اليوم الموعود للحضارة الكونية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

نتحدث هذا اليوم عن ضرورة الظهور، وسأتحدث في ليلة مولد الإمام المنتظر - عجل الله فرجه الشريف - في هذا المسجد بعد صلاة العشاء سأتحدث عن ضرورة الغيبة، وحديثنا اليوم عن ضرورة الظهور.

ربما يتصور كثير من الكتاب وكثير من الأقلام أن مسألة الإمام المنتظر لا يمكن إثباتها إلا بالأدلة النقلية، ربما يتصور كثيرٌ أن العقل لا يحكم بلزوم ظهور الإمام، مسألة الإمام المنتظر، مسألة ظهور الإمام المنتظر لا يمكن إثباتها إلا بالأدلة السمعية، يعني بالاعتماد على الأحاديث الواردة عن النبي محمد الواردة في صحاح المسلمين: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا».

نحن نريد أن نثبت اليوم أنه لا نحتاج إلى الروايات ولا نحتاج إلى الأحاديث، نحن نريد أن نثبت اليوم أن العقل وحده، لو خلينا وحكم العقل ولم نلجأ إلى الروايات ولم نلجأ إلى الأحاديث العقل وحده هو كافٍ في الحكم، لو نظرنا إلى العقل لرأينا العقل يحكم بضرورة ظهور الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، كيف العقل يحكم بذلك؟

العقل يحكم بذلك من خلال هدفين:

1 - هدف وجود الكون.

2 - وهدف وجود الدين.

الهدف من وجود الكون والهدف من وجود الدين لا يتم إلا مع ظهور الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، كيف ذلك؟

نتحدث أولاً عن الهدف من وجود الكون وربطه بمسألة الإمام، ثم عن الهدف من الدين وربطه بظهور الإمام عجل الله فرجه الشريف.

أما المسألة الأولى:

نذكر لبيان ارتباط هدفية الكون بمسألة الظهور، نذكر ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الهدف من وجود الكون ما هو؟

الهدف من وجود الكون يا إخوان إقامة الحضارة الكونية، لاحظوا الآيات المباركات التي تتحدث عن أن السماوات والأرض ما خلقت عبثًا ولا لغوًا، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ «16» لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

ما هي الحاجة من وجود السماوات؟ يكفي أن توجد الأرض ويوجد عليها الإنسان، لماذا خلق هذا الفضاء اللامتناهي بمجراته، بنجومه، بمجموعاته السماوية، لماذا؟ لماذا خلق هذا الفضاء بتفاصيله الدقيقة التي لم يطلع الإنسان على واحد بالمليار من معلوماتها وقضاياها؟ لماذا خلق كل هذا الكون؟ لماذا خلق كل هذا الفضاء؟ ألا يكفي أن يوجد الإنسان على الأرض ويقيم الشريعة على الأرض وتنتهي، يبدأ الوجود بالإنسان وينتهي بالإنسان؟ لماذا خلق هذا الكون بجميع ذراته ومجراته؟ لِمَ وما هو الهدف من وراء ذلك؟

الهدف من وجود هذا الكون إقامة الحضارة الكونية لا الحضارة الأرضية، الأرض كوكب صغير نسبته إلى هذا الكون لا شيء، الغرض من وجود هذا الكون إقامة الحضارة الكونية، الكون مليء بالكنوز، مليء بالطاقات، مليء بالمعادن، هذا الكون فيه زخم من الطاقات، من الخيرات، من المعادن، من الكنوز، لابد لأجل وجود هذا الكون من إقامة حضارة كونية تفجر هذه الطاقات، تستثمر هذه الكنوز، تستخرج هذه المعادن المخبوءة في أجزاء هذا الكون حتى أصغر ذرة تحمل من الكنوز والمعادن ما تحمله أعظم مجرة، الكون مليء بالكنوز والمعادن، يوم استثمار هذه الكنوز، يوم إقامة الحضارة الكونية على جميع أجزاء هذا الكون هو الهدف من وجود هذا الكون، فالهدف من وجود هذا الكون إقامة الحضارة، الحضارة الكونية.

نأتي إلى الأمر الثاني: من يقيم هذه الحضارة؟

بمن أنيط إقامة هذه الحضارة؟ من الذي يتكفل إقامة الحضارة الكونية على المريخ، على القمر، على الزهرة، على جميع الكواكب، حضارة مسيطرة على الكون بأسره، من الذي يتكفل بأعباء إقامة الحضارة الكونية كلها؟

الإنسان، الإنسان أنيط به هذا الدور، والقرآن الكريم يؤكد هذا المعنى، ﴿سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لكم، أنتم المسؤولون عن تفجيره واستثماره واستعمارهم «أنتم».

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا من حملها؟ حملها الإنسان، الأمانة، مو المقصود الأمانة العبادة كما في بعض التفاسير، شنو ربط العبادة بالسماوات والأرض؟! الآية تتحدث عن شيء يرتبط بالسماوات، شيء يرتبط بالأرض، شيء يرتبط بالإنسان، ما هو الشيء الذي يرتبط بالسماوات والأرض والإنسان وبجميع ذرات الوجود؟ ما هو؟

هو الحضارة الكونية، أمانة إقامة الحضارة على أجزاء هذا الكون بأسره، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ - شيء يرتبط بالوجود كله وهو إقامة الحضارة - فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ الإنسان هو الذي أنيط به هذا الدور.

أنت تقرأ في آية أخرى لاحظ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً لاحظوا الدقة القرآنية، بعض الناس يقول: لماذا هنا قدم الظرف على المظروف وفي آيات أخرى قدم المظروف على الظرف؟ في آيات أخرى ماذا قال؟ ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ «في الأرض» خلاها مؤخرة، كلمة «خليفة» قدمها، في آية ثالثة: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ واستعمركم فيها بينما في هذه الآية قدم كلمة «في الأرض» على كلمة «خليفة» قدم الظرف على المظروف، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ما قال: «إني جاعل خليفة في الأرض» قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً لم قدم الظرف على المظروف؟

ليبين أن الأرض مقر الخليفة لا مقر الخلافة، فرق بين مقر الخليفة ومقر الخلافة، الخلافة أين موطنها؟ الكون كله، الخليفة أين موطنه؟ الأرض، الخليفة على الأرض لكن الخلافة التي سيحققها ليست على الأرض وحدها، بل الخلافة المطلوبة من الإنسان تحقيقها على الكون بأسره، الأرض مقرٌ للخليفة وليست مقرًا للخلافة، ليس المطلوب من الإنسان أن يقيم عمارات على الأرض أو يقيم حضارة على الأرض، المطلوب من الإنسان أن يقيم حضارة في الكون كله، الكون كله هو بقعة الخلافة، هو مساحة الخلافة، هو مقر الخلافة، وإن كان موطن الخليفة أين؟ على الأرض.

لذلك لكي يبين أن الأرض مقر الخليفة لا مقر الخلافة قدم في هذه الآية الظرف على المظروف، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً خليفة لماذا؟ ليقيم الحضارة الكونية بتمام أجزائها وشرائطها على هذا الوجود كله.

لاحظوا أيضًا بعد هذه الآية ماذا قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا وش معنى الأسماء كلها؟ بعض الروايات المراد بها حقائق أهل البيت، بعض الروايات المراد بالأسماء أسماء الأشياء، بعض الروايات المعتبرة الواردة عن الصادق تقول الأسماء هي اللغات، ما معنى اللغات؟

ليس المقصود باللغات اللغة الإنجليزية والفرنسية والفارسية والعربية فعلم آدم اللغات كلها! لا، لغات الأشياء لا لغات البشر، ليس المقصود باللغات لغات البشر، المقصود باللغات لغات الأشياء، النبات له لغة، الأرض لها لغة، عالم النبات له لغة، عالم طبقات الأرض له لغة، عالم الفضاء له لغة، عالم الجان له لغة، كل عالم له رموز، إذا فُكت هذه الرموز عرف ما في ذلك العالم.

أنت لا تستطيع كعالم أحياء أن تسيطر على النبات حتى تفكك رموز عالم النبات، أنت لا تستطيع كعالم فلك أن تسيطر على الفضاء حتى تفكك رموز علم الفلك، أنت لا تستطيع كعالم جيولوجيا أن تفسر ما في طبقات الأرض وتسيطر عليها حتى تفكك رموز هذا العلم، كل عالم له مفاتيح وله رموز إذا اطلعت على هذه الرموز وأمسكت بهذه الرموز استطعت السيطرة على هذا العالم.

تستطيع السيطرة على عالم النبات إذا عرفت لغته، يعني الرموز التي من خلالها تجري طبيعة النبات، تنبت وتثمر وتورق، إذا أمسكت بمفاتيح وبرموز عالم الفلك استطعت أن تتحكم في هذا الفلك بمجراته وبذراته، كل عالم له رموز، من الذي أعطي علم الرموز؟ عرف رموز العوالم، عرف رموز العوالم، كيف يدخل، كيف يخرج، كيف يسيطر، كيف يتحكم، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء.

المسألة ليست مسألة حرف فارسي أو عربي أو فرنسي، المسألة مسألة حقائق وليست مسألة علوم، المسألة مسألة رموز تفكك، المسألة مسألة مفاتيح من خلالها معرفة هذا الكون بأسره يتم، لأن آدم هو الخليفة علمه ما تحتاج الخلافة إليه من المفاتيح والرموز الكونية الوجودية «لاحظتم؟».

وتعال إلى آية ثالثة، اقرأ مثلاً قوله تعالى في آية ثالثة تتحدث عن هذا المضمار وتتحدث عن هذه الحقيقة: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ما معنى علمنا منطق الطير؟ يعني سليمان يحشي مثل العصافير ويعرف لغة العصافير؟ شنو المعنى؟

﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ مسيطر على الريح وين ما يبعثها تنبعث، شلون؟ ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ كيف يعني الجبال سخرت له؟ نريد أن نفهم ما معنى هذه الكلمات؟ ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ ما معنى هذه الكلمات؟

كل هذه الأشياء ترجع إلى نفس المسألة التي تحدثنا عنها، هذا ما يعبر عنه العلماء ب «الولاية التكوينية»، كثير من الناس يظن أن «الولاية التكوينية» مصطلح غيبي غامض! لا، الولاية التكوينية معناها «من ملك علمًا بشيء ملك السيطرة عليه» كل من ملك العلم بشيء ملك السيطرة عليه، هذه هي «الولاية التكوينية».

الطب مثلاً، الآن الطب توصل إلى درجة أن يتحكم في جسم الجنين، الآن الطب توصل إلى درجة يخير الأب: لون شعر ولدك، لون جسم ولدك، طبيعة جسم ولدك، الطب وهو خارج الرحم يتحكم في هذه النطفة وهي في داخل الرحم لأنه ملك العلم بأطوار النطفة ملك السيطرة على هذه النطفة.

هذا العالم عالم الأحياء لأنه ملك العلم بالنبات ملك السيطرة على النبات.

فالطبيب له «الولاية التكوينية» على النطفة، يعني سيطر عليها لأنه ملك علمها، عالم الأحياء له «ولاية تكوينية» على النبات لماذا؟ لأنه ملك المعلومات الموجودة في النبات.

هذه مسألة اللغة، هذه مسألة الرموز، من علم رموز هذا العالم سيطر عليه، من ملك رموز الفضاء سيطر عليه، من ملك علم الجنين سيطر عليه، هذا معنى «الولاية التكوينية».

إذًا سليمان أعطي علم، أعطي مفاتيح، مفاتيح عالم الطير فقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير، سليمان اطلع على العوامل الطبيعية التي تتحكم في مسيرة الرياح أين تذهب الرياح، اطلع سليمان على العوامل الطبيعية التي تتحكم في مسيرة الرياح فسيطر عليها، اطلع سليمان على العوامل الطبيعية التي تتحكم في نشأ البراكين وظهور الجبال وضمورها فسيطر عليها.

المسألة مسألة علم، مسألة مفاتيح، معنى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا أو أنه أعطي اللغات يعني أعطي مفاتيح العوالم، أعطي رموز العوالم التي إذا فككها سيطر على هذه العوالم وتحكم فيها وهذا ما يسمى ب «الولاية التكوينية».

إذًا الهدف من وجود الكون - لاحظوا يا إخوان - إقامة الحضارة الكونية عليه، الذي أنيط به هذا الهدف من؟ هو الإنسان، لأنه أعطي العلم «علم المفاتيح» فبيده إقامة الحضارة الكونية في هذا الكون.

نجي إلى الأمر الثالث: متى يتحقق هذا الهدف؟

مادام الهدف من وجود الكون إقامة الحضارة الكونية «أليس كذلك؟» إذًا لابد من تحقق هذا الهدف، إذا لم يتحقق هذا الهدف يكون وجود الكون لغوًا واللغو لا يصدر من الحكيم تعالى «يقبح عليه صدور اللغو» إذًا لابد من يوم يتحقق فيه هذا الهدف ألا وهو إقامة الحضارة على الكون من عرشه إلى أرضه بجميع أجزائه ومساحاته، لابد من تحقق ذلك اليوم، متى يتحقق ذلك اليوم؟

نحتاج إلى شخص يملك الحقائق ما يملك النظريات، نحن نملك نظريات لكن نحتاج إلى شخص يملك الحقائق، علم الفيزياء علم لكنه مبني على نظريات، علم الأحياء، علم الفلك، علم الطب، مازالت هذه العلوم الإنسانية في طور التكامل، لماذا؟ لأنها تعيش على مستوى النظريات، كل يوم نظريات تتجدد وتبطل نظريات سابقة، العلم في مسيرة التكامل، تتجدد نظريات، تبطل نظريات، تظهر أخطاء، تظهر اشتباهات، إذًا العلم يسير في مسيرة التكامل، جميع العلوم «فيزياء، كيمياء، علم الفلك، علم الذرة» جميع العلوم تعيش في إطار التكامل، يعني في إطار النظريات، لابد أن تصل هذه العلوم يومًا إلى ماذا؟ إلى الوصول إلى الحقائق لا إلى النظريات، اكتشاف الحقائق فإذا اكتشفت الحقائق اكتشفت مفاتيح السيطرة على الكون وإذا اكتشفت مفاتيح السيطرة على الكون استطاع الإنسان أن يقيم الحضارة الكونية ويحقق الهدف من وجود هذا الكون.

أي يوم يصل فيه الإنسان إلى اكتشاف الحقائق إذا وجد الشخص المطلع على الحقائق والمفاتيح، والقرآن يقرر هذه الحقيقة: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ليست مسألة أرض «وصولوا القمر» لا هذه «وصلوا القمر»، ﴿أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني تسيطرون على الكون كله، ﴿أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ سلطان يعني شنون؟

يعني العالم الذي ببركة علمه وبواسطة علمه يسيطر على هذا الكون بأسره، بيده المفاتيح «مفاتيح السيطرة»، ﴿أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني تسيطرون على الكون كله، ﴿لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ومن هو هذا السلطان؟ المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

إذًا العقل مع غض النظر عن الروايات، العقل وحده إذا يفكر يصل إلى هذه النتيجة: الكون له هدف وإلا كان لغوًا، الخليق والجدير بتحقيق هذا الهدف هو الإنسان إذ لا يملك غيره من المخلوقات عقلاً، الإنسان لا يستطيع إقامة هذه الحضارة الكونية إلا إذا ملك العلم والمفاتيح، كيف يملكها وهو يعيش في النظريات وفي إطار النظريات؟! لابد أن يملك الحقائق حتى يستطيع السيطرة، فالشخص الذي يمتلك الحقائق ويمتلك مفتاح السيطرة هو المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

الهدف الثاني: وجود الدين.

لماذا الله تبارك وتعالى شرع هذا الدين؟ لا لخصوص الدين الإسلامي، الدين السماوي بصفة عامة الذي يشمل جميع الأديان وجميع الملل، لماذا شُرِعَ هذا الدين؟ هنا أيضًا نذكر أمورًا ثلاثة التفتوا إليها:

الأمر الأول: الهدف من وجود هذا الدين.

والأمر الثاني: ارتباط ذلك الهدف بمسألة العدل والظلم.

والأمر الثالث: لا يمكن لأي شخص تحقيق العدالة بمعناها الواسع إلا المهدي المنتظر.

أنتم الآن تقرؤون قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ هذه الآية واضحة الهدف من الدين - لماذا الدين وجد؟ - كي تكون الأمة خير أمة، الهدف من الدين هو وجود المجتمع الصالح، الهدف من نزول الأديان السماوية إيجاد المجتمع الصالح، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

هنا يطرح السؤال: طيب ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ما هو الربط بين «خير أمة» وبين الأمر بالمعروف؟ يعين إذا قال الآباء لأولادهم: يا أبنائي صوموا صلوا ودعوا الفسوق والفجور صارت الأمة خير أمة أم ماذا؟! ما هو المقصود بالربط بين «خير أمة» وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

عندنا عدل وعندنا ظلم، إعطاء ذي الحق حقه عدل وسلب ذي الحق حقه ظلم، من أعطي حقه فهذا عدل وإذا لم يعط حقه فهذا ظلم، عندنا عدل وظلم، جميع أعمال الإنسان - لو إنت تفكر - تدخل تحت العدل والظلم حتى شرب الماء، كل أعمال الإنسان هي إما عدل وإما ظلم «ما في شي ثالث»، جميع أعمال الإنسان هي إما عدل وإما ظلم، لا يتصور شق ثالث لا هو عدل ولا هو ظلم، لا لا، جميع أفعالك التي تصدر منك داخلة إما تحت العدل أو تحت الظلم، يعني إنت إما ظالم أو عادل، ما في شق ثالث، ليش؟

الأحاديث تقول: «إن لربك عليك حق.. ولجسمك عليك حق.. ولأهلك عليك حق.. فأعطي كل ذي حق حقه» حقوق للسماء.. حقوق للنفس.. حقوق للأهل.. حقوق للمجتمع.. حقوق للطبيعة.. الإنسان منوط، مناط ومحاط بالحقوق من كل جانب، إذًا كل حركة يتحركها إما إعطاء حق لجسم أو لرب أو لأهل أو لمجتمع أو لطبيعة وإلا هي ظلم، ما في شي ثالث، حتى شرب الماء، هذا شرب الماء إما قضاء لحق الجسم فهو عدل، أو بخس لحق الجسم فهو ظلم، حتى هذا النوم إما قضاء لحق الجسم فهو عدل، أو بخس لحق النفس فهو ظلم، ما في، جميع أعمالك إما عدل أو ظلم، يعني إنت يا تسير في مسار العدالة، يا تسير في مسار الظلم، ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا جميع أعمال الإنسان مؤطرة بالعدل والظلم، هذا الأمر الأول.

نجي للأمر الثاني:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا إخوان بحسب المصطلح القرآني ومصطلح الحديث يراد به العدل والظلم، معنى المعروف هو العدل، معنى المنكر هو الظلم، الأمر بالمعروف يعني تحقيق العدل، والنهي عن المنكر يعني نبذ الظلم، مسألة المعروف هي العدل، عنوان المنكر هو الظلم، الأمر بالمعروف يعني تحقيق العدل، النهي عن المنكر يعني نبذ الظلم ونفي الظلم، هناك ارتباط بينهما.

لذلك نفهم وجه العلاقة بين ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ - يعني تحققون العدل - وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ - يعني تنبذون الظلم -هل يستطيع مجتمع أن يعيش عيشة مستقرة بدون عدل؟! مستحيل، العدالة جزء ضروري لوجود المجتمع ولخير المجتمع، لا يمكن لمجتمع أن يكون مجتمع خير إلا إذا كان فيه عدل، لا يمكن لأمة أن تكون خير أمة إلا بالعدل وإلا لا يمكن، ليش؟! الآن أبين لك.

المعلم مسؤول عن حقوق الطلاب فإن أعطاهم حقوقهم فهو عادل وإلا فهو ظالم، الأب مسؤول عن حقوق الأسرة إن أعطاها حقوقها فهو عادل وإلا فهو ظالم، الطبيب مسؤول عن حق المجتمع في الصحة إن أعطاه حقه فهو عادل وإلا فهو ظالم، وهكذا... ضابط المرور، ضابط الشرطة إذا حافظ على الأمن فهو عادل وإلا فهو ظالم، وهكذا...

إذًا المسألة المجتمع له عدة حقوق: له حق العلم، له حق الصحة، له حق الأمن، له حق العيش الكريم، إذا كل فرد من أفراد المتجمع أدى هذه الحقوق «حق العلم، حق الصحة، حق الأمن، حق العيش الكريم» كان المجتمع مجتمعًا تشيع فيه العدالة، وإذا صار المجتمع مجتمعًا تشيع فيه العدالة صار المجتمع خير المجتمعات.

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إذا حققتم العدالة، ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ يعني الهدف من وجود الدين هو وجود المجتمع الصالح، ووجود المجتمع الصالح يتوقف على العدالة بمعناها الواسع، يعني أداء حقوق النفس، أداء حقوق السماء، أداء حقوق المجتمع والأهل، الهدف من وجود الدين تحقيق العدالة بمعناها واسع، وهذا معنى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

لذلك تشوف الإمام الحسين ركز على هذه الكلمة نفسها لا غيرها «يريد أن يشير إلى هذا المطلب»: «ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد - يعني أريد أحقق العدالة - أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» أريد أن أحقق الهدف من وجود الدين، الهدف من وجود الدين تحقيق العدالة، أنا أريد أن أحقق العدالة بمعناها الواسع «العدالة مع النفس، مع السماء، مع الأرض، مع الطبيعة، مع الإنسان الآخر، مع الأهل، مع المجتمع» أريد أن أحقق العدالة بمعناها الواسع، «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

نجي الآن إلى النقطة الثالثة «التفتوا يا إخوان، نقطة دقيقة»:

الهدف من وجود الدين إقامة العدالة، كيف تتحقق العدالة؟ لو لم تتحقق العدالة بمعناها الواسع لكان تشريع الدين لغوًا، واللغو قبيح على الله، إذًا لابد من وجود يوم - خلنا الروايات التي تتحدث عن وجود المهدي، نحن نجي بمنطق العقل - لابد من وجود يوم تتحقق فيه العدالة على جميع أجزاء الأرض، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.

إذًا المسألة لابد من يوم تتحقق فيه العدالة العامة وإلا كان تشريع الدين لغوًا، متى تتحقق العدالة العامة وكيف تتحقق العدالة العامة؟ لاحظوا معي، تحقيق العدالة يحتاج إلى الموازنة بيت مساحات العدالة، يعني أن تكون العدالة مع النفس بمقدار العدالة مع السماء، والعدالة مع السماء بمقدار العدالة مع المجتمع، لا تكون العدالة مع النفس على حساب العدالة مع السماء، ولا العدالة مع السماء على حساب العدالة مع الطبيعة، كي تتحقق العدالة بمعناها الواسع لابد من؟ من التكافؤ، العدالة مع السماء بمقدار العدالة مع الأرض، لا هذه على حساب هذه ولا هذه على حساب هذه، العدالة مع النفس بمقدار العدالة مع السماء، بمقدار العدالة مع المجتمع والأهل، لابد من تحقيق التوازن والتكافؤ بين مساحات العدالة وبين حقوق العدالة.

التكافؤ والتوازن بين مساحات العدالة يتوقف على شرط ضروري، ما هو؟ العلم بالحقوق العامة، كيف نعلم بالحقوق العامة؟ التفتوا إلي جيدًا.

إقامة العدالة يحتاج إلى علم الإدارة، صح لو لا؟ إقامة العدالة يحتاج إلى علم الاقتصاد، الذي يكون بصيرًا بكيفية الإنتاج وبكيفية التوزيع هو القادر على تحديد الحقوق الاقتصادية لكل فرد من المجتمع، من كان خبيرًا بكيفية الإنتاج، بكيفية التوزيع للثروة هو الشخص القادر على تحقيق العادلة الاقتصادية.

من ملك علم الإدارة هو القادر على تحقيق إدارة عادلة على الأرض.

من ملك علم النفس، العدالة مع الناس كيف تتم؟! كيف يمكن ضبط الناس إذا لم يكن هناك علم النفس؟! علم النفس هو الذي يجعل الخبير بهذا العلم قادرًا على ضبط النفوس وإعطائها حقوقها بمقدار ما ينسجم معها.

تحقيق العدالة يحتاج إلى علم الاجتماع، الشخص الخبير بالمجتمعات «كيفية ظهورها، شؤونها، ملابساتها، السنن التاريخية المتحكمة في مسيرة المجتمعات هبوطًا وصعودًا ظهورًا وخفاءً» شخص خبير بهذه الأمور.

إذًا الشخص الذي يقيم العدالة العامة بمعناها الواسع لابد أن يمتلك علم الإدارة، لابد أن يمتلك علم الاقتصاد، لابد أن يمتلك علم النفس، لابد أن يمتلك علم الاجتماع، لابد أن يحيط بهذه العلوم كلها كي يكون قادرًا على تحقيق العادلة بمعناها الواسع وعلى جميع أجزاء هذا الكون، وهذه الصفات لا تتوفر إلا في المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

إذًا وصلنا إلى النتيجة أن هناك ضرورة عقلية، العقل يقول ضروري ظهور الإمام المنتظر، لماذا؟ لتحقيق الهدف من وجود هذا الكون ولتحقيق الهدف من تشريع الدين، لا يمكن تحقيق هذين الهدفين إلا بشخص يمتلك أعباء تحقيق الهدف ومؤهلات تحقيق الهدف وكفاءات تحقيق الهدف، وهذا لا يتوفر إلا في المهدي المنتظر.

إلى الآن أكثر من 24 ألف بين نبي ورسول منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، إلى الآن ما تحقق الهدف من الدين، إلى الآن ما تحقق الهدف من وجود هذا الكون، لذلك يقول الرسول محمد : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم - إلا ساعة - لبعث الله رجلاً من أهل بيتي من ولد فاطمة يملأ الأرض - يحقق الهدف إقامة العدالة - يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا» بمساحاتها المختلفة، بأبعادها المختلفة، بتوازناتها، بتكافؤاتها عن علم وخبر.

والحمد لله رب العالمين