فلسفة الجهاد في الإسلام

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العليّ العظيم

حديثنا هذا اليوم عن نقطةٍ تناولتها وسائلُ الإعلام في عدّة مناسباتٍ وبعدّة مقتضياتٍ، وهذه النقطة تتلخّص في أنّ كثيرًا من الأقلام تتحدّث عن الإسلام بأنّه دينٌ إرهابيٌ ودينٌ عدوانيٌ، الإسلام دينٌ إرهابيٌ ودينٌ عدوانيٌ لأنّه يشجّع أبناءه ومعتنقيه على قتال الآخرين وعلى اقتحام حرمات الآخرين، فهناك كثيرٌ من الآيات القرآنيّة التي ترشد إلى أنّ الإسلام يشجّع أبناءه على القتال وعلى العدوان على الأديان الأخرى وعلى بني الإنسانيّة من الملل الأخرى، مثلاً:

1/ قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [2] .

2/ وقوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [3] .

3/ وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [4] .

هذه الآيات ترشد إلى أنّ الإسلام يحث أبناءه ويحث معتنقيه على القتال لأبناء الدّيانات الأخرى ولأبناء الملل الأخرى ويحثّهم على الرّوح العدوانيّة، وهذا يعني أنّ الإسلام متسمٌ بسمة أنّه دينٌ عدوانيٌ إرهابيٌ لا يستخدم إلا لغة السّيف والعداء مع الدّيانات الأخرى وأبناء الدّيانات الأخرى.

هذه الشبهة التي تطرح من خلال بعض الأقلام أو بعض وسائل الإعلام نتحدّث عنها في نقطتين:

النقطة الأولى: ما هي فلسفة الجهاد بحسب المفهوم الإسلامي وبحسب المفهوم القرآني؟

والنقطة الثانية: ما هي التعاليم والخطوات التي يؤكّد عليها الدّين الإسلامي كمظهر إلى روح المحبّة وروح المسالمة التي يتسم بها هذا الدّين؟

النقطة الأولى: لماذا شرّع الإسلامُ مبدأ اسمه مبدأ الجهاد؟

لماذا يفرض الإسلامُ نفسه على الآخرين؟! الإسلام عندما يشرّع مبدأ اسمه مبدأ الجهاد فهذا يعني أنّ الإسلام يريد أن يفرض نفسه على الآخرين! يريد أن يفرض نفسه على الملل الأخرى وعلى الدّيانات الأخرى بالقوّة! لماذا شرّع الإسلامُ هذا المبدأ؟

نحن عندما نرجع إلى ما يطرحه تاريخ علم الاجتماع، يعني: علماء الاجتماع عندما يتكلمون عن تاريخ علم الاجتماع أو النظريات الاجتماعيّة التي تبلورت بمرور الزمن، بالتراكمات المعرفيّة تبلورت بعض النظريات الاجتماعيّة، ماذا يقولون في هذه النقطة؟

يقولون: هناك ثلاث مراحل مرّ بها الإنسان:

المرحلة الأولى: مرحلة الدّفاع عن حق الحياة.

والمرحلة الثانية: مرحلة الدّفاع عن مبدأ الإنسانيّة.

والمرحلة الثالثة: مرحلة الدّفاع عن القانون الذي يحفظ الإنسانيّة.

المرحلة الأولى:

المرحلة الأولى مرحلة فطريّة لا تختصّ بالإنسان، حتى الحيوانات، حتى الحيوان إذا تعرّضت حياته للخطر فإنّه يدافع عن حق الحياة، الدّفاع عن حقّ الحياة حقٌ فطريٌ، الدّفاع عن حقّ الحياة أمرٌ فطريٌ موجودٌ حتى في الحيوان، الحيوان يستخدم قرونه، يستخدم أنيابه، يستخدم مظالفه، يستخدم منقاره، يستخدم الآلات البدنيّة المتاحة له في سبيل الدّفاع عن حقّ الحياة، الدّفاع عن حقّ الحياة حقٌ فطريٌ موجودٌ حتى في البهائم والحيوانات والحشرات الضعيفة فكيف لا يكون هذا الحقّ موجودًا عند الإنسان؟! فإذن الإنسان بفطرته قرّر أنّ من حقه الدّفاع عن حقّ الحياة، هذا أمرٌ فطريٌ.

المرحلة الثانية:

التي تطوّر إليها الذهنُ البشريُ بحسب تصوّره الحضاري «تراكماته المعرفيّة» توصّل إلى شيء: الدّفاع عن الإنسانيّة، الإنسانيّة هي المائز بين الإنسان وبين غيره من المخلوقات، لمّا أدرك الإنسانُ أنّ الذي يميّزه عن بقيّة المخلوقات هو عنوانٌ اسمه الإنسانيّة صار هذا الإنسان يدافع بشراسة عن الإنسانيّة، كما كان يدافع عن حقّ الحياة هو يدافع أيضًا عن الإنسانيّة، الإنسانيّة تعني مجموعة من القيم، هذا الإنسان من حقّه أن يعيش، من حقّه الرزق، من حقّه الصّحّة، من حقّه العلم، وهكذا.. الإنسانيّة جامعة لمجموعةٍ من القيم، كما أنّ الإنسان يرى بفطرته أنّ من حقه أن يدافع عن حقّ الحياة يرى الإنسانُ أيضًا بفطرته أنّ من حقّه أن يدافع عن الإنسانيّة بما تشتمل هذه الكلمة على مجموعةٍ من القيم وعلى مجموعةٍ من النظم وعلى مجموعةٍ من القوانين، كلمة الإنسانيّة جامعة لعدّة مفاهيم الإنسانُ يدافع عنها.

المرحلة الثالثة:

تطوّر الإنسانُ بمرور الزمن حتى توصّل إلى حقّ الدّفاع عن القانون الذي يحفظ الإنسانيّة، ليس فقط الإنسانيّة، هناك قوانين شرّعَت لحفظ الإنسانيّة، الإنسان يدافع عن هذه القوانين ويبذل جهده في تطبيقها، الآن مثلاً تلاحظون الأمم المتحدّة، قوانين الأمم المتحدّة قوانين لحفظ الإنسانيّة، قوانين لحفظ العلم، لحفظ الصّحّة، لحفظ الثروة، لحفظ حقّ الحياة، لحفظ حقّ الكرامة، وهكذا.. القوانين التي تسنها الأممُ المتحدّة قوانين لحفظ الإنسانيّة، لذلك ترى أنّ هذا الإنسان يرى من حقه الفطري ومن حقه العقلائي الذي يقرّه عليه المجتمع العقلائي بأسره، يقرّه عليه جميع الدّيانات وجميع الملل، تقرّه عليه جميع المرتكزات العقلائيّة، أنّ من حقّه الدّفاع عن القانون الذي يحفظ الإنسانيّة ويحفظ مجموعة القيم التي تدخل تحت عنوان الإنسانيّة.

من هنا نأتي لفلسفة الإسلام حول مبدأ الجهاد:

القانون الذي يحفظ الإنسانيّة الدّفاع عنه حقٌ فطريٌ وحقٌ عقلائيٌ، ما هو ذلك القانون الذي يحفظ الإنسانيّة؟ القانون الذي يحفظ الإنسانيّة ما هو هذا القانون؟ هذا القانون يمكن تبليغه بالوسائل الإعلاميّة الكافية، فإذا لم يمكن تبليغه بالوسائل الإعلاميّة الكافية، بُلِغ بالوسائل الإعلاميّة الكافية إلا أنّ المجتمع أصرّ على ألا يبالي بهذا القانون ولا يحترم هذا القانون، هنا يطبّق هذا القانون بالقوّة، مثلاً أضرب لك مثالاً: قوانين المرور مثلاً، قوانين المرور قوانين لحفظ الإنسانيّة، قوانين تحفظ الأموال، تحفظ الأنفس من التلف، تحفظ الممتلكات من التعرّض للضياع والهدر، قوانين المرور قوانين لحفظ الإنسانيّة، هذه القوانين إذا بلغت للمجتمع بصورةٍ كافيةٍ بحيث أنّ المجتمع بدأ واعيًا لأهميّة هذه القوانين إلا أنّ المجتمع رفض أن يحترم هذه القوانين وأن يمشي معها فأيّ وسيلةٍ لحفظ الإنسانيّة بعد تبليغ القوانين بالمستوى الإعلامي الكافي؟! أيّ وسيلة؟! وسيلة القوّة، لابدّ أن تفْرَض هذه القوانين بالقوّة، لماذا؟! لأنّ القانون الحافظ للإنسانيّة يجب الدّفاع عنه ويجب تطبيقه، أيضًا مثلاً: لو أنّ مجتمعًا من باب المثال رفض المرافق الحيويّة، رفض المرافق الصّحيّة، رفض المراكز العلميّة، رفض جميع المرافق التي تضمن له العيش الكريم، مع أنّه بُلِغَ بأهميّتها وضرورتها لكنه رفض ذلك، تطبق عليه وتقام عليه هذه المرافق بالقوّة، لماذا؟! لأنّها مرافق تحفظ للإنسانيّة معناها، والقوانين التي تحفظ الإنسانيّة إذا لم يُجْدِ الإعلامُ في تبليغها وتطبيقها تصل النوبة إلى وسيلة القوّة، وآخر الدّواء الكيّ.

من هنا تأتي فلسفة الجهاد، الإسلامُ لماذا يجاهد الآخرين؟! الإسلام لا يفرض نفسه على الآخرين بالقوّة، لا، الإسلام يقول: الدّين الذي يحفظ للإنسانيّة كرامتها هو دين الإسلام ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [5]  ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [6]  ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [7] ، وظيفة المسلمين في الخطوة الأولى أن يبلغوا الإسلام لأبناء الدّيانات الأخرى ولأبناء الملل الأخرى بالصّورة المقنعة الكافية المدعومة بالحجج والبراهين التي تثبت أنّ الإسلام فعلاً هو الدّين القادر على حفظ الإنسانيّة وعلى حفظ القيم التي تدخل تحت عنوان الإنسانيّة، فإذا وصلت المرحلة إلى أنّ هذا الدّين لا يمكن تطبيقه إلا من خلال مبدأ الجهاد، كما أنّ الدّفاع عن قوانين المرور، عن القوانين التي تؤسّسها الأمم المتحدّة الدّفاع عنها حقٌ عقلائيٌ وفطريٌ لأنّها قوانين تحفظ الإنسانيّة أيضًا تطبيق الدّين الإسلامي على أبناء الدّيانات الأخرى وعلى أبناء الملل الأخرى حقٌ عقلائيٌ باعتبار أنّ هذا الدّين هو القانون الذي يحفظ للإنسانيّة كرامتها وقيمها، إذن فلسفة الجهاد تنبع من هذه الناحية.

النقطة الثانية: التعاليم التي نصّ عليها الإسلامُ.

أنت تقول: الإسلام ليس دين المحبّة! ليس دين المسالمة! الإسلام دين القتال ودين العدوان!

اقرأ تعاليم الإسلام التي تسبق مرحلة الجهاد لتنظر أنّها هل هي تعاليم المحبّة والمسالمة أم أنّها تعاليم العدوان وتعاليم الإرهاب وتعاليم فرض السيطرة؟! اقرأ هذه التعاليم:

الخطوة الأولى:

القرآن يقرّر: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [8]  ما معنى «لا إكراه في الدّين»؟

هنا علماؤنا والمفسّرون يقولون: الآية تحتمل معنيين:

المعنى الأوّل:

أنّ الآية جملة خبريّة تخبر عن قضيّةٍ تكوينيّةٍ طبيعيّةٍ وليست في مقام تشريع حكم إسلامي، هذه الآية ليست في مقام التشريع، هذه الآية تخبر عن قضيّةٍ تكوينيّةٍ، ما هي؟ يستحيل الإكراه على الدّين، لِمَ؟ لأنّ الدّين هو عبارة عن الاعتقاد، الاعتقاد بالله وبملائكته وبرسله وبكتبه وبالمبدأ وبالمعاد، الدّين هو الاعتقاد، الاعتقاد أين موطنه؟ موطنه القلب، القلب دائمًا منطقة حرّة، دائمًا القلب منطقة حرّة، يستحيل لأيّ أحدٍ أن يسيطر على القلب، مستحيل لأحدٍ أن يسيطر على قلبك، هل يمكن لأحدٍ أن يسيطر على قلبك؟! يمكن لأحدٍ أن يكرهك على حبّه؟! أو يكرهك على بغضه؟! أو يكرهك على الاعتقاد به؟! أو يكرهك على عدم الاعتقاد به؟! أبدًا، منطقة القلب خلقها الله منقطة حرّة يستحيل على أيّ أحدٍ إكراهها والسّيطرة عليها، دائمًا منطقة القلب منطقة حرّة، يمكن لي أن أكره لسانك، يمكن أن أسيطر على لسانك، يمكن أن يسيطر على جوارحك، ولكني لا يمكن أن أسيطر على ماذا؟! على قلبك، القلب لا يمكن السّيطرة عليه، منطقة حرّة، لذلك قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هذا إخبارٌ عن قضيّةٍ طبيعيّةٍ، يعني: يستحيل إكراه القلب على دين معيّن، لا يقع الإكراه، هذا أمرٌ مستحيلٌ، إخبار عن قضيّةٍ تكوينيّةٍ.

المعنى الثاني الذي يطرحه علماؤنا ومفسّرونا هو:

هذه الآية تتعرّض إلى قضيّةٍ إنشائيّة، والمقصود بهذه القضيّة الإنشائيّة يعني: قانونٌ إسلاميٌ تتضمّنه الآية المباركة مؤدّى هذا القانون أنّه لا يجوز إكراه أحدٍ على الدّخول في الإسلام، لذلك ترى الإسلام يدعو الدّيانات الأخرى إلى أن تعيش تحت ظلّ الدّولة الإسلاميّة، وهذا ما يسمّى بعقد الذمّة، من حقّ أبناء الدّيانات الأخرى أن تعيش معززة مكرّمة تحت ظل الدّولة الإسلاميّة من دون أيّ مانع، هذا معنى «لا إكراه في الدّين»، إذا جرى بين الدّولة الإسلاميّة وبين أبناء الدّيانات الأخرى عقد الذمّة فهم ذمّيّون دماؤهم محترمة، أموالهم محترمة، أعراضهم محترمة، لا يُكْرَهُون على الدّخول في الدّين الإسلامي، مادام بين الدّولة الإسلاميّة وبينهم عقد الذمّة هم أحرار في ممارسة أديانهم، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.

الخطوة الثانية:

لاحظوا الخطوة الثانية خطوة ضروريّة جدًا، وهي أنّ الإسلام يدعو إلى التعايش السّلمي بين أبناء الدّيانات، مثلاً: اقرأ قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [9]  الإنسان الذي لم يقاتلك ولم يخرجك من ديارك - يعني: يعيش معك عيشة المسالمة - الله لا يمنعك أن تبرّه وتقسط إليه وتحترمه وتكوّن معه علاقة، ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إذن أين الإسلام دين العدوان؟! لو كان دين العدوان لما قال لنا: من حقكم أن تقيموا علاقة البّر وعلاقة القسط مع أبناء الدّيانات الأخرى ماداموا لم يقاتلوكم وماداموا لم يخرجوكم من دياركم، بإمكانكم أن تقيموا معهم علاقة البّر والقسط، لاحظ الإسلام أيضًا يركّز حتى على مستوى الاستفزازات الشخصيّة، لاحظوا مثلاً: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [10]  ربّما هؤلاء يتعرّضون لكم أو يودّون أن تدخلوا في ديانتهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ لماذا يأمرني الإسلامُ أن أعفو وأصفح عن هذا الإنسان؟! إذا كان الإسلامُ دين العدوان ودين الإرهاب لماذا يأمرني بالعفو والصّفح عن هذا الإنسان؟! ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هذا دليلٌ على أنّ الإسلام يدعو للتعايش السّلمي بين أبناء الدّيانات.

لذلك فقهاؤنا عندهم ما يسمّونه بعقد الذمّة على نحو العقد الضمني، كيف عقد الذمّة عقدٌ ضمنيٌ؟

أضرب لك مثالاً: افترض الآن مثلاً مجتمع لبنان، مجتمع لبنان يضمّ عدّة دياناتٍ في بلدٍ واحدٍ وفي وطن واحدٍ، هذه الدّيانات مع أنّها تعيش تحت وطن واحدٍ نفس هذه المسالمة، يعني: لا داعي أنّنا نقوم بعقدٍ، يقول الفقهاء: لا داعي أن تخرج أنت بورقةٍ وتقوم بعقدٍ بين هذه الدّيانات، نفس الوجود في مكان واحدٍ بروح المسالمة وبروح علاقة الجيرة وبروح علاقة الاحترام هذا عقد ذمّةٍ ولكنّه عقدٌ ضمنيٌ، وهذا العقد عقدٌ محترمٌ، مادام عقدَ ذمّةٍ عقدًا ضمنيًا فهو عقدٌ محترمٌ، مثلاً: الآن أنت عندما تسافر إلى أوروبا أو أمريكا، هذه بلاد كفار، يعني: هل يجوز لك بمجرّد السّفر إلى هذه البلاد أن تأخذ أموالهم وأن تعتدي على ممتلكاتهم لأنّهم كفار لا حرمة لهم؟! سماحة السّيّد السّيستاني دام ظله يقول: لا، هناك عقد، عقد أمان بينك وبينهم، ما هو هذا العقد؟! نفس الفيزا عقد أمان، أنت عندما تأخذ منهم الفيزا ويسمحون لك بالدّخول أخذ الفيزا يسمّى عقد أمان، أنت عندما تعطيهم الجواز ويوقّعون الجواز بالدّخول هذا - توقيع الجواز - عقد أمان، ما معنى «عقد أمان»؟

يعني: كأنّهم يقولون لك: لا نعتدي عليك ولا تعتدي علينا، هذا عقد أمان بيننا وبينك، لذلك يجب حفظ هذا العقد، السّيّد السّيستاني يقول: يجب حفظ هذا العقد ويجب تطبيقه، إعطاء الفيزا وتوقيع الجواز هذا يعتبر عقد أمان، فلا يجوز نقضه، إذن كذلك عندما يعيشون تحت وطن واحدٍ، هذا عقد أمان، عقد الأمان لا يجوز نقضه.

الخطوة التي بعدها:

إذا افترضنا أنّه اعْتُدِيَ عليهم وتعرّضوا للاعتداء، إذا تعرّضوا للاعتداء كما ذكرنا في فلسفة الجهاد أنّ الدّفاع حقٌ فطريٌ وحقٌ مشروعٌ، ولذلك ترى أنّ الآياتِ القرآنيّة تنصّ على ذلك:

1/ مثلاً قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ مادام قاتلوكم فإذن من حقكم الدّفاع ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [11] ، أنتم لا تعتدوا ولكنكم إذا قوتلتم فمن حقكم الدّفاع عن أنفسكم كمسلمين بين دياناتٍ أخرى وبين ملل أخرى ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.

2/ أو مثلاً قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ هم قوتلوا أولاً ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [12]  إذا كان قد أعْتُدِيَ عليهم فمن حقهم حقًا فطريًا عقلائيًا تقرّه جميع الملل وجميع الأديان الدّفاعُ عن أنفسهم، وهكذا كثيرًا من الآيات التي تكون ناظرة لهذه الجهة.

المرحلة الأخيرة:

وهي مرحلة الجهاد الابتدائي، يعني: ليست مسألة دفاع، مسألة جهاد ابتدائي، راجعوا كتاب الجهاد لسيّدنا الخوئي قدّس سرّه، يقول بأنّ الجهاد الابتدائي منوط بولاية الحاكم الشّرعي، يعني أنّ الحاكم الشّرعي إذا شخص أنّ المصلحة العامّة تقتضي تشريع وتقنين الجهاد الابتدائي بأنْ امتلك العدّة وامتلك العتاد واستخدم الوسائل الإعلاميّة الكافية في تبليغ الدّين، إذا شخص الحاكمُ الشرعيُ اجتماع الشرائط للجهاد الابتدائي فمن حقه إعلان الجهاد الابتدائي وذلك مقتضى ولايته ومقتضى حكومته.

إذن فبالنتيجة: عندما نقرأ هذه التعاليم الإسلاميّة نجد عكس ما يقال من أنّ الإسلام دينٌ عدوانيٌ أو دينٌ إرهابيٌ كيف وهو حتى مع قيام القتال - يعني: الإسلام حتى مع قيام القتال - يقول: لا يُجْهَز على جريح ولا يُتبّع مدبر ولا تُقْتَل امرأة ولا طفل ولا شيخ؟! الإسلام ينصّ على هذه القوانين كلها ممّا يؤكّد أنّه دين الرّحمة حتى في لحظات القتال وحتى في ظروف القتال.

نأتي الآن لتطبيق ما ذكرنا على سيرة النبي محمّدٍ :

الرّسول لاحظوا سيرته بدقةٍ، الرّسول صالح قريش صلح الحديبية، وقع مع قريش عقد صلح وهو صلح الحديبية، الغرض من هذا الصّلح أن يجمع الرّسولُ قدرته وكفاءته العسكريّة ويتهيّأ لقتالهم في الوقت المناسب، فكان صلحًا تكتيكيًا، صلحًا سياسيًا، صالح قريش صلح الحديبية حتى يُعْطى الفرصة الكافية لكي يجمع عدّته وعتاده وكفاءته العسكريّة، وفعلاً في مدّة الصلح صبّ الرّسولُ اهتمامه على جمع العدّة والعتاد، صلح الحديبية عقدٌ بين محمّدٍ وبين قريشِ.

دخل في حلف محمّدٍ بنو خزاعة، قبيلة خزاعة دخلت مع النبي، ودخل في حلف قريش بنو بكر، المسلمون قاموا بغزوة مؤتة التي قتِلَ فيها جعفر الطيّار، فالمسلمون ضعفت قوّتهم في غزوة مؤتة، قريش استغلت الفرصة، قالوا: الآن هم ضعيفون فلماذا نحن نلتزم الصّلح؟! ماداموا قد ضعفوا في غزو مؤتة فلماذا نحن نلتزم بالصّلح؟! فخرجت قبيلة بكر - بني بكر - المتحالفة مع قريش مع قائدها نوفل بن معاوية الدّيلي وفاجؤوا قبيلة خزاعة وكانوا على أدنى ماءٍ من مكّة وحملوا عليهم وقتلوا منهم مقتلة كثيرة، لجأت قبيلة خزاعة إلى الكعبة البيت الحرام المكان المقدّس، مع أنّهم لجؤوا إليه مع ذلك حاربوهم عند الكعبة المشرّفة، قبيلة بني بكر في البداية اعترضت على قائدها نوف بن معاوية الدّيلي، قالوا: يا نوف إنّه البيت الحرام وإنّهم قد لجؤوا إليه إلهك! إلهك! قال: لا إله له اليوم! خذوا ثأركم منهم، لو سُرِقتم في فناء هذا اليوم أما كنتم تأخذون ثأركم؟! خذوا ثأركم الآن منهم.. هجموا على قبيلة خزاعة وقتلوا منهم مقتلة كبيرة عند فناء البيت، عمرو بن سالم الخزاعي خرج إلى المدينة، وَفدَ على النبي محمّدٍ وقال:

اللهم إني ناشدٌ محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا

أنّ قريشا أخلفوكم الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وقتلونا ركعًا وسجّدًا

النبي لمّا سمع كلامه قال: ”نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم الخزاعي“، يعني النبي قال: قريش هي التي نقضت العهد، نحن لم ننقض، نحن عقدنا بيننا وبينهم عهدًا، هم الذين نقضوا العهد وهم الذين بدؤوا بالاعتداء فلا مانع من أن نهيّئ جيوشنا لقتالهم، ”نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم“ وهيّأ الرّسولُ الجيوشَ التي أعدّها لفتح مكّة المكرّمة.

وصلت الأخبار إلى مكّة، أبو سفيان خرج من مكّة إلى المدينة، أين دخل؟! دخل على أمّ حبيبة ابنته، أمّ حبيبة ابنة أبي سفيان وزوجة النبي ، دخل عليها البيتَ، رأى فراشًا، جلس عليه، أقلبت أمّ حبيبة بكلّ قوّةٍ وجذبت الفراشَ من تحت أبيها أبي سفيان، قال لها أبوها: لِمَ يا بنيّة؟! قالت: هذا فراش رسول الله وأنت رجلٌ مشركٌ نجسٌ فكيف تجلس على فراش رسول الله؟! قال لها: يا بنيّة لقد دخلك الشر! قالت: ما دخلني الشّرّ وإنّما هداني اللهُ لدين الإسلام وأنت مازلت تعبد صنمًا لا يبصر ولا يسمع! أمّا تهتدي يا أبا سفيان؟! قال لها: أفأترك دين آبائي وأدخل في دين محمّد؟! قالت: ما هو بدين محمّد إنّه دين الله الواحد الأحد.

هذا لم يعجبه كلام ابنته، أخذ يستجير ببعض المسلمين فلم يجره أحدٌ، رجع إلى مكّة المكرّمة وأخبرهم، النبي هيّأ الجيوشَ المقاتِلة إلى أن زحفت عشرة آلاف، في ذلك الزمان يعتبر عددًا ضخمًا، عشرة آلاف مقاتِل بين فارس وراجل إلى فتح مكّة المكرّمة.

وصلوا على أبواب مكّة، خرج أبو سفيان مع ثلةٍ من أصحابه يستخبرون ما حول مكّة فرأوا الجيوشَ المحدقة، فجأة وقع أبو سفيان بيد العبّاس بن عبد المطلب عمّ النبي ، العبّاس بن عبد المطلب أخبر النبي بأنّ أبا سفيان تحت يده، قال له النبي: احبسه حتى تمرّ عليه الجيوشُ راية بعد رايةٍ، أخِذَ، حُبِسَ في مكان معيّن، صارت الجيوش تمرّ عليه، كلما مرّت عليه راية سأل أبو سفيان: راية مَنْ هذه؟ قيل: هذه قبيلة فلان، قيل: هذه قبيلة فلان، قيل: هذه قبيلة فلان.. إلى أن مرّت عليه الرّاية البيضاء ترفرف على رأس النبي محمّدٍ ، قال أبو سفيان للعبّاس: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيط كبيرًا! قال: ويحك! ما هو الملك وإنّما هي النبوّة فاشهد ألا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله.

ثم تهيّأت هذه الجيوش لدخول مكّة المكرّمة، لاحظ الدّين الإسلامي دين الرّحمة، دين المسالمة، الرّسول بمجرّد أن دخل مكّة أمر المنادي ينادي: مَنْ أغلق باب داره عليه فهو آمن ومَنْ كان في البيت فهو آمنٌ ومَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، أبو سفيان عدوٌ للنبي في تلك الفترة لكن أراد الرّسولُ أن يخبره أنّه كرامة للرّحم الذي بينه وبينه وكرامة له، يعني: أراد الرّسول أن يؤلف قلبه، شبيه المؤلفة قلوبهم، أليس المؤلفة قلوبهم يعطون سهمًا من الزكاة؟! إذا تقرأ الآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [13]  يوجد قسمٌ من المنافقين يُعْطوْنَ من الزكاة حتى يسكتوه! يُعْطوْنَ من الزكاة لتأليف قلبه وجذبه إلى حظيرة الإسلام، بنفس المنطق، بنفس الفلسفة الرّسول قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ.

دخلت الجيوش إلى مكّة المكرّمة، نادى منادٍ: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبّى الحرمة» سمع الرّسول ، غضب غضبًا شديدًا، وأمر المنادي ينادي: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحْمَى الحرمة» نحن ما دخلنا لعدوان ولا دخلنا لقتال وإنّما دخلنا لتطبيق القانون الذي يحفظ للإنسانيّة كرامتها وقيمها، فنحن دخلنا بروح الرّحمة لا بروح العدوان، دخلنا بغرض الحماية لا بغرض القتال «اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحْمَى الحرمة» إذن سيرة النبي هذه السّيرة الوضاءة تعكس لنا تعاليم الإسلام في هذا الباب وفي هذا الميدان.

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1]  التوبة: 33.
[2]  الأنفال: 39.
[3]  البقرة: 191.
[4]  التوبة: 73.
[5]  الروم: 30.
[6]  آل عمران: 85.
[7]  آل عمران: 19.
[8]  البقرة: 256.
[9]  الممتحنة: 8.
[10]  البقرة: 109.
[11]  البقرة: 190.
[12]  الحج: 39.
[13]  توبة: 60.