الشعائر الإلهية في الرحاب الحسينية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

يمرّ علينا ذكر يوم الغدير وترتبط ذكراه بالخطبة الشقشقيّة التي صدرت على لسان أمير المؤمنين وهو يتحدّث عن منصبه الذي أعدّه الله له في هذا اليوم وهو يوم الغدير، هذه الخطبة الشقشقيّة التي اشتهرت واشتهر بها أميرُ المؤمنين ، هنا سؤالٌ يطرحه كثيرٌ من الباحثين ويطرحه كثيرٌ من الألسن.

هل كان الإمام علي يحبّ منصب الخلافة حتى يتأسّف عليه؟! هل كان الإمام عليٌ مشغوفًا بحبّ منصب الخلافة ومشغوفًا بحبّ كرسيّ الخلافة ومشغوفًا بحبّ عرش الخلافة حتى يتأسّف ويتندّم ويتظلم ويقول كلّ هذه الكلمات التي تكشف عن أسفٍ عميق وحسرةٍ كبيرةٍ «كيف ذهب هذا المنصب؟! وكيف أخِذ منه هذا المنصب؟! وكيف صبر ثلاثين أو خمسًا وعشرين سنة حتى قال: ”فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة“؟!»؟! هل هذا كله حبٌ وعشقٌ وغرامٌ بالمنصب والكرسيّ وهو الذي يقول لابن عبّاس ما قيمة هذا النعل «نعله»؟ يُخْرِجُ نعله ويقول لابن عبّاس: يا ابن عبّاس ما قيمة هذا النعل؟ قال: لا قيمة لها سيّدي، قال: ”إنّها - هذه النعل - أهمّ عندي من إمرتكم لولا أن أقيم حقًا أو أدفع باطلاً“، أمير المؤمنين الذي يقول: ”وما أصنع بفدك وغير فدك..“ لما جاءت الخلافة إليه قالوا له: أرجع فدكًا، فدك نخيلٌ له حصادٌ كبيرٌ، له واردٌ جليلٌ، أرجعه تستفيد من أمواله، قال: ”وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غدٍ جدث؟!“، أمير المؤمنين الذي قال: ”يا بيضاء يا صفراء إليك يا دنيا غرّي غيري لقد بِنْتُكِ ثلاثًا“ هذا الشخص كيف يتحسّر على منصب الخلافة وكيف يتظلم على فوات منصب الخلافة وكيف يلقي هذه الخطبة الطويلة أمام الأشهاد وعلى منبر الكوفة يتظلم على فوت منصب الخلافة من عنده: ”لقد تقمصها ابن أبي فلان وهو يعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير“؟!

هنا ثلاثة أجوبة على هذا السؤال المطروح:

الجواب الأوّل:

لابدّ لكلّ أمّةٍ رشيدةٍ ولكلّ مجتمع رشيد أن يدوّن تاريخيه سلبيّاته وإيجابيّاته، التاريخ لا يمكن إغفاله، التاريخ لا يمكن غضّ النظر عنه، كلّ أمّةٍ تخطط للمستقبل، كلّ مجتمع يخطط للأجيال القادمة لابدّ أن يدوّن تاريخه سلبيّاته وإيجابيّاته، جميع أحداث التاريخ لابدّ من تدوينها حتى تقرأها الأجيالُ القادمة بكلّ دقةٍ وبكلّ تأمّل وتعرف مسيرة التاريخ بأبطاله وأقزامه ومنتصريه ومنهزميه، الأمّة الرّشيدة هي التي تكتب التاريخ، هي التي تدوّن أحداث التاريخ.

أمير المؤمنين من هذا المنطلق كان لابدّ أن يتحدّث عن الخلافة، أمير المؤمنين رأى الناس رضيت بالواقع الذي عاشت فيه، خمسًا وعشرين سنة أمير المؤمنين لم تكن بيده أعباء الخلافة ولا مقاليد الأمور، ولكنّ الناس رضيت بالواقع ومشت معه وسايرته ولم تسأل: ما هو برهان هذا؟ وما هو دليل هذا؟ وما هي الحجّة على هذا؟ الناس رضوا بالتاريخ فلم يحاولوا كتابته ولم يحاولوا تدوينه ولم يحاولوا الوقوف على نقاطه والتأمّل في شتى حروفه، نسوا خطبة الزهراء، نسوا خطبة فدك، نسوا ما جرى على علي واعتبروها أشياء مرّت عابرة لا يجب التأمّل فيها ولا يحسن الوقوف عندها!

من هنا رأى الإمامُ عليٌ أنّ مسؤوليته الشرعيّة تفرض عليه أن يتحدّث عن التاريخ تاريخ الخلافة منذ بدايتها وحتى ما وصلت إليه، رأى الإمام عليٌ أنّ الأمّة تريد أن تنسى هذا التاريخ، تريد أن تُسْدِلَ الستارَ عليه، تريد أن تغضّ عنه حتى لا يُعْرَفَ سقيمه وصحيحه وبطله وقزمه، لذلك رأى المسؤوليّة الشرعيّة تخطيطًا للمجتمع وتنويرًا للأجيال القادمة وتوعية لكلّ باحثٍ إذا أراد أن يقرأ صفحة التاريخ، رأى من مسؤوليّته الشرعيّة أن يتحدّث عن تاريخ الخلافة كيف بدأ وكيف انتهى إليه صلوات الله وسلامه عليه.

مسؤوليّة شرعيّة الحديث عن التاريخ، ربّما يأتي أجيالٌ قادمة يقولون: نعم عليٌ رضي بالواقع كما رضي غيره! عليٌ.. كما قالوا، هم قالوا أيضًا كذلك، عليٌ بايع كما بايع غيره ورضي بالواقع كما رضي غيره فمعناه أنّ المسيرة كانت مسيرة قويمة ومسيرة صحيحة ومسيرة عادلة لأنّ عليًا بايع ورضي كما رضي غيره! عليٌ أراد أن يقول: لا، هناك موقفٌ وهناك مصالح وهناك مزاحمات، لابدّ أن أتحدّث لكم عن التاريخ حتى تكتشفوا فلسفة سكوتي، حتى تكتشفوا فلسفة عدم مقاومتي، حتى تكتشفوا فلسفة مسايرتي، كانت لها فلسفة مبنيّة على رعاية المصالح العامّة للمجتمع الإسلامي، ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جورٌ إلا عليّ خاصّة“.

إذن من واجبنا كأمّةٍ أن نقتدي بعلي ، أن نكتب تاريخنا بسلبيّاته وإيجابيّاته، أن نكتب الأحداثَ التي تمرّ علينا وما صار فيها وما جرى فيها وأبطالها وأقزامها حتى تستفيد الأجيالُ من هذا التاريخ، وحتى يعرفوا فلسفة التاريخ والعوامل التي تحكّمت في مسيرته نهوضًا وإخفاقًا، بروزًا ونزولًا، حتى تعرف الأممُ بعدنا مدى تاريخنا، لابدّ لنا من تدوين تاريخنا.

ومن هذا المنطلق أميرُ المؤمنين تحدّث عن تاريخ الخلافة ولم يكن تظلمًا على شخصه أو تظلمًا على نفسه وإنّما تظلمٌ على التاريخ الذي صار بهذه المسيرة وتحكّمت فيه هذه العوامل وتظلمٌ على الأمّة المسكينة أمّة محمّدٍ التي خسرت النهر الفيّاض الذي يمدّها بالعلم والعدالة والتقوى ألا وهو أمير المؤمنين كما قالت الزهراء : ”أنى زحزحوها عن رواسي الرّسالة وقواعد النبوّة والدّلالة ومهبط الروح الأمين والطبن بأمور الدّنيا والدّين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وماذا نقموا من أبي الحسن؟!“ ما هو الغيب في أبي الحسن؟! ”وماذا نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله، أمّا واللهِ لو سلموها أبا الحسن لسار بهم سجحًا لا يكلم خشاشه، ولا يملّ راكبه، ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرًا وإعلانا“.

الإجابة الثانية عن هذا السؤال:

تعرفون أنّ أساس الخلاف بين المذهب الشيعي وبين المذاهب الأخرى هي كلمة واحدة: هل الخلافة بالنص أو بالانتخاب؟ هذا هو أساس الخلاف، من قال أنّ الخلافة بالنص فهو شيعيٌ ومن قال أنّ الخلافة بالانتخاب فليس بشيعي، الخلافات الأخرى خلافات فرعيّة جزئيّة، الخلاف الأساسي الذي يفصل الشيعي عن غيره هو هذه الكلمة: هل الخلافة بالنص أو الخلافة بالانتخاب؟ هو هذه الكلمة الفاصلة، كثيرٌ من الباحثين قال: لو كانت الخلافة بالنص لاحتجّ أميرُ المؤمنين، عليٌ لم يحتج، عليٌ لم يحتج على القوم ولم يقل: أيها الناس أين النص؟! ألم ينصّ عليّ رسولُ الله في يوم الغدير ويوم الدّار ويوم المنزلة ويوم حنين ويوم الخندق؟! لم يذكر عليٌ نصوصًا، عليٌ قال: أنا أولى من غيري، لكن لم يقل: هناك نصٌ عليّ، كثيرٌ من الباحثين يقول: لو كانت الخلافة بالنص لكان أولى من يحتجّ بذلك هو عليٌ نفسه، بينما عليٌ لم يحتج، لم يقل: هناك نصوص، قال: أنا أولى من غيري بالخلافة، إذا كان عليٌ نفسه لم يحتج بالنص فهذا دليلٌ على أنّ الخلافة انتخابٌ وليست مسألة نصب واختيار من قِبَلِ الله.

هذا السؤال مازال يُطرَح إلى يومنا هذا، وهذا التصوّر مازال يُرْسَم إلي يومنا هذا، أمير المؤمنين أراد أن يزيل هذا التصوّر، أنني أحتجّ على ذلك، لا تتصوّروا أنّني لن أحتجّ بل احتججتُ على الوضع، بل احتججتُ على ما حصل وما صار.

فإنْ كنتَ بالشورى حججتَ خصيمهم

وإنْ  كنتَ  بالقربى  حججتَ iiخصيمه

 
فكيفَ   بشورى  والمشيرونَ  iiغيّبُ

فغيركَ     أولى     بالنبي     iiوأقربُ

أمير المؤمنين قد احتجّ والاحتجاج الواضح على أنّ خلافته بالنص هو هذه الخطبة الشقشقيّة، إذن الخطبة الشقشقيّة لم تصدر عن علي جزافًا ولم تصدر عن علي لمجرّد حسرةٍ! أو لمجرّد غليان عاطفي! أو لمجرّد شوق نفساني! لا، صدرت عن علي كاحتجاج أنّ الخلافة بالنصّ وليست الخلافة بالانتخاب، الغرض من الخطبة الشقشقيّة أن يحتجّ عليٌ على ما صدر ليبيّن أنّ الخلافة بالنصّ وليست الخلافة بالانتخاب، أين موضع الاحتجاج؟

موضع الاحتجاج في أوّل هذه الخطبة، لاحظوا عبارة أمير المؤمنين : ”فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى فصبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي“، «تراثي» ما معنى كلمة التراث؟ هذا معنى النصّ، ”أرى تراثي نهبًا“ فالإمام أمير المؤمنين يشير إلى مفهوم قرآني، ما هو هذا المفهوم القرآني؟

هذا المفهوم القرآني هو الذي قال عنه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ من؟ هناك جماعة اصطفاهم اللهُ، يعني: اختارهم، اختارهم للإمامة، ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ - من هم آل إبراهيم ومن هم آل عمران؟ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [1] ، يعني تراث متواصلٌ من إبراهيم لأولاده، من أولاده إلى النبي محمّدٍ ، من محمّدٍ إلى أولاده إلى ذرّيته، هذه الشجرة المباركة، الشجرة التي اصطفاها اللهُ واختارها من بين الخلق وقال عنها القرآنُ الكريمُ: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ يعني بعضها يرث بعضًا، بعضها يلي بعضًا، ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ هذا هو التراث، ”أرى تراثي نهبًا“ أنا من الشجرة التي اصطفاها الله وأمدّها بالعلم وأمدّها بالعصمة وأمدّها بالتقوى وأمدّها بجميع المواصفات واختارها ونصّ عليها، فأنا من هذا التسلسل، أنا من هذا التراث، أنا من هذه الشجرة، ”أرى تراثي نهبًا“.

أنتم تقرؤون في زيارة الحسين ماذا؟ ”السلام عليكم يا وارث آدم صفوّة الله.. وراث نوح نبي الله.. وارث إبراهيم خليل الله.. وارث موسى كليم الله.. وارث عيسى روح الله.. وارث محمّدٍ حبيب الله.. وارث أمير المؤمنين وليّ الله“ مسألة شجرة متسلسلة اختارها اللهُ واصطفاها للعلم والعصمة والإمامة، إذن إذا كنتُ أنا من هذه الشجرة من أهل البيت الذين اختارهم الله واصطفاهم للإمامة فهذا تراثي ”أرى تراثي نهبًا“، إذن الإمام أمير المؤمنين من خلال هذه الفقرة يبيّن أنّ الخلافة اختيارٌ من الله، الخلافة اصطفاءٌ من الله، وليست الخلافة بالانتخاب وليست الخلافة بالشورى، إعلانٌ.

إذا كان عليٌ قد أصرّ على الإعلان، خمس وعشرين سنة وهو يصرّ على أنّ الخلافة بالنصّ وليس بالشورى، إلى أن أمسك بزمام الخلافة ومع ذلك صعد المنبر وتلا هذه الخطبة الشقشقيّة: الخلافة بالنصّ لا بالانتخاب.. إذا كان عليٌ يصرّ على ذلك فكيف نحن لا نسير على مسيرة علي؟! وكيف لا نحتفل بعيد يوم الغدير لنعلن للأمّة جمعاء أنّنا مازلنا على الخطبة الشقشقيّة؟! نحن نحتفل بعيد يوم الغدير لنؤكّد لجميع أفراد الأمّة أنّنا على خط الخطبة الشقشقيّة، أنّنا على مسيرة الخطبة الشقشقيّة، أنّنا نعلن أنّ الخلافة بالنصّ وليست بالانتخاب، أنّنا نشهد في أذانا، في صلواتنا، في إقامتنا أنّ عليًا ولي الله، أنّ عليًا أمير المؤمنين.

تتصوّرون أنّ علماءنا عندما يقولون: الشهادة الثالثة مستحبّة، صحيحٌ ليست جزءًا من الأذان لكنها مستحبّة، علماؤنا عندما يقولون: الشهادة الثالثة لها أجرٌ كبيرٌ، السيّد الحكيم قدّس سرّه في كتاب المستمسك يتحدّث عن الشهادة الثالثة ويقول: «أصحبت الآن شعار التشيّع في أعصارنا هذه»، الشهادة الثالثة شعار التشيّع، لماذا؟

لأنّ الشهادة الثالثة هي الخطبة الشقشقيّة، لأنّ الشهادة الثالثة هي يوم الغدير، لأنّ الشهادة الثالثة امتدادٌ لهذا الصّوت وامتدادٌ لهذا الخط وامتدادٌ لهذا النهج، الوسيلة الإعلاميّة الوحيدة التي من خلالها نحن نبلغ صوت علي هي الشهادة الثالثة، الوسيلة الإعلاميّة الوحيدة التي من خلالها نبلغ صدى علي ونبلغ كلام علي هي الشهادة الثالثة، فالشهادة الثالثة مستحبّة وذات أجرٍ وذات ثوابٍ لأنها تُبْرِز صوتَ علي وتؤكّد يوم الغدير بحيث لا يُنْسَى ولا يُتُنَاسَى ولا يُغْفَل عنه.

ويوم الدّوح دوح غدير خم

ولكنّ   الرّجال   iiتدافعوها

 
أبان  له الخلافة لو iiأطيعا

فلم  أرَ  مثله  حقًا  iiأضيعا

الجواب الثالث الذي نجيب به عن هذا السؤال:

كثيرٌ من الباحثين يطرح الآن: لماذا البحث في الإمامة؟! ما هي الحاجة للبحث حول الإمامة؟! مسألة الإمامة مسألة تاريخيّة ونحن لا نستطيع أن نغيّر التاريخ، عليٌ كان يرى نفسه أولى بالخلافة وغيره تصدّى للخلافة ورضيت الناسُ بالواقع الذي عاشت فيه ومشى التاريخ على هذا ونحن لا يمكننا تغيير التاريخ، هكذا التاريخ مشى فلماذا البحث في مسألة تاريخيّة عفا عليها الزمن؟! لماذا نظلّ كلّ عام ونظلّ كلّ يوم ونظلّ كلّ ساعة نقول: لا! لا! لا! الخليفة عليٌ! الخلافة بالنص! الخلافة ليست بالانتخاب!.. لماذا؟! وما الفائدة وما الجدوى؟! هكذا مشى التاريخ فهل تستطيعون أن تغيّروا صفحة التاريخ؟! هكذا جرى تاريخ الأمّة الإسلاميّة فهل تستطيعوا أن تقلبوا وجه التاريخ؟! لا، إذن ما هو الداعي لإثارة المسألة في مسألةٍ تاريخيّةٍ إثارتها تثير الضغائن وتثير الأحقاد وتثير التفرقة بين المسلمين وتثير التشنج بين المسلمين؟! لنترك هذه المسألة ونُسْدِل عليها الستار ونتحدّث عن واقعنا الحاضر، واقعنا الحاضر يحتاج إلى أن ننهض به، يحتاج إلى أن نقوّم حضارته، يحتاج إلى أن نبني كيانه، لنصبّ جهودنا وطاقاتنا وأوقاتنا في بناء حاضرنا وفي سبيل بناء كياننا الحضاري ونترك مسألة الإمامة ونُسْدِلُ عليها الستار، هي مسألة تاريخيّة تثير البغضاء فلا حاجة لإثارتها.

ربّما يطرح هذه الفكرة بعض الباحثين وبعض الأقلام، ولكن التفتوا يا إخوان ليس مسألة الإمامة مسألة تاريخيّة، الاختلاف حول الإمامة ليس اختلافًا تاريخيًا، اختلافٌ منهجيٌ وليس اختلافًا تاريخيًا، لماذا اختلاف منهجي؟

دعني أشرح لك، الآن في هذا العصر عصر الفضاء وعصر العولمة المدّ الإسلاميُ والحركة الإسلاميّة تتنامى وتكبر في هذا العالم، في كلّ منطقةٍ من العالم تسمع: هناك مدٌ إسلاميٌ وهناك تنامٍ إسلامي حتى في قلب الدّول الغربيّة، السؤال المطروح عالميًا يطرحه جميعُ وسائل الإعلام في العالم، يقولون: نحن نعرف العلمانيّة برنامجها معروفٌ، الرأسماليّة برنامجها معروفٌ، المدّ الإسلامي ما هو برنامجه؟ كلّ شخص يطرح نفسه على العالم لابدّ أن يقدّم برنامجه، ما هو برنامجه؟ هناك ثلاثة أسئلة تطرحها وسائلُ الإعلام: ما هو برنامجكم في الحكم؟ ما هو برنامجكم في الاقتصاد؟ ما هو برنامجكم في الحقوق «خصوصًا حقوق المرأة، سؤالٌ دائمُا مطروحٌ»؟ أيّ مدّ، أيّ تيّار ينهض، افترض مثلاً التيّار الشيوعي لمّا طرح نفسه على السّاحة العالميّة سألوه: قدّم لنا برنامجك في الاقتصاد، قدّم لنا برنامجك في الحكم، قدّم لنا برنامجك في الحقوق «خصوصًا حقوق المرأة»، طرح برنامجًا، المدّ العلماني عندما نهض وطرح نفسه تيّارًا على العالم سألوه عن برنامجه، فطرح برنامجه، التشيّع أيضًا خط، التشيّع أيضًا برنامجٌ، التشيّع أيضًا أطروحة، هؤلاء الشيعة الذين يعيشون في كذا وكذا من رقعة الأرض ما هو برنامجهم؟ التشيّع هل هو مذهبٌ طقوسيٌ وشعائريٌ أم أنّه لا، مذهبٌ له فلسفة، وله جذورٌ، وله فكرٌ، وله أطروحات، وله مباني، وله قواعد معيّنة.. التشيّع ما هي أطروحته؟ ما هو برنامجه؟ ما هو برنامج التشيّع في الاقتصاد؟ ما هو برنامج التشيّع في القضاء؟ ما هو برنامج التشيّع في حقوق المرأة؟ ما هو برنامج التشيّع في حقوق الطفل؟ ما هو برنامج التشيّع في كثير من الحقوق؟

إذن التشيّع ما طرح نفسه كطقوس وشعائر، وإنّما التشيّع طرح نفسه على السّاحة العالميّة كخط، إذن لابدّ أن يكون له برنامجٌ، فما هو برنامجه؟ من هنا تأتي مسألة الإمامة، التشيّع عندما يريد أن يطرح برنامجه من أين يأخذ برنامجه؟! من أين؟! نحن الآن كشيعةٍ من أين نأخذ برنامجنا في الاقتصاد؟! من أين؟! من كلمات ابن مسعود؟! أو كلمات عبد الله بن عمر؟! أو كلمات عبد الله بن عبّاس؟! من أين نأخذ برنامجنا؟! نحن عندما نريد أن نتحدّث عن حقوق المرأة في ضوء مذهب التشيّع من أين نأخذ هذه الفلسفة؟! ممّن؟!

إذن بالنتيجة: ظهرت الثمرة في مسألة الإمامة، نحن نصرّ: برنامجنا كتشيّع هو برنامج علي بن أبي طالب، منهجنا في الاقتصاد، في المرأة، في الحقوق، في القضاء، في جميع المجالات هو منهج علي بن أبي طالب، إذن صارت مسألة الإمامة مسألة ضروريّة، صار الاختلاف اختلافًا منهجيًا وليس اختلافًا تاريخيًا، إذن ليس الخلاف بين علي وغيره خلافًا شخصيًا وخلافًا تاريخيًا، ليس الخلاف بين علي وغيره خلافًا مرّ عليه الزمن ونُسِيَ، لا، الخلاف بين علي وغيره باقٍ إلى أن يقوم مهديّ هذه الأمّة ويطبّق منهج علي بن أبي طالب، خلاف علي وغيره خلافٌ منهجيٌ، عليٌ كان له منهجٌ، منهجٌ في الاقتصاد، منهجٌ في القضاء، منهجٌ في المرأة، منهجٌ في المجتمع.. وقد ذكر منهجه من خلال كتابه «نهج البلاغة» فراجعوه.

إذن نحن عندما نصرّ: أيّها الناس هل الخلافة بالنصّ أو الخلافة بالشورى؟ ليس غرضنا من إثارة هذا البحث التفرقة بين المسلمين، فإنّنا أوّل من نادى بالوحدة والتقريب بين المسلمين، وعليٌ أوّل من سالم وأوّل من قال: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين“، إذن نحن لا ندعو للتفرقة ولا ندعو لإثارة البغضاء ولا ندعو لإثارة الأحقاد ولكننا عندما نبحث هل أنّ الخلافة بالشورى أو بالنصّ نريد أن نقول: هل المنهج الذي يجب أن يتبّع هو منهج علي أو منهج غيره؟ هل المنهج المطروح عالميًا هو منهج علي أو منهج غيره؟

إذن نحن نريد أن نؤكّد في بحثنا وعندما نتعرّض للخطبة الشقشقيّة وغيرها أنّ الخلاف منهجيٌ وليس الخلاف شخصيًا، أنّ الخلاف منهجيٌ وليس الخلاف تاريخيًا وأنّ منهجنا هو منهج علي بن أبي طالب، لاحظوا الإمام علي في الخطبة الشقشقيّة يؤكّد أنّ الاختلاف اختلافٌ في المنهج وليس الخلاف خلافًا شخصيًا، لاحظوا ماذا يقول، يقول: ”أمّا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله - هذا هو منهج علي ، يقول: هذا هو منهجي الذي اختلفتُ فيه مع غيري - وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظة ظالم ولا على سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها“، عليٌ يقول «يشرح منهجه»: ”وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله“ يعني هذا العمل غير صالح، هذا المنهج مرفوضُ عندي، منهجي يختلف عن هذا المنهج، ولذلك أنا أتكلم في هذه الخطبة الشقشقيّة لاختلاف منهجي عن هذا المنهج.. يقول في نفس الخطبة: ”فمُنِيَ الناسُ“ يعني المنهج هذا أثر على الناس، المنهج الذي لا أرتضيه أثر على الأمّة، ”فمُنِيَ الناسُ لعمر الله بخبطٍ وشماسٍ وتلوّن واعتراض، فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة“ هذه ليست محنتي أنا، محنة الناس، محنة الأمّة، ”فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة“، إذن عليٌ يشرح من خلال الخطبة الشقشقيّة أنّ الخلاف منهجيٌ وليس الخلاف شخصيًا، لذلك أصرّ على هذه الشقشقة التي هدرت ثم قرّت، يوم الغدير وما أدراك ما يوم الغدير!

ففي   يوم  الغدير  غدير  iiخم

أتى  جبريل  من  ربّ iiالبرايا

هناك  دعا  اللهم  والِ  iiوليّه



 
لقد نصّ الرسولُ على الأميرِ

بأمرٍ   جلّ   من   أمرٍ  خطيرِ

وكن للذي عادى عليًا iiمعاديًا

عندما يمرّ علينا يوم الغدير فهو يوم البيعة، يوم المعاهدة الذي نعاهد فيه عليًا بن أبي طالب على أنّ منهجنا منهجه وخطنا خطه وسبيلنا وسبيله وعلى أنّنا على إمامته حتى يقوم مهديّ هذه الأمّة فيملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا جورًا، اللهم اجعلنا من العلويّين، اللهم اجعلنا من المهديّين، اللهم اجعلنا من السائرين على خطاهم والمقتفين إثر سبيلهم يا ربّ العالمين.

والحمد لله ربّ العالمين