الدين من وحي الفطرة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

تحدثنا في الأسبوع الماضي أنّ من جملة معاني الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [2] ، قلنا بأنّ من المعاني للآية المباركة أنّ المقصود بالأميين: الفطريون، أي أنّ النبي بُعِثَ من نخبةٍ فطريّةٍ بدين فطري ينسجم مع فطرة الإنسان ومع سليقة الإنسان، هذا الطرح الذي طرحناه أصبح مثارًا لعدّة استفهاماتٍ وأسئلةٍ تتعلق بفطريّة الدّين:

السؤال الأول: هل أنّ الدين الفطري كان منسجمًا مع المجتمع الجاهلي الذي بُعِثَ فيه هذا الدّين؟

نحن نفسّر الأميّين بالفطريين، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني: بعث في الفطريين رسولاً فطريًا يأتي بدين فطري، السؤال هو: هل كان المجتمع الجاهلي مجتمعًا فطريًا؟! المجتمع الجاهلي الذي كان مجتمعًا وثنيًا تتحكّم فيه رواسب الوثنيّة، المجتمع الجاهلي الذي كان يتنكر للأخلاق الإنسانيّة، كان يئد الفتاة وهي حيّة، كان يميّز بين الألوان وبين القبائل وبين الأصناف والأجناس، المجتمع الجاهلي الذي كان مجتمعًا وثنيًا متنكرًا لكثيرٍ من الأخلاق الإنسانيّة كيف يُعْتَبَرُ مجتمعًا فطريًا وأنّ الرسول الأعظم محمدًا قد بُعِثَ في هذا المجتمع الفطري بدين فطري؟!

إذن لابدّ لنا أن نركّز بقليلٍ من الوقت وبقليلٍ من العقل على معنى فطريّة الدّين، ما معنى أنّ الدّين فطريٌ حتى يقول بأنّه انسجم مع المجتمع الفطري؟ ما معنى فطريّة الدّين؟

لأجل أن نعرف هذا المعنى لابدّ من عرض أمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: فطريّة الجهاز الموجود عند الإنسان، كيف يعني؟

كلّ مخلوق من المخلوقات وُجِدَ لأجل غايةٍ ولأجل هدفٍ، هذه البذرة التي تُوضَع في الأرض وتعطى سمادًا وتعطى ماءً وتعطى أكسجين وتعطى وتعطى.. هذه البذرة التي تلقى في الأرض، هذه البذرة خُلِقَت لغايةٍ وهي أن تصبح ثمرة مثمرة، لأنها خُلِقَت بهدفٍ وهو أن تصبح شجرة مثمرة جهّزها خالقها من أوّل يوم بما ينسجم مع هذا الهدف، هذه البذرة جهّزت في باطنها بأجهزةٍ توصلها إلى هذا الهدف، فهذه البذرة تمتلك خصائص، تمتلك خصائص حيويّة وفيزيائيّة منذ تكوّنها، تلك الخصائص تؤدّي بها إلى هدفها وهو أن تصبح شجرة مثمرة.

الحيوان أيضًا، الحيوان خُلِق لغايةٍ «لهدفٍ»، منذ أن خلقه الله من أوّل يوم جهّزه، جهّز جسمه بأجهزةٍ تنسجم مع هدفه، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بالهداية العامّة: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [3] ، خُلِقَ وهُدِيَ، كيف خُلِقَ وهُدِيَ؟

يعني خُلِقَ مجهزًا بنظام، ذلك النظام وذلك الجهاز يؤدّي به إلى هدفه الذي خُلِقَ من أجله ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وقال القرآن الكريم: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [4] ، يعني كلّ مخلوق يمرّ بمرحلتين:

1. مرحلة الخلق «أنه خُلِقَ».

2. ومرحلة التقدير.

كما خُلِقَ أعْطِيَ جهازًا أيضًا ينسجم مع هدفه وغايته وهو مرحلة التقدير، ﴿خَلَقَ فَسَوَّى و﴿قَدَّرَ فَهَدَى.

الإنسان من بين هذه المخلوقات مثل النبات ومثل الحيوان، كما أنّ النبات له هدفٌ وقد جُهّز في داخله بجهازٍ يؤدّي به إلى الهدف الإنسان أيضًا كذلك، هذا الإنسان خُلِقَ لهدفٍ وجُهّز جسمه وجُهّز عقله وجُهّز عواطفه بأجهزةٍ دقيقةٍ إذا طبّقها أوصلته إلى الهدف الذي من أجله خُلِقَ هذا الإنسان، والآية المباركة تدلّ على ذلك: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [5] .

إذن الإنسان أيضًا من بين المخلوقات جُهّز جسمه، جُهّز عقله بما ينسجم مع الهدف الذي من أجله خُلِقَ، وهذا ما يسمّى عند العرفاء ب «الهداية العامّة»، وهذا ما يسمّى عند القرآن ب «الفطرة»، ما معنى الفطرة؟

معنى الفطرة أنّ الإنسان جُهّز بجهازٍ يُوصِله إلى هدفه، هذا هو معنى الفطرة، أنّ الحيوان جُهّز بجهازٍ يُوصِله إلى هدفه، أنّ النبات جُهّز بجهازٍ يوصله إلى هدفه، بل كلّ نوع يُجَهّز بالهدف اللائق به، جهاز النحلة يختلف عن جهاز النملة، يختلف عن جهاز الطير، يختلف عن جهاز الحيوان الوحشي.. كلّ حيوان جُهّز بأنيابٍ، بأظفار، بنوع من الجسم يتناسب وينسجم تمامًا مع هدفه الذي من أجله خُلِقَ ذلك الحيوان وخُلِقَ ذلك المخلوق.

إذن هذا الانسجام بين الجهاز وبين الهدف نعبّر عنه ب «الفطرة»، نعبّر عنه ب «الهداية العامّة»، «كلّ مخلوق هُدِيَ إلى هدفه» يعني: جُهّز بما يُوصِله إلى هدفه، «كلّ مخلوق وُجِدَ على الفطرة» يعني: وُجِدَ على جهازٍ إذا سار عليه أوصله إلى هدفه الذي من أجله خُلِقَ هذا الإنسان، هذا هو معنى الهداية العامّة ومعنى فطريّة الجهاز.

الأمر الثاني: الحاجة إلى النظام.

هذا الإنسان وُجِدَ، الفلاسفة يقولون: «سعة الوجود تستلزم سعة الحاجة»، كلما كان الموجود أوسع مساحة كانت حاجاته أكثر، سعة مساحة الوجود تعني سعة مساحة الحاجات وكثرة الحاجات، الإنسان مساحة وجوده أكبر من الحيوان، أكبر من النبات، لأنّ مساحة وجوده تمتدّ فحاجاته تمتدّ، سعة وجود الإنسان تعني أنّ حاجات الإنسان أكثر بكثير من حاجات النبات والحيوان، إذا كانت حاجات الإنسان أكثر الإنسان رأى أنّه يحتاج إلى مجتمع، وحده لا يستطيع أن يوفّر هذه الحاجات، بما أنّ وجوده أكبر فحاجاته أكثر، بما أنّ حاجاته أكثر وحده لا يستطيع أن يلبي هذه الحاجات وأن يوفرها وأن يضمنها، إذن هو يحتاج إلى زوج، من خلال التزاوج يستطيع أن يلبي معظمَ الحاجات، ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [6] ، احتاج إلى المجتمع الأسري لتلبية حاجاته، لمّا دخل المجتمع الأسري كثرت الحاجات أكثر وأصبحت حاجاته أعظم ممّا لو كان وحده، إذن الإنسان احتاج إلى المجتمع المدني لكي يقوم بتغطية حاجاته الفرديّة وحاجاته الأسريّة، احتاج إلى المجتمع المدني حتى يوفر له حاجاته، من هنا أصبح الإنسان في مأزق، وهو: التزاحم بين الحاجات، لأجل أن يقضي حاجاته لابدّ أن تكون على حساب حاجات غيره، لأجل أن يوفر حاجاته الشخصيّة توفير حاجاته الشخصيّة سوف يكون على حساب حاجات أسرته، توفير حاجات أسرته سوف يكون على حساب حاجاته، توفير حاجاته وحاجات أسرته سوف يكون على حساب حاجات مجتمعه، فوقع الإنسان في مأزق، ما هو؟ مأزق التزاحم بين المصالح، مأزق التزاحم بين الحاجات: حاجات الفرد، حاجات الأسرة، حاجات المجتمع، كيف يوفق بين هذه الحاجات؟! من هنا توصّل الإنسان بفطرته - لا يحتاج دينًا ولا يحتاج إلهًا يقول له، هو بفطرته يتوصّل إلى ذلك - أنا إنسان مساحة وجودي كبيرة، فأحتاج إلى حاجات كثيرة، أنا حاجاتي الكثيرة لا أستطيع أن أوفرها وحدي، أحتاج إلى أسرةٍ ومجتمع، الأسرة والمجتمع لا يستطيعان توفير الحاجات لأنّ الحاجات تتزاحم والمصالح يطغى بعضها على بعض، فأنا بطفرتي أقول: أحتاج إلى نظام عادل يوفق بين الحاجات الفرديّة والحاجات الاجتماعيّة، أحتاج إلى نظام دقيق يضمن لي الحاجات الفرديّة ويضمن لي الحاجات الأسريّة ويضمن لي الحاجات الاجتماعيّة من دون تشابكٍ ولا تداخل ولا طغيان بعضٍ على البعض الآخر.

إذن الإنسان بفطرته اهتدى إلى ضرورة وجود النظام الذي يقنن استخدام الحاجات وتوفير الحاجات والوصولَ إلى الهدف.

الأمر الثالث: كيف سيكون هذا النظام؟

هناك رؤيتان:

1 - رؤية أرضيّة «يعني خلقها العقلُ البشريُ».

2 - ورؤية سماويّة.

الرؤية الأرضيّة تخترع نظامًا، الرؤية السماويّة تخترع نظامًا آخر، نحن لا نريد أن ندخل في التفاصيل، نريد أن نشير إلى ما يرتبط بمحلّ البحث، النظام السماوي الذي نزل من السّماء يتميّز على النظام الأرضي الذي اخترعه ماركس ولينين واخترعه فلاسفة البشر، نظام السّماء يتميّز على نظام الأرض بميزتين:

الميزة الأولى:

نظام الأرض اخترع النظام على أساس الحياة الماديّة، يعني الحياة التي نحن نعيشها، خمسين سنة نعيش، سبعين سنة نعيش.. أيّ عمر نعيشه، اُخْتُرِعَ النظامُ الأرضيُ على ضوء هذه المسافة الزمنيّة التي نعيشها على الأرض، قُنِّنَت القوانين المدنيّة والاقتصاديّة والأسريّة على أساس المدّة الزمنيّة التي نعيشها على الأرض، هذا هو النظام الأرضي، النظام السماوي ماذا يقول؟

لا، يقول: أنت مسيرتك أطول، ليست مسيرتك خمسين سنة، لو كانت مسيرتك خمسين سنة لقننا لك نظامًا يتناسب مع مدّة خمسين سنة، أنت مسيرتك أطول، مسيرتك تمتدّ مليارات السنين، ملايين السنين، أنت بدأت من عالم الذرّ قبل هذه الخمسين سنة، وستبقى تمشي إلى ما بعد هذه الخمسين سنة مليارات من السنين، تمشي، تكدح، تكدح، تكدح، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [7] ، أنت في مسيرةٍ طويلةٍ سبقت هذه الحياة وتلحق هذه الحياة، إذن النظام الإسلامي ماذا يقول؟

لابدّ أن يكون النظام منسجمًا مع طول المسيرة لا مع قصر المسيرة، لابدّ أن يكون النظام منسجمًا ومتناسبًا مع المسيرة الإنسانيّة الطويلة لا مع هذه المسيرة القصيرة، كيف؟

لاحظوا النظام الغربي ماذا يقول «النظام الأرضي ماذا يقول»؟

النظام الأرضي يقول: أنت عندك أموال، تريد أن تدخل السوق من أجل استثمار هذه الأموال، حركة استثمار هذه الأموال النظام الأرضي ماذا يقول؟

تبنتني على نظرتين «على رؤيتين»:

الرؤية الأولى: هي الموازنة بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع.

الرؤية الثانية: هي الموازنة في مرحلة التوزيع بين العرض وبين الطلب.

إذا تحققت هاتان الموازنتان الموازنة بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع ومستوى العرض ومستوى الطلب استطعت أن تستثمر أموالك وأن تعيش أموالك حركة استثمارية وانتهت العلاقةّ! هذا هو النظام الأرضي.

النظام السماوي ماذا يقول؟

لا، كما يجب أن تكون هناك موازنة بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع وكما يجب أن تكون هناك موازنة بين العرض وبين الطلب يجب أن تكون هناك موازنة بين المستوى الاقتصادي والمستوى الرّوحي عندك أيها الإنسان، في الوقت الذي أنت تستثمر أموالك في السوق لا تغفل أنّ لك روحًا وأنّ لك علاقة مع السّماء، يجب أن تتوازن وأن تتوازى علاقتك مع الأموال «علاقتك الاقتصاديّة مع الطبيعة» مع علاقتك الرّوحيّة مع السّماء، يجب أن تكون هناك موازنة، فأنت في السوق لست منفصلاً عن المحراب، أنت في السوق لست منفصلاً عن السّماء، أنت في عالم الأموال والاستثمار لست منفصلاً عن الرّوح وعن نداء الرّوح، إذن يجب أن تكون هناك موازنة بين استثمارك وبين غذائك الرّوحي، بين علاقتك بالمال وبين علاقتك بالسّماء، لذلك الإسلام يرى بند اقتصادي هذا ليس بندًا محرابيًا ولا بندًا مسجديًا، لا، النظام الاقتصادي في الإسلام «النظام السماوي» يبتني على الربط مسافة خمسين سنة تعيشها على الأرض وبين مسيرتك الطويلة فيقول لك: استثمر أموالك وحقّق الموازنة بين الإنتاج وبين التوزيع، بين العرض وبين الطلب، ولا تنسى ألا تغتاب ولا تكذب ولا تحتكر ولا تقم بالرّبا ولا تقم بالغش ولا تقم بالاحتكار ولا تنسى أنّ لك عبادة وأنّ لك صلاة وأنّ عليك صدقة وأنّ عليك حقوقًا وأنّ عليك ضرائب.. هذه كلها بنود اقتصاديّة، يريد أن يربط النظامُ المساويُ مسيرة الخمسين سنة بالمسيرة الطويلة، إذن ميزة النظام السماوي على النظام الأرضي أنّ النظام شرّع على أساس المسيرة الطويلة لا على أساس المسيرة القصيرة، هذه الميزة الأولى.

الميزة الثانية للنظام السماوي على النظام الأرضي:

نحن نريد أن نقول: عندنا كما ذكرنا في الأمر الثاني، عندنا ماذا؟ عندنا أجهزة، أجهزة، هذا البدن فيه أجهزة، هذا العقل فيه أجهزة، هذه الأجهزة هي التي ولدت الحاجات، والحاجات ولدت وجود المجتمع، والمجتمع ولد وجود نظام يقنن الحاجات وكيفيّة استهلاكها واستخدامها، إذن مقتضى الفطرة الإنسانيّة يجب أن يكون النظام منسجمًا مع الجهاز، يجب أن يكون النظام الاجتماعي الذي يقنن الحاجات ويبوّبها ويبيّن لنا كيفيّة الحصول عليها، يجب أن يكون النظام الاجتماعي منسجمًا مع الجهاز الداخلي عند الإنسان، منسجمًا مع بدن الإنسان، منسجمًا مع عقل الإنسان.

يعني الآن مثلاً: الأطباء يقولون: الجهاز الهضمي عند الإنسان ماذا يناسبه؟ يناسبه أن يكون أكثر غذائه غذاءً نباتيًا، هذا الجهاز الهضمي يتناسب مع الغذاء النباتي أكثر من مناسبته مع الغذاء الحيواني، صح لو لا؟! هذا الإنسان عنده جهازٌ من العواصف والمشاعر والشهوات، هذا الجهاز لا يناسبه إلا الزواج ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، «من أنفسكم» يعني بما يتناسب مع أجهزتكم الداخليّة، ما يتناسب مع كيانكم النفسي، ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، هذا الجهاز النفسي الشهوي الغريزي العاطفي يتناسب معه الزواج، كما أنّ الجهاز الهضمي يتناسب معه نوعٌ من الغذاء، كما أنّ الجهاز الشعوري يتناسب معه مؤسّسة الأسرة كذلك الجهاز الداخلي لبدن الإنسان ولعقل الإنسان يناسبه نظامٌ اجتماعيٌ معيّنٌ وليس كلّ نظام.

إذن نحن لا نحتاج إلى أيّ نظام، ماركس عنده نظام، لينين عنده نظامٌ، فلانٌ عنده نظامٌ.. نحن لا نحتاج إلى أيّ نظام، نحتاج إلى كلمةٍ واحدةٍ، نحتاج إلى نظام ينسجم مع أجهزتنا الداخليّة، ينسجم مع عقولنا، نظامٌ منسجمٌ مع بنية الإنسان البدنيّة والعقليّة، وهذا هو معنى فطريّة الدّين، ليس معنى فطريّة الدّين أنّ الإنسان يُولَد بمجرّد أن يُولَد يعرف أنّ في إسلام وفي رسول وفي إمام والرسول هو محمدٌ والإمام هو علي .. لا، ليس هذا هو معنى فطريّة الدّين، معنى فطريّة الدّين أنّ النظام السماوي الذي شرّع من أجل تقنين الحاجات ومن أجل تقنين المصالح هذا النظام ينسجم مع الجهاز الداخلي عند الإنسان سواءً كان جهازًا جسميًا أو جهازًا عقليًا، هذا معنى فطريّة الدّين، هذا معنى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا - هذا الدّين ما ميزته؟ أنّه - فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، النظام السماوي نظامٌ منسجمٌ مع أجهزتك الداخليّة التي توصلك إلى هدفك، هذا هو السؤال الأول وقد أجبنا عنه.

السؤال الثاني الذي نريد أن نطرحه وأن نجيب عنه:

ملخص هذا السؤال أنّه لو كان الدّين فطريًا كما تقولون لكان أكثر الناس متديّنين؛ لأنّ النّاس يمشون على فطرتهم وسليقتهم، لو كان الدّين فطريًا لكان أغلب البشر متدينين وملتزمين بالدّين بينما الذي نجده عكس ذلك كما يقول القرآن: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [8] ، أكثرهم منحرفون عن الدّين والصراط القويم، إذن أين فطريّة الدّين؟! لو كان الدّين فطريًا لرأينا أغلب المجتمعات متمسّكة بالدّين، لو كان المجتمع الجاهلي الذي بُعِثَ فيه النبيُ محمدٌ - - مجتمعًا فطريًا لكان هذا المجتمع بمجرّد أن جاء النبيُ بالدّين الفطري يبادر إلى قبول الدّين وإلى التصديق به، مع أنّ هذا المجتمع الجاهلي وقف أمام النبي معارضًا إلى سنين طويلة ولم يستطيع النبيُ التغلبَ عليه إلا بعض مآزق وأزمات، إذن أين فطريّة الدّين؟! هذا هو السؤال المطروح.

الجواب عن ذلك:

فرقٌ بين «المعرفة الاقتضائيّة» و«المعرفة الفعليّة»، ما هو الفرق بينهما؟

نحن عندما نقول بأنّ الدّين فطريٌ وبأنّ معرفة الدّين معرفة فطريّة ماذا نقصد بذلك؟

نقصد أنّ الإنسان لو تُرِكَ وحده ولم يتأثر بالعوامل الخارجيّة، هذا الإنسان لو تُرِكَ وحده لم تؤثر عليه ثقافة الأسرة ولم يؤثر عليه ثقافة المجتمع ولم تؤثر عليه الثقافات المستوردة، لو تُرِكَ الإنسانُ وحده لصدّق بدعوة الأنبياء والرسل ولسار على الطريق القويم ولسار على طريق السّماء لو خلي وحده، هذا هو معنى الفطرة، ليس معنى الفطرة المعرفة الفعليّة، عندما نقول بأنّ الدّين فطريٌ وأنّ النّاس يؤمنون بالدّين بالفطرة لا نقصد أنّ النّاس بالفعل بمجرّد ولادتهم هم موحّدون! هم مؤمنون بنبوّة النبي! هم مؤمنون بإمامة الأئمة الاثني عشر! لا، ليس هذا هو معنى فطريّة الدّين، معنى ذلك أنّ الإنسان لو خلي وحده ولم تؤثر عليه ثقافة خارجيّة ولم تقهره عوامل خارجيّة لكان بطبعه مصدقًا بنبوّة الأنبياء وبرسالة الرسل وبإمامة الأئمة، لكان قابلاً إلى ذلك؛ لأنّ هذا الإنسان خُلِقَ أرضًا خالية تقبل ما يلقى فيها، لأنّ هذا الإنسان خُلِقَ عقلاً صافيًا يقبل ما يلقى عليه، فلو خلي وحده لقَبِلَ دعوة السّماء وقَبِلَ رسالة السّماء، وهذا ما تشير إليه الأحاديث الشريفة.

وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحّاف عن أبي عبد الله في حديثٍ، الإمام الصادق قال: ”إنّ الله عزّ وجلّ خلق النّاس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها - ما معنى الفطرة؟ الإمام يوضّح - لا يعرفون إيمانًا بشريعةٍ ولا كفرًا بجحودٍ - يعني: لا يعرفون الإيمان بواسطة الشريعة، ولا يعرفون الكفر بجحودٍ، أرضٌ خالية قابلة لِأنْ تصدّق بنبوّة الأنبياء ورسالة الرسل - ثم بعث الله عزّ وجلّ الرسلَ يدعو العبادَ إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده“، إذن بالنتيجة: معنى الفطرة أنّ الإنسان لو خُلِّيَ وحده لقَبِلَ بالنبوّات والرّسالات.

الحديث الآخر: هذا الحديث موجودٌ عندنا وعند إخواننا أهل السنة، في الكافي موجودٌ، في صحيح البخاري أيضًا موجودٌ، عن الرسول محمدٍ : ”كلّ مولودٍ يولد على الفطرة“ يعني يولد وله عقلٌ صافٍ وأرضٌ خالية، ”كلّ مولودٍ يولد على الفطرة إلا أن يكون أبواه يهوديّين فيهوّدانه «عامل خارجي يدخل إلى الإنسان» أو نصرانيّين فينصّرانه كما تنتج الإبلُ من البهيمة الجمعاء هل تحسّ من جدعاء؟!“.

إذن فبالنتيجة: المراد بالفطرة التي ذكرناها هو قبول العقل وحده - لو خلي عن العوامل الخارجيّة - لدعوة الأنبياء والرسل، ومن هنا نقول أنّ المجتمع الجاهلي كان مجتمعًا فطريًا لولا الثقافة الوثنيّة، لولا الثقافة الوثنيّة التي طرأت عليه من الخارج لقَبِلَ دعوة النبي بلا تردّد، لولا النزعات القبليّة والعنصريّة التي سيطرت عليه لقَبِلَ دعوة الإسلام بلا تردّد، فالمجتمع الجاهلي كان مجتمعًا فطريًا لكن كان ملوثًا ببعض العوامل الخارجيّة التي ما منعته عن المعرفة الاقتضائيّة ولكن منعته عن المعرفة الفعليّة، لذلك تلاحظ نفس النبي ماذا قال؟ ”إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق“، ما معنى «أتمّم»؟

يعني أصول فطريّة موجودة، لو كان المجتمع الجاهلي خاليًا من الأصول الفطريّة لقال النبيُ: «إنّما بعثت لأسّس مكارم الأخلاق»، ما قال: «لأسّس»، قال: ”لأتمّم مكارم الأخلاق“ فالمجتمع كان يعيش خلقًا، كان يعيش أصولاً وجذورًا فطريّة تمّمها النبيُ بدعوته ورسالته.

القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [9] ، يعني: هم بفطرتهم قَبِلُوا الدّين، رأوا أنّ الدّين منسجمٌ مع فطرتهم، لكن جحدوا به بألسنتهم، لماذا؟ لسيطرة النزعات القبليّة والعشائريّة والثقافة المستوردة عليهم، وإلا هم بالفطرة قَبِلُوا الدّين وصدّقوا، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ.

نأتي إلى السؤال الثالث والأخير ونختم به:

قد يقول قائل: إذا كان الدّين فطريًا من المناسب أن نرى قوانين الدّين وأصول الدّين أمورًا فطريّة، بينما نحن إذا تأملنا الأصول والفروع لا نجد أنّها منسجمة مع الفطرة!

مثلاً: الأصول، ما هي أصولنا؟ أن تؤمن بأنّ الله واحدٌ، أن تؤمن بأنّ هناك أنبياءً ورسلاً، أن تؤمن بأنّ هناك إمامًا، نحن لو خلّينا وفطرتنا لا نؤمن بذلك، لولا أنّ النبي قال لنا: ”الأئمة من بعدي اثنا عشر آخرهم قائمهم - عجّل الله فرجه الشريف -“ لما آمنّا به، فأين الفطريّة إذن؟! لولا أنّ النبي قال لنا لما آمنا بهذه الأصول، إذن هذه الأصول ليست أصولاً فطريّة، لو كانت هذه الأصول أصولاً فطريّة لآمنا بها من دون نبوّة نبي، بينما لولا إيماننا بنبوّة النبي محمدٍ وما ورد عنه من الرّوايات والأدلة النقليّة لما آمنا بإمامة الأئمة الاثني عشر، إذن كيف تقولون بأنّ أصول الدّين أصولٌ فطريّة؟!

وأيضًا فروع الدّين، كيف تكون الفروع فروعًا فطريّة؟! يعني الآن مثلاً أضرب لك مثالاً: الإسلام يقول: دية المرأة نصف دية الرّجل، يعني الإنسان إذا يقتل خطأ يدفع دية أو لا؟! «دية المرأة نصف دية الرجل» أيّ قانون فطري هذا؟! الفطرة ترفض ذلك، الفطرة تقول: لا فرق بين الرّجل والمرأة، كلاهما نفسٌ محترمة، يجب أن تكون دية المرأة مساوية لدية الرّجل، بينما القانون الإسلامي يقول: «دية المرأة نصف دية الرّجل» إذن هذا القانون ليس منسجمًا مع الفطرة، كيف تقولون بأنّ قوانين الدّين أصولاً وفروعًا منسجمة مع الفطرة ونحن لا نرى بالوجدان انسجامها مع الفطرة؟! هذا هو السؤال.

والجواب عنه بكلّ اختصار:

المعرفة الفطريّة «معرفة طوليّة ترتبيّة» وليست «معرفة عرضيّة»، الإنسان إذا خلي وحده هو وفطرته، هو ونداء فطرته، ماذا يقول هذا الإنسان؟! هذا الإنسان يقول: أنا طاقة من الوجود، عندي حياة، عندي شعورٌ، عندي عقلٌ، عندي قدرة، عندي قوّة.. أنا طاقة وجوديّة تضمّ ألوانًا وأشكالاً من الطاقات، بما أنّي وجودٌ ذو قدرةٍ وذو شعور وذو حياةٍ وذو وذو.. إذن لابدّ من مُوجِدٍ أوجدني، وذلك المُوجِد عنده ما عندي؛ لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، مقتضي السنخيّة بين العلة والمعلول أن يكون الخالق لي أيضًا له حياة كما عندي حياة، له عقلٌ كما عندي عقل، له قدرة كما عندي قدرة، له قوّة كما عندي قوّة، مقتضى السنخيّة بين العلة والمعلول أنّ العلة في وجودي قوّة حكيمة عاقلة قادرة تتجدّد فيها الحياة كما عندي تمامًا، هذا أمرٌ يتوصّل إليه الإنسان لا بنبوّة الأنبياء ولا برسالة الرّسول، بل بالفطرة، وهذا معنى ما ورد في الحديث عن النبي محمدٍ : ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“.

بعد أن ينتهي الإنسانُ من هذه المرحلة بالفطرة «لا يحتاج نبوّات ولا رسالات، هو بالفطرة» يلجأ إلى مرحلةٍ ثانيةٍ، يقول: أنا أعيش نقصًا، نقص في القضايا الرّوحيّة، نقص في القضايا التنظيميّة، نقص في القضايا الأسريّة، هذا النقص غير معقول أن يبقى معي إلى الأبد، إذن كما أنّ هناك قوّة أوجدتني وأعطتني الحياة والقدرة والعقل فهذه القوّة نفسها أوجدت لي نظامًا يتكفل لي بتسديد النقص وتكميله، كما أنّ القوّة خلقتني وهي تعرف أنّني موجودٌ ناقصٌ فهذه القوّة نفسها شرّعت لي نظامًا وأسّست لي نظامًا يتكفل ذلك النظام بماذا؟ بتسديد النقص، بإعطائي الكمال، بالأخذ بيدي إلى الوصول إلى الهدف، هذا هو معنى الإيمان بالنبوّة، معنى الإيمان بالنبوّة يعني الإيمان بنظام سماوي يسدّد النقصَ ويُوصِلُ الإنسانَ إلى الهدف، إذن الإنسان بفطرته يؤمن بالنبوّة «بالأصل الثاني».

ثم ينتقل الإنسانُ إلى مرحلةٍ ثالثةٍ:

طيّب وُجِدَ النظامُ الذي يسدّد النواقص ويأخذ بأيدينا إلى الأهداف، لكنّ النظام وحده غير قادر على إيصالنا إلى أهدافنا، لابدّ من وجود شخصٍ قادرٍ على تطبيق النظام عارفٍ بتفاصيل النظام منصهرٍ بالنظام نفسه كي يكون النظام نظامًا فعّالاً، وهذا الشخص هو الإمام، وهذا هو أصل الإمامة، معنى الإمامة: الحاجة إلى وجود شخصٍ عارفٍ بالنظام ملتزمٍ بالنظام قادرٍ على تطبيق النظام.

إذن عقلنا من دون حاجةٍ إلى نبوّة نبي هو اهتدى إلى الأصول الثلاثة، بالعقل آمنا بوجود قوّة، بالعقل آمنا بضرورة وجود نظام، بالعقل آمنا بضرورة وجود إمام، وهذا هو معنى الدّعاء الذي نقرؤه في صلواتنا ليلة الجمعة، ماذا نقول؟! ”اللهم عرّفني نفسك - هذه المرحلة الأولى العقليّة - فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك“، نأتي إلى المرحلة الثانية: ”اللهم عرّفني رسولك - يعني: عرّفني بوجود النظام - فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك“ لم أنتقل إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإمامة، نصل إلى المرحلة الثالثة: ”اللهم عرفني حجتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك - خلاص يختلّ المجتمع، يفسد المجتمع لأنّه لا يوجد شخصٌ قادرٌ على تطبيق النظام دقيقٌ في تطبيق النظام عارفٌ بالنظام - ضللتُ عن ديني“.

إذن الاهتداء للأصول الثلاثة اهتداءٌ فطريٌ ولكن على نحو الترتّب لا على نحو العرضيّة، يهتدي إلى الأصل الأوّل، إذا اهتدى إلى الأصل الأوّل اهتدى إلى الأصل الثاني، إذا اهتدى إلى الأصل الثاني اهتدى إلى الأصل الثالث.

رحم الله المقدّس العلامة الشيخ منصور البيات كان يقول لي بأنّ من الآراء البديعة ومن النظريّات البديعة التي توصّل لها جدّك المقدّس الشيخ فرج العمران رحمه الله أنّه استطاع أن يستخرج الأصولَ الثلاثة من الآية المباركة: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [10] ، هذه الآية المباركة استطاع الجدّ المقدّس الشيخ فرج العمران في كتابه «صفد الغوالي وملتقط اللآلي» أن يستخرج الأصولَ الثلاثة استخراجًا عقليًا من هذه الآية المباركة، فراجعه إن شئت رحمهم الله جميعًا.

إذن فبالنتيجة: الأصول الفطريّة، الاهتداء إلى الأصل الأوّل بالفطرة يمهّد إلى الأصل الثاني والاهتداء إلى الأصل الثاني يمهّد للاهتداء إلى الأصل الثالث، فالاهتداء كله فطريٌ ولكن بشكل ترتبي طولي، هذا على مستوى الأصول.

وكذلك على مستوى الفروع، صدّق وآمن وثق لو أنّ الدّين طُبّق بحذافيره «حقوق المرأة أعْطِيَت لها، حقوق الرّجل أعْطِيَت له، حقوق الأسرة أعْطِيَت لها، حقوق المجتمع أعْطِيَت له» لو قسِّمَت وأعْطِيَت الحقوق بتمامها لاهتدى الإنسانُ بفطرته أنّ دية المرأة نصف دية الرجل، قوانين الإسلام لا يمكن معرفتها إلا إذا طبِّقَت تطبيقًا كاملاً، إذا فصلت بين هذه القوانين «خذ هذا القانون ما هي الحكمة فيه؟! ذاك القانون ما هي الحكمة فيه؟! ذلك القانون الثالث ما هو الجانب الفطري فيه؟!» لن تستطيع أن تكتشف الملاكات الفطريّة في القوانين الإسلاميّة إلا إذا طبّقت تطبيقًا متكاملاً؛ لأنّ القوانين الإسلاميّة أسرة واحدة وحلقة متكاملة لا يمكن معرف حِكَمِهَا ومصالحها الفطريّة إلا بالرّبط ما بينها، إذن حينئذٍ إذا نظرت للقوانين الإسلاميّة نظرة تفكيكيّة، نظرة تجزيئيّة «أخذت كلّ قانون على حدى» سوف لن تفهم الجانب الفطري من هذه القوانين، أما إذا أخذت القوانين الإسلاميّة بنظرة ترابطيّة وبنظرة تكامليّة لا بنظرة تفكيكيّة وجدت المصالح الفطريّة واضحة من هذه القوانين باعتبار تكميل كلّ قانون للقانون الآخر.

وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات الموجودة في المقام أقرؤها وأنهي بها المحاضرة: في تفسير القمّي بإسناده عن الهيثم الرمّاني عن الرّضا عن أبيه عن جدّه عن أبيه محمّد بن علي في قوله عزّ وجلّ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ما هي؟ قال: ”هي: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، عليٌ أمير المؤمنين وليُ الله“، يعني هذه الشهادات الثلاث يصل إليها الإنسانُ بالفطرة إذا صارت مترتبة، إذا اهتدى للأوّل اهتدى للشهادة الثانية، إذا اهتدى للشهادة الثانية اهتدى للشهادة الثالثة، ”هي: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، عليٌ أمير المؤمنين وليُ الله“.

الرّواية الأخرى: في توحيد الصدوق بإسناده عن عمر بن يزيد عن عن.. إلى أن يصل إلى النبي ، قال: قال رسول الله : ”لا تضربوا أطفالكم على بكائهم - الطفل هذا الرضيع لا تضربه على بكائه - فإنّ بكاءهم أربعة أشهر شهادة ألا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصّلاة على النبي محمدٍ وآل محمدٍ“، التفت جيّدًا، ليست الصّلاة على النبي وخلاص، ليس «صلى الله عليه وسلم»، لا، فقد ورد مستفيضًا عن الشيعة والسنة: ”لا تصلوا عليّ الصّلاة البتراء“ قيل: ماذا؟ قال: ”أن تقولوا: «اللهم صلِّ على محمدٍ» وتسكتوا، بل قولوا: «اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ»“، نورٌ واحدٌ، فيضٌ واحدٌ، حلقة واحدة، محمدٌ وأهل بيته لا تفكيك بينهم وبينه لا في الوجود ولا في النوريّة ولا في الحجيّة ولا في الإمامة ولا في الصّلاة عليهم.

كفاكمُ من عظيم الشأنِ أنكمُ من لم يصلِّ عليكمْ لا صلاة لهُ

”وأربعة أشهر الدّعاء لوالديه“ نفس هذا الطفل يدعو أربعة أشهر لوالديه، المقصود بهذا أنّ هذه الأصول أصولٌ فطريّة، هذا الطفل وهو في الأربعة الأشهر الأولى يلتفت إلى وجود خالق له، هذا الطفل وهو في الأربعة الأشهر الثانية يلتفت إلى وجود وسائط في الفيض بين الله وبين وجوده ألا وهم النبي وآله صلوات الله عليهم أجمعين، هذا الطفل في الأربعة الأشهر الأخيرة يلتفت إلى شكر النعمة، يرى أن أبويه ينعمان عليه فمن باب شكر المنعم يدعو لوالديه ”وأربعة أشهر يدعو لوالديه“.

إذن فبالنتيجة: فطريّة الدّين شرحناها من خلال ثلاث نقاط:

أوّلاً: المقصود بفطريّة الدّين انسجام النظام السماوي مع الجهاز الداخلي عند الإنسان.

والنقطة الثانية: شرحنا فيها أيضًا أنّ المقصود بفطريّة الدّين هو الفطرة الاقتضائيّة لا الفطرة الفعليّة.

وفي النقطة الثالثة: شرحنا فيها أنّ المقصود بفطريّة المعارف فطريّتها على نحو الترتب والطوليّة لا على نحو العرضيّة.

وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين

 

[1]  الروم: 30.
[2]  الجمعة: 2.
[3]  طه: 50.
[4]  الأعلى: 2 - 3.
[5]  الشمس: 7 - 8.
[6]  الروم: 21.
[7]  الانشقاق: 6.
[8]  التوبة: 8.
[9]  النمل: 14.
[10]  آل عمران: 18.