنْ يمشي وراءَ هذه السّيرة، هذه تسمّى بالتقاليد، التقاليد هي السّير التي لا يعرف هدفها، لا نعرف هدفها ما هو، ولكنّها سيرٌ راسخة المجتمع جيلاً بعد جيل يتوارث هذه السّيرة ويمشي وراءها، مثلاً - أضرب مثالاً لا غير - افترض مثلاً: سيرة في مجتمعنا نحن القطيفي، أنا ما وجدتُ هذه السّيرة في المجتمعات الأخرى، ذهبتُ إلى الكويت وعمان وقطر وغيرها ولم أرَ هذه السّيرة، رأيتُ هذه السّيرة موجودة عندنا: ليلة السّبت لا تختم الفاتحة، إذا كان هناك فاتحة، مجلس فاتحة صادف أنْ انتهى يوم الجمعة، لا يختمون الفاتحة ليلة السّبت، يؤجّلوها إلى يوم آخر، يختمونها مثلاً ليلة الأحد، سيرة تشاؤميّة لا أساس لها أصلاً لا شرعًا ولا عرفًا، سيرة تشاؤميّة لا أساس شرعي ولا عرفي لها إطلاقًا، متى ما انتهت الفاتحة على يوم الجمعة قال: لا، لا، لا، لا تختم يوم السّبت تالي يموت واحد! هناك أناسٌ أصرّوا على مخالفة السّيرة ولم يمت أحدٌ منهم، إذن هذه السّيرة تسمّى بالتقاليد، يعني: سيرة راسخة يتوارث المجتمعُ إتّباعها جيلاً بعد جيل من دون أنْ يُعْرَف لها هدفٌ، من دون أنْ تكون خاضعة لتخطيطٍ واع ولعمليةٍ عقلانيّةٍ، مجرّد سيرة تشاؤميّة، من بذرها ومن أسّسها ومتى بدأت وكيف انطلقت؟ هذا أمرٌ غير واضح وغير معلوم، هذه نسمّيها بالتقاليد.

القسم الثاني عندنا من السّير غير الواضحة هي العادات، العادات ليس أمورًا راسخة، يعني: سيرٌ عمليّة لكنها ليست سيرًا راسخة بل تتغيّر بسرعةٍ، تتغيّر بمرور الوقت وبتغيّر المفاهيم، وبتغيّر الوضع الحضاري والوضع الاقتصادي، تتغيّر هذه السّير، السّير القابلة للتغيّر بسرعةٍ تسمّى بالعادات، فالفرق بين العادات والتقاليد في سرعة التغيّر وبطء التغيّر، لذلك مثلاً نجد من العادات اللبس، في المجتمع، مجتمعنا قبل مثلاً ثلاثين سنة أو خمسة وعشرين سنة مثلاً لم يكن معتاد على لبس البنطلون والسّترة في المساجد أو في المآتم أو في المجالس العامّة لا يُرَى الشّخصُ يلبس بنطلونًا وسترة، لماذا؟! هذه العادة لم تكن مثلاً محبوبة، بمرور الزمن والاختلاط وتغيّر المفاهيم وعدم تركيز الناس على هذه القضايا التافهة - كيف لابس وكيف شكله وكيف نظارته وكيف كذا.. - بتطوّر الأوضاع وتقدّم المفاهيم أصبح هذا اللبس لبسًا متعارفًا ومقبولاً وغير مذموم، هذا يسمّى بالعادات، الأمور التي تتغيّر بتغيّر المفاهيم وبتغيّر الزمن يسمّى بالعادات، لذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ”لا تقصروا أبناءكم على آدابكم فإنّهم ولدوا لزمان غير زمانكم“ هذا المقصود به العادات والتقاليد، ليس المقصود به الآداب الإسلاميّة، لا، المقصود به العادات والتقاليد، ”آدابكم“ يعني: عاداتكم وتقاليدكم، أنتم لا تفرضوا على الأجيال أنْ تسير على عاداتكم، لا تفرضوا على الأجيال على أنْ تسير على سيركم ”فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم“ يعني: لا تقفوا أمام عجلة الحضارة، لا تقفوا حاجزًا أمام التقدّم والتطوّر، دعوا الجيلَ يتقدّم ويتطوّر في مفاهيمه، أنت تقف أمام الأجيال، تقول لهم: لا! لابدّ أنْ تختموا الفاتحة ليلة الأحد! لا يجوز أنْ تختموها ليلة السّبت! لِمَ؟! بأيّ دليل؟! أو أنت تقف أمام الأجيال، تقول: لابدّ أنْ تلبسوا مثلاً اللباس الفلاني، لابد أنْ تتعاملوا بالمعاملة الفلانيّة، كل ما هو داخلٌ في إطار العادات والتقاليد التي تقبل التغيّر بتغيّر المفاهيم لا يجوز الوقوفَ أمام المجتمع في سبيل التغيّر والتطوّر، ”لا تقصروا أولادكم على آدابكم فإنّهم خلقوا لزمان غير زمانكم“.

النقطة الثانية:

بعد أنْ فرّقنا بين العرف والعادات والتقاليد نأتي إلى النقطة الثانية: ما هو تأثير العرف في الحكم الشّرعي؟ كثيرٌ من الأحكام الشّرعيّة عندنا رُبِطت بالعرف، رُبِطت بما عليه الناس، ما هو تأثير العرف في الحكم الشّرعي؟

تارة يكون العرف دخيلاً في الحكم الشّرعي وتارة يكون العرف دخيلاً في موضوع الحكم الشّرعي، فرقٌ بين المطلبين، متى يكون العرف دخيلاً في الحكم الشّرعي نفسه؟! إذا كان العرف من المرتكزات العقلائيّة العامّة فهو دخيلٌ في الحكم الشّرعي نفسه، مثلاً أضرب لك مثالاً: من المرتكزات العقلائيّة العامّة مساواة الثمن للمثمن في الماليّة، ما معنى مساواة الثمن للمثمن في الماليّة؟! يعني الآن مثلاً: أنا عندما أبيعك مثلاً سلعة معيّنة، مثلاً افترض في الثياب، هذا كثيرًا ما يحصل في الثياب مثلاً، يأتي ويبيعك إنسانٌ مثلاً بدلة طفل، هذه البدلة الطفل القيمة السّوقيّة لها، القيمة السّوقيّة تشترى في السّوق بكم؟ تشترى في السّوق مثلاً بمئتي ريال، هو يأتي ويبيعك إياها بثلاث مئة ريال، الثمن هنا لم يصر مساويًا للمثمن في الماليّة، يعني: الثمن أكثر من المثمن في الماليّة، الارتكاز العقلائي قائمٌ على أنّ الثمن مساوٍ للمثمن في الماليّة فمتى صار الثمن أكثر من المثمن في الماليّة فللمشتري خيار الغبن، يعني: المشتري لو خرج، ثم فيما بعد - ولو بعد شهر - قبل أنْ يتصرّف طبعًا في البدلة «البدلة محفوظة عنده وجديدة» بعد شهر اطلع المشتري على أنّ هذه سعرها أقل، سعرها مئتين، وهو باعها إياي بثلاث مئة، يصحّ للمشتري أنْ يفسخ البيع، شرعًا يصحّ للمشتري أنْ يطالِب البائع بالمئة الرّيال الزائدة أو يفسخ البيع ويرجع السلعة إلى البائع ويأخذ السّلعة منه، هذا أمرٌ شرعيٌ، هذا ما يسمّى بخيار الغبن، هذا خيار الغبن نحن من أين أخذناه؟ أخذناه من العرف، الارتكاز العرفي والعقلائي قام على مساواة الثمن للمثمن في الماليّة وفي القيمة، متى ما كان الثمن أكثر من المثمن من حيث المالية المشتري له حقّ الفسخ، أنت مثلاً تبيعني جهازًا، جهاز تلفزيون، جهاز مثلاً كمبيوتر، أيّ شيء، تبيعني هذا الجهاز، ما هي قيمته في السّوق؟ قيمته في السّوق مثلاً ثلاث آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، أنا أكتشف أنّك بعتني إياه مثلاً بثلاثة آلاف ونصف، لي خيار الغبن، من حقي أنْ أفسخ البيعَ أو ترجع ما زاد على القيمة السّوقيّة إليّ، خيار الغبن من أين أخذناه؟ أخذناه من العرف، من الارتكاز العرفي، هنا العرف له تأثيرٌ على الحكم، كلّ ارتكاز عقلائي عام، يعني: جميع العقلاء يقولون به، جميع العقلاء متفقون عليه، الارتكاز العرفي العامّ الذي يتبناه جميعُ العقلاء يؤثر في الحكم الشّرعي ويكون مدركًا للحكم الشّرعي ومستندًا للحكم الشّرعي، هذا العرف الدّخيل في الحكم.

نأتي إلى العرف الدّخيل في الموضوع:

متى يكون العرف دخيلاً في موضوع الحكم لا في نفس الحكم؟

تارة يكون العرف.. هذا هنا أيضًا على قسمين:

  • تارة العرف دخيلٌ في مفهوم الموضوع
  • تارة العرف دخيلٌ في مصداق الموضوع

كيف يكون العرف دخيلاً في مفهوم الموضوع؟ مثلاً هذا مثالٌ مثلنا به سابقًا: الرّوايات تقول الغناء حرامٌ، من يحدّد مفهومَ الغناء؟ العرف، يجب أنْ نرجع إلى العرف، نقول لهم: ما هو معنى الغناء عندكم؟ أيّها العرف؟ العرف يقول: الغناء هو مدّ الصّوت وترجيعه بشكل مطرب، مدّ الصّوت وترجيعه بشكل مطربٍ هذا هو مفهوم الغناء، من الذي يحدّد المفهوم هنا؟ العرف، الفقيه يقول لك: الغناء حرامٌ، أمّا ما هو مفهوم الغناء؟ العرف يحدّد مفهوم الغناء، يقول: الغناء هو الصّوت المرّجع على الشّكل المطرب أو على النحو المطرب، هذا هو الغناء، متى ما سمعنا صوتًا يرجّع سواءً في أذان أو سواءً في قراءة تعزية أو سواءً كان في أناشيد أو سواءً كان في أغاني، الصّوت الذي يرّجع بشكل مطربٍ بحيث يحرّك النشوة عند الإنسان والهيجان عند الإنسان هذا يسمّى غناءً فيكون حرامًا سواءً كان في كلام حق كقرآن، كدعاء، كآذان، أو كان في كلام باطل، لا فرق في حرمة الغناء بين أنْ يكون في كلام حق أو في كلام باطل، إذن هنا رجعنا للعرف في تحديد المفهوم.

وتارة نرجع للعرف في تحديد مصداق الموضوع، دعني أشرح لك هذا المعنى: ذكرنا فيما سبق أنّ موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام

  • موضوعات مستنبطة
  • موضوعات تكوينيّة
  • موضوعات عرفيّة

الموضوعات المستنبطة نرجع فيها للفقهاء، مثلاً الفقيه يقول: الكرّ لا يتنجسّ إلا إذا تغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، عندنا قليلٌ وعندنا كرٌ، الكرّ عند السّيّد الخوئي 27 شبر: ثلاثة أشبار طولاً، ثلاثة أشبار عرضًا، ثلاثة أشبار عمقًا، المساحة التي يبلغ ضرب ثلاثة أشبار طول في ثلاثة أشبار عرض في ثلاثة أشبار عمق تسمّى بالكرّ، هذا الماء الذي تبلغ مساحته 27 شبرًا مكعبًا هذا الماء الذي تبلغ مساحته 27 مكعبًا عند السّيّد الخوئي لا يتنجّس بملاقاة النجاسة حتى لو أنت ذبيت فيه قطرة دم أو ذبيت فيه مثلاً قطرة مني أو ذبيت فيه مثلاً قطرة بول، لا يتنجس بملاقاة النجاسة، لا يتنجس إلا إذا تغيّر لونه أو طعمه أو رائحته بالنجاسة، وإلا فهو طاهرٌ يجوز الوضوء منه، يجوز الشّرب منه، يجوز أنْ ترتب عليه سائرَ آثار الطهارة، بينما إذا كان أقلّ من ذلك، لا، كان خمسة وعشرين، ستة وعشرين، لا، هذا بمجرّد أنْ يلتقي بالنجاسة خلاص ينجس، بمجرّد أنْ يلتقي بقطرة الدّم حتى لو قطرة صغيرة ينجس، الماء القليل يتنجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة، والماء الكرّ لا يتنجّس إلا إذا تغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، طيّب ما هو الكرّ؟ هذا يسمّوه موضوعًا مستنبطًا، هذا الموضوع المستنبط حدوده من أين نأخذه؟ نأخذه من الفقهاء لا من العرف، الفقهاء يعيّنون لنا ما هو الكرّ، السّيّد الخوئي يقول: الكرّ 27 شبرًا، السّيّد السّيستاني يقول: الكرّ 42 وسبعة أثمان شبر، سبعة وعشرين ليس كافيًا، 42 وسبعة أثمان شبر، وهكذا على خلافٍ بين الفقهاء في تحديد الكرّ، الشّيخ التبريزي مثلاً كرأي السّيّد الخوئي 27 شبرًا وهكذا، الكرّ من الموضوعات المستنبطة، نرجع فيه إلى الفقهاء، لسنا نحن الذين نحدّده.

القسم الثاني: الموضوعات التكوينيّة.

الموضوعات التكوينيّة كلّ شخص يحدّدها بنفسه، لا الفقيه يحدّدها، ولا العرف يحدّدها، أنا أحدّدها، أنت تحدّدها، مثلاً: يقول لك الشّرع الشّريف: الثوب النجس إذا علمت بالنجاسة لا تصحّ الصّلاة فيه، من يحدّد أنّ الثوب نجسٌ؟! الفقيه؟! الفقيه لا يحدّد لك الثوب نجسٌ أو طاهرٌ، العرف «تذهب وتسأل الناس: هذا ثوبٌ طاهرٌ أم نجسٌ»؟! لا، أنت تحدّد، أنت شخصيًا، في الموضوعات التكوينيّة وظيفتك أنت أيها المكلف أنْ تحدّد الموضوع، لا الفقيه يحدّده، ولا العرف يحدّده، الفقيه مثلاً يقول لك أنت إذا خرجت من البلد ووصلت إلى حد الترخّص، أنت قاطع مسافة، خرجت من البلد بقصد السّفر، خرجت من البلد بقصد أنْ تقطع 44 كيلو متر، متى ما خرجت من البلد ووصلت إلى حدّ الترخص، وصلت إلى نقطةٍ تغيب فيها الجدران، يغيب فيها الأذان، يجوز لك أنْ تصلي قصرًا، طيّب أين البلد؟! أين هو البلد؟! أين ينتهي البلد؟! أين يبدأ البلد؟! هذا لا يحدّده الفقيه، هذا يحدّده أنت، وظيفتك أنت، وظيفتك أنت أنْ تحدّد البلد من أين تنتهي ومن أين تبدأ، القطيف من أين تبدأ، القطيف من أين تنتهي، أنا أعيش في بلد القطيف، متى إذا خرجت قصّرت؟ متى إذا خرجت أتممت؟ تحديد البلد وظيفتك أنت الشّخصيّة.

القسم الثالث من الموضوعات: الموضوعات العرفيّة.

الموضوعات العرفيّة من يحدّدها؟ يحدّدها العرف، نرجع فيها إلى العرف، نقول: حدّدوا لنا هذا الموضوع، دعني أضرب لك مثالاً، مثلاً: موضوع الهتك، أنت الآن مثلاً ذاهبٌ إلى المدينة المنوّرة رزقنا الله وإياكم الوصول، أو ذاهبٌ أنت مثلاً إلى كربلاء، أو ذاهبٌ مثلاً إلى النجف الأشرف، ماذا يقول الفقهاء؟ يقولون: لا يجوز التقدّم في الصّلاة على قبر المعصوم إذا كان مستلزمًا للهتك، أنت الآن مثلاً في المدينة المنوّرة تصلي وعلى يسارك قبر النبي ، إذا صليت في الرّوضة الشّريفة وعلى يسارك قبر النبي ، إذا صليت محاذيًا لأسطوانة أبي لبابة، هل تعرف أسطوانة أبي لبابة؟! مكتوبٌ عليها، إذا صليت محاذيًا لأسطوانة أبي لبابة فأنت محاذٍ للقبر الشّريف قبر النبي ، أمّا إذا صليت متقدّمًا على أسطوانة أبي لبابة، صليت متقدّمًا على الأسطوانة، فأنت متقدّمٌ على القبر الشّريف، هنا الفقهاء يقولون: لا يجوز التقدّم في الصّلاة على قبر المعصوم إذا كان مستلزمًا للهتك، طيّب أنا ما أدرنا مستلزم للهتك أو ليس مستلزمًا للهتك؟! هنا أرجع للعرف، الهتك موضوعٌ عرفيٌ، الهتك موضوعٌ عرفيٌ يحدّده العرف، العرف يحدّد لي أنّ هذا التقدّم مستلزمٌ للهتك أو ليس مستلزمًا للهتك، من يحدّد الهتك العرف، أبناء العرف هم الذين يحدّدون الهتك، أتقدّم على قبر الحسين مثلاً، أو أتقدّم على قبر الإمام علي بحيث يصير القبر خلفي، هنا يقول الفقهاءُ: لا يجوز التقدّمُ في الصّلاة إذا كان التقدّم مستلزمًا للهتك، طيّب من يحدّد الهتك؟! يحدّد الهتكَ أبناءُ العرفِ.

أضرب لك مثالاً ثانٍ: مثلاً الفقهاء يقولون: لا يجوز للمرأة أنْ تلبس ما يوجب هتك كرامتها، كيف يعني تلبس ما يوجب هتك كرامتها؟ افترض مثلاً العباءة الكتّافيّة توجب هتك الكرامة أم لا؟ مثلاً لنفترض أنّ المرأة مثلاً، حتى لو أمام النساء، ليس بالضرورة أمام الرّجال، لا فرق بين الرّجال والنساء، إذا كان الثوبُ يهتك كرامتها حرامٌ سواءً أمام الرّجال أو أمام النساء، افترض أنّ المرأة مثلاً امرأة محتشمة تلبس أمام النساء في الأعراس مثلاً لباسًا شبه لباسي عاري، لباسٌ يبرز بدنها بروزًا واضحًا، امرأة تقف أمام النساء تلبس لباسًا شبه عاري، لباسٌ يبرز مفاتنها، يبرز بدنها بروزًا واضحًا، الفقهاء يقولون: لا يجوز أنْ تلبس المرأة لباسًا يوجب هتك كرامتها، يعني: يوجب أنْ يستخفّ بها الناسُ، يوجب أنْ يستصغرها الناسُ، يوجب أنْ ينظر الناسُ إليها نظرَ الاستخفاف والاستصغار والاستحقار، طيّب من يحدّد هذا الموضوع؟! أنا؟! ليس من وظيفة المنبر وليس من وظيفة المسجد الدخول في الجزئيات، وظيفة المنبر، وظيفة المسجد طرح القضايا الكليّة، طرح القضايا العامّة، طرح ما يساهم في ثقافة المجتمع، طرح ما يساهم في تهذيب سلوكيّات المجتمع، طرح ما يساهم في إصلاح أوضاع المجتمع، أمّا الدّخول في القضايا الجزئيّة «هذا الشّكل وهذا اللباس وهذه النظارة وهذا الأمر وهذا..» لا، هذا أمرٌ يرجع لمن؟ يرجع إلى العرف، ولو أنا أتكلم فيه مليون مرّة كلامي ليس حجّة، من هو كلامه الحجّة؟ العرف، أنا كلامي ليس حجّة، العرف يحدّد أيّ اللباس يهتك كرامة المرأة وأيّه لا يهتك، هذا أمرٌ بيد من؟ بيد العرف، لا بيد المنبر ولا بيدي أنا ولا بيد شخص آخر، هذا بيد العرف، العرف يحدّد أنّ هذا اللباس يوجب هتكَ الكرامة أو لا يوجب هتكها، من هم العرف؟ هنا واحدٌ يطرح سؤالاً: طيّب من هم العرف؟ من هم العرف؟ أنا أروح لمن؟! أروح السّوق يعني؟! أروح إلى من؟! أسأل من؟! أين هو العرف؟! العرف أهل العقول الرّاجحة الذين يضعون الأمورَ في مواضعها بلا زيادة ولا نقصان، أنت أكيد مخالط المجتمع، لو لا؟! كلّ إنسان له اختلاطٌ مع المجتمع، يعرف أنّ هناك رجالاً من المجتمع أصحاب نضج عقلي، أصحاب خبرةٍ اجتماعيّةٍ، أصحاب دقةٍ في وضع الأمور في مواضعها، بلا إفراط ولا تفريط، هناك مجموعة من الناس يملكون عقلاً ناضجًا، خبرة اجتماعيّة، يضعون الأمور في مواضعها، لا إفراط، بلا تفريط، هؤلاء هم العرف، إذا أردنا أنْ نحدّد الموضوعات العرفيّة نرجع إلى هؤلاء الناس، إلى هذا الصّنف، إلى هذه الطبقة، إلى هذه النوعيّة، أهل العقول الرّاجحة، هذا اللباس يهتك الكرامة أم لا؟ حدّدوا لنا، هذا مثلاً يوجب مثلاً إهانة المرأة أو لا يوجب؟ حدّدوا لنا، وهكذا، إذن فبالنتيجة: الموضوعات العرفيّة يرجع فيها إلى العرف، هو الذي يحدّدها.

نأتي إلى النقطة الثالثة والأخيرة: موقف الإسلام من العادات ومن التقاليد.

الإسلام يقول: العادات على قسمين: عادة حسنة، وعادة سيّئة.

العادة الحسنة هي العادة التي تساهم في الثقافة، تساهم في إصلاح الأوضاع، تساهم في تهذيب السّلوك، تساهم في خدمة الناس، كلّ عادةٍ تساهم في خدمة الناس ثقافةً، سلوكًا، أوضاعًا، فهي عادة حسنة، تأسيس جمعيّة خيريّة عادة حسنة، تأسيس اللجنة الأهليّة عادة حسنة، تأسيس الصّندوق الخيري عادة حسنة، كلّ عادةٍ حسنة ورد عن الرّسول محمّدٍ : ”من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئّة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة“ رحم الله المقدّس الشّيخ منصور البيات، هذا موطن ذكره، سنّ سننًا حسنة، أغلب المساجد قبل مجيء الشّيخ منصور البيات إلى القطيف ما كانت تقرأ ليلة الجمعة دعاء كميل، أغلب المساجد، أغلب المساجد قبل مجيئه إلى القطيف ما كانوا يلتزمون بقراءة دعاء كميل ليلة الجمعة بعد الصّلاة، أغلب المساجد ما كانت تلتزم بالأدعية المعروفة، أدعية الصّحيفة السّجاديّة، جاء هذا الشّيخ المقدّس الذي كان قطعة من التقوى وقطعة من العبادة وقطعة من الارتباط بالله عزّ وجلّ سنّ هذه السنن الحسنة، ”من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة“ رحم الله الجدّ الشّيخ فرج العمران، جدّي رحمه الله الشّيخ فرج العمران أوّل من أصرّ على إقامة أعمال ليلة القدر، أوّل من أصرّ على إقامة صلاة جعفر في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، ما كانت هذه السّنن معروفة، صحيحٌ هي أمورٌ مستحبّة، لكن ما كانت معروفة، أصرّ على إقامتها، أصرّ على إحيائها في المساجد بصفةٍ عامّةٍ حتى أصبحت من السّنن الرّاسخة المعروفة بين أبناء المجتمع، إذا صار ليلة القدر أكثر الناس تهبّ إلى المساجد لإحياء ليلة القدر، إذا صارت الجمعة الأخيرة من شهر رمضان هبّت الناس إلى المساجد لإقامة صلاة جعفر، ”من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة“ إذن العادة الحسنة مرحبًا، الإسلام يرحّب بها، أنشئوا العادات الحسنة، مثلاً: الوقف، دائمًا نحن نتكلم على المنابر عن الوقف، ظاهرة الوقف اختفت الآن، سابقًا قبل أربعين سنة قبل خمسين سنة مجتمعاتنا كانت متفشيّة فيها ظاهرة الوقف، يوقف أرضٌ، يوقف نخلٌ، يوقف بيتٌ، يقفه للحسين، للزهراء، لأهل البيت، للخيرات، للمبرّات، الآن ظاهرة الوقف اختفت تقريبًا، تضاءلت، نحن نحتاج إلى أوقافٍ، الوقف لا ينحصر في الحسين والزهراء عليهم السّلام، المبرّات والخيرات بابٌ واسعٌ، الآن مثلاً أضرب لكم مثالاً: نحن نحتاج إلى مركز لخدمة المعاقين من أبناء مجتمعنا، ألا نحتاج إلى ذلك؟! مركز لخدمة المعاقين أليس من المبرّات؟! من أعظم المبرّات، من أعظم الخيرات تأسيس مركز للمعاقين، هذا الآن مركزٌ موجودٌ، ألا يحتاج إلى أنْ توقف له بعضُ الأراضي، بعض المباني، تساعد على استمرار هذه المبرّة، يساعد على استمرار هذا الخير، يساعد على استمرار هذا العطاء، هذا من مواطن الوقف، صح لو لا؟! إنسانٌ ثريٌ عنده أرضٌ لا يحتاج إليها، عنده مثلاً بيتٌ، عنده مكانٌ لا يحتاج إليه، يمكن أنْ يقفه لمركز خدمة المعاقين، وقفٌ على مبرّةٍ، وقفٌ على خيرٍ عظيم، هذا العمل من القربات والمبرّات العظيمة، المبرّات لا تنحصر في أنْ أعطي الفقيرَ........