المشروع الخيري في آفاقه الروحية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

صدق الله العليّ العظيم

حديثنا في أجواء الآية المباركة في عدّة نقاط:

النقطة الأولى: حول تفسير الآية المباركة.

والنقطة الثانية: حول قداسة مقام إبراهيم .

والنقطة الثالثة: الأجواء الرّوحيّة التي لابدّ أن يتحلى بها جميعُ أعمالنا ومشاريعنا.

النقطة الأولى:

عدما نتحدّث حول تفسير الآية المباركة نركّز على فقرتين:

الفقرة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ.

التعبير المناسب لعملية البناء ومرحلة البناء أن يقال: «وإذ يرفع إبراهيمُ البيتَ على القواعد» لأنّ البناء يحتاج إلى وضع القواعد أولاً ثم بعد أن تُؤَسّس القواعدُ وتُوضَعُ يُبْنَى البيتُ على القواعد، لماذا الآية المباركة قالت: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ؟ القواعد لا تُرْفَع وإنّما الذي يُرْفَعُ البيتُ على القواعد فلماذا الآية المباركة عبّرت: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ؟

يقول المفسّرون: هذا التعبير ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ دليلٌ على أنّ البيت كان موجودًا قبل إبراهيم ، البيت، قواعد البيت، أسس البيت كانت موجودة، لم يكن أوّل من بنا البيت هو إبراهيم، البيت الحرام كان موجودًا قبل زمن إبراهيم، ولقد حجّ إليه آدمُ كما في الرّوايات الشّريفة، فقواعد البيت وأسسه كانت موجودة، إذن إبراهيم ما كانت وظيفته إلا رفع القواعد، يعني: بأن يرفع بناء القواعد حتى تظهر من على الأرض ثم يبني البيت عليها، وإلا فالقواعد كانت موجودة، ولأجل أنّ قواعد البيت وأسسه كانت موجودة قبل زمن إبراهيم عبّرت الآية بالرفع، قالت: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أولّ بيتٍ عُبِدَ فيه الله، أوّل بيتٍ دُعِيَ فيه الله، أوّل بيتٍ أسّس للعبادة والدّعاء والتضرع هو الكعبة، هو البيت الحرام، ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، وقالت آية أخرى تشير إلى هذا المعنى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ تسميته بالبيت العتيق إشارة إلى أنّه أقدم البيوت التي وُضِعَت للعبادة ووُضِعَت للدّعاء.

الفقرة الثانية: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا.

ما معنى كلمة القبول ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا؟

هنا أتعرّض لما يذكره علماءُ العرفان، علماء العرفان يقولون: القبول على ثلاث مراتب وثلاث درجات:

المرتبة الأولى من مراتب القبول: إعفاء الذنب.

والمرتبة الثانية من مراتب القبول: استحالة العمل إلى الثواب.

والمرتبة الثالثة من مراتب القبول: الفوز بجنة اللقاء.

ما معنى هذا الكلام؟

المرتبة الأولى من مراتب القبول:

مثلاً: نحن نصلي لكي يتقبل الله صلاتنا، نصوم لكي يتقبل الله صيامنا، ما معنى قبول صلاتنا وصيامنا؟

الدّرجة الأولى من درجات القبول ما عبّر عنها تعالى بقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ هذه أوّل درجةٍ من درجات القبول، أنّ صلاتنا وسيلة لمحو سيّئاتنا، الصّلوات المتضمّنة للخّشوع، الصّلاة المتضمّنة للخّضوع، الصّلاة المتضمّنة للإقبال على الله تبارك وتعالى ليست فقط تكسبك ثوابًا بل تمحو عنك كثيرًا من السيّئات، تغسلك من الذنوب، تطهرك من الأدران، تجعلك قطعة بيضاء نقيّة من شوائب المعاصي وشوائب الآثام، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، إذن هذه هي الدّرجة الأولى من درجات القبول.

الدّرجة الثانية من درجات القبول: أنّ العمل يتحوّل إلى ثواب، نفس الصّلاة تتحوّل إلى جزاء، أنا عندما أصلي صلاة خشوع، صلاة خضوع ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، صلاة المؤمن، صلاة الخشوع تتحوّل بنفسها أوتوماتيكيًا، تتحوّل بنفسها إلى قصر، إلى جنة، إلى نهر، إلى ثمار، إلى نعيم، نفس العمل يتحوّل إلى جزاء، كما يقول علماء العرفان: مادّة العمل مادّة هيولائيّة تخلع صورة وتلبس صورة أخرى، هذه المادّة الآن متلبسة بالصّورة الصّلاتيّة يوم القيامة تخلع الصّورة الصّلاتيّة وتلبس الصّورة النعيميّة والصّورة الجنانيّة والصّورة الجزائيّة، مادّة واحدة تتعاور وتتعاقب عليها صورٌ مختلفة، هذا ما يسمّى عندهم ب «نظريّة تجسّم الأعمال»، «نظرية تجسّم الأعمال» يعني أنّ العمل يتحوّل بمادّته من صورةٍ إلى صورةٍ أخرى، كما قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، جزاؤكم هو عملكم وليس شيئًا آخر، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ نفس العمل الذي عملته ستراه، يعني: ستراه نعيمًا، ستراه جزاءً، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ تجسّم الأعمال.

الدّرجة الثالثة من درجات القبول: «جنة اللقاء»، ما معنى جنة اللقاء؟

علماء العرفان يقولون: الجنة جنتان: «جنة النعيم» و«جنة اللقاء»، و«جنة النعيم» تختلف عن «جنة اللقاء»، «جنة المأوى» تختلف عن «سدرة المنتهى»، «جنة المأوى» تختلف عن «مقام العليّين»، هناك جنتان: «جنة المأوى» و«سدرة المنتهى»، «جنة النعيم» و«جنة اللقاء»، ما الفرق بين هاتين الجنتين؟

«جنة النعيم» هي التي يقصدها أغلب الناس، ماذا يريد الناس؟! أغلب الناس يريدون لذة جسديّة، يريدون نعيمًا، المهمّ أن أحصل على لذةٍ جسديّةٍ «قصر ونهر وخمر لذة للشاربين وحور عين وولدان مخلدين» وهكذا.. هذه اللذائذ التي تحدّث عنها القرآن يقصدها أغلب الناس، لذلك أغلب الناس يحصل على الجنة، «جنة النعيم»، «جنة المأوى»، أغلب المؤمنين يفدون على «جنة النعيم» و«جنة المأوى» التي هي مكانٌ لماذا؟ لاستيفاء اللذائذ الجسديّة التي لا تنتهي ولا تضمحل ولا تتبخر، لذة جسديّة دائمة خالدة.

أمّا «سدرة المنتهى»، أمّا «جنة اللقاء» فيقصدها أولياء الله، أولياء الله لا يركّزون في الآخرة على اللذة الجسديّة، إنّ عندهم لذة تشغلهم عن اللذة الجسديّة، إنّ عندهم لذة تنسيهم اللذة الماديّة الجسديّة، إنّ عندهم لذة الرّوح، ولذة العقل، لذة لقاء الله، لذة مشاهدة أنوار الله، لذة مشاهدة آيات الله، وهذه هي التي عبّرت عنها الآية القرآنيّة ب «سدرة المنتهى»، لاحظوا الآية القرآنيّة: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - رأى من؟ رأى جبرئيل، أين رأى جبرئيل؟ - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى «جنة المأوى» غير «سدرة المنتهى»، «جنة المأوى» للذائذ الماديّة أمّا «سدرة المنتهى» فاللذة الرّوحيّة، ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - ماذا بالسدرة؟ - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى.

الرّوايات تقول: الأنوار التي يفيضها الله يوم القيامة على «سدرة المنتهى» أنوارٌ لا أمد لها ولا حدّ لها، ومن كان مشغولاً باللذة المادّيّة فمقامه «جنة المأوى»، ومن كان مشغوفًا باللذة الرّوحيّة بقي يتأمّل الأنوار المتساطعة التي تغشى «سدرة المنتهى» دون حدّ ولا أمد ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى رأى الآيات عند «سدرة المنتهى».

إذن أعلى درجة من درجات القبول هو أن أصل إلى «جنة اللقاء»، أن أصل إلى «جنة اللقاء» لا إلى «جنة النعيم»، أن أصل إلى «سدرة المنتهى» لا إلى «جنة المأوى»، أن أصل إلى «العليّين»، ما هو العليّين؟

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ المقربون هم الذين ينالون «جنة اللقاء» وينالون درجة «العليّين» ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، وهذه أعلى درجة من درجات القبول.

النقطة الثانية:

القرآن الكريم يتحدّث عن مقام إبراهيم : ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ إبراهيم ارتفع على صخرةٍ ورفع القواعد فثبتت قدماه في الصخرة، أثرت قدماه في الصخرة، لمّا أثرت قدماه في الصخرة بقي أثر قدميه إلى يومنا هذا دليلاً على ذلك الموقف العظيم الذي قام به إبراهيمُ ، هذه الصخرة سمّيت بمقام إبراهيم، القرآن الكريم يعظم هذه الصخرة، يقول: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ - ما هي؟ - مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ - أوّل الآيات البيّنات هذا المقام مقام إبراهيم - وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، يقول القرآن الكريم: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، كيف نال هذه الدّرجة الكبيرة مقامُ إبراهيم؟ كيف وصل إلى هذه الدّرجة العظيم مقامُ إبراهيم؟ ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى كثيرٌ من الناس بنوا مساجد وبنوا معابد وبنوا مآتم وبنوا وبنوا وبنوا.. لماذا إبراهيم تفرّد بهذه المنقبة: أنّ الصخرة التي صعد عليها وهو يبني البيت الحرام أصبحت مكانًا مقدّسًا يقدّسه القرآنُ الكريم قبل غيره من الكتب ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ؟ منشأ القداسة - يا إخوان التفتوا إلي، هذا مطلبٌ أيضًا من مطالب أهل العرفان - منشأ القداسة: كلام الله، من أراد أن يكون مقدّسًا فليكلمه الله، من كلّمه الله صار مقدّسًا، منشأ القداسة هو كلام الله، ما معنى كلام الله؟

كلام الله بمعنى إفاضة الرّحمة، إذا أفاض الله الرّحمة الخاصّة على عبدٍ من عباده فقد كلّمه، لاحظوا الآية المباركة تتحدّث عمّن؟ تتحدّث عن عيسى بن مريم: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ عيسى بن مريم اُعْتُبِرَ كلمة من كلمات الله، لماذا؟ لأنّ عيسى بن مريم رحمة أفيضت على البشر فاعتبرها الله كلمة من كلماته، ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ لاحظوا القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، كلمات الله يعني: رحمته التي يفيضها على عباده المخلصين الصالحين، كلام الله، كلمة الله، الكلام الإلهي، الكلام الإلهي هو عبارة عن إفاضة الرّحمة، من أراد أن يكون مقدّسًا فليجعل نفسه وعاءً لكلام الله، فليكلّمه الله، لاحظوا القرآن الكريم ماذا يقول عن طور سيناء؟ يعبّر عن طور سيناء بالقداسة، لماذا؟ لأنّه وعاءٌ لكلام الله، ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى لماذا صار طوى واديًا مقدّسًا؟ هل أنّ ترابه من الذهب؟! أو أنّ ترابه من الجواهر الثمينة؟! لا، تراب طور سيناء كتراب غيره، لا فرق بين تراب طور سيناء وتراب غيره، لا فرق بين جسم إبراهيم وجسم غيره، لا فرق بين الصخرة التي صعد عليها إبراهيمُ والصخور الأخرى، إذن لماذا صار تراب طور سيناء ترابًا مقدّسًا؟! ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، ﴿ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الأرض المقدّسة يعني سيناء «أرض سيناء»، لماذا صار التراب مقدّسًا؟

لأنّ هذا التراب أفيض فيه كلام الله، أفاض الله على هذا التراب رحمة على موسى بن عمران، ولأجل أنّ هذا التراب صار وعاءً لرحمةٍ إلهيّةٍ «صار وعاءً لإفاضةٍ إلهيّةٍ» صار التراب مقدّسًا.

إذن القداسة ترتبط بإفاضة الرّحمة، إذن القداسة ترتبط بكلام الله، كلام الله إذا أفيض على مكان معيّن صار ذلك المكان مقدّسًا، لذلك صخرة إبراهيم صارت مكانًا مقدّسًا، أفيضت الرّحمة على إبراهيم وإسماعيل وهو صاعدٌ على هذه الصخرة فأصبحت الصخرة مكانًا مقدّسًا، وكلّ واحدٍ منا يستطيع أن يصل إلى هذه الدّرجة، كلّ واحدٍ يستطيع أن يكون مقدّسًا، كلّ واحدٍ يستطيع أن يكلّمه الله، كلّ واحدٍ يستطيع أن يصير وعاءً يفيض الله عليه رحمته وكلامه وإفاضته، كيف ذلك؟ طريق الكلام، إذا أردت أن تصل إلى كلام الله، إذا أردت أن يكون قلبك وعاءً لكلمات الله فعليك بدربٍ واحدٍ «بطريق واحدٍ» ألا وهو طريق الخشوع، الخشوع طريقٌ لكلام الله، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، القرآن الكريم يقول: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ الخشوع يوجب إفاضة كلام الله عليك، وإفاضة كلام الله عليك يجعلك إنسانًا مقدّسًا، كيف؟

الآية المباركة تقول: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ما معنى إجابة الدّعاء؟

كثيرٌ من الإخوان يظنّ أنّ إجابة الدّعاء يعني: يتحقق المطلب! قلتَ: «يا رب شافني من مرضي» يعني: أشفى من مرضي، هذا معنى إجابة الدّعاء! مثلاً: «يا رب ارزقني ثروة لا حدّ لها» يعني: الله يرزقني ثورة لا حدّ لها، هذا معنى إجابة الدّعاء! لا، كلّ مَنْ دعا اللهُ تبارك وتعالى لا يغادر دعاءه حتى يفيض عليه رحمة من رحماته، ليس بالضرورة أن يحقق مطلبه، لكنّه بالضّرورة يفيض عليه رحمة من رحماته، الله لا يخلف وعده، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إجابة الدّعاء ليست بمعنى أن يحقق مطلبك ويحقق مقصودك، لكن معنى إجابة الدّعاء أنّه لا يصدر منك دعاءٌ حتى تحلّ عليك رحمة من الله، حتى تفاض عليك رحمة من الله تبارك وتعالى، الدّعاء طريقٌ لإفاضة الرّحمة، طريقٌ لإفاضة الكلام، طريقٌ لِأنْ يُسْبِغ عليك الله كلامه وفيضه ورحمته، إذن إذا أردت أن يكلّمك الله فعليك بالدّعاء، إذا أردت أن يكلمك الله فعليك بالدّعاء الخاشع، الدّعاء الخاشع طريقٌ لكلام الله، طريقٌ لإفاضة الرّحمة، ومن وهب عمره وقطع عمره في الدّعاء وفي الخشوع أصبح إنسانًا مقدّسًا لأنّه أصبح وعاءً لفيض رحمة الله ولفيض كلام الله تبارك وتعالى.

النقطة الثالثة:

الآية المباركة تتحدّث عن أوّل مشروع حصل على الأرض ألا وهو مشروع تجديد بناء البيت الحرام، هذا أوّل مشروع، وقام إبراهيم بهذا المشروع «بناء البيت الحرام»، القرآنُ الكريمُ يصف إبراهيمَ وهو يباشر هذا المشروع ويبدأ هذا المشروع ويواصل هذا المشروع ويستمرّ في هذا المشروع، يصفه مقترنًا بالدّعاء، ما انفصل إبراهيمُ لحظة من اللحظات وهو يبني الكعبة عن الدّعاء والتضرّع ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، يعني لم ينفصل بناؤه ولم ينفصل مشروعه ولم تنفصل حركاته ولم تنفصل تصرّفاته كلّ لحظةٍ مرّت عليه كانت مضمّخة بالدّعاء «مقترنة بالدّعاء»، ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

من هنا نستفيد فائدة روحيّة لابدّ أن نلتفت إليها في مشاريعنا، في أعمالنا، في قضايانا، هذه الفائدة الرّوحيّة: يجب أن تبقى مشاريعنا الخيريّة والاجتماعيّة مشاريع إلهيّة إلى آخر أمدها، لا أن تنفصل عن التعلق بالله في لحظةٍ من لحظاتها، كثيرٌ منا مع الأسف يفتتح مشروعًا خيريًا «يفتتح مشروعًا اجتماعيًا» لكنه إذا استمرّ في المشروع غلبت النزعة الذاتيّة على النزعة الرّوحيّة، غلبت النزعة الشخصيّة على النزعة الإلهيّة، بعد استمراره في المشروع تنقلب النوايا، تتغيّر الأهداف، تتحوّل المآرب فتتغلب النزعة الشخصيّة على النزعة الرّوحيّة، وهذا مرضٌ خطيرٌ جدًا لابدّ أن تركّزوا عليه، أنا عندما أسّس مأتمًا لماذا أسّستُ المأتم؟! قربة لله تبارك وتعالى، إحياءً للشعائر الإلهيّة، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، بمجرّد أن أستمرّ في المأتم، تأسّس المأتم، أصبح لديّ مأتم، أصبحت الناسُ تأتي إليّ، أصبحت الناسُ مثلاً تتوافد على هذا المأتم، تبدأ الدّوافع الشخصيّة تصارع الدّوافع الإلهيّة، تبدأ الدّوافع الشخصيّة تقاوم الدّوافع الرّوحيّة إلى أن تطغى النزعة الشخصيّة على النزعة الرّوحيّة، وهناك مظاهر جليّة في مجتمعاتنا لغلبة النزعة الشخصيّة على النزعة الرّوحيّة، ما هي هذه المظاهر؟

المظهر الأوّل: أنّني بمجرّد أن أستمرّ في هذا المشروع خلاص أعتبر المشروع ثوبًا من ثيابي! وولدًا من أولادي! وجزءًا من كياني! لا أتنازل عنه ولا أتراجع عنه! خلاص صار ملكي بعد انتهى! كثيرٌ من الناس هكذا: يؤسّس مشروعًا خيريًا ثم يظنّ أنّه أصبح ملكه لا يجوز لأحدٍ أن يحلّ محله ولا يجوز لأحدٍ أن يقوم مقامه! «لا! هذا مشروعنا نحن! هذا نحن الذين تعبنا عليه! هذا نحن الذين بذلنا جهودنا فيه! كيف نتنازل عنه إلى غيرنا؟! كيف نتركه لغيرنا؟!..» وكأنّ المشاريع الخيريّة إرثٌ عائليٌ! أو أنّ المشاريع الخيريّة ملكٌ شخصيٌ! أو أنّ المشاريع الخيريّة تركة يتوارثها الحفيدُ عن أبيه والأبُ عن جدّه! هكذا؟! أم أنّ المشروع الخيري ارتباط بالله عزّ وجلّ؟ ليس المهمّ أنا أن أكون في المشروع، ليس المهم أنا أن أكون في المأتم، ليس المهم أنا أن أكون في المسجد، ليس المهم أن أكون في الجمعيّة الخيريّة، ليس المهم أنا أن أكون في الحملة الخيريّة، ليس المهم أنا أن أكون في الصندوق الخيري، المهم أن يكون هذا المشروع لله وفي سبيل الله، ليس المشروع إرثًا شخصيًا حتى أتشبثت به ولا أتنازل فيه ولا أتراجع عنه لأنه ملكي أو إرثي أو ثوبٌ من ثيابي أو تاجٌ من تياجي أو ما أشبه ذلك، لا، هذا مظهرٌ لغلبة النزعة الشخصيّة على النزعة الرّوحيّة.

المظهر الآخر: أنا الآن أسّستُ مشروعًا، ماذا؟ أسّستُ صندوقًا خيريًا، صح لو لا؟! بمجرّد أن يقوم جماعة قربة إلى الله يؤسّسون صندوقًا آخر ماذا يحدث عندي؟! «أوهو! خسّرونا هؤلاء! خرّبوا علينا شغلنا! عَمِلُوا وعَمِلُوا..»! وهنا بمجرّد أن يتصدّى الآخرون لمشروع مشابهٍ لمشروعي اعتبرتُ ذلك صارعًا! واعتبرتُ ذلك شنّ حربٍ! واعتبرتُ ذلك بداية لمعركةٍ عنيفةٍ حادّةٍ بيني وبين الآخرين! لماذا؟! لأنّ الآخرين قربة لله تصدّوا لإقامة مشروع كمشروعي هذا! وهنا أبدأ أنا أكيد لهم وهم يبدؤون يكيدون لي وكلٌ يخطط لإفشال مشروع الآخر ولإظهار مشروعه هو المشروع الأوحد وهو المشروع السّاطع الغالب في السّاعة سواءً كان في المآتم أو في المساجد أو في المشاريع الخيريّة الأخرى أو في الجمعيّات الخيريّة الأخرى.. هذا التنافس الذي يصل إلى حدّ الصّراع ويصل إلى حدّ أنّني أسعى لإفشال مشروعك وأنت تسعى لإفشال مشروعي دليلٌ على ماذا؟ دليلٌ على أنّ النزعة الرّوحيّة تضاءلت واضمحلت وتحوّلت إلى نزعةٍ شخصيّةٍ، اعتبرتُ هذا المنصب منصبًا شخصيًا! أنا مدير مأتم! أنا مدير مسجد! أنا مدير جمعيّة! أنا مدير حملة! أنا مدير صندوق خيري! خلاص هذا لا يتغيّر! أكيد لك وتكيد لي!.. لِمَ؟! لأنّنا أصبحنا في مناصبَ شخصيّةٍ!!

المظهر الثالث: أنّنا إذا قمنا على المشاريع لماذا لا نقبل النقد؟! لماذا لا نقبل النقد من الآخرين؟! لماذا لا نقبل الملاحظات البنّاءة من الآخرين؟! لماذا لا نتعامل مع هذا المشروع معاملة الشفافيّة ومعاملة التواضع؟! بمجرّد أن نمتلك المشروع خلاص بعد لا نسمع نقدًا! لا نقبل ملاحظة! لا نعامل الناس إلا معاملة خشنة!.. لماذا نترفع ونعتبر كأنّ هذا المشروع أورثنا منصبًا اجتماعيًا ليس لأحدٍ غيرنا؟! هذا أيضًا مظهرٌ من مظاهر غلبة النزعة الذاتيّة على النزعة الرّوحيّة.

إذن إذا أردنا أن نتعلم من قصّة إبراهيم الخليل كيف بنى الكعبة وكيف أسّس هذا المشروع وكيف دخل في هذا المشروع نتعلم منه استمرار الجوّ الرّوحي إلى آخر لحظات المشروع، نبقى متفاعلين مع الله، نبقى مرتبطين مع الله، يبقى همّنا هو رضا الله، يبقى همّنا هو الوصول إلى ثواب الله، يبقى همّنا هو أن ينتج هذا المشروع وأن يثمر هذا المشروع لله وفي سبيل الله بنا أو بغيرنا، لابدّ أن تكون الأجواء الرّوحيّة مسيطرة علينا مخيّمة علينا لا أن تسيطر علينا نزعاتنا الشخصيّة وأهواؤنا الذاتيّة ورغباتنا النفسيّة.

والحمدلله رب العالمين